الدرس الثاني والعشرون : «مَعَانِي الإِيثَارِ فِي الإِسْلَامِ»


«دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ»

«الدرس الثاني والعشرون» 

«مَعَانِي الإِيثَارِ فِي الإِسْلَامِ»

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

«إِيثَارُ مَحَبَّةِ اللهِ وَرَسُولِهِ ﷺ عَمَّا سوَاهُمَا»

فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ فِيمَا يَرْوِيهِ أَنَسٌ رِضْوَانُ اللهِ عليه- عنهُ مَرْفوعًا، فيما أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ: «وَجَدَ حَلَاوَةَ الإِيمَانِ مَنْ كانَ اللهُ وَرَسُولُهُ أحبَّ إليه مِمَّا سُواهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ المَرْءَ لا يُحِبُّهُ إلَّا للهِ، ومَن كَرِهَ أنْ يَعُودَ في الكُفْرِ بَعْدَ إِذ أَنْقَذَهُ اللهُ مِنْهُ كَمَا كَرِهَ أنْ يُلقَى في النَّارِ».

لا يَجِدُ أَحَدٌ طَعْمَ الإِيمَانِ حَتَّى يَكُونَ اللهُ ورسولُهُ أَحَبَّ إليهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، ولِلْإِيمَانِ حَلَاوَةٌ حِسِّيَّةٌ، وحَلَاوَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، فَأَمَّا الحلَاوَةُ الحِسِّيَّةُ؛ فَتَرْجَمَها بِلَالٌ رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- وعَلَيْهِ تُبَّانٌ قَصِيرٌ يعني: ثَوْبٌ يَسْتُرُ العَوْرَةَ لَيْسَ إلَّا-، يُقَادُ برَسَنٍ بِحَبْلٍ بَالٍ- في مَكَّةَ في حَرِّهَا، في لَأْوَائِهَا، في سَعِيرِ قَيْظِهَا، ثم يُجْعَلُ على الرِّمَالِ المُحْرِقَةِ قَدْ شَوَتْهَا الشمسُ، لو وُضِعُ عليه اللَّحْمُ النِّيءُ لَصَارَ نَضِيجًا، فَيُجْعَلُ على تلك الرِّمَالِ المُتَلَهِّبَةِ بِلَظَى وَقْعِ حَرِّ الشَّمْسِ بِنَارِهَا، ولَيْسَ عليهِ مِن ثَوْبٍ، ويُوضَعُ على صدْرِهِ الحَجَرُ الضَّخْمُ، فَمَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: أَحَدٌ أَحَدٌ.

فأَيْنَ الأَعْصَابُ بِحِسِّهَا؟!!

وأين المُسْتَقْبِلَاتُ العَصَبِيَّةُ بِمُسْتَقْبَلَاتِهَا؟!!

وأين هو الجِهَازُ العَصَبِيُّ كَامِنًا وَبَادِيًا وَظَاهِرًا؟!!

أَعُطِّلَ؟!!

حَاشَا للهِ، بَلْ هُوَ على حَالِهِ؛ ولَكِنَّمَا المُؤَثِّرُ الأَعْلَى يَذْهَبُ بِالمُؤَثِّرِ الأَدْنَى وَلَا مَحَالَةَ، مَاتَ أَبُوكِ، مَاتَ أَخُوكِ، مَاتَ وَلَدُكِ، مَاتَ زَوْجُكِ، مَاذَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ؟

المُؤثِّرُ الأَعْلَى وهو في عَالَمِ الأَعْصَابِ قَائِمٌ بِقَانُونٍ، المُؤَثِّرُ الأَعْلَى يَذْهَبُ بالمُؤَثِّرِ الأَدْنَى، فكَأَنَّمَا يَمْحَقُهُ وهُوَ قَائِمٌ شَاخِصٌ بَادٍ، على الرِّمَالِ المُحْرِقَةِ فِي حَرِّ الشَّمْسِ بِلَظَاهَا، بِلَا ثَوْبٍ وَلَا حَائِلٍ، والحَجَرُ الضَّخْمُ تَزْهَقُ مِنْهُ النَّفْسُ، وَلَا يَتَرَدَّدُ النَّفَسُ، وهُوَ لا يَزِيدُ علَى أَنْ يَقُولَ: «أَحَدٌ أَحَدٌ»، حَتَّى في غُصَصِ المَوْتِ، وفِي سَكَرَاتِهِ، وفي كُرَبِهِ، وفي وَقْعِ سِهَامِهِ بِشِيَاتِهِ، فِي كُلِّ ذَلِكَ لَا يَزِيدُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: «غَدًا أَلْقَى الأَحِبَّةَ، مُحَمَّدًا وَحِزْبَهُ ﷺ».

 فَهَذِهِ مَحَبَّةٌ مَادِّيَّةٌ، ولَيْسَتْ بِمَحَبَّةٍ مَعْنَوِيَّةٍ، المَحَبَّةُ المَعْنَوِيَّةُ مَحَبَّةٌ عَقْلِيَّةٌ، كَمَا يُحِبُّ الرَّجُلُ الصَّالِحُ الصَّالِحِينَ مِنَ الرِّجَالِ، والعَالِيَ مِنَ المُثُلِ والكَرِيمَ مِنَ الأَخْلَاقِ، فَهِيَ مَحَبَّةٌ عَقْلِيَّةٌ مَحْضٌ، وأمَّا هَذِهِ المَحَبَّةُ؛ فَمَحَبَّةٌ بَادِيَةٌ تُتَرْجَمُ في دُنْيَا اللهِ رَبِّ العالَمِينَ، وذَلِكَ مِنَ الأَصْحَابِ، وكان شَابًّا رِضْوَانُ اللهِ عليه وعليهِمْ جَمِيعًا- هُنَالِكَ في بَدْرٍ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ، وأُصِيبَتْ يَدُهُ، أُصِيبَ ذِرَاعُهُ، ولَمْ يَبْقَ مُتَعَلِّقًا إلَّا بِمُتَعَلَّقٍ يَسِيرٍ مِنْ جِلْدَةٍ هُنَالِكَ، فوَجَدَ أنَّهُ هَكَذَا مما يُعَوِّقُ الأَدَاءَ الحَسَنَ على النَّحْوِ الذي يُرْضِي اللهَ ربَّ العالمين؛ وإِنْ كانَ قَدْ أَصْبَحَ مَعْذُورًا، ولَكِنْ إِنَّمَا العُذْرُ عِنْدَهُ، عِنْدَهُ عِنْدَهُ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ الحُلْقُومَ، ثُمَّ تَفِيضُ إلى أَمْرِ اللهِ ربِّ العالمين، وأمَّا قَبْلَ ذلكَ عِنْدَهُ فَلَا عُذْرَ هُنَالِكَ، فماذا كان؟

