الدرس الثالث عشر : «تَحَرِّي الحَلَالِ»


«دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ»

«الدرس الثالث عشر» 

«تَحَرِّي الحَلَالِ»

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فقَد أخرجَ الإمامُ مسلمٌ في «صحيحِهِ» بسندِهِ عن أبي هريرة رضوان الله عليه- قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤْمِنِيْنَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِيْنَ فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: 51]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: 172]. ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء،ِ يَقُولُ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ؟!»

هذا الحديثُ العظيمُ الصحيحُ يُرَكِّزُ على أصلٍ خطيرٍ في دينِ اللهِ ربِّ العالمين وهو أكلُ الحلالِ، ويُحَذِّرُ مِن خطورةِ أكلِ الحرامِ، ويجعلُ الربطَ مباشرًا بين أكلِ الحلالِ واستجابةِ الدعاء، ويُبيِّنُ أنَّ أعظمَ قواطعِ الدعاءِ وموانعِهِ هو أكلُ الحرام.

 

إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاَّ طَيِّبًا، وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ المُؤْمِنِيْنَ بِمَا أَمَرَ بِهِ المُرْسَلِيْنَ، فلا فارق، فهذا الأمرُ عامٌّ شاملٌ بلا فوارق، أمرَ اللهُ ربُّ العالمين بأنْ يأكلوا مِن الطيِّباتِ ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾، وانظُر إلى التتابعِ الذي ذكرَهُ اللهُ جلَّت قُدرتُهُ- في نظمِ الآية؛ إذ رتَّبَ العملَ الصالحَ على أكلِ الحلالِ الطيبِ، فلا يُعينُ على العملِ الصالحِ مِثلُ أكلِ الحلالِ ﴿كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾.

وأمرَ اللهُ ربُّ العالمين المؤمنين بأنْ يأكلوا مِن الطيباتِ من الحلالِ، ثم ذكرَ النبيُّ ﷺ «الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء،ِ يَقُولُ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ»، فأتى بأمورٍ هي مِن دواعي إجابةِ الدعاءِ، بحيث إذا ما استكملَهَا المرءُ استجابَ اللهُ ربُّ العالمين دُعاءَهُ:

«يُطيلُ السَّفَرَ»: ومِن الثلاثةِ الذين ذكرَ النبيُّ ﷺ أنهم لا تُرَدُّ دعوتُهُم المسافرُ حتى يئوب، المسافرُ حتى يعود، فهذا يُطيلُ السفرَ.

((أشعثَ أغبرَ)) على هيئةٍ فيها اتِّضَاعٌ لعزةِ اللهِ وفيها مذلةٌ لجنابِ اللهِ، فهذا يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ.

((يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ))، وهو أمرٌ مِن دواعي إجابةِ الدعاء إذ يُلِحُّ في الدعاءِ بوصفِ الربوبيةِ للهِ ربِّ العالمين، يا ربِّ يا ربِّ يُكَرِّرُهَا، يتذللُ بها إلى اللهِ جلَّت قدرتُهُ-.

ولكنْ يأتي قاطعٌ عظيمٌ مِن قواطعِ الدعاء، يقولُ النبيُّ ﷺ في وصفِ الرجلِ الذي ذكرَ النبيُّ ﷺ مِن إتيانِهِ بدواعي الإجابةِ إجابةِ الدعاءِ- بما أتى به مما يفتحُ له أبوابُ السماءِ بلا إغلاقٍ ولا مواربة، وبلا تريُّثٍ ولا بطءٍ، ومع ذلك يقولُ الرسولُ ﷺ في وصفِهِ: «وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرَامِ فَأَنَّى -فَكَيْفَ- يُسْتَجَابُ لَهُ؟!»

«الثمراتُ الخبيثةُ لأكلِ الحرامِ»

أكلُ الحرامِ يُثْمِرُ هذا الثَّمَرَ الخَبِيثَ، وهو قَطْعُ الدعاءِ فلا استجابة، ولو ظَلَّ يَدْعُو حتى تَفْنَى نَفْسُهُ في الدُّعَاءِ لا يُستجابُ له، ولو مَدَّ يدَهُ إلى السحابِ إلى عَنَانِ السماءِ وهو يأكلُ مِن الحرامِ، في بطنِهِ الحرام، وعلى ظَهْرِهِ الحرام، يُكْسَى مِن الحرام، وفي بَيْتِهِ الحرام لا يُستجابُ له.

