رِقَابَةُ السِّرِّ وَالضَّمِيرِ مِنْ سُبُلِ تَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ


((رِقَابَةُ السِّرِّ وَالضَّمِيرِ مِنْ سُبُلِ تَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ))

لَقَدْ بَيَّنَ لَنَا الدِّينُ الْعَظِيمُ الَّذِي أَكْرَمَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ هَذَا الْأَمْرَ الْجَلِيلَ، وَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْكَثِيرَ مِنَ الْخَيْرِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَتَى بِالْعَمَلِ خَالِصًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، إِذَا وَقَعَ فِي ضَائِقَةٍ، وَأَحَاطَتْ بِهِ كُرْبَةٌ، وَأَتَاهُ دَيْجُورُ ظُلْمَةٍ مِنْ ظُلُمَاتِ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ، ثُمَّ فَزِعَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ دَاعِيًا، مُتَوَسِّلًا بِعَمَلٍ صَالِحٍ كَانَ خَالِصًا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يُفَرِّجُ عَنْهُ مَا كَانَ.

وَعِنْدَكَ حَدِيثُ ((الصَّحِيحَيْنِ)) الَّذِي فِيهِ مَا ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ: ((عَنِ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ آوَاهُمُ الْمَبِيتُ، وَأَلْجَأَهُمُ اللَّيْلُ إِلَى الْغَارِ -وَهُوَ النُّقْرَةُ فِي الْجَبَلِ-، فَدَخَلُوا الْغَارَ، فَجَاءَتْ صَخْرَةٌ، فَسَدَّتِ الْبَابَ، فَتَوَسَّلُوا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ)).

وَإِذَا نَظَرْتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فِيمَا قَالَ؛ تَجِدُهُ كَانَ يَشْفَعُ مَا ذَكَرَ مِنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ -بَعْدَ أَنْ يُقَرِّرَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ- يَشْفَعُ ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِنْ كَانَ عَمِلَهُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِصًا؛ يَطْلُبُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أن يُفَرِّجَ عَنْهُمْ مَا هُمْ فِيهِ: ((اللهم إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ لِوَجْهِكَ خَالِصًا؛ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ)). فَتَأْتِي الْإِجَابَةُ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ جَزَاءً وِفَاقًا، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.

فَكُلٌّ يَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِعَمَلٍ صَالِحٍ كَانَ مُرَاقِبًا فِيهِ لِسِرِّهِ، مَا بَيْنَ رَجُلٍ كَانَ بَرًّا بِأَبَوَيْهِ، وَلَوْ أَنَّهُ سَقَى أَطْفَالَهُ الَّذِينَ كَانُوا يَدُورُونَ حَوْلَ رِجْلَيْهِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ أَبَوَيْهِ، وَقَدْ نَامَا لَمَّا تَأَخَّرَ عَنْهَا، وَكَانَ لَا يَسْقِي قَبْلَهُمَا أَحَدًا.

فَلَمَّا جَاءَ فَوَجَدَهُمَا نَائِمَيْنِ؛ لَمْ يُخَالِفْ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ حَالٍ؛ مُرَاقِبًا رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَظَلَّ لَيْلًا طَوِيلًا قَائِمًا حَتَّى اسْتَيْقَظَا، فَسَقَاهُمَا.

وَأَطْفَالُهُ الصِّغَارُ يَدُورُونَ حَوْلَهُ، يَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهِ بِضَعْفِهِمْ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنَ اللَّبَنِ يُطْفِئُ سَوْرَةَ مَا كَانَ هُنَالِكَ مِنْ أَلَمِ الْجُوعِ النَّاهِشِ فِي الْمَعِدَاتِ الصَّغِيرَةِ، وَلَكِنْ هُوَ عَلَى حَالِهِ؛ رِقَابَةً لِرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، حَتَّى انْبَلَجَ الصُّبْحُ مُنْفَجِرًا مِنْ سُدْفَةِ اللَّيْلِ؛ وَحِينَئِذٍ سَقَى أَبَوَيْهِ، ثُمَّ حَنَى بَعْدَ ذَلِكَ وَأَقْبَلَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمَا.

