الْبِرُّ وَالْوَفَاءُ فِي دِينِ خَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ


 ((الْبِرُّ وَالْوَفَاءُ فِي دِينِ خَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ ))

وَمِنْ أَسْمَى الْأَخْلَاقِ، وَأَجْمَلِ الصِّفَاتِ فِي دِينِنَا الْعَظِيمِ الْبِرُّ وَالْوَفَاءُ.

*مَعْنَى الْبِرِّ:

عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبيِّ ﷺ، قَالَ: ((الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ: مَا حَاكَ في نَفْسِكَ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليهِ النَّاسُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) .

الْبِرُّ: اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ وَكُلِّ فِعْلٍ مَرْضِيٍّ.

((الْبِرُّ: حُسْنُ الخُلُقِ، وَالْإِثْمُ: ما حَاكَ في نَفْسِكَ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليهِ النَّاسُ)).

وعَنْ وابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: ((جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ؟)).

قُلْتُ: نعَمْ.

قَالَ: ((استَفْتِ قَلْبَكَ، الْبِرُّ: مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ: مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ)) .

قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَيْنَاهُ فِي ((مُسْنَدَيِ الْإِمَامَيْنِ أَحْمَدَ وَالدَّارِمِيِّ)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ)).

هَذِهِ الْأَحَادِيثُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ، وَبَعْضُهَا فِي تَفْسِيرِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ.

فَحَدِيثُ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ فَسَرَّ النَّبِيُّ ﷺ فِيهِ الْبِرَّ بِحُسْنِ الْخُلُقِ، وَفَسَّرَهُ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ وَغَيْرِهِ بِمَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَالنَّفْسُ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ تَفْسِيرُهُ لِلْبِرِّ؛ لِأَنَّ الْبِرَّ يُطْلَقُ بِاعْتِبَارَيْنِ مُعَيَّنَيْنِ:

*أَحَدُهُمَا: بِاعْتِبَارِ مُعَامَلَةِ الْخَلْقِ: وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمْ، وَرُبَّمَا خُصَّ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، فَيُقَالُ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ، وَيُطْلَقُ كَثِيرًا عَلَى الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ عُمُومًا.

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: «الْبِرُّ شَيْءٌ هَيِّنٌ: وَجْهٌ طَلِيقٌ، وَكَلَامٌ لَيِّنٌ».

وَإِذَا قُرِنَ الْبِرُّ بِالتَّقْوَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]؛ فَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْبِرِّ: مُعَامَلَةَ الْخَلْقِ بِالْإِحْسَانِ، وَبِالتَّقْوَى: مُعَامَلَةَ الْحَقِّ بِفِعْلِ طَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ.

وَقَدْ يَكُونُ أُرِيدَ بِالْبِرِّ: فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ، وَبِالتَّقْوَى: اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].

قَدْ يُرَادُ بِالْإِثْمِ: الْمَعَاصِي، وَبِالْعُدْوَانِ: ظُلْمُ الْخَلْقِ.

وَقَدْ يُرَادُ بِالْإِثْمِ: مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ؛ كَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَبِالْعُدْوَانِ: تَجَاوُزُ مَا أُذِنَ فِيهِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ مِمَّا جِنْسُهُ مَأْذُونٌ فِيهِ؛ كَقَتْلِ مَنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ لِقِصَاصٍ، وَمَنْ لَا يُبَاحُ، وَأَخْذِ زِيَادَةٍ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ النَّاسِ فِي الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، وَمُجَاوَزَةِ الْجَلْدِ فِي الَّذِي أُمِرَ بِهِ فِي الْحُدُودِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالْمَعْنَى الثَّانِي مِنْ مَعْانِي الْبِرِّ: أَنْ يُرَادَ بِهِ فِعْلُ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ: كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

فَالْبِرُّ بِهَذَا الْمَعْنَى يَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ الطَّاعَاتِ الْبَاطِنَةِ؛ كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالطَّاعَاتُ الظَّاهِرَةُ؛ كَإِنْفَاقِ الْأَمْوَالِ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَالصَّبْرِ عَلَى الْأَقْدَارِ؛ كَالْمَرَضِ وَالْفَقْرِ، وَعَلَى الطَّاعَاتِ؛ كَالصَّبْرِ عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ.

وَقَدْ يَكُونُ جَوَابُ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ شَامِلًا لِهَذِهِ الْخِصَالِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ حُسْنَ الْخُلُقِ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّخَلُّقُ بِأَخْلَاقِ الشَّرِيعَةِ، وَالتَّأَدُّبُ بِآدَابِ اللَّهِ الَّتِي أَدَبَّ بِهَا عِبَادَهُ فِي كِتَابِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِرَسُولِهِ ﷺ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

وَقَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «كَانَ خُلُقُهُ ﷺ الْقُرْآنَ»، يَعْنِي: أَنَّهُ يَتَأَدَّبُ بِآدَابِهِ، فَيَفْعَلُ أَوَامِرَهُ، وَيَتَجَنَّبُ نَوَاهِيَهُ، فَصَارَ الْعَمَلُ بِالْقُرْآنِ لَهُ خُلُقًا كَالْجِبِلَّةِ وَالطَّبِيعَةِ لَا يُفَارِقُهُ، وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَخْلَاقِ وَأَشْرَفُهَا وَأَجْمَلُهَا.

