الْمَوْعِظَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ : ((صُوَرٌ مِنْ جُودِ وَكَرَمِ النَّبِيِّ ﷺ))


((الْمَوْعِظَةُ الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ))

((صُوَرٌ مِنْ جُودِ وَكَرَمِ النَّبِيِّ ﷺ))

الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) : أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللهِ ﷺ حِينَئِذٍ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْـمُرْسَلَةِ».

وَهَذَا تَشْبِيهٌ عَلَى أَبْلَغِ صُورَةٍ؛ إِذْ شَبَّهَ جُودَ رَسُولِ اللهِ ﷺ بِالرِّيحِ الْـمُرْسَلَةِ فِي عُمُومِهَا، وَفِي تَوَاتُرِهَا، وَفِي خَيْرِهَا.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كَمَا وَصَفَ ابْنُ عبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- حَالَهُ «أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْـمُرْسَلَةِ».

وَكَانَ هُوَ ﷺ فِي حَالَتِهِ هَذِهِ أَكْرَمَ النَّاسِ, وَأَجْوَدَ النَّاسِ فِي كُلِّ الْعَامِ، وَلَكِنَّ رَمَضَانَ فِيهِ زِيَادَةٌ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ.

فَفِي «الصَّحِيحِ» : أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ بِبُرْدَةٍ، فَأَهْدَتْهَا إِلَيْهِ.

تَدْرُونَ مَا الْبُرْدَةُ؟

قِيلَ: الشَّمْلَةُ .

وَقِيلَ: شَمْلَةٌ مُطَرَّزَةٌ بِحَاشِيَتِهَا، مَنْسُوجَةٌ بِحَاشِيَتِهَا .

فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ ﷺ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَلَبِسَهَا.

فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللهِ! اُكْسُنِيهَا.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هِيَ لَكَ». وَأَعْطَاهُ إِيَّاهَا.

ثُمَّ دَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ بَيْتَهُ, فَأَقْبَلَ أَصْحَابُهُ -أَيْ أَصْحَابُ الرَّجُلِ، أَقْبَلُوا عَلَيْهِ لَائِمِينَ.

وَقَالُوا: تَعْلَمُ أَنَّهُ ﷺ لَا يَرُدُّ السَّائِلَ، وَأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لِشَيْءٍ: لَا، قَطُّ، وَأَنَّكَ مَتَى سَأَلْتَهُ أَنْ يُعْطِيَكَهَا أَعْطَاكَهَا مِنْ غَيْرِ مَا تَسْوِيفٍ وَلَا مَنَظَرَةٍ -يَعْنِي مِنْ غَيْرِ مَا انْتِظَارٍ وَلَا تَرَيُّثٍ-!!

وَأَخَذُوا يَلُومُونَهُ يَقُولُونَ: إِنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَهَا، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهَا ﷺ.

فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: وَاللهِ! مَا أَخَذْتُهَا إِلَّا رَجَاءَ بَرَكَتِهَا؛ إِذْ جَعَلَهَا ﷺ عَلَى جِلْدِهِ، إِذْ جَعَلَهَا عَلَى جَسَدِهِ، وَإِنِّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ كَفَنِي.

فَكَانَتْ!!

فَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَالَاتِهِ جَمِيعِهَا في كُلِّ الْعَامِ أَجْوَدَ الْخَلْقِ، لَا يَرُدُّ سَائِلًا ، وَيُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ, كَمَا فِي «الصَّحِيحِ» : أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ غَنَمًا فِي شِعْبٍ بَيْنَ جَبَلَيْنِ .

فَأَعْطَاهُ الرَّسُولُ ﷺ إِيَّاهَا جَمِيعَهَا.

فَعَادَ الرَّجُلُ إِلَى قَوْمِهِ يَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يُعْطِي عَطَاءً لَا يَخْشَى الْفَقْرَ.

يُعْطِي النَّبِيُّ ﷺ عَطَاءً بِلَا حُدُودٍ، وَهُوَ يُعْطِي عَطَاءَ مَنْ لَا يَخْشَى الْفَقْرَ.

وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَأَلَّفُ بِالْعَطَاءِ ، وَبِالْبَذْلِ قُلُوبَ أَقْوَامٍ لَا تُقَادُ إِلَّا بِزِمَامِ الْعَطَاءِ، وَلَا تَنْقَادُ إِلَّا لَه.

إِذَنْ، كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ, وَأَكْرَمَ النَّاسِ, وَأَحْسَنَ النَّاسِ, وَأَجْمَلَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ ﷺ.

وَقَدْ سُئِلَ الرَّسُولُ ﷺ عَنِ الْكَرِيمِ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟.

قَالَ: «أَتْقَاهُمْ».

فَقَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ.

قَالَ: «فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ». قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ.

قَالَ: «فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْأَلُونِ؟ خِيَارُهُمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ، إِذَا فَقُهُوا» .

فَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّ الْكَرَمَ يَكُونُ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.

