عَوَامِلُ قُوَّةِ بِنَاءِ الدُّوَلِ فِي نَصَائِحَ جَامِعَةٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ​


((عَوَامِلُ قُوَّةِ بِنَاءِ الدُّوَلِ فِي نَصَائِحَ جَامِعَةٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ))

*تَقْوَى اللهِ مِنْ أَعْظَمِ عَوَامِلِ بِنَاءِ الدُّوَلِ:

فِي هَذِهِ الْمَوْعِظَةِ أَبْلَغَ النَّبِيُّ ﷺ مَا لَمْ يُبْلِغْ فِي غَيْرِهَا، وَرُبَّمَا كَانَ مِنْ وَقَائِعِ الْأَحْوَالِ مَا يَدُلُّ عَلَى وَشِيكِ الِانْتِقَالِ؛ لِذَا قَالَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ))، وَطَلَبُوا الْوَصِيَّةَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ.

((وَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُأَيْ: سَالَتْ مَدَامِعُهَا-، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُأَيْ: ضَاقَتْ مِنَ الْخَوْفِ وَالْفَزَعِ-)).

فَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ: ((كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ))؛ لِأَنَّ الْمُوَدِّعَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوصِيَ أَهْلَهُ وَمَنْ يَخْلُفُهُ مِنْ بَعْدِهِ أَوْجَزَ وَأَبْلَغَ، حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ اسْتِقْرَارًا فِي النُّفُوسِ، وَحَتَّى يَكُونَ دَاعِيَةً إِلَى التَّنْفِيذِ.

((كَأَنَّهَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَأَوْصِنَا)).

وَكَذَا شَأْنُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي تَحَرِّيهِمْ لِلْخَيْرِ، وَفِي بَحْثِهِمْ عَنِ الْعِلْمِ، لَا يَدَعُونَ مَجَالًا إِلَّا وَأَلْقَوْا أَسْمَاعَ قُلُوبِهِمْ إِلَى نَبِيِّهِمْ ﷺ، وَفَتَحُوا أَعْيُنَ بَصَائِرِهِمْ؛ لَيَتَلَقَّوُا الْعِلْمَ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ رَبِّهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَرْسَلَ النَّبِيَّ ﷺ بِالْهُدَى وَدِينِ وَالْحَقِّ.

وَالْهُدَى -عِبَادَ اللهِ- هُوَ الْعِلْمُ النَّافِعُ، وَدِينُ الْحَقِّ هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، فَهَذَا الدِّينُ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: الْعِلْمِ النَّافِعِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.

((أَوْصِنَا)).

فَقَالَﷺ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ)).

وَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا} [النساء: 131].

فَتَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- هِيَ النَّجَاةُ، وَالنَّاسُ يَتَفَاضَلُونَ بِهَا عِنْدَ اللهِ، وَتَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- هِيَ الْعَمَلُ بِالْمَأْمُورَاتِ، وَاجْتِنَابُ الْمَنْهِيَّاتِ.

فَالتَّقْوَى كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ، مَنْ حَصَّلَهَا جَعَلَ لِنَفْسِهِ وِقَايَةً مِنَ النَّارِ.

وَقَوْلُ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 278]. أَيْ: اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَذَابِهِ وِقَايَةً وَجُنَّةً تَقِيكُمْ عَذَابَهُ وَسُوءَ عِقَابِهِ.

فَقَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ))، وَعَلَيْكُمْ: اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى الْزَمُوا، الْزَمُوا تَقْوَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَخُذُوا بِتَقْوَاهُ، وَلَا تَنْحَرِفُوا عَنْ سَبِيلِ تُقَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

((عَلَيْكُمْ بِتَقْوَى اللهِ)): فَضَبَطَ الْعَلَاقَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَمِلَ بِأَوَامِرِ اللهِ عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ، يَرْجُو رِضْوَانَ اللهِ، وَاجْتَنَبَ مَنْهِيَّاتِ اللهِ، عَلَى نُورٍ مِنَ اللهِ، يَخَافُ عَذَابَ اللهِ، كَانَ مِنَ الْمُتَّقِينَ.

وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ، وَصَارَ عَبْدًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ.

فضَبَطَ النَّبِيُّ ﷺ كُلَّ الْأُمُورِ الَّتِي فِيهَا عَلَاقَةٌ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

*السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ لِلْحُكَّامِ، وَعَدَمُ إِثَارَةِ الْفَوْضَى مِنْ أَهَمِّ عَوَامِلِ بِنَاءِ الدُّوَلِ:

ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ الْقَاعِدَةَ الَّتِي إِذَا مَا أَخَذَ بِهَا الْمُجْتَمَعُ الْمُسْلِمُ، عَاشَ فِي تَوَاؤُمٍ وَسَلَامٍ، وَبَعُدَ عَنْهُ شَبَحُ الْفَوْضَى وَالِانْقِسَامِ، وَمَتَى مَا خُولِفَتِ الْقَاعِدَةُ، دَبَّتِ الْفَوْضَى فِي أَرْجَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، وَانْتُهِكَتِ الْأَعْرَاضُ، وَسُلِبَتِ الْأَمْوَالُ، وَأُزْهِقَتِ الْأَرْوَاحُ، وَقُطِّعَتِ الطُّرُقُ، فَلَا جُمُعَةَ وَلَا جَمَاعَةَ؛ مِنْ أَثَرِ هَذِهِ الْفَوْضَى الَّتِي تَعُمُّ الدِّيَارَ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، -عَلَيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ- وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ تَأَمَّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ)) .

فَأَمَرَ بِطَاعَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ مِمَّنْ وَلَّاهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلَوْ كَانَ مُتَغَلِّبًا، وَلَكِنْ طَاعَتُهُ فِي الْمَعْرُوفِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ)) .

وَإِذَا اُبْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ بِإِمَامٍ جَائِرٍ؛ فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَى جَوْرِهِ هُوَ سَبِيلُ الْمُؤْمِنِينَ، وَطَرِيقَةُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ عَلَيْهِ يُوجِبُ مِنَ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ أَكْثَرَ مِنْ ظُلْمِهِ.

فَيُصْبَرُ عَلَيْهِ كَمَا يُصْبَرُ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ عَلَى ظُلْمِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ لُقْمَانَ: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17].

وَهَذَا الْحَقُّ لِلْإِمَامِ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺمِنْهَا:

-حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ؛ فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ)). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.

وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: ((مَنْ كَرِهَ مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ خَرَجَ مِنَ السُّلْطَانِ شِبْرًا فَمَاتَ عَلَيْهِ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)) .

وَمِنَ الْأَحَادِيثِ كَذَلِكَ: حَدِيثُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((إِنَّهَا سَتَكُونُ بَعْدِي أَثَرَةٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا)).

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ! فَمَا تَأْمُرُنَا؟

قَالَﷺ: ((تُؤَدُّونَ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْكُمْ، وَتَسْأَلُونَ اللهَ الَّذِي لَكُمْ)). أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ.

وَقَوْلُ النَّبِيِّﷺ: ((أَثَرَةٌ)): هِيَ الِانْفِرَادُ بِالشَّيْءِ عَمَّنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ، وَتَعَلُّقٌ بِالْأَمْوَالِ.

وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا)): أَيْ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ؛ إِمَّا بِالتَّقْصِيرِ فِيهَا،وَإِمَّا بِإِحْدَاثِ الْبِدَعِ.

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ : ((فِيهِ الْحَثُّ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَوَلِّي ظَالِمًا عَسُوفًا، فَيُعْطَى حَقُّهُ مِنَ الطَّاعَةِ، وَلَا يُخْرَجُ عَلَيْهِ وَلَا يُخْلَعُ، بَلْ يُتَضَرَّعُ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي كَشْفِ أَذَاهُ، وَدَفْعِ شَرِّهِ وَإِصْلَاحِهِ)).