أكلُ الحرامِ يُثمرُ ثمرًا آخرَ خبيثًا مُرًّا، وهو ما ذكرَهُ النبيُّ ﷺ في الحديثِ الصحيحِ: «إنَّ اللهَ حَرَّمَ على الجنةِ كلَّ لحمٍ نَبَتَ مِن سُحْتٍ، كلُّ لحمٍ نَبَتَ مِن سُحتٍ -مِن حرام- فالنارُ أَوْلَى به».

«نَصَائِحُ النَّبيِّ الأَمِينِ ﷺ للبَائِعِينَ وَالتُّجَّارِ المُسْلِمِينَ»

«ترهيبُ النبيِّ ﷺ مِن الغِشِّ في البيعِ والشراءِ»

فَقَدْ رَهَّبَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الغِشِّ، وَرَغَّبَ فِي النَّصِيحَةِ فِي البَيْعِ وَغَيْرِهِ.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ؛ فَلَيْسَ مِنَّا، وَمَنْ غَشَّنَا؛ فَلَيْسَ مِنَّا». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ* طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا, فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟!»

قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.

قَالَ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

*الصُّبْرَةُ -بِضَمِّ الصَّادِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ- هِيَ: الْكَوْمَةُ الْمَجْمُوعَةُ مِنَ الطَّعَامِ، سُمِّيَتْ صُبْرَةً لِإِفْرَاغِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ. «شَرْحُ صَحِيحِ مُسْلِمٍ» لِلنَّوَوِيِّ (2/109).

وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ إذا بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ أَنْ لَا يُبَيِّنَهُ لَهُ». أَخْرَجَهُ أَحْمَد وَالطَّبَرَانِيُّ فِي «الكَبِيرِ»، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ فِي «صَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ».

«تَطْفِيفُ المَكَايِيلِ وَالمَوَازِينِ مِنْ كَبَائِرِ الإِثْمِ وَعَظَائِمِ الذُّنُوبِ»

وَمِنْ كَبائِرِ الإِثْمِ، وَعَظَائِمِ الذُّنُوبِ: تَطْفِيفُ المَكَايِيلِ وَالمَوَازِينِ.

وَالتَّطْفِيفُ: البَخْسُ وَالنَّقْصُ؛ فَهُوَ مُطَفِّفٌ، وَالجَمْعُ: مُطَفِّفُونَ.

وَالمَكَايِيلُ: جَمْعُ: مِكْيَالٍ، وَهُوَ وُعَاءُ الكَيْلَ.

وَالكَيْلُ: تَحْدِيدُ مِقْدَارِ الشَّيءِ بِوَاسِطَةِ آلَةٍ مُعَدَّةٍ لِذَلِكَ تُسَمَّى المِكْيَالَ.

وَالمَوَازِينُ: جَمْعُ: مِيزَانٍ، وَهُوَ آلَةُ الوَزْنِ، وَالوَزْنُ: تَقْدِيرُ الشَّيءِ بِوَاسِطَةِ المِيزَانِ.

وَمِنْ نِعَمِ اللهِ عَلَى العِبَادِ وُجُودُ هَذِهِ الأَوْعِيَةِ وَالآلَاتِ الَّتِي تُساعِدُهُمْ عَلَى تَحْدِيدِ مَقَادِيرِ المَوْزُونَاتِ وَالمَكِيلَاتِ، فَيَأْخُذُ الشَّخْصُ مَا يَجِبُ لَهُ تَامًّا، وَيُعْطِي مَا لِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ أَيْضًا.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)﴾ [الرحمن: 7-9].

وَقَالَ ﷺ فِي رِعَايَةِ المَوَازِينِ: «إِذَا وَزَنْتُمْ؛ فَأَرْجِحُوا». أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ (2222), وَصَحَّحَ إِسْنَادَهُ الأَلْبَانِيُّ فِي «الصَّحِيحَةِ» (3942).

