الصِّفَاتُ الْوَاجِبُ تَوْفُّرِهَا فِي الشَّبَابِ لِبِنَاءِ الْأُمَّةِ


الصِّفَاتُ الْوَاجِبُ تَوْفُّرِهَا فِي الشَّبَابِ لِبِنَاءِ الْأُمَّةِ

 

عِبَادَ اللهِ، إِنَّ جِيلَ النَّصْرِ الَّذِي يُقِيمُ الشَّرِيعَةَ لَا بُدَّ أَنْ يُحَقِّقَ أَسْبَابَ التَّمْكِينِ وَيُحَصِّلَ مُقَوِّمَاتِهِ.

*الْهُدَى وَالْإِيمَانُ، وَالتُّقَى وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ صِفَاتُ جِيلٍ يَنْصُرُ اللهُ بِهِ الْأُمَّةَ:

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي أَصْحَابِ الْكَهْفِ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13].

نَحْنُ بِعَظَمَةِ رُبُوبِيَّتِنَا وَشُمُولِ عِلْمِنَا نَقْرَأُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ؛ خَبْرَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ ذَا الشَّأْنِ، مُتَّصِفًا بِأَنَّهُ حَقٌّ ثَابِتٌ، إِنَّهُمْ شُبَّانٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، وَزِدْنَاهُمْ بِمَعُونَتِنَا وَتَوْفِيقِنَا إِيمَانًا وَبَصِيرَةٍ.

وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِتْيَانَ الشَّبَابَ أَسْرَعُ اسْتِجَابَةً لِنِدَاءِ الْحَقِّ، وَأَشَدُّ عَزْمًا وَتضْحِيَةً فِي سَبِيلِهِ.

وَمِنْ فَوَائِدِ الْآيَةِ:

ضَرُورَةُ الِاهْتِمَامِ بِتَرْبِيَةِ الشَّبَابِ؛ لِأَنَّهُمْ أَزْكَى قُلُوبًا، وَأَنْقَى أَفْئِدَةً، وَأَكْثَرُ حَمَاسًا، وَعَلَيْهِمْ تَقُومُ نَهْضَةُ الْأُمَمِ.

وَقَدْ جَمَعَ الشَّبَابُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ بِتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدِ الْإِلَهِيَّةِ، وَالْتِزَامِ ذَلِكَ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَمَالِ مَعْرِفَتِهِمْ بِرَبِّهِمْ، وَزِيَادَةِ الْهُدَى مِنَ اللهِ تَعَالَى لَهُمْ.

الَّذِي يَتَأَمَّلُ فِي كِتَابِ رَبِّهِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ يَجِدُ أَنَّ سَبَبَ التَّمْكِينِ فِي الْأَرْضِ، إِنَّمَا هُوَ تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ شَوْبِ الشِّرْكِ وَالِابْتِدَاعِ وَالْمُحْدَثَاتِ مِنَ الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِتَوْحِيدِ الْمُتَابَعَةِ لِلْمَعْصُومِ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْحِيدِ الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ تَوْحِيدِ الْمُتَابَعَةِ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهَذَا فَلَا تَمْكِينَ فِي الْأَرْضِ.

مَتَى مَا حَقَّقَتِ الْأُمَّةُ رُكْنَيِ الْعَمَلِ الْمُتَقَبَّلِ، وَأَتَتْ بِأَصْلَيْهِ مَكَّنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَهَا، {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: 55].

قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «هَذَا مِنْ وُعُودِهِ الصَّادِقَةِ، الَّتِي شُوهِدَ تَأْوِيلُهَا وَعُرِفَ مَخْبَرُهَا، فَإِنَّهُ وَعَدَ مَنْ قَامَ بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، أَنْ يَسْتَخْلِفَهُمْ فِي الْأَرْضِ، يَكُونُونَ هُمُ الْخُلَفَاءَ فِي الْأَرْضِ، وَيَكُونُونَ الْمُتَصَرِّفِينَ فِي تَدْبِيرِهَا.

وَأَنَّهُ يُمَكِّنُ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، الَّذِي فَاقَ الْأَدْيَانَ كُلَّهَا، ارْتَضَاهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ، لِفَضْلِهَا وَشَرَفِهَا وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهَا، بِأَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ إِقَامَتِهِ، وَإِقَامَةِ شَرَائِعِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ، لِكَوْنِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَسَائِرِ الْكُفَّارِ مَغْلُوبِينَ ذَلِيلِينَ.

