تَيَّقَظْ وَانْتَبِهْ!!


((تَيَّقَظْ وَانْتَبِهْ!!))

تَيَّقْظْ!! فَإِنَّ الْيَقَظَةَ هِيَ أَوَّلُ مَفَاتِيحُ الْخَيْرِ، فَإِنَّ الْغَافِلَ عَنْ الِاسْتِعْدَادِ لِلِقَاءِ رَبِّهِ وَالتَّزَوُّدِ لِمَعَادَهِ؛ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ، بَلْ أَسْوَءُ حَالًا مِنْهُ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَعْلَمُ وَعْدَ اللهِ وَوَعِيدَهُ، وَمَا يَتَقَاضَاهُ أَوَامِرُ الرَّبِّ تَعَالَى وَنَوَاهِيهِ وَأَحْكَامُهُ مِنَ الْحُقُوقُ.

لَكِنْ يَحْجُبُهُ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِدْرَاكِ، وَيُقْعِدُهُ عَنْ الِاسْتِدْرَاكِ؛ سِنَةُ الْقَلْبِ، وَهِيَ غَفْلَتُهُ، الَّتِي رَقَدَ فِيهَا فَطَالَ رُقَادُهُ، وَرَكَدَ وَأَخْلَدَ إِلَى نَوَازِعِ الشَّهَوَاتِ، فَاشْتَدَّ إِخْلَادُهُ، وَانْغَمَسَ فِي غِمَارِ الشَّهَوَاتِ، وَاسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ الْعَادَاتُ وَمُخَالَطَةُ أَهْلِ الْبَطَالَاتِ، وَرَضِيَ بِالتَّشَبُّهِ بِأَهْلِ إِضَاعَةِ الْأَوْقَاتِ، فَهُوَ فِي رُقَادِهِ مَعَ النَّائِمِينَ، وَفِي سَكْرَتِهِ مَعَ الْمَخْمُورِينَ.

فَمَتَى انْكَشَفَ عَنْ قَلْبِهِ سِنَةُ هَذِهِ الْغَفْلَةِ بِزَجْرَةٍ مِنْ زَوَاجِرِ الْحَقِّ فِي قَلْبِهِ، اسْتَجَابَ فِيهَا لِوَاعِظِ اللهِ فِي قَلْبِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، أَوْ هِمَّةٍ عَالِيَةٍ أَثَارَهَا مِعْوَلُ الْفِكْرِ فِي الْمَحَلِّ الْقَابِلِ، فَضَرَبَ بِمِعْوَلِ فِكْرِهِ، وَكَبَّرَ تَكْبِيرَةً أَضَاءَتْ لَهُ مِنْهَا قُصُورُ الْجَنَّةِ فَقَالَ:

أَلَا يَا نَفْسُ وَيْحَكِ سَاعِدِينِي   ***   بِسَعْيٍ مِنْكِ فِي ظُلَمِ اللَّيَالِي

لَعَلَّكِ فِي الْقِيَامَةِ أَنْ تَفُوزِي    ***   بِطِيبِ الْعَيْشِ فِي تِلْكَ الْعَلَالِي

فَأَثَارَتْ تِلْكَ الْفِكْرَةُ نُورًا، رَأَى فِي ضَوْئِهِ مَا خُلِقَ لَهُ، وَمَا سَيَلْقَاهُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ حِينِ الْمَوْتِ إِلَى دُخُولِ دَارِ الْقَرَارِ، وَرَأَى سُرْعَةَ انْقِضَاءِ الدُّنْيَا، وَعَدَمَ وَفَائِهَا لِبَنِيهَا، وَقَتْلَهَا لِعُشَّاقِهَا، وَفِعْلَهَا بِهِمْ أَنْوَاعَ الْمَثُلَاتِ.

فَنَهَضَ فِي ذَلِكَ الضَّوْءِ عَلَى سَاقِ عَزْمِهِ، قَائِلًا: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ، فَاسْتَقْبَلَ بَقِيَّةَ عُمُرِهِ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا، مُسْتَدْرِكًا بِهَا مَا فَاتَ، مُحْيَيًا بِهَا مَا أَمَاتَ، مَسْتَقِيلًا بِهَا مَا تَقَدَّمَ لَهُ مِنَ الْعَثَرَاتِ، مُنْتَهِزًا فُرْصَةَ الْإِمْكَانِ الَّتِي إِنْ فَاتَتْ، فَاتَهُ جَمِيعُ الْخَيْرَاتِ.

ثُمَّ يَلْحَظُ فِي نُورِ تِلْكَ الْيَقَظَةِ وُفُورَ نِعْمَةِ رَبِّهِ عَلَيْهِ، مِنْ حِينَ اسْتَقَرَّ فِي الرَّحِمِ إِلَى وَقْتِهِ، وَهُوَ يَتَقَلَّبُ فِيهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، لَيْلًا وَنَهَارًا، يَقَظَةً وَمَنَامًا، سِرًّا وَعَلَانِيَةً.

فَلَوْ اجْتَهَدَ فِي إِحْصَاءِ أَنْوَاعِهَا لَمَا قَدَرَ، وَيَكْفِي أَنَّ أَدْنَاهَا نِعْمَةُ النَّفَسِ، وَللهِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، أَرْبَعَةٌ وَعِشُرُونَ أَلْفِ نِعْمَة، بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ أَلْفِ نَفَس، وَكُلُّ نَفَسٍ نِعْمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، لَا يَعْلَمُ حَقَّهَا وَقَدْرَهَا إِلَّا الْمَصْدُورُ الَّذِي يُقَاتِلُ مِنْ أَجْلِ الْهَوَاءِ، فَمَا ظَنُّكَ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلَا تُعَدُّ.

