الْجِهَادُ الشَّرْعِيُّ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ


 ((الْجِهَادُ الشَّرْعِيُّ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ))

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

هَذَا إِيجَابٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِلْجِهَادِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَنْ يَكُفُّوا شَرَّ الْأَعْدَاءِ عَنْ حَوْزَةِ الْإِسْلَامِ.

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: ((الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، غَزَا أَوْ قَعَدَ; فَالْقَاعِدُ عَلَيْهِ إِذَا اسْتُعِينَ أَنْ يُعِينَ، وَإِذَا اسْتُغِيثَ أَنْ يُغِيثَ، وَإِذَا اسْتُنْفِرَ أَنْ يَنْفِرَ، وَإِنْ لَمْ يُحْتَجْ إِلَيْهِ قَعَدَ)) . وَسَنَدُهُ إِلَيْهِ حَسَنٌ.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- :  وَلِهَذَا ثَبَتَ فِي ((الصَحِيحِ)) : ((مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَغُزُ وَلَمْ يُحَدِّثْ نَفْسَهُ بِالْغَزْوِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)).

وَقَالَ ﷺ يَوْمَ الْفَتْحِ: ((لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، إِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

وَقَوْلُهُ: { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} أَيْ: شَدِيدٌ عَلَيْكُمْ وَمَشَقَّةٌ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّهُ إِمَّا أَنْ يُقْتَلَ أَوْ يُجْرَحَ، مَعَ مَشَقَّةِ السَّفَرِ، وَمُجَالَدَةِ الْأَعْدَاءِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: { وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ} أَيْ: لِأَنَّ الْقِتَالَ يَعْقُبُهُ النَّصْرُ وَالظَّفَرُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالِاسْتِيلَاءُ عَلَى بِلَادِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ، وَذَرَارِّيِّهِمْ، وَأَوْلَادِهِمْ.

{وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ}: وَهَذَا عَامٌّ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا، قَدْ يُحِبُّ الْمَرْءُ شَيْئًا، وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ خِيَرَةٌ وَلَا مَصْلَحَةٌ، وَمِنْ ذَلِكَ الْقُعُودُ عَنِ الْقِتَالِ، قَدْ يَعْقُبُهُ اسْتِيَلَاءُ الْعَدُوِّ عَلَى الْبِلَادِ وَالْحُكْمِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} أَيْ: هُوَ أَعْلَمُ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ مِنْكُمْ، وَأَخْبَرُ بِمَا فِيهِ صَلَاحُكُمْ فِي دُنْيَاكُمْ وَأُخْرَاكُمْ; فَاسْتَجِيبُوا لَهُ، وَانْقَادُوا لِأَمْرِهِ، لَعَلَّكُمْ تَرْشُدُونَ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190].

وَقَاتِلُوا -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ فِي طَاعَةِ اللهِ- الَّذِينَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَيُقَاتِلُونَكُمْ، وَيَفْتِنُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْكُمْ فِي دِينِهِمْ؛ لِيَرُدُّوهُمْ كُفَّارًا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَاجْعَلُوا قِتَالَكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَرَفْعِ كَلِمَتِهِ، وَلَا تَجْعَلُوهُ لِلْعُدْوَانِ، وَلَا تَقْتُلُوا النِّسَاءَ، وَالصِّبْيَانَ، وَالشُّيُوخَ، وَالرُّهْبَانَ، وَلَا مَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ.

وَلَا تَعْتَدُوا بِظُلْمِ غَيْرِكُمْ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِهِ الْمَادِيَّةِ أَوْ الْمَعْنَوِيَّةِ، أَوْ بِفِعْلِ مَا نَهَى اللهُ عَنْ فِعْلِهِ، وَتَرْكِ مَا أَمَرَ اللهُ بِفِعْلِهِ، وَبِتَحْرِيمِ مَا أَحَلَّ اللهُ، وَتَحْلِيلِ مَا حَرَّمَ، إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَا يُحِبُّ الَّذِينَ يُجَاوِزُونَ حُدُودَهُ، فَيَسْتَحِلُّونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَمَنْ جَعَلَ نَفْسَهُ بِإِرَادَتِهِ فِي زُمْرَةِ الَّذِينَ لَا يُحِبُّهُمُ اللهُ فَقَدْ جَعَلَهَا عُرْضَةً لِنِقْمَتِهِ وَعَذَابِهِ الشَّدِيدِ.

وَأَمَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْمُؤْمِنِينَ إِذَا أُمِرُوا بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَخْرُجُوا بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة: 41].

إِذَا أُمِرْتُمْ -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- أَنْ تَخْرُجُوا مِنْ مَكَانِ إِقَامَتِكُمْ لِلْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاخْرُجُوا بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَخِفُّ عَلَيْكُمُ الْجِهَادُ فِيهَا، كَأَنْ يَكُونَ خُرُوجُكُمْ دَعْوَةً إِلَى دِينِ اللهِ، أَوْ اسْتِطْلَاعًا لِأَخْبَارِ الْعَدُوِّ، أَوْ مُنَاوَشَةً خَفِيفَةً تَعْتَمِدُ عَلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ.

وَاخْرُجُوا بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَثْقُلُ عَلَيْكُمُ الْجِهَادُ فِيهَا، كَأَنْ يَكُونَ النَّافِرُ ثَقِيلًا بِعَتَادٍ وَأَسْلِحَةٍ وَمَؤُونَةٍ.

وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَاخْرُجُوا عَلَى الصِّفَتَيْنِ خِفَافًا وَثِقَالًا.

ذَلِكُمُ الْخُرُوجُ مِنْ مَكَانِ الْإِقَامَةِ، وَالْجِهَادُ بِالْأَمْوَالِ وَالْأُنْفُسِ أَكْثَرُ نَفْعًا وَفَائِدَةً لَكُمْ مِنَ الْقُعُودِ، وَالْإِمْسَاكِ، وَإِيثَارِ السَّلَامَةِ، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا يُعْطِيكُمُ اللهُ مِنْ خَيْرٍ عَاجِلٍ وَآجِلٍ عِلْمَ يَقِينٍ، فَإِنَّكُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ عَلِمْتُمْ أَنَّ النَّفْرَ وَالْجِهَادَ طَاعَةً لِلرَّسُولِ أَوْ لِأَمِيرِكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أَكْثَرُ نَفْعًا وَفَائِدَةً لَكُمْ، فَلَمْ تُقَصِّرُوا بِالْقِيَامِ بِهَذَا الْوَاجِبِ الْجِهَادِيِّ.

وَيَكُونُ الْجِهَادُ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ، إذَا قَامَ بِهِ قَوْمٌ، سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ فِي حَالَاتٍ ، قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] .

لَا يَتَسَاوَى الْمُتَخَلِّفُونَ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، غَيْرُ أَصْحَابِ الْأَمْرَاضِ وَالْعِلَلِ الَّتِي لَا سَبِيلَ مَعَهَا إِلَى الْجِهَادِ؛ مِنْ نَحْوِ عَمًى، أَوْ شَلَلٍ، أَوْ عَرَجٍ، أَوْ ضَعْفِ بَدَنٍ، لَا يَسْتَوِي الْمُتَخَلِّفُونَ عَنِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ هَؤُلَاءِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُسَاوُونَ الْمُجَاهِدِينَ؛ لِأَنَّ الْعُذْرَ أَقْعَدَهُمْ عَنِ الْجِهَادِ.

فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَالْقَاعِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَعْذَارِ؛ وَعَدَ اللهُ الْجَنَّةَ، وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ عَلَى الْقَاعِدِينَ الَّذِينَ لَا عُذْرَ لَهُمْ وَلَا ضَرَرَ فِيهِمْ ثَوَابًا جَزِيلًا.

وَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] .

لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ الْعَامِلِينَ بِوَصَايَا اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَخْرُجُوا جَمِيعًا إِلَى الْجِهَادِ -هَذَا عَلَى الْأَصْلِ أَنَّ النَّفِيرَ نَفِيرُ جِهَادٍ- لِئَلَّا يَتَعَرَّضُوا لِاحْتِمَالِ الِاسْتِئْصَالِ إِذَا ذَهَبُوا فَهُزِمُوا.