وَأَنَّهُ يُبَدِّلُهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمُ الَّذِي كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إِظْهَارِ دِينِهِ، وَمَا هُوَ عَلَيْهِ إِلَّا بِأَذًى كَثِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَكَوْنِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ قَلِيلِينَ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَقَدْ رَمَاهُمْ أَهْلُ الْأَرْضِ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَبَغَوْا لَهُمُ الْغَوَائِلَ، فَوَعَدَهُمْ اللهُ هَذِهِ الْأُمُورَ وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ، وَهِيَ لَمْ تُشَاهِدْ الِاسْتِخْلَافَ فِي الْأَرْضِ، وَالتَّمْكِينَ فِيهَا، وَالتَّمْكِينَ مِنْ إِقَامَةِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالْأَمْنَ التَّامَّ، بِحَيْثُ يَعْبُدُونَ اللهَ وَلَا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، وَلَا يَخَافُونَ إِلَّا اللهَ.

فَقَامَ صَدْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، مِنَ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ بِمَا يَفُوقُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، فَمَكَّنَهُمْ مِنَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ، وَفُتِحَتْ مَشَارِقُ الْأَرْضِ وَمَغَارِبُهَا، وَحَصَلَ الْأَمْنُ التَّامُّ وَالتَّمْكِينُ التَّامُّ».

فَمَنِ الَّذِي يُنْصَرُ؟!

صَاحِبُ الْإِيمَانِ، صَاحِبُ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَصَاحِبُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ.

دَعْوَةٌ لِلتَّوْحِيدِ وَإِخْلَاصِ الْعُبُودِيَّةِ لِلَّهِ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ يُمَكِّنُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْأَرْضِ.

*رِجَالٌ حَمَلُوا أَمَانَةَ الدِّينِ وَنَشَرُوهُ فِي مَرْحَلَةِ الشَّبَابِ:

إِنَّ جِيلَ التَّأْسِيسِ الَّذِي يَحْمِلُ الرِّسَالَةَ عَلَى عَاتِقِهِ وَيَنْطَلِقُ بِهَا شَامِخًا عَالِيًا قَدْ جَعَلَ الدُّنْيَا لَا شَيْءَ,  قَدْ جَعَلَ الدُّنيَا مَعدُومَةً فِي نَظَرِهِ، لَا يَنْظُرُ إلَيْهَا وَلَا يَتَأمَّلُ فِيهَا.

مُصْعَبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ وَهُوَ أَوَّلُ سَفِيرٍ فِي الإِسْلَامِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ فِي مِيزَانِ حَسَنَاتِهِ كُلَّ حَسَنَاتٍ أَتَى بِهَا مَنْ اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ دَاعِيَةَ الإِسْلَامِ عِنْدَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَهُوَ كَانَ دَاعِيَةَ الإِسْلَامِ عِنْدَ أُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ الَّذِي تَنَزَّلَتِ الْمَلَائِكَةُ لِتِلَاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.

وَهَذَا الصَّحَابِيُّ الَّذِي فَتَحَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ بِهِ مَدِينَةَ النَّبِيِّ ﷺ بِالْقُرْآنِ الشَّرِيفِ وَحْدَهُ، وَكَانَ يُسَمَّى الْمُقْرِئُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَوْفَدَهُ الرَّسُولُ ﷺ وَمَا زَالَ شَابًّا بَعْدُ؛ لِكَيْ يَكُونَ سَفِيرَ الْإِسْلَامِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ بَايَعُوا بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْشُرَ الْإِسْلَامَ فِي يَثْرِبَ حَتَّى سُمِّيَتْ مَدِينَةَ الرَّسُولِ ﷺ.

مُصْعَبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بَاعَ الدُّنْيَا وَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهَا، نَعَمْ! لِأَنَّهُ صَاحِبُ رِسَالَةٍ عَلَى الوَجْهِ الْأَتَمِّ، لِأَنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْفَانِي السَّاقِطِ الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ، وَإنَّمَا يُعَوِّلُ عَلَى طَرِيقِهِ لَا يَلْتَفِتُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً.

هَذَا هُوَ الْجِيلُ الْأَوَّلُ الَّذِي يَحْمِلُ الرِّسَالَةَ عَالِيَةً شَامِخَةً فِي أَجْوَازِ الْفَضَاءِ، وَهَذَا هُوَ الْجِيلُ الَّذِي فَاخَرَ بِهِ مُحَمَّدٌ ﷺ مَنْ جَاءَ بَعْدُ مِمَّنْ يَنْتَمِي إلَى هَذَا الْجِيلِ الْمُبَارَكِ الشَّرِيفِ.