*وَنَهَى الشَّرْعُ الْمُطَهَّرُ عَنْ سَبِّ الْأُمَرَاءِ وَإِهَانَتِهِمْ:

قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-:((نَهَانَا كُبَرَاؤُنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، قَالَ: ((لَا تَسُبُّوا أُمَرَاءَكُمْ، وَلَا تَغُشُّوهُمْ، وَلَا تُبْغِضُوهُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاصْبِرُوا؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ قَرِيبٌ)). أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي عَاصِمٍ فِي ((السُّنَّةِ))، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي ((شُعَبِ الْإِيمَانِ))، وَغَيْرُهُمَا بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ أَوَّلَ نِفَاقِ الْمَرِء طَعْنُهُ عَلَى إِمَامِهِ)). أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((شُعَبِ الْإِيمَانِ))، وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي ((التَّمْهِيدِ)) .

فَأَمَّا الْغَرْبِيُّونَ وَأَتْبَاعُهُمْ، وَأَمَّا الْإِخْوَانُ الْمُسْلِمُونَ، وَالضُلَّالُ مِنْ أَشْيَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ؛ فَيَقُولُونَ: تُرِيدُونَ تَقْدِيسَ الْبَشَرِ، وَعِبَادَتَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؟!!

إِنَّمَا الرَّئِيسُ أَوِ الْإِمَامُ أَوْ وَلِيُّ الْأَمْرِ أَوِ الْحَاكِمُ عِنْدَ -هَؤُلَاءِ الضُّلَّالِ- مُوَظَّفٌ يَنْبَغِي أَنْ يُحَاسَبَ، وَأَنْ يُرَاجَعَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ، فَلَيْسَ بِوَلِيِّ أَمْرٍ، وَعَلَيْهِ فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى قَوْلِهِمْ وَلِيُّ أَمْرٍ، وَقَدْ غَابَ!!

هَذَا النَّهْيُ لَيْسَ تَعْظِيمًا لِذَوَاتِ الْأُمَرَاءِ -النَّهِيُ عَنْ سَبِّهِمْ، عَنِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ، عَنِ الطَّعْنِ فِيهِمْ، عَنْ شَتْمِهِمْ، عَنْ إِهَانَتِهِمْ- النَّهِيُ عَنْ ذَلِكَ لَيْسَ تَعْظِيمًا لِذَوَاتِ الْأُمَرَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ لِعِظَمِ الْمَسْئُولِيَّةِ الَّتِي وُكِلَتْ إِلَيْهِمْ فِي الشَّرْعِ، وَالَّتِي لَا يُقَامُ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ مَعَ وُجُودِ سَبِّهِمْ وَالْوَقِيعَةِ فِيهِمْ؛ لِأَنَّ سَبَّهُمْ يُفْضِي إِلَى عَدَمِ طَاعَتِهِمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَإِلَى إِيغَارِ صُدُورِ الْعَامَّةِ عَلَيْهِمْ، مِمَّا يَفْتَحُ مَجَالًا لِلْفَوْضَى الَّتِي لَا تَعُودُ عَلَى النَّاسِ إِلَّا بِالشَّرِّ الْمُسْتَطِيرِ، كَمَا أَنَّ نَتِيجَتَهُ وَثَمَرَتَهُ سَبُّهُمْ وَالْخُرُوجُ عَلَيْهِمْ وَقِتَالُهُمْ، وَتِلْكَ هِيَ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى، وَالْمُصِيبَةُ الْعُظْمَى.

قَالَ شَيْخُ الْإسْلَامِ-رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَلَعَلَّهُ لَا يُعْرَفُ طَائِفَةٌ خَرَجَتْ عَلَى ذِي سُلْطَانٍ؛ إِلَّا وَكَانَ فِي خُرُوجِهَا مِنَ الْفَسَادِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْفَسَادِ الَّذِي أَزَالَتْهُ)).

