هَلْ رَأَى النَّبِيُّ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؟


 ((هَلْ رَأَى النَّبِيُّ رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؟))

          مِنْ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ: أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَبْصَارِهِمْ، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ:

*مِنَ الْكِتَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [القيامة: 22-23].

*وأَمَّا مِن السُّنَّةِ، فَالْأَدِلَّةُ أَيْضًا كَثِيرَةٌ:

فَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ؛ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟

قَالَ: ((فَهَل تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَت فِي سَحَابَةٍ؟))

قَالُوا: لَا.

قَالَ: ((فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ فِي سَحَابَةٍ؟))

قَالُوا: لَا.

قَالَ: ((فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا)).

هَذِهِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ ، وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))  مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِنَحْوِهِ.

وَالتَّشْبِيهُ هُنَا لِلرُّؤْيَةِ بِالرُّؤْيَةِ، لَا لِلْمَرْئِيِّ بِالْمَرْئِيِّ، وَهِيَ رُؤْيَةٌ مَعْرُوفَةٌ لَيْسَتْ بِمَجْهُولَةٍ، يُرَى سُبْحَانَهُ بِغَيْرِ إِدْرَاكٍ وَلَا إِحَاطَةٍ، إِذْ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَإِنَّمَا تَرَاهُ فِي الْقِيَامَةِ الْأَبْصَارُ، فَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحَاطَ بِهِ -جَلَّ شَأْنُهُ-.

وَفِي حَدِيثِ صُهَيْبٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنْجِنَا مِنَ النَّارِ؟

قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ -عَزَّ وَجَلَّ-)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في ((صَحِيحِهِ)) .

«جُمْهُورُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّ مَنْ جَحَدَ رُؤْيَةَ اللهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فَهُوَ كَافِرٌ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْهُ الْعِلْمُ فِي ذَلِكَ عُرِّفَ ذَلِكَ، كَمَا يُعَرَّفُ مَنْ لَمْ يَبْلْغْهُ شَيْءٌ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى الْجُحُودِ بَعْدَ بُلُوغِ الْعِلْمِ لَهُ فَهُوَ كَافِرٌ». كَمَا قَرَّرَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، وَمِنْهُمْ شَيْخُ الْإِسْلَامِ .

هَذِهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمَعْلُومَةِ فِي اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ، فَإِعَادَتُهَا عَلَيْكُمْ لَا تَكُونُ مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، وَإِنَّمَا مِنْ بَابِ الذِّكْرَى الَّتِي تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ، لَنَدْلُفَ مِنْهَا إِلَى أَمْرٍ مُهِمٍّ.

لَمْ يَرَ الرَّسُولُ ﷺ رَبَّهُ عِيَانًا عَلَى الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ رُؤْيَةً قَلْبِيَّةً، لَا بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، كَمَا لَمْ يَرَ رَبَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي الْأَرْضِ -أَيْ: هُوَ فِي الْأَرْضِ-.

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ : ((كُلُّ حَدِيثٍ فِيهِ: أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ كَذِبٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ؛ هَذَا شَيْءٌ لَمْ يَقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا رَوَاهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ بَعْضُ النِّزَاعِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِي أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ هَلْ رَأَى رَبَّهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ؟))

وقال : ((وَلَمْ يَثْبُتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَا عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَمْثَالِهِمَا أَنَّهُمْ قَالُوا: إنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ، بَلْ الثَّابِتُ عَنْهُمْ إمَّا إطْلَاقُ الرُّؤْيَةِ، وَإِمَّا تَقْيِيدُهَا بِالْفُؤَادِ))

وَقَدْ سُئِلَ رَسُولُ اللهِ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟

فَقَالَ: ((نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ)). كَمَا عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي ((الصَّحِيحِ)) .

وَعِنْدَهُ : قَالَ ﷺ: ((حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)).