وجدَهَا غَيْرَ صالِحَةٍ لِقِتَالٍ، وإنما عَادَتْ عِبْئًا، عَادَتْ حِمْلًا، عَادَتْ مُعَوِّقَةً، فَوَدَعَهَا ووَضَعَهَا تَحْتَ رُكْبَتِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ، ثم تَمَطَّى فَصَارَتْ شيئًا مَلْقِيًّا، ثم عاَدَ إلى الجِهَادِ، إلى الجِلَادِ، إلى الكِفَاحِ مُقَاتِلًا رِضْوَانُ اللهِ عليه-، فأَيْنَ الأَلَمُ هَاهُنَا؟!!

وآخَرُ يَأْتِيهُ سَهْمٌ غَادِرٌ بِرَمْيَةٍ مَاكِرَةٍ مِنْ خَلْفٍ وَمَا كَانَ مُدْبِرًا، ومَا كان مُوَلِّيًا، فَنَفَذَتْ، فصَدَرَ منه شَلَّالٌ مِنْ دِمَاءٍ زَكِيَّةٍ طاهِرَةٍ كالنَّافُورَةِ صاعِدَةً صعُدًا إلى الطُّهْرِ إِلَى السماءِ، فَأَخَذَ يحْفِنُ الدِّمَاءَ، ويُلْقِي بِهَا إلى وَجْهِ السماءِ، يقولُ: فُزْتُ ورَبِّ الكَعْبَةِ، فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ، فُزْتُ وَرَبّ الكَعْبَةِ.

ذَاقَ طَعْمَ الإيمانِ، فوجدَهُ حِسًّا وحَقِيقَةً بِحَرَكَةٍ وسُلُوكٍ وتَطْبِيقٍ عَمَلِيٍّ في الحيَاةِ، «مَنْ كان اللهُ ورسولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا»، اُنْظُرْ إليه في دِقَّةِ أَدَائِهِ ﷺ، لا يُنَازِعُكَ في الحُبِّيَّةِ، إِذِ الدِّينُ دِينُ اللهِ، واللهُ ربُّ العالمين خَالِقُ الخَلْقِ وفَاطِرُهُمْ وبَارِئُهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].

وإِذَنْ فَغَرَائِزُكَ غَرَائِزُكَ، وَنَزَوَاتُكَ نَزَوَاتُكَ، وشَهَوَاتُكَ شَهَوَاتُكَ، لا تُنَازَعُ في شَيْءٍ مِنْ ذلك مَا كان مَحْكُومًا بالمَنْهَجِ قَائِمًا دَاخِلَ الإِطَارِ مُتَحَرِّكًا عَلَى الكِتَابِ والسُّنَّةِ، ولِذَلِكَ لَمْ يُنَازِعْ في الحُبِّيَّةِ، وإنما نِازِعَ في الأَحَبِّيَّةِ، «حتى يكونَ اللهُ ورسولُهُ أحبَّ إليه مما سواهُمَا».

«عَلَامَةُ إِيثَارِ النَّبِيِّ ﷺ وَمَحَبَّتِهِ: طَاعَتُهُ»

وعَلَامَةُ مَحَبَّةِ النَّبِيِّ ﷺ الصَّادِقَةُ: طَاعَتُهُ طاعةُ الرَّسُولِ ﷺ-، وخُذْ إِلَيْكَ مِثَالًا بِشَيْءٍ يَسِيرٍ:

 إنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى يومًا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وبِيَدِهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَلَمَّا رَآهُ في يدِهِ ﷺ نَزَعَهُ، وقالَ: «إنَّ الذَّهَبَ وَالحَرِيرَ حَرَامٌ عَلَى رِجَالِ أُمَّتِي، حَلَالٌ لِنِسَائِهَا».

فَأَلْقَاهُ، وقامَ النَّبِيُّ ﷺ، فَدَخَلَ، فقالَ بَعْضُ الأَصْحَابِ لِلصَّحَابِيِّ: خُذْهُ فَانْتَفِعْ بِهِ.

قال: ما كُنْتُ لِآخُذَهُ بَعْدَ إِذْ أَلْقَاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وفي روايةٍ أخرى: كان أَحَدُهُمْ جَعَلَ فِي أُصْبُعِهِ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَأَخَذَهُ النبيُّ ﷺ فألقاهُ، وقال: «يَعْمِدُ أحدُكُم إلى جَمْرةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا في أُصْبُعِهِ».

فَلَمَّا قَامَ؛ قِيلَ: قال رِضْوَانُ اللهِ عليه-: واللهِ ما كُنْتُ لِآخُذَ شَيْئًا طَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

ظاهِرٌ كَبَاطِنٍ يَا صاحِبِي، لَا إِضْمَارَ لِشَيْءٍ لِا يَبْدُو عَلَى صفْحَةِ الوَجْهِ؛ صفْحَةُ القَلْبِ تُبْدِيهِ، وإِنَّمَا هُوَ قَانُونُ المَحَبَّةِ بَادِيًا، ومَنْ كَانَ صادِقًا في حُبِّ مُحَمَّدٍ فَلْيُطِعْهُ ﷺ(1).