وَأَوْضَحُ آيَةٍ فِي القُرْآنِ المَجِيدِ تَجْعَلُ التَّلاعُبَ فِي المَكَايِيلِ وَالمَوَازِينِ كَبِيرَةً مُوبِقَةً مُهْلِكَةً؛ هِيَ قَوْلُ اللهِ جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)﴾ [المطففين: 1-6].

وَالوَيْلُ فِي أَحَدِ الأَقْوَالِ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَتَهَدَّدُ بِهِ الرَّبُّ -جَلَّ وَعَلَا- أُولَئِكَ الَّذِينَ خَانُوا أَمَانَاتِهِمْ، وَبَاعُوا ذِمَمَهُمْ، وَتَعَدَّوْا عَلَى حُقُوقِ الآخَرِينَ.

إِنَّ هَذَا الدَّاءَ الخَطِيرَ إِنَّمَا يَنْشَأُ عَادَةً مِنْ جَشَعِ النَّفْسِ، وَخَرَابِ الضَّمِيرِ، وَقِلَّةِ الخَشْيَةِ مِنَ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَمُرُّ بِالبَائِعِ، فَيَقُولُ: «اتَّقِ اللهَ، وَأَوْفِ الكَيْلَ وَالوَزْنَ، فَإِنَّ المُطَفِّفِينَ يُوقَفُونَ، حَتَّى إِنَّ العَرَقَ لَيُلْجِمُهُمْ إِلَى أَنْصَافِ آذَانِهِمْ».

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لِأَصْحَابِ الكَيْلِ وَالوَزْنِ: «إِنَّكُمْ قَدْ وُلِّيتُمْ أَمْرًا فِيهِ هَلَكَتِ الأُمَمُ السَّابِقَةُ قَبْلَكُمْ».

قَالَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ: «وَيْلٌ ثُمَّ وَيْلٌ لِمَنْ يَبِيعُ بِحَبَّةٍ يُنْقِصُهَا جَنَّةً عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ؛ وَيَشْتَرِي بِحَبَّةٍ يَزِيدُهَا وَادِيًا فِي جَهَنَّمَ يُذِيبُ جِبَالَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا».

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؛ فَقَالَ: «وَلَمْ يُنْقِصُوا المِكْيَالَ وَالمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ المَئُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ».

 

            «نصيحةٌ غاليةٌ للمُوظفين»

إنَّ كثيرًا مِن الناسِ إذا كان موظَّفًا يَتَحَصَّلُ على رَاتِبٍ في مُقَابلِ عَمَلِهِ كثيرٌ منهم بل جُلُّهُم- لا يعلمونَ أنهم مُستأْجَرُونَ! هم أُجَرَاءُ، مُستأجرُونَ على حسبِ عقدٍ مُبْرَمٍ ولائحةٍ لها بنود، وهُم في أعمالِهِم ينبغي أنْ يلتزموا بما تعاقدوا عليه بدءً، وكلُّ مَن فرَّطَ فقَد تحصَّلَ على مالٍ مِن غيرِ حِلِّهِ، وهو مُغَذٍ ولدَهُ وأهلَهُ وبَانٍ بَيْتَهُ، ومُقْتَنٍ مركوبَهُ مِن حرامٍ، هذا إذا كانت الوظيفةُ في نفسِهَا بعقدٍ على ما يَحِلُّ في دينِ اللهِ تبارك وتعالى-؛ لأنه ينبغي أنْ تكونَ مما شرعَ الله؛ لأنَّ الرجُلَ الذي يعملُ في ماخور، يُقَدِّمُ الخمورَ، ويقومُ على العمل مُتفانيًا فيه بإخلاص! يقولُ: إنه يتحصلُ على أجرِهِ بِعَرَقِ جَبينِهِ! فأيُّ حُرمةٍ تلحقُهُ! والعملُ حرامٌ في أصلِهِ.

