مِنْ أَعْظَمِ الْبِرِّ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ


 ((مِنْ أَعْظَمِ الْبِرِّ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ))

إِنَّ حَقَّ الْأَبَوَيْنِ يَلِي حَقَّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحَقَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخَلْقِ لَيُفَرِّطُونَ فِي هَذَا الْحَقِّ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَيْهِ، وَلَا يُلْقُونَ لَهُ بَالًا؛ بَلْ يَعْتَدِي الْوَاحِدُ مِنْهُمْ عَلَى هَذَا الْحَقِّ الْمَكِينِ الَّذِي ذَكَرَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِعِبَادَتِهِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)} [الإسراء: 23-24].

فَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعْدَ الْأَمْرِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَبِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِمَا، فَهَذَا مِنْ آكَدِ الْحُقُوقِ وَمِنْ أَجَلِّهَا.

وَبَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ لَا يُجِيزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِكَلِمَةِ سُوءٍ تَنِمُّ عَنْ ضَجَرٍ يُحِسُّهُ فِي نَفْسِهِ، فَيُعْلِنُهُ بِلِسَانِهِ، { فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}.

فَلَمْ يُجِزْ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَتَأَفَّفَ الْإِنْسَانُ مِنْ أَبَوَيْهِ إِذَا بَلَغَا الْكِبَرَ، وَصَارَا إِلَى حَالٍ لَا يَتَحَكَّمَانِ فِيهَا فِي الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، فَيَتَأَفَّفُ مِنْهُمَا مُتَضَجِّرًا، وَقَدْ كَانَا يَرَيَانِ مِنْهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَأَعْظَمَ مِنْهُ وَلَا يَتَضَجَّرَانِ، وَإِنَّمَا يَأْتِيَانِ بِهِ بِسَمَاحَةِ نَفْسٍ، وَطِيبِ خَاطِرٍ.

فَنَهَى رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ تَأَفُّفِ الْمَرْءِ مِنْ أَبَوَيْهِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ حَقَّهُمَا عَظِيمًا، وَجَعَلَ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَبْدِ تِجَاهَهُمَا وَاجِبًا جَسِيمًا، وَإِذَا فَرَّطَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ: ((مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرَ أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ)) .

وَإِنَّ أَوْلَى الْأَرْحَامِ بِالرِّعَايَةِ لَهِيَ مَا يَتَّصِلُ بِالْأَبَوَيْنِ.

*وَصِيَّةُ النَّبِيِّ ﷺ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَجُمْلَةٌ مِنْ حِكَمِ تَقْدِيمِ بِرِّ الْأُمِّ:

النَّبِيُّ ﷺ قَدْ سُئِلَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ، فَأَجَابَ ﷺ بِتَرْتِيبٍ وَاضِحٍ لَا لَبْسَ فِيهِ وَلَا غُمُوضَ؛ فَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟

قَالَ: ((أُمُّكَ)).

قَالَ: ثُمًّ مَنْ؟

قَالَ: ((أُمُّكَ)).

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: ((أُمُّكَ)).

قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟

قَالَ: ((أَبُوكَ)) .

فَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ لِلْأُمِّ، وَكَرَّرَ ذَلِكَ ﷺ مِرَارًا، ثُمَّ ذَكَرَ الْأَبَ بَعْدُ.

وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا أَدَّتْهُ لَا يَكُونُ مَنْظُورًا؛ مِمَّا وَجَدَتْهُ مِنْ أَلَمِ الْحَمْلِ وَالْوَضْعِ، وَمَا كَانَ مِنَ التَّرْبِيَةِ وَالرِّعَايَةِ فِي الصِّغَرِ، فَكُلُّ ذَلِكَ لَا يُدْرِكُهُ الْمَرْءُ إِذَا عَلَتْ بِهِ السُّنُونُ، وَإِنَّمَا يَرَى الرِّعَايَةَ مِنْ أَبِيهِ قَائِمًا، وَيَرَى الْإِنْفَاقَ عَلَيْهِ سَارِيًا، فَقَدْ يُفَرِّطُ فِي حَقِّ الْأُمِّ حِينَئِذٍ، فَدَلَّ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ.

وَشَيْءٌ آخَرُ: لِأَنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهَا، وَلَقَدْ يَكُفُّ الرَّجُلُ أَذَاهُ عَنْ أَبِيهِ؛ خَوْفًا مِنْ قُوَّتِهِ، وَتَوَقِّيًا لِبَطْشِهِ.

وَأَمَّا الْأُمُّ؛ فَلِضَعْفِهَا، وَلِأُنُوثَتِهَا، وَلِرِقَّتِهَا؛ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَدِيَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ مَا ضَابِطٍ يَضْبِطُهُ، وَلَا كَافٍّ يَكُفُّهُ، فَنَبَّهَ الرَّسُولُ ﷺ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ.

