نَمَاذِجُ لِلْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الْمَشْرُوعِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ


 ((نَمَاذِجُ لِلْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الْمَشْرُوعِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ))

لَقَدْ ضَرَبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ أَرْوَعَ الْأَمْثَالِ لِلْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الْمَشْرُوعِ وَعَظِيمِ أَثَرِهِ عَلَى الْفَرْدِ وَالْأُمَّةِ؛ فَقَدْ ذَكَرَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِي حَالَةِ رَفْعِهِمَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ الْأَسَاسِ، وَاسْتِمْرَارِهِمَا عَلَى هَذَا الْعَمَلِ الْعَظِيمِ، قَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].

ضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِكَلَامِنَا- بِأَنَّكَ تُشَاهِدُ الرَّسُولَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ حِينَ يَرْفَعَانِ أُسُسَ الْكَعْبَةِ الْمُشَرَّفَةِ عَلَى الْأُسُسِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي كَانَتْ مَبْنِيَّةً عَلَيْهَا قَبْلَ انْدِثَارِهَا.

وَمَعَ قِيَامِهِمَا بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ كَانَا يَدْعُوَانِ اللهَ تَعَالَى: رَبَّنَا تَقَبَّلْ طَاعَتَنَا إِيَّاكَ، وَعِبَادَتَنَا لَكَ بِالرِّضَا وَالْإِثَابَةِ، إِنَّكَ أَنْتَ وَحْدَكَ السَّمِيعُ دَوَامًا لِدُعَائِنَا، الْعَلِيمُ بِنِيَّاتِنَا.

قَالَ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: ((يَا إِسْمَاعِيلُ! إِنَّ اللهَ أَمَرَني أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا يَكُونُ مَعْبَدًا لِلْخَلْقِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

قَالَ: سَأُعِينُكَ عَلَى ذَلِكَ، فَجَعَلَا يَرْفَعَانِ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ؛ إِبْرَاهِيمُ يَبْنِي، وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ)) .

وَفِي سُورَةِ الْكَهْفِ يُحَدِّثُنَا رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَنْ نُمُوذَجٍ عَظِيمٍ فِي التَّعَاوُنِ وَالْعَمَلِ بِرُوحٍ جَمَاعِيَّةٍ، وَأَثَرِ ذَلِكَ فِي نَجَاةِ قَوْمٍ وَحِمَايَتِهِمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ، وَذَلِكَ فِي قِصَّةِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، ((وَذُو الْقَرْنَيْنِ مَلِكٌ صَالِحٌ، أَعْطَاهُ اللهُ مِنَ الْقُوَّةِ وَأَسْبَابِ الْمُلْكِ وَالْفُتُوحِ مَا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ، فَذَكَرَ اللهُ مِنْ حُسْنِ سِيرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَقُوَّةِ مُلْكِهِ وَتَوَسُّعِهِ فِي الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ التَّامُّ مِنْ سِيرَتِهِ وَمَعْرِفَةِ أَحْوَالِهِ.

قَالَ تَعَالَى: {حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا} [الكهف: 93].

أَيْ: بَلَغَ مَحَلًّا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ السَّدَّيْنِ الْمَوْجُودَيْنِ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ الْأَرْضَ، وَهُمَا سَلَاسِلُ جِبَالٍ عَظِيمَةٍ شَاهِقَةٍ مُتَوَاصِلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْفَجْوَةِ، فَوَجَدَ عِنْدَ تِلْكَ الْفَجْوَةِ الَّتِي بَيْنَ سَلَاسِلِ هَذِهِ الْجِبَالِ قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا؛ مِنْ بُعْدِ لُغَتِهِمْ، وَثِقَلِ فَهْمِهِمْ لِلُغَاتِ الْأُمَمِ:

{قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} [الكهف: 94]؛ وَهُمْ أُمَمٌ عَظِيمَةٌ -يَعْنِي: يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ- مِنْ نَسْلِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ مِنَ الْعَنَاصِرِ التُّرْكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، كَمَا هُوَ مَذْكُورٌ مُفَصَّلٌ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَمَشْرُوحٍ مِنْ صِفَاتِهِمْ، {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ} [الكهف: 94-95] مِنَ الْقُوَّةِ وَالْأَسْبَابِ وَالِاقْتِدَارِ خَيْرٌ.

{فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ}؛ أَيْ: إِنَّ هَذَا بِنَاءٌ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ فِي الْإِعَانَةِ عَلَيْهِ إِلَى مُسَاعَدَةٍ قَوِيَّةٍ فِي الْأَبْدَانِ {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف: 95]، وَلَمْ يَقُلْ: سَدًّا؛ لِأَنَّ الَّذِي بَنَى فَقَطْ هُوَ تِلْكَ الثَّنِيَّةُ وَالرِّيعُ الْوَاقِعُ بَيْنَ السَّدَّيْنِ الطَّبِيعِيَّيْنِ؛ أَيْ: بَيْنَ سَلَاسِلِ تِلْكَ الْجِبَالِ، فَدَبَّرَهُمْ عَلَى كَيْفِيَّةِ آلَاتِهِ وَبُنْيَانِهِ فَقَالَ: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ}؛ أَيِ: اجْمَعُوا لِي جَمِيعَ قِطَعِ الْحَدِيدِ الْمَوْجُودَةِ مِنْ صِغَارٍ وَكِبَارٍ، وَلَا تَدَعُوا مِنَ الْمَوْجُودِ شَيْئًا، وَارْكُمُوهُ بَيْنَ السَّدَّيْنِ.

فَفَعَلُوا ذَلِكَ حَتَّى كَانَ الْحَدِيدُ تُلُولًا عَظِيمَةً مَوَازِيَةً لِلْجِبَالِ، وَلِهَذَا قَالَ: {حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ}؛ أَيِ: الْجَبَلَيْنِ الْمُكْتَنِفَيْنِ لِذَلِكَ الرَّدْمِ، {قَالَ انفُخُوا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} [الكهف: 96]؛ أَيْ: أَمَرَ بِالنُّحَاسِ فَأُذِيبَ بِالنِّيرَانِ، وَجَعَلَ يَسِيلُ بَيْنَ قِطَعِ الْحَدِيدِ فَالْتَحَمَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، وَصَارَتْ جَبَلًا هَائِلًا مُتَّصِلًا بِالسَّدَّيْنِ؛ فَحَصَلَ بِذَلِكَ الْمَقْصُودُ مِنْ عَيْثِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَمِنْ إِفْسَادِهِمَا.

وَلِهَذَا قَالَ: {فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ}؛ أَيْ: يَصْعَدُوا ذَلِكَ الرَّدْمَ {وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَٰذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي}  [الكهف: 97-98]؛ أَيْ: رَبِّي الَّذِي وَفَّقَنِي لِهَذَا الْعَمَلِ الْجَلِيلِ، وَالْأَثَرِ الْجَمِيلِ، فَرَحِمَكُمْ؛ إِذْ مَنَعَكُمْ مِنْ ضَرَرِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ بِهَذَا السَّبَبِ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَكُمْ عَلَيْهِ» .

وَهَذَا مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَأَلَ اللهَ مُعِينًا يُعَاوِنُهُ وَيُؤَازِرُهُ وَيُسَاعِدُهُ عَلَى مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وَسَأَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْبِرِّ, وَأَحَقُّ بِبِرِّ الْإِنْسَانِ قَرَابَتُهُ، ثُمَّ عَيَّنَهُ بِسُؤَالِهِ فَقَالَ: {هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} [طه: 30-31]؛ أَيْ: قَوِّنِي بِهِ، وَشُدَّ بِهِ ظَهْرِي، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ حِكَايَةً عَنْ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه: 25-34].

قَالَ مُوسَى: رَبِّ وَسِّعْ لِي صَدْرِي؛ لِيَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَحَمُّلِ الْمُزْعِجَاتِ وَالْمَكَارِهِ بِصَبْرٍ وَحِلْمٍ دُونَ انْدِفَاعٍ بِغَضَبٍ سَرِيعٍ، وَسَهِّلْ لِي مَا أَمَرْتَنِي بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَى فِرْعَوْنَ.

وَاحْلُلْ عُقْدَةً تَحْبِسُ مِنْ نُطْقِي، فَإِذَا حَلَلْتَهَا بِقُدْرَتِكَ وَحِكْمَتِكَ؛ صِرْتُ قَادِرًا عَلَى إِفْهَامِ الَّذِينَ أُبَلِّغُهُمْ رِسَالَاتِكَ دَقَائِقَ الْمَعَانِي الَّتِي أُقِيمُ بِهَا عَلَيْهِمُ الْبَرَاهِينَ وَالْحُجَجَ.

وَاجْعَلْ لِي مُعِينًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي، قَوِّ بِهِ ظَهْرِي، وَاجْعَلْهُ شَرِيكَي فِي أَمْرِ النُّبُوَّةِ وَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ الَّتِي كَلَّفْتَنِي بِهَا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ نَتَسَاعَدَ وَنَتَسَانَدَ عَلَى تَنْزِيهِكَ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِكَ وَعَظِيمِ صِفَاتِكَ تَنْزِيهًا كَثِيرًا، وَنَذْكُرَكَ وَنُثْنِيَ عَلَيْكَ بِمَا أَوْلَيْتَنَا مِنْ جَمِيلِ نِعَمِكَ ذِكْرًا كَثِيرًا.