وإذا كان العملُ حلالًا كالغالبِ على جملةِ الأعمالِ، فوقعَ تقصيرٌ فيما تمَّ التعاقدُ عليه أصلًا؛ فإنَّ الكسبَ هاهنا يكونُ مِن حرامٍ، وما تحصلَ عليه لَحِقَتْهُ الحُرمةُ لا محالة، فإذا كان المرءُ متعاقدًا، وإذا كان موظفًا وعاملًا؛ فهو مُستأجَرٌ وأجيرٌ، يتحصلُ على مالٍ في نظيرِ منفعة، وهو قد قَبِلَ ذلك وأقرَّ به، وعَمِلَ على أساسِهِ، فهو مُلزَمٌ به ومُكَلَّفٌ بأنْ يأتيَ بما تعاقدَ عليه، فإنْ أخلَّ فَقَد تحصلَ على مالٍ مِن غيرِ مقابلٍ، فتحصلَ على مالٍ مِن سُحْتٍ، يَنْبُتُ منه لحمٌ مِن سُحْتٍ، وكلُّ لحمٍ نَبَتَ مِن سُحْتٍ فالنارُ أَوْلَى به.

فكثيرٌ مِن الناس حتى وإن كان في مهنةٍ هي حلالٌ في أصلِ الشرعِ لا يُؤديها كما ينبغي، ويتحصلُ على راتبِهِ مِن غيرِ أن يؤديَ المنفعةَ التي تعاقدَ عليها في أصلِ العقدِ، فهو آكل مِن حرامٍ.

عندنا في عصرِنَا هذا كلُّ موظفٍ في الدولةِ مهما كان موقعُهُ إنما هو أجيرٌ عند الدولةِ على مقتضى عقدٍ له بنودٌ قد خُطَّت وصِيغَت، ولكنْ هناك جهالةٌ فاشيةٌ عند الأُجَرَاء يعني: عند الموظفين والعُمال- في معرفةِ بنودِ عقدِ الإجارةِ المعقودِ بينه وبين الجهةِ التي يعملُ أجيرًا لديها.

والإجارةُ: عقدٌ بمنفعةٍ على عِوَضٍ مِن مالٍ، فأنت تأتي بالمنفعةِ عقليةً كانت أو ماديةً في مقابلِ عِوَضٍ ماديٍّ معلوم.

«هَدَايَا المُوَظَّفِين»

وهدايا العُمَّالِ، هدايا المُوظَّفين في هذا الزمانِ ألحقَهَا الرسولُ ﷺ بالغُلُولِ، والغُلولُ: الأخذُ مِن الغنيمةِ قبل القسمةِ، أو هو الأخذُ مِن المالِ العامِ، أو هو التربُّحُ بسببِ العملِ الذي يعملُهُ الإنسانُ.

«نَصَائِحُ غَاليَة للأَطِبَّاءِ»

مِن المعلومِ أنَّ الطبيبَ له الحقُّ على حسبِ العقدِ المُبرمِ بينهُ وبين وزارةِ الصحةِ التي يعملُ أجيرًا لديها، له الحقُّ في أنْ يفتتحَ وأن يتَّخِذَ لنفسِهِ مع عَمَلِهِ في المَشْفَى في المستشفى- أنْ يتخذَ لنَفْسِهِ عيادةً خارجيةً، وإذا لم يفعل ذلك فهو يتحصلُ مع راتبِهِ على ما يُسمى بـ (بدل عيادة)، وأمَّا إذا افتتحَ لنفسِهِ أو اتخذَ لنفسِهِ عيادةً خارجيةً؛ فإنه يُخصمُ منه بدلُ العيادة في هذه الحال.

 

يعملُ في المستشفى في الوقتِ المطلوبِ منه أنْ يعملَ فيه بما يُرضِي اللهَ جلَّت قدرتُهُ- وعلى حَسَبِ ما هو مطلوبٌ منهَ، يتقِّي اللهَ تبارك وتعالى- في عَمَلِهِ، ولا يَتَّخِذُ المُستشفى كالأعرافِ منطقة وسطى- إمَّا أنْ يدخلَ إليها بمريضٍ أتى به مِن عيادتِهِ لكي يستكملَ في المستشفى فحوصًا لذلك المريض، أو يأخذَ بيدِ مريضٍ مِن المستشفى ليذهبَ به إلى عيادتِهِ.