وَشَيْءٌ آخَرُ: هُوَ أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَسْتَحْيِي مِنْ عُقُوقِ أَبِيهِ فِي مَحْضَرٍ مِنَ النَّاسِ؛ خَوْفَ الْمَلَامَةِ مِنْهُمْ، وَحَيَاءً مِنْ مُوَاقَعَةِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي تَسْتَفْظِعُهُ النُّفُوسُ السَّوِيَّةُ، وَلَا تَقْبَلُهُ الْأَرْوَاحُ الْمُسْتَقِيمَةُ.

وَلَمَّا كَانَتِ الْأُمُّ فِي سَتْرٍ تَحُفُّهَا جُدْرَانُهَا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَعُقَّهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرَاهَا أَحَدٌ وَلَا أَنْ يَلُومَهُ، نَبَّهَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ بِهَذِهِ الصُّورَةِ.

وَشَيْءٌ آخَرُ: وَهُوَ: أَنَّ الْمَرْأَةَ لَمَّا كَانَتْ ضَعِيفَةً، وَكَانَتْ لِأُنُوثَتِهَا رَقِيقَةً، وَقَدْ تَكُونُ سَرِيعَةَ الْغَضَبِ، فَإِذَا مَا عَقَّهَا لَمْ تَتَمَاسَكْ، وَلَمْ تَتَجَلَّدْ، وَأَسْرَعَتْ فِي الدُّعَاءِ عَلَى ابْنِهَا الَّذِي عَقَّهَا أَوْ أَسَاءَ إِلَيْهَا.

فَرَاعَى النَّبِيُّ ﷺ هَذِهِ الطَّبِيعَةَ، وَأَمَرَ الْوَلَدَ بِأَنْ يُحْسِنَ صَحَابَتَهَا مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً؛ حَتَّى لَا يُلْجِئَهَا إِلَى الدُّعَاءِ عَلَيْهِ، فَتُصَادَفَ بِقَدَرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَقْتًا يَسْتَجِيبُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ دُعَاءَ مَنْ دَعَاهُ، وَيَكُونُ قَدْ ظَلَمَهَا وَأَسَاءَ إِلَيْهَا، فَيُسْتَجَابُ لَهَا فِيهِ، وَحِينَئِذٍ لَا يَنْفَعُهُ نَدَمٌ، وَلَا يَكُفُّ عَنْهُ مَا أَصَابَهُ شَيْءٌ مِنْ حَوْلٍ وَلَا حِيلَةٍ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَظِيمِ.

النَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ الْوَالِدَ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: ((الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَخُذْ أَوْ فَدَعْ)) .

يَعْنِي: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ مِنْ أَوْسَطِ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؛ فَدُونَكَ بِرَّ أَبِيكَ؛ فَإِنَّ أَبَاكَ هُوَ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ.

رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ)) بِسَنَدِهِ عَنْ أُمِّنَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهَا- عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: ((أُرِيْتُ فِي الْمَنَامِ فِي الرُّؤْيَا أَنِّي كُنْتُ فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعْتُ رَجُلًا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟)).

قَالُوا: هُوَ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((كَذَاكِ الْبِرُّ، كَذَاكِ الْبِرُّ)).

وَكَانَ بَارًّا بِأُمِّهِ، فَأُرِيَهُ النَّبِيُّ ﷺ، وَسَمِعَ تِلَاوَتَهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا قَبَضَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، أُرِيَهُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الرُّؤْيَا، وَسَمِعَ تِلَاوَتَهُ فِي الْجَنَّةِ لِبِرِّهِ بِأُمِّهِ، وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ-.

  

المصدر:الْبِرُّ وَالْوَفَاءُ وَرِسَالَةٌ هَامَّةٌ وَمُتَجَدِّدَةٌ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مَسْؤُلِيَّةُ الْمُسْلِمِ تِجَاهَ أَهْلِهِ
  الْمَوْعِظَةُ السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : ((رَمَضَانُ مَدْرَسَةُ تَعْلِيمٍ وَتَهْذِيبٍ))
  الزَّوَاجُ مِنْ أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-
  الصِّيَامُ وَالْقِيَامُ مُمْتَدَّانِ طُوَالَ الْعَامِ
  الحث على بِرِّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنَ الأَرْحَامِ
  عَلَامَاتُ النِّفَاقِ، وَصِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ
  الْوَطَنِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ
  ضَوَابِطُ تَرْبِيَةِ الْيَتِيمِ وَتَأْدِيبِهِ
  انْتِصَارُ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ فِي السَّادِسِ مِنْ أُكْتُوبَر
  مِنْ دُرُوسِ الْهِجْرَةِ: الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ مَعَ الْيَقِينِ فِي تَوْفِيقِ اللهِ
  ذِكْرُ الْعَبْدِ للهِ مَحْفُوفٌ بِذِكْرَينِ مِنَ اللهِ
  ثَمَرَاتُ مَعِيَّةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
  تَحْوِيلُ الْقِبْلَةِ وَوَحْدَةُ الْأُمَّةِ
  الْمُسْلِمُونَ جَسَدٌ وَاحِدٌ بِالْأُخُوَّةِ وَالتَّكَافُلِ
  دَرَجَاتُ الْعَطَاءِ لِلْوَطَنِ
  • شارك