هَذَا الْجِيلُ هُوَ الْجِيلُ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي الدَّعْوَةِ إلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَائِمًا بِحَقٍّ، وَهَذَا مُصْعَبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ أَعْطَرَ فَتًى فِي قُرَيشٍ، وَكَانَ أَنْهَدَ فَتًى فِي قُرَيْشٍ، وَكَانَ أَجْمَلَ فَتًى فِي قُرَيْشٍ, وَكَانَ عِطْرُهُ يُؤْتَى بِهِ مِنْ مَسِيرَةِ كَذَا وَكَذَا.

وَكَانَتْ أُمُّهُ عَظِيمَةَ الْيَسَارِ، كَثِيرَةَ الْمَالِ، وَكَانِتْ لَا تَبْخَلُ عَلَيهِ بِشَيْءٍ، حَتَّى إنَّ الرَّسُولَ ﷺ قَالَ فِيهِ لَمَّا رَآَهُ: رَأَيْتُ هَذَا بَيْنَ أَبَوَيْهِ يَغْذُوَانِهِ السَّمْنَ وَالْعَسَلَ بِمَكَّةَ، فَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَّا أَسْلَمَ لِلهِ وَجْهُهُ وَقَلْبُهُ وَقَالَبُهُ، وَأَلْقَى الْمَقَادَةَ بَينَ يَدَيْ نَبِيِّهُ ﷺ، أَتَى بِأَطْمَارٍ بَالِيَاتٍ لَمْ يُحَصِّلْ مِنَ الدُّنْيَا شَيْئًا، وَهَاجَر إلَى الْحَبَشَةَ مَرَّةً وَمَرَةً، ثُمَّ عَادَ إلَى جِوَارِ النَّبِيِّ ﷺ وَحُرِمَ مِنْ مُدُودِ الْيَسَارِ وَوَارِفِ الثَرْوَةِ.

حَرَمَهُ أَبَوَاهُ مِن هَذَا كُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ صَبَأَ بِزَعْمِهِمَا، وَتَبِعَ مُحَمَّدًا ﷺ، وَلَكِنَّ الرَّجُلَ وَمَا زَالَ شَابًّا بَعْدُ قَدْ بَاعَ وَانتَهَى الأَمْرُ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ اشْتَرَى وَوَقَعَ الْبَيْعُ رَابِحًا.

وَإذَنْ؛ فَلَا يَلْتَفِتُ بَعْدَهَا أبَدًا، وَإنَّمَا يَتْبَعُ نَبِيَّهُ ﷺ, عَقْلٌ رَاجِحٌ بِحَقٍّ، وَعَلَى أَمْثَالِ هَؤلَاءِ تَقُومُ الأمَمُ, لِأَنَّهُمْ هُمُ الأُسُسُ المَكِينَةُ الرَّكِينَةُ الَّتِي تَقُومُ عَلَيهَا الصُّرُوحُ وَعَلَى مِثْلِهَا تُؤَسَّسُ، عَلَى مِثْلِ هَذَا الرَّجُلَ وَمَا زَالَ شَابًّا بَعْدُ!!

وَتَتَأَمَّلُ فِي حِكْمَتِهِ فِي الدَّعْوَةِ إلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِذْ ألْقَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأَمَانَةَ عَلَى عَاتِقَيهِ، وَأَوْفَدَ الرَّسُولُ ﷺ مُقْرِئًا هَؤُلَاءِ كِتَابَ اللهِ فِي يَثْربَ -كَانَت كَذَلكَ تُسَمَّى إِلَى ذَلِكَ الْحِين حَتَّى هِجْرَةَ النَّبِىِّ الْأَمِينِ ﷺ-، وَهُوَ يَأْخُذُ بِزِمَامِ أُسَيْدِ بْنِ الْحُضَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَلَا جَلَسْتَ حَتَّى تَسْمَعَ، فَإنْ كَانَ حَسَنًا قَبِلْتَهُ، وَإنْ كَانَ مَبْغُوضًا لَدَيْكَ مَكْرُوهًا عنْدَكَ؛ كَفَفْنَا عَنْكَ مَا يَسُوؤُكَ)).

فَرَكَزَ الرَّجُلُ حَرْبَتَهُ، وَقَالَ: ((أَنْصَفْتَ)).