هَذَا يَفْعَلُهُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِصًا، وَلَوْ أَنَّهُ دَخَلَ بِذَلِكَ اللَّبَنِ مُتَسَلِّلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْطِنَ إِلَيْهِ أَحَدُ أَبَوَيْهِ، أَوْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفْطِنَا إِلَيْهِ مَعًا؛ لَكَانَ حِينَئِذٍ قَدْ أَتَى بِأَمْرٍ قَدْ خَالَفَ فِيهِ مَأْلُوفَ الْعَادَةِ، وَخَرَجَ فِيهِ عَنِ الْمُقْتَضَى الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ سَائِرًا؛ مِنْ إِخْلَاصِ عَمَلِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَبَرُّ أَبَوَيْهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.

فَلَمَّا أَتَى بِذَلِكَ كَذَلِكَ، ثُمَّ تَوَسَّلَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِعَمَلِهِ الصَّالِحِ؛ فَرَّجَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْهُمْ مِنَ الْكُرْبَةِ بِمِقْدَارِ ثُلُثِ مَا كَانَ هُنَالِكَ مِنْ فَتْحَةِ الْغَارِ.

وَآخَرُ يَتَوَسَّلُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِرِعَايَةِ سِرٍّ عَلَى قِيَامِهِ.. عَلَى ضَمِيرِهِ بِمَا يَتَوَجَّبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ؛ حَتَّى إِنَّهُ لَمَّا تَرَكَهُ الْأَجِيرُ، وَمَضَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُحَصِّلَ أُجْرَتَهُ؛ لَمْ يَكْتَفِ بِأَنْ تَكُونَ فِي ذِمَّتِهِ، وَأَنْ يُعْلِمَ بِهَا مَنْ عِنْدَهُ مِنْ أَهْلِهِ؛ حَتَّى إِذَا مَا قَضَى، ثُمَّ جَاءَ ذَلِكَ الْأَجِيرُ يَوْمًا؛ لِكَيْ يَطْلُبُ أَجْرَهُ؛ أَعْطَوْا هَذَا الْأَجِيرَ مَا يَسْتَحِقُّ، وَلَوْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ؛ لَكَانَتْ ذِمَّتُهُ قَدْ بَرَأَتْ مِمَّا عَلَيْهِ، وَلَكِنْ أَخَذَ يُنَمِّي لَهُ مَا كَانَ هُنَالِكَ حَتَّى كَانَ وَادِيًا!!

فَلَمَّا جَاءَهُ فَطَالَبَهُ بِأَجْرِهِ؛ دَفَعَ إِلَيْهِ مَا كَانَ قَدْ نَمَّاهُ لَهُ.

هَذَا يُرَاقِبُ فِيهِ رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلَا أَحَدَ يُجْبِرُهُ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ هَذَا، وَإِنَّمَا هُوَ رِقَابَةُ السِّرِّ، وَهُوَ الْقِيَامُ عَلَى الضَّمِيرِ بِمَا يَتَوَجَّبُ الْقِيَامُ بِهِ عَلَيْهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَلَّا يُفْلِتَ الزِّمَامُ، وَيَدْخُلَ النِّفَاقُ مُتَسَلِّلًا.

وَالرِّيَاءُ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ، يَتَسَلَّلُ إِلَى الْقُلُوبِ تَسَلُّلًا خَفِيًّا، حَتَّى إِذَا مَا اسْتَقَرَّ فِيهَا؛ تَشَعَّبَ فِيهَا تَشَعُّبًا سَرَطَانِيًّا؛ وَحِينَئِذٍ فَلَا حَلَّ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا الِاسْتِئْصَالُ وَالْبَتْرُ، وَهُوَ الْمَوْتُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

وَفِيمَنْ ذَكَرَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الثَّلَاثَةِ: ذَلِكَ الَّذِي كَانَ -أَيْضًا- مُرَاقِبًا لِنَفْسِهِ وَضَمِيرِهِ، قَائِمًا عَلَيْهِ بِمَا يَتَوَجَّبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِهِ فِي تِلْكَ الْحَالِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ مِنْ تِلْكَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ أَنْ أَلْجَأَتْهَا الضَّرُورَةُ فِي سَنَةٍ عَامَّةٍ -وَكَانَتْ سَنَةً شَدِيدَةً- فَأَلْجَأَتْهَا إِلَى ذَلِكَ الَّذِي كَانَتْ تَفِرُّ مِنْهُ، وَلَا تَبِيعُ شَرَفَهَا -مَهْمَا كَانَ- لِأَجْلِهِ، حَتَّى أَلْجَأَتْهَا الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ.