وَقَدْ نَبَّهَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى خُطُورَةِ مُخَالَفَةِ هَذَا الْأَصْلِ، وَذَكَرَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، فَقَالَ فِي ((إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ)): «شَرَعَ النَّبِيُّ ﷺ لِأُمَّتِهِ إِيجَابَ إِنْكَارِ الْمُنْكَرِ؛ لِيَحْصُلَ بِإِنْكَارِهِ مِنَ الْمَعْرُوفِ مَا يُحِبُّهُ اللَّـهُ وَرَسُولُهُ, فَإِذَا كَانَ إِنْكَارُ الْمُنْكَرِ يَسْتَلْزِمُ مَا هُوَ أَنْكَرُ مِنْهُ وَأَبْغَضُ إِلَى اللَّـهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسُوغُ إِنْكَارُهُ -وَإِنْ كَانَ اللَّـهُ يُبْغِضُهُ وَيَمْقُتُ أَهْلَهُ-، وَهَذَا كَالْإِنْكَارِ عَلَى الْمُلُوكِ وَالْوُلَاةِ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ أَسَاسُ كُلِّ فِتْنَةٍ وَشَرٍّ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ.

وَمَنْ تَأَمَّلَ مَا جَرَى عَلَى الْإِسْلَامِ فِي الْفِتَنِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ رَآهَا مِنْ إِضَاعَةِ هَذَا الْأَصْلِ، وَعَدَمِ الصَّبْرِ عَلَى مُنْكَرٍ، فَطُلِبَ إِزَالَتُهُ، فَتَوَلَّدَ مِنْهُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ.

كَانَ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ يَرَى بِمَكَّةَ أَكْبَرَ الْمُنْكَرَاتِ وَلَا يَسْتَطِيعُ تَغْيِيرَهَا، بَلْ لَمَّا فَتَحَ اللَّـهُ مَكَّةَ وَصَارَتْ دَارَ إِسْلَامٍ عَزَمَ عَلَى تَغْيِيرِ الْبَيْتِ، وَرَدِّهِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ -مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ- خَشْيَةُ وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ؛ مِنْ عَدَمِ احْتِمَالِ قُرَيْشٍ لِذَلِكَ؛ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِالْإِسْلَامِ، وَكَوْنِهِمْ حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ.

وَلِهَذَا لَمْ يَأْذَنْ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى الْأُمَرَاءِ بِالْيَدِ؛ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ وُقُوعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ».

فَالنَّبِيُّ ﷺ رَاعَى حُقُوقَ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَعَلَّمَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ هَذَا الْمُجْتَمَعَ لَا يَصْلُحُ، وَالنَّاسُ فِيهِ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ.

*مِنْ أَسْبَابِ قُوَّةِ الدَّوْلَةِ التَّمَسُّكُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ:

قَالَ ﷺ: ((فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ))، وَقَدْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ، وَمَا زَالَ وَاقِعًا فِي الْأُمَّةِ إِلَى الْيَوْمِ، ((فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي)): السُّنَّةُ هِيَ الْعَاصِمُ مِنَ الِاخْتِلَافِ، هِيَ الَّتِي تَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، السُّنَّةُ كَمَا جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ ﷺ، لَا كَمَا يَقُولُ بِهَا الْمُرْشِدُونَ وَالْأُمَرَاءُ، وَيَقُولُ بِهَا الدَّرَاوِيشُ!!

وَإِنَّمَا السُّنَّةُ الَّتِي هِيَ السُّنَّةُ عَنْ عُلَمَائِنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ-.

((وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ)) .

كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، لَيْسَ هُنَاكَ مَا يُقَالُ لَهُ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ.

إِنَّ اللهَ جَعَلَ مَعِينَ الْحَيَاةِ فِي الْوَحْيِ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأَنْفَال: 24].

وَأَعْظَمُ الْحَيَاتَيْنِ حَيَاةُ الْقَلْبِ، وَأَحْيَا النَّاسِ أَتْبَعُهُمْ لِلْوَحْيِ، وَهُوَ آمَنُهُمْ مِنَ الضَّلَالِ، وَبِهَذَا يَدِقُّ فَهْمُكَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا: كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ)). رَوَاهُ مَالِكٌ وَالْحَاكِمُ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ.