فَهَلَّا خَرَجَ لِلْقِتَالِ إِذَا دَعَا دَاعِي الْقِتَالِ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ جَمَاعَةٌ مُحَدَّدَةٌ بِعَدَدِهَا وَتَخَصُّصَاتِهَا؛ لِيَتَفَقَّهُوا عَنْ طَرِيقِ التَّجَارِبِ وَالْمُمَارَسَاتِ الْعَمَلِيَّةِ فِي أُمُورِ الْقِتَالِ وَفُنُونِ الْحَرْبِ، وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ مِنَ الْغَزْوِ بِمَا اكْتَسَبُوا مِنْ مَعْلُومَاتٍ يُعْتَبَرُ الْجَهْلُ بِهَا ثُغْرَةَ خَطَرٍ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ رَجَاءَ أَنْ يَحْذَرُوا مَوَاطِنَ الْخَطَرِ، فَيَتَّخِذُوا الْأَسْبَابَ وَالْوَسَائِلَ الْوَاقِيَةَ الْكَفِيلَةَ بِإِحْبَاطِ وَسَائِلِ الْأَعْدَاءِ، وَالْأَسْبَابَ وَالْوَسَائِلَ الَّتِي يُرْجَى مِنْهَا تَحْقِيقُ النَّصْرِ مِمَّا يُبَاغِتُونَ الْأَعْدَاءَ بِهِ.

وَقَدْ يَصِيرُ الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَذَلِكَ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ:

الْأَوَّلُ: إذَا نَزَلَ الْكُفَّارُ بِبَلَدٍ، تَعَيَّنَ عَلَى أَهْلِهِ قِتَالُهُمْ وَدَفْعُهُمْ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ}.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ، وَاتَّبَعُوا رُسُلَهُ! إِذَا قَابَلْتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مُجْتَمِعِينَ، يَزْحَفُونَ زَحْفًا لِقِتَالِكُمْ، فَلَا تُدِيرُوا لَهُمْ ظُهُورَكُمْ مُنْهَزِمِينَ مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانُوا أَكْثَرَ عَدَدٍ وَعُدَّةً.

الثَّانِي: عِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ الْكُلُّ مُلْزَمٌ بِالنَّفْرِ إِجَابَةً لِأَمْرِ الْإِمَامِ -الْحَاكِمِ-، إِلَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ، قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة: 38] .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ! مَا لَكُمْ إِذَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَوْ أَيُّ دَاعٍ مِنْ أُمَّتِهِ اخْرُجُوا إِلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ مُسْرِعِينَ بِجِدٍّ وَنَشَاطٍ، تَثَاقَلْتُمْ وَتَبَاطَئْتُمْ عَنِ الْخُرُوجِ، مَائِلِينَ إِلَى الْإِقَامَةِ بِأَرْضِكُمْ وَمَسَاكِنِكُمْ.

عَجَبًا لَكُمْ! أَرَضِيتُمْ بِسَعَةِ الْعَيْشِ، وَزَهْرَةِ الدُّنْيَا وَدَعَتِهَا بَدَلَ نَعَيمِ الْآخِرَةِ؟!!

إِذَا كُنْتُمْ رَضِيتُمْ ذَلِكَ، فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي جَنْبِ الْآخِرَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَيْهَا إِلَّا مَتَاعٌ قَلِيلٌ تَافِهٌ، لَا يَسْتَبْدِلُهُ الْعُقَلَاءُ، وَلَا يَسْتَحِقُّ أَنْ يَكُونَ مَحَلَّ إِيثَارٍ وَتَفْضِيلٍ، إِذْ أَنَّ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَمَتَاعَهَا فَانٍ زَائٍلٌ، يَنْفَدُ عَنْ قَرِيبٍ، وَنَعِيمُ الْآخِرَةِ بَاقٍ عَلَى الْأَبَدِ.