ثُمَّ يَرَى فِي ضَوْءِ ذَلِكَ النُّورِ، أَنَّهُ آيِسٌ مِنْ حَصْرِهَا وَإِحْصَائِهَا، عَاجِزٌ عَنْ أَدَاءِ حَقِّهَا، وَأَنَّ الْمُنْعِمَ بِهَا، إِنْ طَالَبَهُ بِحُقُوقِهَا، اسْتَوَعَبَتْ جَمِيعَ أَعْمَالِهِ حَقُّ نِعْمَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهَا.

 فَيَتَيَقَّنُ حِينَئِذٍ أَنَّهُ لَا مَطْمَعَ لَهُ فِي النَّجَاةِ إِلَّا بِعَفْوِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ وَفَضْلِهِ، ثُمَّ يَرَى فِي ضَوْءِ تِلْكَ الْيَقَظَةِ أَنَّهُ لَوْ عَمِلَ أَعْمَالَ الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْبِرِّ؛ لَاحْتَقَرَهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَنْبِ عَظَمَةِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-.

 مَا يَبْلُغُ عَمْلُكَ، وَمَا يَكُونُ؟!!

فَائِدَتُهُ رَاجِعَةٌ إِلَيْكَ، وَعَائِدَتُهُ مَرْدُودَةٌ عَلَيْكَ، وَاللهُ غَنِيٌّ عَنْكَ وَعَنْهُ وَعَنِ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لَا يُمْكِنُ لِعَبْدٍ أَنْ يَعْلَمَ مَا يَسْتَحِقُّهُ لِجَلَالِ وَجْهِهِ وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ، هَذَا لَوْ كَانَتْ أَعْمَالُكَ مِنْكَ، فَكَيْفَ وَهِيَ مَجُرَّدُ فَضْلِ اللهِ وَمِنَّتُهُ وَإِحْسَانُهُ، حَيْثَ يَسَّرَهَا لَكَ، وَأَعَانَكَ عَلَيْهَا، وَهَيَّأَهَا لَكَ، وَشَاءَهَا مِنْكَ.

وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ، لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ إِلَى تَحْصِيلِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، لَوْلَا ذَلِكَ مَا كَانَ لِلْعَبْدِ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى تَحْصِيلِ شَيْءٍ، فَحِينَئِذٍ لَا يَرَى الْعَبْدُ أَعْمَالَهُ مِنْهُ، بَلْ يَرَى رَبَّهُ سُبْحَانَهُ مُتَفَضِّلًا عَلَيْهِ، مًمْتَنًّا بِالْإِحْسَانِ مِنْهُ، وَأَنَّ هَذَا الْإِحْسَانَ مِنَ اللهِ، لَا مِنَ النَّفْسِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ مِنْ نَفْسِهِ إِلَّا الشَّرُّ وَأَسْبَابُهُ، وَمَا بِهِ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ وَحْدَهُ، صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ وَفَضْلًا مِنْهُ سَاقَهُ إِلَيْهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَحِقَّهُ بِسَبَبٍ، وَيَسْتَأْهِلَهُ بِوَسِيلَةٍ، فَيَرَى رَبَّهُ وَوَلِيَّهُ وَمَعْبُودَهُ أَهْلًا لِكُلِّ خَيْرٍ، وَيَرَى نَفْسَهُ أَهْلًا لِكُلِّ شَرٍّ، وَهَذَا أَسَاسُ جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَرْفَعُهَا وَيَجْعَلُهَا فِي دِيوَانِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ.

 

المصدر: محاسبة النفس

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  ثَمَرَاتُ رِعَايَةِ كِبَارِ السِّنِّ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  كُبْرَى مُقَدَّسَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي خَطَرٍ عَظِيمٍ الْيَوْمَ!
  اهْتِمَامُ الْإِسْلَامِ بِالطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ
  مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ بِنَاءِ الِاقْتِصَادِ السَّدِيدِ: اجْتِنَابُ الْمُعَامَلَاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ الْمُحَرَّمَةِ
  جُمْلَةُ حِكَمٍ عَظِيمَةٍ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ
  إِقَامَةُ الدُّنْيَا وَتَعْمِيرُهَا بِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ
  الدرس الحادي والعشرون : «الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ»
  مَعْنَى مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ وَحَقِيقَتُهَا
  انْتِصَارُ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ فِي السَّادِسِ مِنْ أُكْتُوبَر
  اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْحَلِيمُ الْوَدُودُ
  الْحَثُّ عَلَى أَلْوَانٍ مِنَ الصَّدَقَاتِ فِي رَمَضَانَ
  فَلْنَتَّقِ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلْنُحَقِّقْ مَقْصُودَ الصِّيَامِ -التَّقْوَى-
  رَحْمَةُ النَّبِيِّ ﷺ بِالصِّغَارِ
  ثَمَرَاتُ التَّرْشِيدِ فِي الْإِنْفَاقِ فِي رَمَضَانَ
  أَفْضَلُ النَّفَقَةِ وَالصَّدَقَاتِ عَلَى الْأَيْتَامِ وَالْمَسَاكِينِ
  • شارك