«الجَزَاءُ الحَسَنُ لإِيثَارِ الآخِرَةِ عَلَى الدُّنْيَا»

قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18)﴾ [الإسراء: 18]: مَن كانَ مِن المَوْضُوعِينَ في الحَيَاةِ الدُّنْيَا مَوْضِعَ الامْتِحَانِ، يُرِيدُ بِاسْتِمْرَارٍ وَتَجَدُّدٍ الحَيَاةَ العَاجِلَةَ فِي الدُّنْيَا كَافِرًا بِالآخِرَةِ، وَلَا يَسْعَى للنَّعِيمِ فِيهَا سَعْيًا مَا؛ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ مِن مَتَاعِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَذَّاتِهَا، لِمَن نُرِيدُ أَنْ نَفْعَلَ بِهِ ذَلِكَ مِن عِبَادِنَا بِحِكْمَتِنَا وَعِلْمِنَا، ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ في الآخِرَةِ جَهَنَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَحْتَرِقُ بِنَارِهَا، حَالَ كَوْنِهِ مَلُومًا عَلَى مَا جَنَى مِنْ إِثْمٍ عَظِيمٍ، مَطْرُودًا مُبْعَدًا مِن رَحْمَةِ اللهِ، مَعَ إِهَانَتِهِ وَإِذْلَالِهِ، يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا.

 ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)﴾ [الإسراء: 19]: وَمَن أَرَادَ ثَوَابَ الآخِرَةِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَسَعَى لِلآخِرَةِ بِطَاعَةِ اللهِ وَالْتِزَامِ شَرِيعَتِهِ، وَهُوَ مُؤمِنٌ إِيمَانًا صحِيحًا صادِقًا، وَمَاتَ عَلَى ذَلِكَ؛ فَأولئكَ رَفِيعُوا المَنْزِلَةِ كَانَ سَعْيُهُم عْنْدَ رَبِّهِم مَقْبُولًا مَثْنِيًّا عَلَيْهِ.

﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)﴾ [الإسراء: 20]: نَزِيدُ كِلَا الفَرِيقَيْنِ؛ مَن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمَن يُرِيدُ الآخِرَةَ بِرِزْقِهِمَا جَمِيعًا مِن عَطَاءِ رَبِّكَ، وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ فِي الدُّنْيَا الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ لابْتِلَاءِ عِبَادِهِ مَمْنُوعًا عَن أَحَدٍ مِمَّنْ يُرِيدُ إِعْطَاءَهُ؛ مُؤمِنًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَفْقَ حِكْمَتِهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ.

﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)﴾ [الإسراء: 21]: انْظُرْ وَتَفَكَّرْ أَيُّهَا المُخَاطَبُ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُم عَلَى بَعْضٍ فِي عَطَاءَاتِنَا مِن مَتَاعِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَللآخرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ مُتَفَاضِلَاتٍ في جَنَّاتِ النَّعْيمِ، وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا بِعَطَاءَاتِ النَّعِيمِ وَوَسَائِلِهِ فِيهَا، وَيُقَابِلُ هَذَا تَفَاوتُ المُعَذَّبِينَ في النَّارِ بِتَنَازُلِ الدَّرَكَاتِ وَانْحِطَاطِهَا حَتَّى الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْهَا، وَبِتَزَايُدِ مَقَادِيرِ العَذَابِ بِحَسَبِ مَقَادِيرِ ذُنُوبِهِم وَجَرَائِمِهِم الَّتِي اكْتَسَبُوهَا بِإِرَادَتِهِم وَاخْتِيَارَاتِهِم فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا.

«مَدْحُ الإِيثَارِ فِي حُظُوظِ النَّفْسِ وَالدُّنْيَا»

قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر: 9].

الأَنْصَارُ الذينَ تَوَطَّنُوا المَدِينَةَ وَاتَّخَذُوهَا سَكَنًا، وَأَسْلَمُوا فِي دِيَارِهِم، وَأَخْلَصُوا فِي الإِيمَانِ، وَتَمَكَّنُوا فِيهِ مِن قَبْلِ هِجْرَةِ المُهَاجِرِينَ إِلَيْهِم؛ يُحِبُّونَ مَن هَاجَرَ إِلَيْهِم مِن المُسْلِمِينَ، وَيُنْزِلُونَهُم فِي مَنَازِلِهِم، وَيُشَارِكُونَهُم فِي أَمْوَالِهِم، وَلَا يَجِدُونَ فِي صدُورِهِم حَزَازَةً وَغَيْظًا وَحَسَدًا مِمَّا أُعْطِيَ المُهَاجِرُونَ مِن الفَيْءِ دُونَهُم؛ عِفَّةً مِنْهُم، وَشُعُورًا بِحَقِّ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أَصَابَهُم الفَقْرُ بِسَبَبِ الهِجْرَةِ.

ويُؤثِرُ الأَنْصَارُ المُهَاجِرِينَ بِأَمْوَالِهِم وَمَنَازِلِهِم عَلَى أَنْفُسِهِم؛ وَلَو كَانُوا بِهِم فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ إِلَى مَا يُؤْثِرِونَ بِهِ، وَمَن يَكْفِهِ اللهُ الحَالَةَ النَّفْسَانِيَّةَ الَّتِي تَقْتَضِي مَنْعَ المَالَ حَتَّى يُخَالِفَهَا فِيمَا يَغْلِبُ عَلَيْهَا مِنَ البُخْلِ وَالحِرْصِ الشَّدِيدِ الَّذِي يَدْفَعُ إِلَى ارْتِكَابِ كَبَائِرِ الإِثْمِ، فَيُنْفِقُ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى فِي المَصَارِفِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِالإِنْفَاقِ فِيهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِذَلِكَ؛ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ بِهَذَا المَعْنَى؛ فَأولئكَ الفُضَلَاءُ رَفِيعُوا الدَّرَجَةِ هُم وَحْدَهُم الظَّافِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ، الفَائِزُونَ بِكُلِّ مَطْلَبٍ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.

