حِمَايَةُ الْوَطَنِ مِنَ الْإِرْهَابِ


((حِمَايَةُ الْوَطَنِ مِنَ الْإِرْهَابِ))

فَقَدْ أَصْدَرَ الْمَجْمَعُ الْفِقْهِيُّ فِي إِحْدَى دَوَرَاتِهِ: إِنَّ التَّطَرُّفَ وَالْعُنْفَ وَالْإِرْهَابَ لَيْسَ مِنَ الْإِسْلَامِ فِي شَيْءٍ، بَلْ هِيَ أَعْمَالٌ خَطِيرَةٌ، لَهَا آثَارٌ فَاحِشَةٌ، وَفِيهَا اعْتِدَاءٌ عَلَى الْإِنْسَانِ وَظُلْمٌ لَهُ.

وَمَنْ تَأَمَّلَ مَصْدَرَيِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ كِتَابَ اللهِ الْكَرِيمِ، وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ الْعَظِيمِ ﷺ، فَلَنْ يَجِدَ فِيهِمَا شَيْئًا مِنْ مَعَانِي التَّطَرُّفِ وَالْعُنْفِ وَالْإِرْهَابِ الَّذِي يَعْنِي الِاعْتِدَاءَ عَلَى الْآخَرِينَ دُونَ وَجْهِ حَقٍّ.

وَحِرْصًا مِنْ أَعْضَاءِ الْمَجْمَعِ عَلَى وَضْعِ تَعْرِيفٍ إِسْلَامِيٍّ لِلْإِرْهَابِ تَتَوَحَّدُ عَلَيْهِ رُؤَى الْمُسْلِمِينَ وَمَوَاقِفُهُمْ، وَلِبَيَانِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ، وَإِبْرَازِ خُطُورَةِ الرَّبْطِ بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالتَّطَرُّفِ وَالْإِرْهَابِ، يُقَدِّمُ الْمَجْمَعُ الْفِقْهِيُّ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِلْعَالَمِ أَجْمَعَ تَعْرِيفًا لِلْإِرْهَابِ، وَمَوْقِفِ الْإِسْلَامِ مِنْهُ:

((الْإِرْهَابُ هُوَ: الْعُدْوَانُ الَّذِي يُمَارِسُهُ أَفْرَادٌ أَوْ جَمَاعَاتٌ أَوْ دُوَلٌ؛ بَغْيًا عَلَى الْإِنْسَانِ دِينِهِ وَدَمِهِ وَعَقْلِهِ وَمَالِهِ وَعِرْضِهِ.

وَيَشْمَلُ صُنُوفَ التَّخْوِيفِ وَالْأَذَى وَالتَّهْدِيدِ وَالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمَا يَتَّصِلُ بِصُوَرِ الْحِرَابَةِ وَإِخَافَةِ السَّبِيلِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ.

وَكُلُّ فِعْلٍ مِنْ أَفْعَالِ الْعُنْفِ أَوِ التَّهْدِيدِ يَقَعُ تَنْفِيذًا لِمَشْرُوعٍ إِجْرَامِيٍّ فَرْدِيٍّ أَوْ جَمَاعِيٍّ وَيَهْدُفُ إِلَى إِلْقَاءِ الرُّعْبِ بَيْنَ النَّاسِ أَوْ تَرْوِيعِهِمْ بِإِيذَائِهِمْ أَوْ تَعْرِيضِ حَيَاتِهِمْ أَوْ حُرِّيَّتِهِمْ أَوْ أَمْنِهِمْ أَوْ أَحْوَالِهِمْ لِلْخَطَرِ.

وَمِنْ صُنُوفِهِ إِلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْبِيئَةِ أَوْ بِأَحَدِ الْمَرَافِقِ أَوِ الْأَمْلَاكِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، أَوْ تَعْرِيضِ أَحَدِ الْمَوَارِدِ الْوَطَنِيَّةِ أَوِ الطَّبِيعِيَّةِ لِلْخَطَرِ.

فَكُلُّ هَذَا مِنْ صُوَرِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي نَهَى اللهُ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا فِي قَوْلِهِ: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77])).

((فَالْإِرْهَابُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ (أَرْهَبَ)؛ أَيْ: أَخَافَ، وَمَصْدَرُ مُفْرَدَاتِهَا: كَـ(أَفْزَعَ، وَرَوَّعَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ) .

قَالَ الرَّاغِبُ: ((الرَّهْبَةُ وَالرُّهُبُ: مَخَافَةٌ مَعَ تَحَرُّزٍ وَاضْطِرَابٍ، قَالَ تَعَالَى: {واضمم إليك جناحك من الرهب}، وَقُرِئَ: {من الرهب}؛ أَيِ: الْفَزَعِ)).