إذا ذهبَ المريضُ إلى الطبيبِ في عيادتِهِ فَدَفَعَ أَجْرَ الفحصِ، ثم دخلَ على الطبيبِ فلم يستطع الطبيبُ أنْ يُشَخِّصَهُ، هل يجبُ على الطبيبِ أنْ يَرُدَّ للمريضِ الأجرَ الذي دفعَهُ أو لا يجب؟ هل يجب عليه أنْ يُعلِمَهُ بأنه جاهلٌ بمرضِهِ وأنه لم يستطع له تشخيصًا أمْ يخدعُهُ ثم يصفُ له دواءً ليس بمُتعلقٍ بمرضِهِ، فيُكَلِّفُهُ مالًا في غيرِ محلِّهِ ويُمَكِّنُ للمرضِ مِن جسدِهِ، ويُفَوِّتُ عليه فرصةَ شفاءٍ كان يمكنُ أنْ تكونَ أرخصَ ثمنًا وأقلَّ وقعًا على بدنِهِ ممَّا يَتَأتَّى بَعْدُ؟

هل يظَلُّ سَادِرًا مع جَهْلِهِ وهو لا يَعْلَمُ تَشْخِيصَ مَرِيضِهِ، فَيَصِفُ له دواءً أيَّ دواءٍ كما يقولون: إذا لم يَنْفَع لا يَضُرُّ، لا؛ هو يضُرُّ، يضُرُّ بالمريضِ ماليًّا، وأيضًا يضُرُّ به في بدنِهِ؛ لأنه يُمَكِّنُ للمرضِ المجهولِ الهُويَّةِ الذي لم يستطع له معرفةً، يُمَكِّنُ لهذا المرضِ في جسدِ المريضِ، وتطولُ المدةُ على الوقوعِ على الدواءِ المناسبِ للمرضِ حتى يأذنَ اللهُ تبارك وتعالى- بالبُرْءِ والشِّفَاءِ.

وأيضًا هو عندما يفعلُ به ذلك يُفَوِّتُ عليه فرصةَ شفاءٍ في زمانٍ، وأنت تَعْلَمُ أنَّ الزمنَ أَصْلُ المَالِ، وأنَّ المالَ فرعُ الزمنِ، وإذن فهو يُفَوِّتُ عليه زمانًا كان مَحَلًّا لكسبِ مالٍ، فهو يُفَوِّتُ عليه منفعةً كانت تعودُ على الفردِ بمالٍ وتعودُ على المجتمعِ بمنفعةٍ أيضًا.

ولَكِنْ هل يَجِبُ على الطبيبِ إذا ما جَهِلَ؟

أولًا: هو لا يَجِبُ مطلقًا، بل ينبغي، بل يَحْرُمُ على الطبيبِ أنْ يعملَ في غَيْرِ تَخَصُّصِهِ، ويقولُ النبيُّ ﷺ: «مَن طَبَّبَ وهو جاهلٌ بالطِّبِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ»، والعاملُ في غيرِ تخصصِهِ جاهلٌ بالتخصصِ الذي لم يتخصص فيه، وإذن فهو إذا عَالَجَ في غيرِ تَخَصُّصِهِ؛ فهو مُعالِجٌ فيما هو به جاهلٌ، وفيما هو له غيرُ عالِمٍ، وإذن فلا ينبغي عليه أنْ يجعلَ نفسَهُ مُتعرِّضًا لمِثلِ هذا الأمرِ في هذه الحالةِ.

ولكنْ هل تَجِدُ طبيبًا يقْوَى على أنْ يقولَ لمريضِهِ يا صاح ترخيم يا صاحبي-: أنا لا أستطيعُ أنْ  أَقَعَ عَلَى كُنْهِ عِلَّتِكَ، ولا أستطيعُ أنْ أُشَخِّصَ داءَكَ، أنا به جاهلٌ، ولم يفتح اللهُ ربُّ العالمين عينَ بصيرتي على حقيقةِ دائِكَ؟ فاذهب إلى فلانٍ، فأنا أظُنُّ أنْ تَجِدَ تشخيصَكَ عندَهُ، ثم يَرُدُّ له المال، هل يقْوَى طبيبٌ على فِعْلِ ذلك؟!!