وَفِي الآيَةِ: مَدْحُ الإِيثَارِ فِي حُظُوظِ النَّفْسِ وَالدُّنْيَا.

يُصْرَفُ جُزْءٌ مِن هَذَا المَالِ لِلفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، الَّذِينَ أُجْبِرُوا عَلَى تَرْكِ أَمْوَالِهِم وَأَوْلَادِهِم، يَرْجُونَ أَنْ يَتَفَضَّلَ اللهُ عَلَيْهِم بِالرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا وَبِالرِّضْوَانِ فِي الآخِرَةِ، وَيَنْصُرُونَ اللهَ، وَيَنْصُرُونَ رَسُولَهُ بِالجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ.

أولَئِكَ المُتَّصِفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ هُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الإِيمَانِ حَقًّا، وَالأَنْصَارُ الَّذِينَ نَزَلُوا المَدِينَةَ مِن قَبْلِ المُهَاجِرِينَ، وَاخْتَارُوا الإِيمَانَ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ، يُحِبُّونَ مِن هَاجَرَ إِلَيْهِم مِن مَكَّةَ، وَلَا يَجِدُونَ فِي صدُورِهِم غَيْظًا وَلَا حَسَدًا عَلَى المُهَاجِرِينَ في سَبِيلِ اللهِ إِذَا مَا أُعطُوا شَيْئًا مِن الفَيْءِ وَلَم يُعْطَوْا هُم، وَيُقَدِّمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِم المُهَاجِرِينَ فِي الحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَلَو كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِالفَقْرِ وَالحَاجَةِ، وَمَن يَقِهِ اللهُ حِرْصَ نَفْسِهِ عَلَى المَالِ، فَيَبْذُلُهُ في سَبِيلِهِ، فَأُولئِكَ هُم الفَائِزُونَ بِنَيْلِ مَا يَرْتَجُونَهُ وَالنَّجَاةِ مِمَّا يَرْهَبُونَهُ.

 

«مَوَاقِفُ عَمَلِيَّةٌ فِي الإِيثَارِ مِن سِيرَةِ أَصْحَابِ خَيْرِ البَرِيَّةِ ﷺ»

النَّبِيُّ ﷺ كَانَ يُرَبِّي أَصْحَابَهُ عَلَى الْبَذْلِ وَالْجُودِ وَالْكَرَمِ، وَيَحُضُّهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ، كَمَا فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه- قَالَ: رَغَّبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الصَّدَقَةِ يَوْمًا، وَقَدْ صادَفَ ذَلِكَ مَالًا عِنْدِي، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُه يَوْمًا.

قَالَ: فَانْقَلَبْتُ إِلَى أَهْلِي فَأَتَيْتُ بِشَطْرِ مَالِي -يَعْنِي بِنِصْفِهِ- حَتَّى وَضَعَتُهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

 فَقَالَ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟»

 قُلْتُ: مِثْلَهُ.

 قَال: ثُمَّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ، فَوَضَعَ مَا أَتَى بِهِ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ ﷺ.

فَقَالَ: «مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟»

 قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ .

فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه-: لَا جَرَمَ، لَا أُسَابِقُكَ إِلَى شَيْءٍ بَعْدَهَا أَبَدًا .

 فَأَذْعَنَ لَهُ بِالسَّبْقِ، وَصَدَّقَ فِعْلُ أَبِي بَكْرٍ مَا كَانَ فِي نَفْسِ عُمَرَ رضي الله عنه-: الْيَوْمَ أَسْبِقُهُ إِنْ كُنْتُ سَابِقَهُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَسْبِقْهُ.

 وَهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَكْنِزُونَ شَيْئًا مِنَ الْمَالِ، وَلَا يَحْرِصُونَ عَلَيْهِ؛ بَلْ كَانُوا أَجْوَدَ الْخَلْقِ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ بِعَطِيَّةٍ وَهِبَةٍ، وَصِلَةٍ وَبِرٍّ.

 وَالرَّسُولُ ﷺ يُعَلِّمُهُمْ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَيُرَبِّيهِمْ عَلَيْهِ، حَتَّى إِنَّهُ ﷺ كَانَ جُودُهُ لَا يُبْقِي لَدَيْهِ شَيْئًا مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُقِيتَ ذَا كَبِدٍ رَطْبَةٍ، حَتَّى إِنَّ رَجُلًا-كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ»- جَاءَ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنِّي مَجْهُودٌ -يَعْنِي بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ مَبْلَغَهُ، بِفَقْرٍ وَعَوَزٍ وَجُوعٍ-.

 فَأَرْسَلَ الرَّسُولُ ﷺ إِلَى بَعْضِ أَبْيَاتِ أَزْوَاجِهِ: «هَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟»

 فَقَالَت -وَقَدْ رَدَّتْ مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهَا رَسولُنَا ﷺ بِهَذِهِ الرِّسَالَةِ-: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، مَا عِنْدِي إِلَّا الْمَاءُ .

فَأَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى، حَتَّى ذَهَبَ رَسُولُ رَسُولِ اللهِ إِلَى أَبْيَاتِ أَزْوَاجِهِ جُمَعَ، وَكُلُّهُنَّ يَقُلْنَ: وَالَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا عِنْدَنَا إِلَّا الْمَاءُ.

 فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ يُضَيِّفُ ضَيْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟»

 فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَا.

لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَغَّبَ دَاعِيًا: «مَنْ يُضِفْ ضَيْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَرْحَمْهُ اللهُ» وَعَلَى الرَّفْعِ  «مَنْ يُضِفْ ضَيْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ يَرْحَمُهُ الله».

 فَقَال: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ.