فَجَلَسَ فَاسْتَمَعَ دَعَايَةَ الْإسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَتَلَى عَلَيْه مُصْعَبٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-  آَيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَوقَعَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِهِ، فَتَفَجَّرَ النُّورُ فِي أَطْوَاءِ صَدْرِهِ وَحَنَايَاهُ، ثُمَّ مَا زَالَ يُشْرِقُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى عَمَّ وَجْهَهُ  وَأَرْكَانَ جَوَارِحِهِ، حَتَّى إِنَّهُ لَمَّا عَادَ إِلَى الْقَوْمِ وَهُمْ عَلَى شِرْكِهِمْ، قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-  وَلَمْ يَكُنْ قَدْ أَسْلَمَ بَعْدُ، وَإِنَّمَا أَوْفَدَهُ إِلَى مُصْعَبٍ؛ لِكَيْ يَكُفَّهُ عَنْ إِغْوَاءِ السُّفَهَاءِ وَالضُّعَفَاءِ وَتَبَعِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

 فَلَمَّا رَآَهُ مُقْبِلًا، قَالَ: ((أُقْسِمُ لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِى ذَهَبَ به)).

لَا جَرَمَ إِنَّ لِلْإِيمَانِ نُورًا يَكْسُو الْوَجْهَ إِذَا كَانَ إِيمَانًا صَادِقًا وَصَحِيحًا، ثُمَّ جَاءَ سَعْدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَكَانَ مَا كَانَ مِنَ الدَّعْوَةِ بِالْحِكْمَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهمْ شَدِيدًا عَنِيفًا، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهمْ مُنَفِّرًا، لَمْ يَذْهَبْ إِلَيْهِمْ مُحَذِّرًا بِغَيْرِ تَبْشِيرٍ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ إِلَيْهِمْ وَالْأَمَانَةُ -وَهُوَ شَابٌّ بَعْدُ- عَلَى عَاتقَيْهِ فَحَمَلَهَا وَكَانَ كُفْؤًا لَهَا -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

ثُمَّ عَادَ بَعْدَ عَامٍ وَاحِدٍ إِلَى النَّبِىِّ ﷺ فِي مَكَّةَ، وَلَمْ يَبْقَ فِي يَثْرِبَ بَيْتٌ وَاحِدٌ إِلَّا فِيهِ ذِكْرُ مُحَمَّدٍ ، إِلَّا وَقَدْ دَخَلَهُ الْإِسْلَاُمُ الْعَظِيمُ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ تَبَعِ ذَلِكَ الشَّاعِرِ الَّذِى حَجَزَ قَوْمَهُ عَنِ الْإِيمَانِ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَتَبَعِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ ﷺ إِلَى مَا بَعْدَ الْخَنْدَقِ، فَكَانَ شُؤْمًا عَلَيْهِمْ؛ تَأْخِيرًا لِلْهِدَايَةِ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهِمْ بِأَسْبَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَأَمَّا ابْنُ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فِإِنَّهُ لَمَّا عَادَ مِنْ عِنْدِ مُصْعَبٍ قَالَ القَوْمُ: ((نَشْهَدُ إِنَّهُ لَقَدْ عَادَ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِى ذَهَبَ بِهِ)).

فَوَقَفَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: ((أَيُّ شَيْءٍ أَنَا فِيكُمْ؟))

قَالُوا: ((سَيِّدُنَا وَمُقَدَّمُنَا وَصَاحِبُ الرَّأْيِ فِينَا)).

فَقَالَ: ((أَمَا إِنَّ كَلَامَ نِسَائِكُمْ وِرِجَالِكُمْ وَأَطْفَالِكُمْ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تُسْلِمُوا لِلهِ رَبِّ العَالِمِينَ)).

فَلَمْ يُمْسُوا فِي تِلُكَ الْعَشِيَّةِ إِلَّا وَقَدْ أَسْلَمُوا الزِّمَامَ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذَا الرَّجُلُ الْمُتَجَرِّدُ وَمَا زَالَ شَابًّا بَعْدُ، خَرَجَ مِنَ الدُّنْيَا وَلَمْ يُحَصِّلْ شَيْئًا، وَعَلَى مِثْلَهَا فَقِسْ.

إِنَّ جِيلَ تَأْسِيسِ الدَّعْوَةِ الصَّحِيحَةِ إِلي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَيْسَتْ لَهُمْ دُنْيَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هُمْ مُقْبِلُونَ عَلَى اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ؛ أَمًّا وَقَصْدًا، وَكَانَتْ هَذِهِ الْحَالُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَى أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-. 

هَذَا الْأَمْرُ لَا يَتِمُّ إِلَّا عَلَى التَّجَرُّدِ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَكَ بِكُلِّكَ، فَلَا يَقْبَلُ فِيكَ تَشْرِيكًا وَلَا تَبْعِيضًا، فَإِنْ لَمْ تَعُدْ إِلَيْهِ بِكُلِّكَ رَدَّكَ وَمَا أَشْرَكْتَ مَعَهُ.