وَقَدْ قِيلَ: ((إِنَّ الدِّينَ كُلَّهُ خُلُقٌ)).

*وَمِنْ مَعَانِي الْبِرِّ: أَنَّهُ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ لِلْحَقِّ:

فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ قَالَ ﷺ: «الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَاطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ».

هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ، وَالسُّكُونِ إِلَيْهِ، وَقَبُولِهِ، وَرَكَزَ فِي الطِّبَاعِ مَحَبَّةَ ذَلِكَ، وَالنُّفُورَ عَنْ ضِدِّهِ.

وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ مَا أَمَرَ بِهِ «مَعْرُوفًا»، وَمَا نَهَى عَنْهُ «مُنْكَرًا»، وَأَخْبَرَ أَنَّ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ تَطْمَئِنُّ بِذِكْرِهِ، فَالْقَلْبُ الَّذِي دَخَلَهُ نُورُ الْإِيمَانِ، وَانْشَرَحَ بِهِ وَانْفَسَحَ؛ يَسْكُنُ لِلْحَقِّ، وَيَطْمَئِنُّ بِهِ وَيَقْبَلُهُ، وَيَنْفُرُ عَنِ الْبَاطِلِ وَيَكْرَهُهُ وَلَا يَقْبَلُهُ.

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ لَا يَلْتَبِسُ أَمْرُهُمَا عَلَى الْمُؤْمِنِ الْبَصِيرِ؛ بَلْ يَعْرِفُ الْحَقَّ بِالنُّورِ عَلَيْهِ، فَيَقْبَلُهُ قَلْبُهُ، وَيَنْفِرُ عَنِ الْبَاطِلِ، فَيُنْكِرُهُ وَلَا يَعْرِفُهُ.

فَدَلَّ حَدِيثُ وَابِصَةَ -وَمَا فِي مَعْنَاهُ- عَلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْقُلُوبِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، فَمَا إِلَيْهِ سَكَنَ الْقَلْبُ، وَانْشَرَحَ إِلَيْهِ الصَّدْرُ؛ فَهُوَ الْبِرُّ وَالْحَلَالُ، وَمَا كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ؛ فَهُوَ الْإِثْمُ وَالْحَرَامُ.

*الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ:

وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ: «الْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ»: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِثْمَ مَا أَثَّرَ فِي الصَّدْرِ حَرَجًا، وَضِيقًا، وَقَلَقًا، وَاضْطِرَابًا، فَلَمْ يَنْشَرِحْ لَهُ الصَّدْرُ، وَمَعَ هَذَا؛ فَهُوَ عِنْدَ النَّاسِ مُسْتَنْكَرٌ، بِحَيْثُ يُنْكِرُونَهُ عِنْدَ اطِّلَاعِهِمْ عَلَيْهِ.

وَهَذَا أَعْلَى مَرَاتِبِ مَعْرِفَةِ الْإِثْمِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، وَهُوَ مَا اسْتَنْكَرَهُ النَّاسُ عَلَى فَاعِلِهِ وَغَيْرِ فَاعِلِهِ.

 

المصدر:الْبِرُّ وَالْوَفَاءُ وَرِسَالَةٌ هَامَّةٌ وَمُتَجَدِّدَةٌ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مِنْ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْعَطَاءِ لِلْوَطَنِ: الْعَمَلُ الْجَادُّ
  الزَّوَاجُ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-
  الدرس الثالث عشر : «تَحَرِّي الحَلَالِ»
  اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ يُؤيِّدُ أَنْبِيَاءَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ
  شَهْرُ الْحَصَادِ وَسُنَّةُ الصَّوْمِ فِيهِ
  وِقَايَةُ الْأَوْلَادِ مِنَ النَّارِ بِتَعْلِيمِهِمُ الِاعْتِقَادَ الصَّحِيحَ
  التَّرْهِيبُ مِنَ الْخِيَانَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  ذِكْرُ اللهِ هُوَ رُوحُ الْعِبَادَةِ فِي الْإِسْلَامِ
  الْمُعَامَلَةُ بِالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ، وَالْعَدْلِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ الْمُسَالِمِينَ
  حُبُّ الْوَطَنِ غَرِيزَةٌ فِي النُّفُوسِ السَّوِيَّةِ
  مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ إِدْمَانِ الْمُخَدِّرَاتِ: صُحْبَةُ الصَّالِحِينَ وَمُجَانَبَةُ الْفَاسِدِينَ
  سَبَبُ النَّصْرِ الْأَعْظَمُ: تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ وَالِاتِّبَاعِ
  وَسَائِلُ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ السَّعِيدَةِ
  تَرْبِيَةُ الطِّفْلِ عَلَى أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ
  مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ: عِظَمُ قَدْرِ الصَّلَاةِ فِي الْإِسْلَامِ وَعُلُوُّ مَنْزِلَتِهَا
  • شارك