 فَأَخَذَ بِيَدِهِ، فَانْقَلَبَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ، ثُمَّ أَتَى أَهْلَهُ، فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟

 قَالَتْ: مَا عِنْدِي إِلَّا قُوتُ صبْيَانِي، مَا عِنْدِي إِلَّا عَشَاءُ صبْيَانِي.

 قَالَ: فَنَوِّمِيهِمْ، فَعَلِّلِيهِمْ؛ حَتَّى إِذَا نَامُوا قَدِّمِي طَعَامَ الصِّبْيَانِ بَيْنَ يَدَيْ ضَيْفِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، ثُمَّ قَومِي إِلَى الْـمِصْبَاحِ فَأَطْفِئِيهِ.

يَعْنِي: قَومِي إِلَى السِّرَاجِ وَلَا تُطْفِئِيهِ فِي هَذِهِ الْـمَسْأَلَةِ إطْفَاءً كَامِلًا، وَإِنَّمَا تَقُومُ إِلَيْهِ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَخْفِضَ مِنْ ضَوْئِهِ شَيْئًا.

حَتَّى إِذَا جَلَسْنَا؛ نُرِي الضَّيْفَ أَنَّا نَأْكُلُ؛ قَوْمِي إِلَى السِّرَاجِ فَأَطْفِئِيهِ.

 فَقَرَّبَتِ الطَّعَامَ، وَقَامَتْ إِلَى الْمِصْبَاحِ، ثُمَّ جَاءَتْ إِلَى الطَّعَامِ، حَتَّى إِذَا ظَنَّ الرَّجُلُ أَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ قَامَتْ إِلَى الْمِصْبَاحِ فَأَطْفَأَتْهُ.

 وَأَكَلَ ضَيْفُ رَسُولِ اللهِ ﷺ طَعَامَ صبْيَانِ الْأَنْصَارِيِّ بِمَحْضَرٍ مِنْ أُمِّهِمْ، لَا تَجِدُ مَسًّا لِلْحُزْنِ فِي قَلْبِهَا، وَلَا ثَارَةً  لِلْوَجْدِ فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا تَرَى الْبَذْلَ وَالْجُودَ أَحَبَّ إِلَيْهَا مِنْ إِطْعَامِ صبْيَانِهَا، كَذَلِكَ كَانُوا.

وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي هُو حَسَنٌ بِشَوَاهِدِهِ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ»، عَن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «هَلْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟».

 فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ؛ دَخَلْتُ الْـمَسْجِدَ فَرَأَيْتُ مِسْكِينًا، وَكِسْرَةٌ مِنْ خُبْزٍ فِي يَدِ وَلَدِي عَبْدِالرَّحْمَنِ، فَأَخَذْتُهَا مِنْهُ، وَأَعْطَيْتُهَا الْمِسْكِينَ.

فَيَجِدُ وَقْعَهَا بِحَلَاوَتِهَا بِذَوْقِهِا فِي فَمِهِ، وَعَلَى مَعِدَتِه أَحَبَّ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى بَقَاءً سَرْمَدِيًّا بِثَوَابِهَا، وَأَثَرِهَا، وَعَطَائِهَا مِنْ عِنْدِ رَبِّهَا بِعَطَاءٍ لَا يَنْفَدُ، فَيَجِدُ ذَلِكَ أَحْلَى وَأَرْسَخَ فِي ذَوْقِ هَذَا الْفَقِيرِ الَّذِي تَعَرَّضَ وَلَمْ يَسْأَلْ، ثُمَّ يَجِدُ ذَلِكَ أَرْسَخَ ثَبَاتًا فِي نَفْسِهِ وَفِي مَعِدَتِهِ مِمَّا لَوْ كَانَتْ فِي نَفْسِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فِي مَعِدَتِهِ، وَهُوَ فِلْذَةُ كَبِدِهِ.

نَعُودُ إِلَى الْأَنْصَارِيِّ، فَإِنَّهُ لَمَّا أَطْعَمَ ضَيْفَ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى ذَلِكَ النَّحْوِ الْـمَوْصوفِ، وَمَضَى اللَّيْلُ يَطْوِي سَاعَاتِه طَيًّا، حَتَّى إِذَا انْبَلَجَ الصُّبْحُ، وَإِذَا مَا جَاءَ بِفَلَقٍ نِيِّرٍ مُبِينٍ؛ ذَهَبَ إِلَى النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ، فَبَشَّرَهُ، فَقَالَ: «عَجِبَ اللهُ مِنْ صنِيعِكُمَا اللَّيْلَةَ» عَجِبَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- مِنْ صنِيعِكَ وَفُلَانَةَ اللَّيْلَةَ مَعَ ضَيْفِ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

 لَا تَبْغِ عَلَى الْإِطْعَامِ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا، وَإِنَّمَا تَقَعُ صدَقَتُكَ فِي يَدِ اللهِ، فَيُرَبِّيهَا لَكَ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ، يَعْنِي مُهْرَهُ، فَمَا يَزَالُ يَرْبُو وَيَرْبُو حَتَّى تَكُونَ التَّمْرَةُ جَبَلًا مِنْ تَمْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَنَّى هَذَا، وَمَا امْتَلَكْتُ عُشْرَ مِعْشَارِهِ فِي الدُّنْيَا أَبَدًا.

يَقُولُ: «صَدَقَتُكَ فِي يَوْمِ كَذَا، مَا زِلْتُ أُرَبِّيهَا لَكَ» يَعْنِي: أَزِيدُهَا لَكَ بَرَكَةً، وَعَطَاءً، وَبِرًّا، حَتَّى صارَتْ إِلَى مَا تَرَى.

إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمَّا كَانَ قَافِلًا عَائِدًا مِنْ حُنَيْنٍ، بَعْدَ أَنْ نَفَّلَهُ اللهُ الْغَنَائِمَ الْكَثِيرَة، وَسَاقَ إِلَيْهِ النِّعَمَ الْوَفِيرَةَ، وَآتَاهُ اللهُ أَمْوَالَ الْقَوْمِ وَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا، لَمَّا أَنْ عَادَ؛ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ الْأَعْرَابُ مِنْ كُلِّ صوْبٍ يَسْأَلُونَهُ، وَهُوَ يَعُودُ الْقَهْقَرِيّ، حَتَّى خَطِفَتْ سَمُرَةٌ هُنَالِكَ رِدَاءَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

 وَالسَّمُرَةُ: شَجَرَةٌ ذَاتُ شَوْكٍ.

 أَخَذ النَّبِيُّ ﷺ وَهُمْ يَزْحَفُونَ عَلَيْهِ يَتَقَهْقَرُ، حَتَّى كَانَ عِنْدَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ بِشَوْكِهَا، فَخَطِفَ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ رِدَاءَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

 فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «وَاللهِ، لَوْكَانَ لِي عَدَدَ هَذِهِ الْعِضَاةِ -وَهُو شَجَرٌ ذُو شَوْكٍ يَكُونُ فِي الْبَوَادِي، لَوْ كَانَ لِي عَدَدَ هَذَا الشَّجَرِ- أَنْعَامًا وَنَعَمًا لَفَرَّقَتُهَا فِيكُمْ، وَلَمْ أُبْقِ شَيْئًا، وَمَا وَجَدْتُمُونِي جَبَانًا، وَلَا كَذَّابًا، وَلَا بَخِيلًا»ﷺ.

 يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «لَوْ أَنَّ اللهَ أَعْطَانِي بِعَدَدِ هَذَا الشَّجَرِ-لَا يَتَنَاهَى- نَعَمًا مِنَ الْإِبِلِ خَاصَّةً، أَوْ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ -عَلَى قَوْلٍ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ- لَوْ أَنَّ اللهَ آتَانِي عَدَدَ هَذَا الشَّجَرِ نَعَمًا لَفَرَّقْتُهُ فِيكُمْ، وَلَمْ أُبْقِ شَيْئًا، ثُمَّ لَا تَجِدُونِي بَعْدُ جَبَانًا وَلَا كَذُوبًا، وَلَا بَخِيلًا» ﷺ .

وَالرَّسُولُ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ أَدْوَى الدَّاءِ، وَأَنَّ أَعْظَمَ الْأَمْرَاضِ: هُوَ الْبُخْلُ.

فَقَالَ ﷺ عِنْدَمَا سَأَلَ الْقَوْمَ عَنْ سَيِّدِهِمْ.

قَالُوا: فُلَانٌ عَلَى أَنَّا نُبَخِّلُهُ، يَعْنِي نَرْمِيهِ بِصِفَةِ الْبُخْلِ.

فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: «وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟!».

 يَعْنِي: مِثْلُ هَذَا الْبَخِيلِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَيِّدًا فِي قَوْمِهِ.

 وَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ ﷺ يُخْبِرُ النَّاسَ مِنْ أَصْحَابٍ وَمَنْ يَلِي، يُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ مَا مِنْ يَوْمٍ جَدِيدٍ إِلَّا وَاللهِ -تَبَارَك وَتَعَالَى يَجْعَلُ مَلَكَيْنِ هُنَالِكَ قَائِمِينَ، يَقُولُ أَحَدُهُمَا: «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا».

 وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ:إِنَّ اللهَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ قَدْ وَعَدَ وَعْدًا لَا يَتَخَلَّفُ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا يَضْطَرُّهُ شَيْءٌ إِلَى شَيْءٍ، وَإِنَّمَا إِرَادَتُهُ نَافِذَةٌ، وَعَطَاؤُهُ كَلَامٌ، وَبَرَكَتُهُ كَلَامٌ، وعَذَابُهُ كَلَامٌ، يَعْنِي: يَقُولُ لِلشَّيْءِ: كُنْ فَيَكُونُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

فَأَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّ اللهَ تَبَارَك وَتَعَالَى أَخْبَرَ أَنْ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ، «يَا ابْنَ آدَمَ؛ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ»، فَهَذَا شَرْطٌ مُعَلَّقٌ عَلَى ذَلِكَ الشَّرطِ الْـمَشْرُوطِ، فَمَتَى مَا تَحَقَّقَ؛ جَاءَ الْجَزَاءُ بِفَضْلِ الْـمَلِيكِ الْـمَعْبُودِ.

يَقُولُ رَبُّنَا جَلَّتْ قُدْرَتُهُ : « يَا ابْنَ آدَمَ؛ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ».

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: « يَمِينُهُ مَلْئَى، سَحَّاءَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ »، هَكَذَا عَلَى النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ  «سَحَّاءَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، لَا تَغِيضُهَا نَفَقَةٌ»

نَعَمْ! لَو أَنَّكَ نَظَرْتَ مَا أَنْفَقَ، وَكَمْ أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَق الْخَلْقَ؛ لَعَلِمْتَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَعْظَمٌ عِنْدَ الْخَلْقِ، وَأَمَّا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَشَيْءٌ هَيَّنٌ يَسِيرٌ.

  «لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ».

 

وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِنَفْسِيَّةِ الْخَلْقِ فِي مِثْلِ هَذَا الْـمَوْقِفِ عَلَى التَّمَامِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا قَامَ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَقَدْ تَحَقَّقَ بِوَعْدٍ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِإِنْفَاذِ مَا يَطْلُبُهُ، وِبِتَحْصِيلِ مَا يَتَطَلَّبُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدَّخِرُ وُسْعًا فِي تَعْظِيمِ الْـمَسْأَلَةِ، فَكَمْ مِنْ طَالِبٍ يُرِيدُ مِثْلَ الدُّنْيَا خَمْسِينَ مَرَّةً إِلَى أَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللهُ؟!! 