فَالْوَحْيُ هُوَ رُوحُ الْعَالَمِ وَنُورُهُ وَحَيَاتُهُ, وَإِذَا خَلَا الْعَالَمُ مِنَ الرُّوحِ وَالنُّورِ وَالْحَيَاةِ؛ أَقَامَ اللَّهُ تَعَالَى السَّاعَةَ؛ لِأَنَّ الْقُرآنَ يُرْفَعُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مِنَ الصُّدُورِ وَمِنَ السُّطُورِ, فَيُصْبِحُ النَّاسُ وَلَيْسَ فِي الْأَرْضِ آيَةٌ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَذَلِكَ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ, وَحِينَئِذٍ -عِنْدَمَا يَخْلُو الْعَالَمُ مِنَ الْحَيَاةِ وَالنُّورِ وَمَادَّةِ هَذَا الوُجُودِ الحَقِّ- فَإِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُقِيمُ السَّاعَةَ حِينَئِذٍ.

إِذَنْ، الْوَحْيُ هُوَ نُورُ الْعَالَمِ وَحَيَاتُهُ وَهِدَايَتُهُ, وَعَلَى قَدْرِ تَمَسُّكِ الْإِنْسَانِ بِهَذَا النُّورِ وَالْحَيَاةِ وَالْهُدَى يَكُونُ تَحْقِيقُهُ لِلْقَصْدِ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

فَإِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَنَا لِغَايَةٍ, وَهَذِهِ الْغَايَةُ مُبَيَّنَةٌ فِي الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ, وَإِذَا مَا عَاشَ النَّاسُ بِهَذَا الوَحْيِ؛ سَعِدُوا فِي الْحَيَاةِ, وَتَجَنَّبُوا سُبُلَ الشَّقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ, وَلَا حَيَاةَ لِهَذَا الْعَالَمِ إِلَّا بِأَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْوَحْيِ.

 

المصدر : http://www.rslan.com/book/view-36.html

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  قَضِيَّةُ الْأُمَّةِ قَضِيَّةُ فِلَسْطِينَ
  التَّحْذِيرُ مِنْ خُطَّةِ رَدِّ الِاعْتِدَاءِ الْقُطْبِيَّةِ الْإِخْوَانِيَّةِ
  دِينُ التَّسَامُحِ وَشَرِيعَةُ الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ
  مِنْ سُبُلِ الْقَضَاءِ عَلَى إِدْمَانِ الْمُخَدِّرَاتِ: الْعِلَاجُ بِالْوَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ وَالطِّبِّيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ
  أَعْظَمُ سُبُلِ بِنَاءِ الْأُمَّةِ: الْإِيمَانُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ
  الْإِيمَانُ تَصْلُحُ بِهِ الْحَيَاةُ عَلَى مُسْتَوَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ
  مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ: حُبُّ الْوَطَنِ وَالدِّفَاعُ عَنْهُ
  مِنْ فَوَائِدِ الصِّيَامِ وَمَقَاصِدِهِ
  رَحْمَةُ النَّبِيِّ ﷺ وَشَرْعِهِ بِالْأُمَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ
  مِنْ سُبُلِ الْحِفَاظِ عَلَى الْمِيثَاقِ الْغَلِيظِ: مَعْرِفَةُ حُقُوقِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَمُرَاعَاتُهَا
  مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ قَبْلَ الْعَمَلِ وَبَعْدَ الْعَمَلِ
  مَخَاطِرُ إِدْمَانِ الْخَمْرِ وَالْمُخَدِّرَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
  الْآثَارُ الْمُدَمِّرَةُ لِطُولِ الْأَمَلِ دُنْيَا وَآخِرَةً
  عَلَامَاتُ النِّفَاقِ، وَصِفَاتُ الْمُنَافِقِينَ
  الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ شِفَاءٌ وَحِفْظٌ بِقَدَرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-
  • شارك