وَيَدُلُّ تَوْجِيهُ هَذَا الْخِطَابِ الْإِلَهِيِّ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ عَامَّةً عَلَى أَنَّ الْجَيْشَ فِي الْإِسْلَامِ هُوَ كُلُّ الْأُمَّةِ، وَلَا يُعْفَى مِنَ الْجُنْدِيَّةِ سِوَى الضُّعَفَاءِ؛ لِعَجْزٍ أَوْ شَيْخُوخَةٍ أَوْ مَرَضٍ.

هَذَا عِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ، عِنْدَمَا يَسْتَنْفِرُ الْإِمَامُ الْأُمَّةَ كُلَّهَا، فَأَمَّا أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ فَلِأَعْذَارِهِمْ.

عِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ الْكُلُّ مُلْزَمٌ بِالنَّفْرِ إِجَابَةً لِأَمْرِ الْإِمَامِ.

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِجَابَةِ الْإِمَامِ عِنْدَ النَّفِيرِ الْعَامِّ، قَوْلُ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَوْمَ الْفَتْحِ: ((لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، إِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .

الثَّالِثُ: عِنْدَ لِقَاءِ الْعُدُوِّ: فَقَدْ أَمَرَ اللهُ وَرَسُولُهُ ﷺ بِالثَّبَاتِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، فَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ حِينَئِذٍ، وَالْفِرَارُ مِنَ الْكَبَائِرِ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً كَافِرَةً؛ فَحَذَفَ الْوَصْفَ اسْتِغْنَاءً لِدَلَالَةِ السِّيَاقِ عَلَيْهِ وَدَلَالَةِ الْحَالِ.

{إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً}: وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))  يَقُولُ: لَقِيَ النَّبِيُّ ﷺ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهِ عَدُوًّا، فَانْتَظَرَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ خَرَجَ خَطِيبًا، فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ))، ثُمَّ قَالَ ﷺ: ((اللهم مُنْزَلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الْأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ)).

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا}: فَأَوَّلُ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ النَّصْرِ الثَّبَاتُ، وَمَا لِلْقَوْمِ لَا يَثْبُتُونَ وَقَدْ وَعَدَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ: إِمَّا النَّصْرُ وَإِمَّا الشَّهَادَةُ.

فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْحَيَاةِ عِزًّا، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْمَوْتِ مَآلًا وَنَصْرًا، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَطَاءَ مَوْصُولًا فِي الْحَالَيْنِ.

 

المصدر:حِمَايَةُ الْأَوْطَانِ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  الْأَمَلُ وَأَسْرَارُهُ اللَّطِيفَةُ
  سُبُلُ الْحِفَاظِ عَلَى الْمِيثَاقِ الْغَلِيظِ
  إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ
  الْإِخْلَاصُ هُوَ قُطْبُ رَحَى الْعِبَادَةِ
  مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ: رِعَايَةُ حُقُوقِ إِخْوَانِهِ
  النَّبِيُّ ﷺ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي الْبِرِّ وَالْوَفَاءِ
  تَرْغِيبُ النَّبِيِّ ﷺ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ
  الصِّفَاتُ الْوَاجِبُ تَوْفُّرِهَا فِي الشَّبَابِ لِبِنَاءِ الْأُمَّةِ
  الْحِكْمَةُ مِنْ مَشْرُوعِيَّةِ الْحَجِّ
  رِسَالَةُ نَبِيِّنَا ﷺ عَلَّمَتِ الْعَالَمَ السَّلَامَ وَالْقِيَمَ
  كَثْرَةُ الْأُمَّةِ عِزٌّ لَهَا وَقَضِيَّةُ تَنْظِيمِ النَّسْلِ
  مَفْهُومُ الْحَيَاةِ وَالِابْتِلَاءِ
  مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ إِدْمَانِ الْمُخَدِّرَاتِ: إِدْمَانُ ذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
  التَّرْهِيبُ مِنَ الْعُقُوقِ
  بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ تَمَاسُكِ الْأُسْرَةِ
  • شارك