دَعْكَ مِن هذه، هل يجبُ عليه أنْ يرُدَّ المالَ الذي أخذَهُ إذا لم يستطع الوصولَ إلى عينِ التشخيصِ أو مُقارِبًا للتشخيصِ لا واقعًا على عينِهِ؟

يقولُ بعضُ أهلِ العلمِ: إنَّ المالَ الذي دُفِعَ لم يُدْفَع مِن أجلِ الوصولِ إلى عينِ التشخيصِ ولا مِن أجلِ الوصولِ إلى حقيقةِ الشِّفَاءِ؛ لأنَّ الشفاءَ بيدِ اللهِ وهذه أسباب، فقَد يأتي مِن ورائِهَا نفعٌ وقد لا يتأتى مِن ورائِهَا نفعٌ.

إذن هو يَدْفَعُ المالَ لأُجرةٍ قد أَجَّرَ بها الطبيبَ لزمانٍ يتحصلُ مِن الطبيبِ على منفعةٍ فيه، وهو قد استنفذَ هذا الزمانَ عندما قامَ الطبيبُ بفحصِهِ مُعْمِلًا فيه عِلمَهُ على الوجهِ اللائقِ بهذا الأمرِ، فوقعَ على ما ينبغي ولكنَّهُ لم يستطع الوصولَ إلى حقيقةِ التشخيصِ، إذن فهو مُسْتَوْجِبٌ للأَجْرِ في هذه الحالةِ، وبعضُهُم يقولون: ولكنَّهُ لم يَصِل إلى شيءٍ فَيَجِبُ عليه الرَّدُّ، هذا أمرٌ كما تَرَى عَسِيرٌ جِدًّا.

 

كذلك ما يَتَعَلَّقُ بالمَالِ العامِّ في المستشفيات، هل يجوزُ للطبيبِ أنْ يأخذَ شيئًا مِن الآلاتِ التي هي للمستشفى خاصةً، فيأخذُ هذه الأشياء لأنَّ عيادتَهُ ليس بها أمثال هذه الآلات، فيجعل ذلك لديه يقومُ به بأعمالٍ يتحصلُ مِن ورائِهَا على أجرٍ، يجوزُ أو لا يجوز؟!!

عبادَ اللهِ فليجتهد الرَّجُلُ منكم في أداءِ عَمَلِهِ على النَّحْوِ المَرْضِيِّ، فإنَّ اللهَ ربَّ العالمين جلَّت قدرتُهُ- قد جعل للناسِ مع الناس المنافعَ التي لا تُحصَى ولا تُعَدُّ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ .    

 

 المصدر:دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  وِقَايَةُ الْأَوْلَادِ مِنَ النَّارِ بِتَعْلِيمِهِمُ الِاعْتِقَادَ الصَّحِيحَ
  تَفَاعُلُ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ الْقُرْآنِ الكريم
  مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْهِجْرَةِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ
  رَمَضَانُ شَهْرُ التَّرْبِيَةِ عَلَى الْمُرَاقَبَةِ الذَّاتِيَّةِ وَرِعَايَةِ الضَّمِيرِ
  اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْحَلِيمُ الْوَدُودُ
  الْأَمَلُ الْمَذْمُومُ وَسُوءُ عَاقِبَتِهِ
  زِيَادَةُ الْإِيمَانِ مِنْ ثَمَرَاتِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ
  شَرِيعَةُ النَّبِيِّ ﷺ مَبْنَاهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ
  فَارِقٌ بَيْنَ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ لِلدِّينِ وَتَجْدِيدِ الدِّينِ!!
  مِنْ مَعَالِمِ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: الْإِحْسَانُ وَالرَّحْمَةُ بِكُلِّ شَيْءٍ
  مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ إِدْمَانِ الْمُخَدِّرَاتِ: تَعْلِيمُ الشَّبَابِ سُبُلَ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ
  الْهِجْرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ أَوَّلُ هِجْرَةٍ فِي الْإِسْلَامِ
  الدرس السابع والعشرون : «الْعَفْوُ وَكَظْمُ الغَيْظِ»
  أَثَرُ كَلَامِ الرَّحْمَنِ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ
  حُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ ﷺ فِي أَعْيُنِ أَتْبَاعِهِ
  • شارك