عَلَيْنَا -عِبَادَ اللهِ- أَنْ نَقِفَ عَلَى رَأْسِ طَرِيقِنَا مُتَأَمِّلِينَ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَخْتَارَ إِمَّا الدُّنْيَا وَإِمَّا الْآَخِرَةِ، وَالْجِيلُ الَّذِى يَحْمِلُ حِمْلًا صَادِقًا أَمِينًا يُؤَدِّيهَا إِلَى الْأَجْيَالِ مِنْ بَعْدُ، يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جِيلًا أَمِينًا بِحَقٍّ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، مُتَقَلِّلًا مِنَ الدُّنْيَا لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا وَلَا يُعَوِّلُ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص: 24].

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَا جَعَلَ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ، وَالمَالُ يَدْخُلُ عَلَى النَّاسِ بِالْفِتَنِ يُحَصِّلُونَهُ مَا يُحَصِّلُونَهُ مِنْ حَلَالٍ وَمِنْ حَرَامٍ، وَلَكِنَّ جِيلَ التّأْسِيسِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَاعِيًا، الْجِيلُ الَّذِى يَعْرِضُ الْإِسْلَامَ عَلَى حَقِيقَتِهِ مُنِيرًا مُشْرِقًا.

«نِدَاءٌ إِلَى الشَّبَابِ خَاصَةً وَالْمِصْرِيِّينَ عَامَةً:

اعْمَلُوا عَلَى قَدْرِ طَاقَتِكُمْ»

أَيُّهَا الْمُصْرِيُّونَ، اعْمَلُوا، وَاجْتَهِدُوا فِي الْعَمَلِ، فَإِنَّهُ لَا خُرُوجَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ مِنْ أَزْمَةٍ إِلَّا بِكَلِمَتَيْنِ: أَنْ يَعْمَلَ كُلُّ مِنَّا عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، لَا عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ حَتَّى هَذِهِ لَا يَعْمَلُونَهَا، يَعْنِي هُمْ لَا يَعْمَلُونَ أَصْلًا، لَا عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ وَلَا عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، هُمْ تَعَوَّدُوا عَلَى الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ عَطَاءٍ، وَهَذَا لَا يَرْضَاهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَا يَرْضَاهُ هَذَا الدِّينُ الْحَنِيفُ.

عِزُّكُمْ وَشَرَفُكُمْ دِينُكُمْ، حَيَاتُكُمْ وَمَمَاتُكُمْ، دُنْيَاكُمْ وَأُخْرَاكُمْ هُوَ هَذَا الدِّينُ الْحَنِيفُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى وَآلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

 

المصدر: دَوْرُ الشَّبَابِ فِي بِنَاءِ الْأُمَّةِ الْمِصْرِيَّةِ وَالْإِسْلَامِيَّةِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  اعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ المُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ
  أَمْرُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ فِي كِتَابِهِ
  «بِدْعَةُ المَوْلِدِ النَّبَوِيِّ» الشيخُ العلَّامة: زيد بن محمد بن هادي المدخلي -رحمهُ اللهُ-.
  جُمْلَةٌ جَامِعَةٌ مِنْ سُبُلِ تَحْقِيقِ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ
  مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ الْمُسْلِمِ: حَقُّهُ فِي الْحَيَاةِ
  ثَمَرَاتُ رِعَايَةِ كِبَارِ السِّنِّ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  مَبْنَى الْعَلَاقَاتِ فِي الْإِسْلَامِ عَلَى الْعَدْلِ
  أَوْلَى الْكِبَارِ بِالْبِرِّ الْوَالِدَانِ
  أَمَانَةُ الْكَلِمَةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
  دَوْرُ الْفَرْدِ فِي بِنَاءِ أُمَّتِهِ الْإِسْلَامِيَّةِ
  أَرْكَانُ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ
  الْعَمَلِ بِأَمَانَةٍ وَاجْتِهَادٍ مِنْ عَوَامِلِ الْقُوَّةِ فِي بِنَاءِ الدُّوَلِ
  مِنْ صُوَرِ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ النَّبِيلِ: زِيَارَةُ الْمَرْضَى، وَمُوَاسَاتُهُمْ
  الْمُسْلِمُونَ جَسَدٌ وَاحِدٌ
  الْإِسْلَامُ دِينُ الْعَمَلِ الْجَادِّ
  • شارك