وَفِي الِاصْطِلَاحِ تَعَدَّدَتِ التَّعْرِيفَاتُ حَوْلَهُ، وَلَكِنَّ التَّعْرِيفَ الْأَقْرَبَ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: (الْإِرْهَابُ): جَمِيعُ الْمُمَارَسَاتِ الْعُدْوَانِيَّةِ بِشَتَّى صُوَرِهَا الَّتِي حَرَّمَهَا الْإِسْلَامُ وَحَذَّرَ مِنْهَا وَمَنَعَهَا، فَهَذَا كُلُّهُ إِرْهَابٌ.

فَمُسَمَّى الْإِرْهَابِ يُطْلَقُ عَلَى جَمِيعِ الْأَعْمَالِ الْعُدْوَانِيَّةِ الَّتِي تُحْدِثُ الْخَوْفَ فِي الْقُلُوبِ، وَالرَّهْبَةَ فِي النُّفُوسِ، وَالِاضْطِرَابَ فِي الْأَمْنِ، وَالْفَسَادَ فِي الْبِلَادِ، وَلَكِنَّ الَّذِي لَا يَصِحُّ قَوْلُهُ أَنْ يُتَّخَذَ ذَرِيعَةً ضِدَّ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَى الْخَيْرِ.

فَالْإِرْهَابُ صِنَاعَةٌ غَرْبِيَّةٌ غَرِيبَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَتَتْ مِنْ خَارِجِ بُلْدَانِهِمْ، وَهِيَ مِنْ صُنْعِ أَعْدَاءِ اللهِ الْمَاكِرِينَ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَافِعًا لَهُمْ لِلْوُقُوفِ أَمَامَ الْمَدِّ الْإِسْلَامِيِّ الْجَارِفِ عَلَى مُسْتَوَى الْعَالَمِ كُلِّهِ.

وَكَلِمَةُ الْإِرْهَابِ: هِيَ قَتْلُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَخْوِيفُ الْآمِنِينَ، وَهَتْكُ حُرْمَةِ الْمُعَاهَدِينَ، وَاسْتِهْدَافُ الْأَبْرِيَاءِ، وَتَدْمِيرُ الْمُنْشَآتِ، وَتَشْوِيهُ سُمْعَةِ الدِّينِ الْعَظِيمِ.

فَكُلُّ أَعْمَالِ الْعُنْفِ الَّتِي تُرْتَكَبُ بِاسْمِ الْإِسْلَامِ، تَجُرُّ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَتَاهَاتٍ مُعْتِمَةٍ، وَمَشَاكِلَ جَمَّةٍ، وَتَسْتَعْدِي عَلَيْهِمُ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ، وَتَجْلِبُ لَهُمُ الْمَشَقَّةَ وَالْعَنَتَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ وَاضِحٌ لِلْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ.

وَمِنْ آثَارِ الْإِرْهَابِ الَّتِي يَرَاهَا الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ:

هَلَاكُ الْأَنْفُسِ وَإِهْلَاكُهَا.

تَدْمِيرُ الْمُمْتَلَكَاتِ.

تَحْطِيمُ الْمُنْشَآتِ.

نَشْرُ الْخَوْفِ وَالرُّعْبِ.

زَرْعُ الضَّغِينَةِ وَالْبَغْضَاءِ.

تَحْجِيرُ الْخَيْرِ.

إِضْعَافُ الْأُمَّةِ وَتَبْدِيدُ مَكَاسِبِهَا.

تَسَلُّطُ أَعْدَاءِ اللهِ وَتَمَكُّنِهِمْ مِنْ أُمَّةِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

فَمَنْ ذَا الَّذِي يَرْضَى لِنَفْسِهِ وَيَرْضَى لِغَيْرِهِ تِلْكَ الْأُمُورَ؟!

اللهُ تَعَالَى رَفَعَ عَنْ أُمَّةِ الْإِسْلَامِ الْعَنَتَ وَالْحَرَجَ، وَنُصْرَةُ دِينِ اللهِ تَعَالَى، وَإِعْزَازُ شَرِيعَتِهِ لَا يَكُونُ بِبَثِّ الْخَوْفِ وَالرُّعْبِ، أَوِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، أَوْ بِإِلْقَاءِ الْأَنْفُسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ أَوِ التَّضْحِيَةِ بِالنَّفْسِ عَلَى غَيْرِ بَصِيرَةٍ، كُلُّ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَا جَاءَ بِهِ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَإِنَّمَا جَاءَ الْإِسْلَامُ؛ لِيَحْمِيَ لِلنَّاسِ ضَرُورَاتِهِمْ، وَيَعْمَلَ عَلَى حِفْظِهَا، وَيَنْشُرَ الْأَمْنَ وَالْعَدْلَ وَالسَّعَادَةَ بَيْنَ أَرْجَاءِ الْأَرْضِ كُلِّهَا.