قَالَ مَسْرُوقٌ لِعَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((يَا أُمَّتَاهُ، هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ ﷺ رَبَّهُ؟

فَقَالَتْ: لَقَدْ قَفَّ شَعْرِيَ مِمَّا قُلْتَ, أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ -هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ-، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ: فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الْفِرْيَةَ -بَدَلَ: فَقَدْ كَذَبَ-، ثُمَّ قَرَأَتْ {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الْأَنْعَامِ: 103]،: {ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشُّورَى: 51].

وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لُقْمَانَ: 34]، وَمَنْ حَدَّثَ أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الْمَائِدَةِ: 67] الْآيَةَ.

وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ)). وَهَذَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .

«لَوْ رَآهُ النَّبِيُّ ﷺ نَفْسَهُ بِعَيْنِهِ؛ لَكَانَ ذِكْرُ ذَلِكَ أَوْلَى فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ، فَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ} [النجم: 12] {لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ} [النجم: 18]، وَكَذَلِكَ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء: 1]، فَلَوْ كَانَ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ؛ لَكَانَ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ أَوْلَى.

وَقَدْ ثَبَتَ بِالنُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ، وَاتِّفَاقِ سَلَفِ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يَرَى أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا رَبَّهُ بِعَيْنَيْهِ إِلَّا مَا نَازَعَ فِيهِ بَعْضُهُمْ مِنْ رُؤْيَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ خَاصَّةً» .

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: ((رَآهُ بِقَلْبِهِ))  فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالرُّؤْيَةِ، فَيَكُونُ كَلَامُهُ -يَعْنِي كَلَامَ ابْنِ عَبَّاسٍ- مُطَابِقًا لِكَلَامِ غَيْرِهِ مِمَّنْ نَفَى أَنْ يَكُونَ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، كَقَوْلِ عَائِشَةَ لِمَسْرُوقٍ: ((قَفَّ شَعْرُ رَأْسِي مِمَّنْ قَالَ ذَلِكَ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللهِ الفِرْيَةَ)).

بَلِ النَّبِيُّ ﷺ نَفَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ: عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟

قَالَ: ((نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ؟)).

فَابْنُ عَبَّاسٍ لَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وإنَّمَا قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِهِ، أَوْ أَطْلَقَ الرُّؤْيَةَ، فَتُقَيَّدُ بِذَلِكَ الْقَيْدِ.

فَالرُّؤْيَةُ الْمُثْبَتَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُطْلَقَةً، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ مُقَيَّدَةً بِالرُّؤْيَةِ الْقَلْبِيَّةِ، فَيَسْتَقِيمُ هَذَا مَعَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

 

المصدر:دُرُوسٌ مِنَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  الْأَمَلُ الْمَذْمُومُ وَسُوءُ عَاقِبَتِهِ
  فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَنْ يَتَعَلَّمَ كَيْفَ يَحُجُّ
  مُحَمَّدٌ ﷺ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، وَدِينُهُ دِينُ الرَّحْمَةِ
  دِينُ اللهِ هُوَ دِينُ الْإِحْسَانِ فِي كُلِّ شَيْءٍ
  الصِّيَامُ تَدْرِيبٌ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى
  الْمَوْعِظَةُ التَّاسِعَةُ وَالْعِشْرُونَ : ((رَمَضَانُ وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ))
  الْعِلْمُ الصَّحِيحُ يُورِثُ الْخَشْيَةَ
  دِينُ الرَّحْمَةِ وَالْأَخْلَاقِ
  مَوْتُ الْمُسْلِمِ دِفَاعًا عَنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخِتَامِ
  مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ لِلْحِفَاظِ عَلَى الْأَوْطَانِ: الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِعَقِيدَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي حُقُوقِ الْحُكَّامِ
  الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ سَبَبَا قُوًّةِ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَنَصْرِهَا
  قَضِيَّةُ الْأُمَّةِ وَفَوَائِدُ الْكَلَامِ عَنْهَا
  النِّفَاقُ دَاءٌ خَطِيرٌ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ
  الْوَفَاءُ بِمِيثَاقِ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ
  إِكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ فِي الْإِسْلَامِ
  • شارك