وَكَانَ يَعْرِضُ عَلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ مَا يَعْرِضُهُ مِنَ الْمَالِ مُرَاوِدًا، فَلَمَّا أَنْ أَلْجَأَتْهَا الضَّرُورَةُ إِلَيْهِ، وَأَخَذَتْ مِنْهُ الْمَالَ وَحَصَّلَتْهُ، وَكَانَ مِنْهَا كَمَا يَكُونُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ، فَلَمَّا كَانَ بَيْنَ شُعَبِهَا الْأَرْبَعِ؛ قَالَتْ: ((يَا هَذَا؛ اتَّقِ اللهَ، وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ)).

قَالَ: ((قُمْتُ عَنْهَا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ الْكَرِيمِ؛ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ)).

وَمَا كَانَ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ يَمْنَعُهُ عَنْ إِتْيَانِ مَا كَانَ قَدْ هَمَّ وَعَزَمَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ؛ بَلْ إِنَّهُ يَقُولُ: ((لَقَدْ قُمْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ خَلْقِ اللهِ إِلَيَّ)).

وَمَعَ هَذِهِ الْمَحَبَّةِ؛ فَإِنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْأَمْرَ دَبْرَ أُذُنَيْهِ، وَتَحْتَ مَوَاطِئِ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي قَفْزَةٍ وَاحِدَةٍ، يَعْبُرُ سُدُودَ الْمَعَاصِي؛ حَتَّى كَانَ فِي رِحَابِ طَاعَاتِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

يَقُولُ: ((إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ الْكَرِيمِ؛ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ)).

رِقَابَةُ السِّرِّ، هَذَا كُلُّهُ فِي رِقَابَةِ السِّرِّ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا إِيمَانًا صَحِيحًا؛ فَإِنَّهُ لَا سِرَّ عِنْدَهُ أَصْلًا.

وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْإِيمَانُ قَدِ اسْتَقَرَّ فِي قَلْبِهِ عَلَى نَحْوٍ صَحِيحٍ؛ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُرَاقِبًا لِرَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ وَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ، وَإِقْبَالُهُ وَإِدْبَارُهُ، وَيَكُونُ سُكُونُهُ، وَتَكُونُ حَرَكَتُهُ؛ كُلُّ ذَلِكَ يَكُونُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، وَيَتَوَقَّفُ مُتَمَلِّيًا فِي ضَمِيرِهِ، نَاظِرًا فِي سِرِّهِ: أَذَلِكَ يُفْعَلُ خَالِصًا للهِ؟

أَهَذَا يُقَالُ خَالِصًا للهِ؟

فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ أَمْضَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْهُ.

المصدر:رَمَضَانُ شَهْرُ الْمُرَاقَبَةِ الذَّاتِيَّة وَصِنَاعَةِ الضَّمِيرِ الْحَيِّ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  ثُبُوتُ سُنَّةِ صِيَامِ التِّسْعِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
  هَلِ الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ أَمِ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ؟
  وِقَايَةُ الْأَوْلَادِ مِنَ النَّارِ بِتَعْلِيمِهِمُ الِاعْتِقَادَ الصَّحِيحَ
  ثَمَرَاتُ مَعِيَّةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
  مَعَانِي التَّضْحِيَةُ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-
  الْهِجْرَةُ إِلَى الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ
  الْأَمَلُ وَالتَّفَاؤُلُ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ
  الْوَعْيُ بِخَطَرِ الِانْحِرَافِ الْفِكْرِيِّ وَسُبُلِ مُوَاجَهَتِهِ
  مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ فِي رَمَضَانَ: الصِّيَامُ
  مَعَانٍ عَظِيمَةٌ لِلْوَطَنِ
  تَرْبِيَةُ الطِّفْلِ عَلَى الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ
  رِسَالَةٌ أَخِيرَةٌ مُهِمَّةٌ وَجَامِعَةٌ إِلَى الأُمَّةِ المِصْرِيَّةِ خَاصَّةً
  حَقُّ الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ تَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَذُلُّ الْعَاقِّ لِوَالِدَيْهِ
  مَا نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ!!
  مَعَانِي الْوَفَاءِ
  • شارك