لَوْ قَامُوا إِنْسًا وَجِنًّا، لَوْ قَامُوا فِي صعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مَسْأَلَتَهُ؛ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْـمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» وَهُوَ صَقِيلٌ لَا يَحْمِلُ شَيْئًا، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ صَقِيلٍ؛ فَمَا يَحْمِلُ؟! لَا يَحْمِلُ شَيْئًا، وَإِنَّمَا هُوَ مَثَلٌ عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيبِ، وَلَوْ كَانَتْ ذَرَّةً أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا؛ لَمَا نَقَصَتْ مِنْ مُلْكِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، هُوَ ذُو الْعَطَاءِ وَذُو الْـمِنَّةِ- سُبْحَانَه سُبْحَانَه.

«الجُودُ وَالإِيثَارُ فِي رَمَضَانَ»

إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ؛ فَهَذَا مَحَلٌّ لِلتَّرْبِيَةِ الْعَمَلِيَّةِ عَلَى الْجُودِ، وَالْبَذْلِ، وَالْعَطَاءِ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يُمَارِسُ ذَلِك فِي وَاقِعِ الْحَيَاةِ، وَفِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ؛ لِيَقْتَدِيَ بِهِ مَنْ هُنَالِكَ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَمَنْ يَأْتِي بَعْدُ مِنَ الْـمُسْلِمِينَ، حَتَّى يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَن عَلَيْهَا.

 «وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ» يَعْنِي: يَبْلُغُ الْجُودُ مِنْهُ غَايَةَ الْوُسْعِ بِحَيْثُ لَا جُودَ فَوْقَ جُودِهِ يَكُونُ لِـمَخْلُوقٍ أَبَدًا ﷺ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَجُودُ فِي رَمَضَانَ مَا لَا يَجُودُ فِي غَيْرِهِ مِن زَمَانِ الْعَامِ.

وَقَدْ كَانَ الصَّالِحُونَ عَلَى هَذَا؛ فَهَذَا الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، كَانَ صائِمًا، وَكَانَ غُلَامُهُ صائِمًا، كَانَ لَدَيْهِ غُلَامٌ مِنَ الْأَعْبُدِ يَخْدُمُهُ، وَكَانَ صائِمًا كَحَالِهِ، فَلَمَّا أَنِ اقْتَرَبَ الْـمَغْرِبُ، وَآذَنَ بِالدُّنُوِّ؛ طَرَقَ طَارِقٌ الْبَابَ، فَدَخَلَ الْغُلامُ وَخَرَجَ، ثُمَّ أَتَى إِلَى سَيِّدِهِ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ، فَقَالَ: مَا الشَّأْنُ؟

 قَالَ: إِنَّ سَائِلًا جَاءَ يَسْأَلُ، فَأَعْطَيْتُهُ.

 قَالَ: وَمَا أَبْقَيْتَ؟

قَالَ: أَعْطَيْتُهُ مَا عِنْدَنَا كُلَّهُ .

 قَالَ: أَلَمْ تُبْقِ لإِفْطَارِنَا شَيْئًا؟

 قَالَ: لَا.

 قَالَ: إِذَنْ هَذَا الَّذِي تَصْنَعُهُ يَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ: وَهُوَ أَنَّكَ كَبِيرُ كَثِيْرُ عَظِيمُ التَّوَكُّلِ، قَلِيلُ ضَعِيفُ الْعِلْمِ.

 أَنْتَ كَثِيرُ التَّوَكُّلِ، قَلِيلُ الْعِلْمِ.

 فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئًا، فَلَمَّا أَنْ آذَنَ الْـمَغْرِبُ بِالدُّنُوِّ، وَآنَ أَوَانُ إِفْطَارِ الصَّائِمِينَ؛ طَرَقَ الْبَابَ طَارِقٌ، فَدَخَلَ بِصَحْفَةٍ عَظِيمَةٍ عَلَيْهَا مِنْ أَطَايِبِ الطَّعَامِ.

 فَقَال ذَلِكَ الدَّاخِلُ- وَكَانَ عَبْدًا- لِلْحَسَنِ: أَنَا باللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ بِكَ.

قَالَ: وَمَا ذَلِكَ؟

قَالَ: إِنَّ سَيِّدِي قَدْ قَالَ: إِنْ قَبِلَ مِنْكَ هَذَا الطَّعَامَ؛ فَأَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللهِ، فَاقْبَلْهُ حَتَّى تَعْتِقَ رَقَبَتِي، وَتَنَالَ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ عِنْدَ اللهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ.

فَقَالَ: قَدْ قَبِلْنَاهُ .

وَلَمَّا انْصَرَفَ الرَّجَلُ- وَقَدْ صارَ حُرًّا؛ أَقْبَلَ عَبْدُ الْحَسَنِ عَلَيْهِ، أَقْبَلَ الْعَبْدُ الَّذِي لِلْحَسَنِ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا سَيِّدِي، إِنَّكَ لَكَثِيرُ الْعِلْمِ، ضَعِيفُ الْيَقِينِ.

 يَقُولُ لَهُ رَدًّا عَلَى مَقَالَتِهِ السَّابِقَةِ، عِنْدَمَا قَالَ لَهُ لِعَظِيمِ تَوَكُّلِهِ: أَنْتَ كَثِيرُ الْيَقِينِ، قَلِيلُ الْعِلْمِ.

 وَالْآنَ خُذْهَا مِمَّنْ يُحْسِنُ أَنْ يُسَدِّدَ فِي مَقْتَلٍ، وَيَضْرِبَ فِي مَفْصَلٍ، خُذْهَا إِلَيْكَ:  «وَأَمَّا أَنْتَ؛ فَكَثِيرُ الْعِلْمِ، قَلِيلُ الْيَقِينِ»  أَنَا قَلِيلُ الْيَقِينِ، أَمْ كَثِيرُ الْيَقِينِ؟ كَثِيرُ الْيَقِينِ، قَلِيلُ الْعِلْمِ، وَأَمَّا أَنْتَ فَقَلِيلُ الْيَقِينِ، كَثِيرُ الْعِلْمِ، فَلَمْ يُغْنِ عَنْكَ شَيْئًا.