وَالْمُتَأَمِّلُ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ يَرَى فِيهَا صَفَحَاتٍ مُشْرِقَةً تَتَجَلَّى فِيهَا رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الْمَشْرُوعِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَمِنْ ذَلِكَ: رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ فِي هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ فِي أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «يَا أَبَا بَكْرٍ! عَلَى رِسْلِكَ، لَعَلَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا».

فَكَانَ يَقُولُ: ((الصُّحْبَةَ الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ!))؛ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ النَّبِيِّ ﷺ فِي هِجْرَتِهِ.

ابْتَاعَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَاحِلَتَيْنِ، فَعَلَفَهُمَا وَرَقَ السَّمُرِ، ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي مَكَانٍ حَدَّدَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ سَوَاءً حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِنَبِيِّهِ بِالْخُرُوجِ مُهَاجِرًا إِلَى مُهَاجَرِهِ ﷺ.

ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِي فِيهَا أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَا أَرَى النَّبِيَّ قَدْ أَتَى فِي هَذَا الْوَقْتِ إِلَّا لِحَدَثٍ حَدَثَ».

فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ أَعْلَمَهُ بِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْهِجْرَةِ قَدْ جَاءَهُ مِنَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَقَالَ: ((يَا رَسُولَ اللَّهِ! الصُّحْبَةَ الصُّحْبَةَ!)).

قَالَ لَهُ النَّبِيُّ : «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ صَاحِبًا يَا أَبَا بَكْرٍ».

وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَيْنًا عَلَى قُرَيْشٍ يَتَلَصَّصُ عَلَيْهِمْ فِي الْأَصْبَاحِ، فَإِذَا مَا كَانَ الْمَسَاءُ أَخَذَ مَا وَضَعَ عَلَيْهِ سَمْعَهُ وَيَدَهُ وَسَمْعَ قَلْبِهِ وَذَهَبَ إِلَى الرَّسُولِ ﷺ فَأَخْبَرَهُ، وَالنَّبِيُّ مَعَ صَاحِبِهِ فِي الْغَارِ ﷺ, وَأَمَّا تَأْمِينُ أَمْرِ الْمَئُونَةِ فَقَدْ جُعِلَ إِلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُا وَعَنْ أَبِيهَا-.

كَذَلِكَ وَزَّعَ النَّبِيُّ الْأَدْوَارَ، وَأَمْرٌ آخَرُ لَمْ يُغْفِلْهُ رَسُولُ اللَّهِ -وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَصْنَعَ - وَهُوَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَأَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- إِذَا مَا سَارَا إِلَى الْغَارِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ كَانَ لِلْأَقْدَامِ آثَارٌ عَلَى الرِّمَالِ، فَرُبَّمَا أَتَى الْقَافَةُ مِنْ تُبَّاعِ الْأَثَرِ فَدَلُّوا قُرَيْشًا عَلَى مَوْضِعِ رَسُولِ اللَّهِ اقْتِفَاءً لِلْآثَارِ عَلَى الرِّمَالِ.

فَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَلَى غَنَمٍ لَهُ، إِذَا مَا جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ وَجَاءَتْ أَسْمَاءُ وَلَدَا أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- جَاءَ بِغَنَمِهِ فَسَارَ عَلَى طَرِيقِهِمَا فَعَفَّ عَلَى الْآثَارِ، ثُمَّ يَبِيتُ بِأَغْنَامِهِ عِنْدَ الْغَارِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ فَيَحْلِبُ لَهُمْ فَيَشْرَبُونَ هَنِيئًا مَرِيئًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الْغَارِ رِضْوَانًا كَبِيرًا-، فَإِذَا مَا كَانَ الصَّبَاحُ وَقَدْ لَاحَ بِتَبَاشِيرِهِ عَادَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ إِلَى قُرَيْشٍ كَأَنَّمَا أَصْبَحَ فِيهِمْ، وَكَذَلِكُمْ كَانَ اسْتِعْدَادُ النَّبِيِّ .

وَأَمْرٌ آخَرُ لَمْ يَغِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -وَحَاشَا لِلَّهِ أَنْ يَغِيبَ-؛ ذَلِكَ أَنَّهُ اسْتَغَلَّ الْخِبْرَةَ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَأْجَرَ ابْنَ أُرَيْقِطَ لِيَكُونَ دَلِيلًا هَادِيًا، وَكَانَ رَجُلًا مُشْرِكًا، وَلَكِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا بِمَجَاهِلِ الصَّحْرَاوَاتِ.