لَقَدْ عَالَجَ الْإِسْلَامُ الْإِرْهَابَ بِعِلَاجٍ حَاسِمٍ، وَآخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ، فَشَرَعَ حَدَّ الْحِرَابَةِ، وَهُوَ حَدٌّ شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ، وَلِلْقَضَاءِ عَلَى جَرِيمَةِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، الَّتِي تُرَوِّعُ الْأَبْرِيَاءَ وَتَقْتُلُهُمْ، وَتُخِيفُ سُبُلَهُمْ، وَتُضْعِفُ أَمْنَهُمْ، وَتُفَجِّرُ دُورَهُمْ وَمُنْشَآتِهِمْ، وَتُبَدِّدُ ثَرْوَاتِهِمْ، وَتُضَيِّعُ أَوْطَانَ الْمُسْلِمِينَ، فَشَرَعَ لِذَلِكَ كُلِّهِ حَدًّا، وَآخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 33].

المُحَارِبُونَ للهِ وَرَسُولِهِ هُمُ الذينَ بَارَزُوهُ بِالعَدَاوَةِ، وَأَفْسَدُوا في الأَرْضِ؛ بِالكُفرِ، والقَتْلِ، وَأَخْذِ الأَمْوَالِ، وَإِخَافَةِ السُّبُلِ.

وَالمَشْهُورُ أَنَّ هذه الآيَةَ الكَرِيمَةَ في أَحْكَامِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الذينَ يَعْرِضُونَ للنَّاسِ في القُرَى والبَوَادِي، فَيَغْصِبُونَهُم أَمْوَالَهُم، وَيَقْتُلُونَهُم، وَيُخِيفُونَهُم فَيَمْتَنِعُ النَّاسُ مِنْ سُلُوكِ الطريقِ التي هُم بها، فَتَنْقَطِعُ بِذَلِكَ.

فَأَخْبَرَ اللهُ أنَّ جَزَاءَهُم وَنَكَالَهُم عِنْدَ إِقَامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِم أَنْ يُفْعَلَ بهم وَاحِدٌ مِنْ هذه الأُمُورِ.

وَهَذِهِ الْعُقُوبَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ هِيَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ:

مَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ: قُتِلَ وَصُلِبَ.

وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ: قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ.

وَمَنْ لَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا: نُفِيَ فِي الْأَرْضِ.

وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَهَذَا هُوَ الْحَسْمُ الْقَاطِعُ، وَهَذَا هُوَ الْعِلَاجُ النَّاجِعُ، وَآخِرُ الطِّبِّ الْكَيُّ، وَهَذَا مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

  

المصدر:حِمَايَةُ الْأَوْطَانِ بَيْنَ فَرْضِ الْعَيْنِ وَفَرْضِ الْكِفَايَةِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  فَضْلُ شَهْرِ اللهِ الْمُحَرَّمِ
  مِنْ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ فِي رَمَضَانَ: الصَّدَقَاتُ وَالْجُودُ
  رَمَضَانُ مَدْرَسَةٌ تُعَلِّمُ الطَّاعَاتِ وَتُهَذِّبُ الْأَخْلَاقَ
  حُسْنُ الخُلُقِ مِنْ كُبْرَى غَايَاتِ دِينِنَا
  قَضِيَّةُ الْأُمَّةِ قَضِيَّةُ فِلَسْطِينَ
  الْخِلَافُ وَالْإِسْرَافُ مَرَضَانِ يُهَدِّدَانِ الْأُمَّةَ
  سَعَادَةُ الْمُسْلِمِ فِي التَّوَازُنِ بَيْنَ قُوَّتَيْهِ الْعَمَلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ
  رِعَايَةُ النَّبِيِّ ﷺ لِلْيَتِيمِ وَالْكَسِيرِ وَالضَّعِيفِ
  الْمَوْعِظَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ : ((أَحْكَامُ زَكَاةِ الْفِطْرِ))
  دِينُ الرَّحْمَةِ وَالْأَخْلَاقِ
  نَبْذُ النَّبِيِّ ﷺ لِلْعُنْصُرِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ
  حُبُّ الْوَطَنِ وَمَنْزِلَتُهُ فِي ضَوْءِ الشَّرْعِ الْحَنِيفِ
  الْوَفَاءُ بِعَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ
  الْإِخْلَاصُ هُوَ قُطْبُ رَحَى الْعِبَادَةِ
  نِعْمَةُ الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ
  • شارك