وَمَا الْعِلْمُ فِي الْـمُنْتَهَى إِلَّا مِنْ أَجْلِ تَحْصِيلِ الْيَقِينِ؟!

وَمَا الْعِلْمُ بِشَيْءٍ إِنْ لَمْ يُورِثِ الْخَشْيَةَ، وَإِنَّمَا الْعِلْمُ الْخَشْيَةُ.

الرَّسُولُ ﷺ كَانَ أَجْوَدَ الْخَلْقِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُون فِي رَمَضَانَ؛ بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَحُضُّ عَلَى مُمَارَسَةِ الْجُودِ، وَالْخُرُوجِ مِنْ إِطَارِ شُحِّ النَّفْسِ، وَإِمْسَاكِهَا؛ إِذِ الشُّحُّ أَبْلَغُ الْبُخْلِ، وَأَعْظَمُهُ.

 فَمَتَى مَا لَمْ يَخْرُجِ الْعَبْدُ مِنْ شُحِّ نَفْسِهِ، وَمَتَى مَا لَمْ يَوقِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَبْدًا شُحَّ نَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ جَانَبَ الْفَلَاحَ، وَوَاقَعَ الطِّلاحَ.

 وَأَمَّا الَّذِينَ يَقِيهِمُ اللهُ شُحَّ أَنْفُسِهِمْ؛ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ جَانَبُوا الطِّلَاحَ، وَوَاقَعُوا الصَّلَاحَ بِشَهَادَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ لِهَذَا الصِّنْفِ الْكَرِيمِ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُبَيِّنُ لَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا ﷺ طَرِيقَةً عَمَلِيَّةً لِلْخُرُوجِ مِنْ قَيْدِ النَّفْسِ، وَمِنْ أَسْرِ شُحِّهَا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَدَرَّبَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْعَطَاءِ، وَيَجْعَلُهَا النَّبِيُّ ﷺ حَالَةً مِن حَالَاتِ الْبَذْلِ الَّذِي لَا يَتَنَاهَى؛ حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ: «وَابْتِسَامُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صدَقَةٌ».

 وَمَا هِيَ بِشَيْءٍ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهَا عُنْوَانٌ عَلَى بَاطِنٍ مُنْبَسِطٍ لِخَلْقِ اللهِ الْـمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا كَذَاذَةُ الطَّبْعِ، وَأَمَّا الْغِلْظَةُ وَالْجَفَاءُ وَالفَظَاظَةُ؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُبِضَّ شَيْئًا مِنِ ابْتِسَامٍ، وِلَا شَيْئًا مِنْ فَرَحٍ يَلْقَى بِهِ مُؤْمِنٌ مَؤْمِنًا، وَيُلَاقِي بِهِ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا.

 النَّبِيُّ ﷺ يُرَغِّبُ فِي إِفْطَارِ الصَّائِمِ، وَيُخْبِرُنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ مَنْ فَطَّرَ فِيهِ- أَيْ فِي رَمَضَانَ- صائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ؛ وَلَوْ بِمَذْقَةٍ مِنْ مَاءٍ أَوْ لَبَنٍ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، يَجْعَلُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- الثَّوَابَ وَافِرًا، وَيَجْعَلُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْعَطَاءَ وَاصِلًا؛ وَلَوْ عَلَى جَرْعَةِ مَاءٍ.

فَمَا أَبْلَغَهُ مِنْ عَطَاءٍ لَا يُقَابِلُ إِلَّا جَرْعَةً مِنْ مَاءٍ هِيَ مَبْذُولَةٌ فِي كُلِّ حِينٍ لِطَالِبِهَا بِفَضْل رَبِّهَا وَقُدْرَتِهِ.

يَا لَهُ مِنْ دِينٍ لَوْ كَانَ لَهُ رِجَالٌ!!

يَا لَهُ مِن دِينٍ لَوْ كَانَ لَهُ رِجَالٌ!!

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِّينَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

 المصدر:دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  التَّثَبُّتُ فِي الْأَخْبَارِ وَخُطُورَةُ إِذَاعَةِ الْكَذِبِ
  حُسْنُ الْخَاتِمَةِ بَيْنَ اجْتِهَادِ الْعَبْدِ وَتَوْفِيقِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-
  تَرْبِيَةُ الطِّفْلِ عَلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ الصَّدِيقِ
  الِاسْتِسْلَامُ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- شَاخِصًا فِي قِصَّةِ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-
  حَثُّ اللهِ عَلَى العَمَلِ وَتَعْمِيرِ الْأَرْضِ فِي الْقُرْآنِ
  بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ تَمَاسُكِ الْأُسْرَةِ
  مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ: بَيَانُ مَكَانَةِ الْقُدْسِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي الْإِسْلَامِ
  مِنْ أَعْظَمِ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ: تَرْبِيَتُهُ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ
  مَعَالِمُ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ
  مِنْ مَظَاهِرِ الْإِيجَابِيَّةِ لِلْحِفَاظِ عَلَى الْأَوْطَانِ: الْعِلْمُ وَالْعَمَلُ بِعَقِيدَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي حُقُوقِ الْحُكَّامِ
  فَوَائِدُ الْإِيمَانِ وَثَمَرَاتُهُ عَلَى الْفَرْدِ
  رِضَا اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَجَلُّ الْغَايَاتِ
  التَّوْحِيدُ أَكْبَرُ عَوَامِلِ الْقُوَّةِ فِي بِنَاءِ الدُّوَلِ وَعِزَّتِهَا وَنَصْرِهَا
  دَلَائِلُ أَهَمِّيَّةِ الْمَاءِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  أَهَمِّيَّةُ الْفَهْمِ وَالْوَعْيِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  • شارك