فَأَتَاهُمْ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ مَبِيتِهِمْ فِي الْغَارِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَرَضِيَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْ صَاحِبِهِ-، جَاءَهُمْ فَأَمْعَنَ بِالسَّيْرِ تِجَاهَ الْجَنُوبِ، ثُمَّ اسْتَدَارَ غَرْبًا، حَتَّى إِذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ سَلَكَ طَرِيقًا غَيْرَ مَطْرُوقَةٍ أَبَدًا -هِيَ نَادِرَةٌ جِدًّا مَا يَطْرُقُهَا طَارِقٌ-، وَسَارَ مُصْعِدًا صَوْبَ الشَّمَالِ حَتَّى قَدِمَ مَدِينَةَ النَّبِيِّ .

وَكَذَلِكَ تَتَبَدَّى رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَحَفْرِ الْخَنْدَقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ؛ فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَنَزَلَ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي بَرَكَتْ فِيهِ النَّاقَةُ بِأَمْرِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَهْفُو إِلَيْهِ قَلْبُ كُلِّ مُسْلِمٍ الْيَوْمَ؛ هُوَ مَوْضِعُ مَسْجِدِ النَّبِيِّ ، فَبُنِيَ لَهُ فِيهِ الْمَسْجِدُ، وَشَارَكَ فِي حَمْلِ التُّرَابِ عَلَى عَاتِقِهِ!

لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ = لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلَّلُ

«اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ»؛ يَقُولُهَا النَّبِيُّ مُشَارِكًا لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي الْعَمَلِ فِي الْحَفْرِ لِأَسَاسِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ .

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْمَلُ مَعَ أَصْحَابِهِ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ، وَكَانَ يَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى كَتِفِهِ ﷺ، وَكَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يُكْفَى ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ ﷺ عَمِلَ بِيَدِهِ، حَفَرَ مَعَهُمْ، وَحَمَلَ التُّرَابَ عَلَى عَاتِقِهِ مَعَهُمْ، وَشَارَكَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ كَانَ فِي سَفْرَةٍ، فَاقْتَسَمُوا الْأَعْمَالَ، فَقَالَ: وَأَنَا عَلَيَّ جَمْعُ الْحَطَبِ.

وَكَانَ مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ يَكْفُوهُ ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ ﷺ شَارَكَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ، هَذَا مِنْ سُنَّتِهِ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْضِي حَاجَاتِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ حِينَ «حَطَمَهُ النَّاسُ»، كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَقَدْ بَذَلَ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَبْخَلْ بِشَيْءٍ -حَاشَاهُ- ﷺ.

كَانَ نَبِيُّنَا الْأَمِينُ ﷺ فِي حَاجَةِ الْمَرْأَةِ الْمِسْكِينَةِ وَالضَّعِيفِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْكَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْحَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُعْوِزِينَ، كَانَ فِي حَاجَةِ الثَّكَالَى وَالْأَرَامِلِ وَالْمَسَاكِينِ، يَبْذُلُ نَفْسَهُ، وَتَأْخُذُ الْجَارِيَةُ بِكُمِّهِ بِيَدِهِ، تَسِيرُ مَعَهُ فِي أَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شَاءَتْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهَا ﷺ.

 

المصدر:رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ وَضَوَابِطُهُ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ: أَنَّ أَشْرَفَ مَقَامٍ وَأَعْلَاهُ مَقَامُ الْعُبُودِيَّةِ
  أَعْظَمُ الْبِرِّ: طَاعَةُ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ ﷺ
  مَظَاهِرُ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْمَوَاثِيقِ فِي الْحَيَاةِ
  الْهِجْرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ أَوَّلُ هِجْرَةٍ فِي الْإِسْلَامِ
  وَسَائِلُ الدِّفَاعِ عَنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ وَحِمَايَتِهِ
  جُمْلَةٌ مِنْ سُنَنِ الْعِيدِ
  الْعَمَلِ بِأَمَانَةٍ وَاجْتِهَادٍ مِنْ عَوَامِلِ الْقُوَّةِ فِي بِنَاءِ الدُّوَلِ
  الْعِيدُ وَاجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَنَبْذُ الْخِلَافَاتِ
  حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ
  الدرس الثالث والعشرون : «غُضُّوا أَبْصَارَكُم وَاحْذَرُوا الفَوَاحِشَ المُهْلِكَةَ»
  لِمَنْ تَكُونُ الْبَيْعَةُ وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ؟
  مُرَاقَبَةُ اللهِ وَالضَّمِيرُ الْحَيُّ فِي الْعَمَلِ
  مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ: الْحِفَاظُ عَلَى مَرَافِقِ الْوَطَنِ الْعَامَّةِ
  مَخَاطِرُ إِدْمَانِ الْخَمْرِ وَالْمُخَدِّرَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
  رِعَايَةُ اللهِ لِيَتَامَى مِنْ خَيْرِ الْبَشَرِ
  • شارك