وَالرَّسُولُ ﷺ كَانَ أَجْوَدَ الْخَلْقِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُون فِي رَمَضَانَ، بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَحُضُّ عَلَى مُمَارَسَةِ الْجُودِ، وَالْخُرُوجِ مِنْ إِطَارِ شُحِّ النَّفْسِ، وَإِمْسَاكِهَا؛ إِذِ الشُّحُّ أَبْلَغُ الْبُخْلِ، وَأَعْظَمُهُ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُبَيِّنُ لَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا ﷺ طَرِيقَةً عَمَلِيَّةً؛ لِلْخُرُوجِ مِنْ قَيْدِ النَّفْسِ، وَمِنْ أَسْرِ شُحِّهَا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَدَرَّبَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْعَطَاءِ.

وَيَجْعَلُهَا النَّبِيُّ ﷺ حَالَةً مِن حَالَاتِ الْبَذْلِ الَّذِي لَا يَتَنَاهَى، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ: «وَابْتِسَامُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ» .

وَمَا الابْتِسَامَةُ بِشَيْءٍ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، وَلَكِنَّهَا عُنْوَانٌ عَلَى بَاطِنٍ مُنْبَسِطٍ لِخَلْقِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ.

وَأَمَّا كَزَازَةُ الطَّبْعِ، وَأَمَّا الْغِلْظَةُ وَالْجَفَاءُ وَالفَظَاظَةُ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُبِضَّ شَيْئًا مِنَ ابْتِسَامٍ، وَلَا شَيْئًا مِنْ فَرَحٍ، يَلْقَى بِهِ مُؤْمِنٌ مَؤْمِنًا، وَيُلَاقِي بِهِ مُسْلِمٌ مُسْلِمًا.

النَّاسُ يَتَصَارَعُونَ!! عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَتَصَارَعُونَ؟!!

يَتَصَارَعُونَ عَلَى الاقْتِنَاءِ وَالاسْتِحْوَاذِ، وَعَلَى اجْتِلَابِ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ؛ ((يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ ، يَتَّبِعُ  بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ ، وَمَوَاقِعَ الْقَطْرِ؛ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ)) .

فَفِي أَيِّ شَيْءٍ يَتَكَاثَرُونَ؟!!

أَلَا قُبِّحُوا، أَلْـهَاهُمُ التَّكَاثُرُ!

وَأَمَّا هَذَا -طَرِيقُ الْآخِرَةِ- الَّذِي هُوَ مَفْتُوحٌ عَلَى مِصْرَاعَيْهِ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ الدُّنْيَا ضَيِّقٌ، وَأَمَّا طَرِيقُ الْآخِرَةِ فَيَحْتَمِلُ الْجَمِيعَ، يَتَنَافَسُونَ مَا يَتَنَافَسُونَ لَا يَضِيقُ بِهِمْ؛ إِذْ إِنَّ الْـمَوْرِدَ مُتَّسِعٌ بِلَا حُدُودٍ.

وَالْعَطَاءُ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا الْـمَعْبُودِ، فِيهِ مِنَ الْجُودِ مَا هُوَ أَبْلَغُ مِنَ الْجُودِ.

وَأَمَّا طَرِيقُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا تَكُونُ لِوَاحِدٍ؛ فَمَهْمَا تَكَالَبُوا عَلَيْهَا يتَنَافَسُوهَا تَصَارَعُوا، فَتَقَاتَلُوا، وَحِينَئِذٍ يَأْتِي فَشَلُهُمْ لَاحِقًا، كَمَا أَتَى فَشَلُهُمْ عِنْدَ الْإِرَادَةِ وَهُبُوطِ الْهِمَّةِ سَابِقًا.

فَالْجُودَ الْجُودَ عِبَادَ اللهِ، وَالْكَرَمَ الْكَرَمَ يَا خَلْقَ اللهِ؛ فَإِنَّ الْجُودَ أَعْلَى مِنَ الْكَرَمِ، وَالْكَرَمُ دَاخِلٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْجُودَ يَكُونُ مِنْ غَيْرِ مَا اسْتِحْقَاقٍ وَلَا مَسْأَلَةٍ، وَأَمَّا الْكَرَمُ فَلَا يَكُونُ إِلَّا بِاسْتِحْقَاقٍ وَمَسْأَلَةٍ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِّينَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  رَحْمَةُ النَّبِيِّ ﷺ بِالْحَيَوَانَاتِ
  الْعَمَلِ بِأَمَانَةٍ وَاجْتِهَادٍ مِنْ عَوَامِلِ الْقُوَّةِ فِي بِنَاءِ الدُّوَلِ
  مِنْ مَعَانِي الْخِيَانَةِ
  حَثُّ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ
  المَوْعِظَةُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ : ((جُمْلَةٌ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ (2) ))
  لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ
  الْأَوْلَادُ هِبَةٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
  نَبِيُّ الرَّحْمَةِ ﷺ، وَدِينُهُ دِينُ الرَّحْمَةِ
  النَّهْيُ عَنِ الْإِسْرَافِ وَالْحَثُّ عَلَى الِاعْتِدَالِ فِي السُّنَّةِ
  حُرْمَةُ قَتْلِ السَّائِحِينَ وَالْأَجَانِبِ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي دِيَارِ الْإِسْلَامِ
  خُطُورَةُ النِّفَاقِ وَالْمُنَافِقِينَ عَلَى الْأُمَّةِ
  إِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ مُحَمَّدٍ ﷺ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ عَلَى الْقِمَّةِ الشَّامِخَةِ
  انْتِصَارَاتُ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْحَاضِ
  مَبْنَى الْحَيَاةِ عَلَى الِابْتِلَاءِ
  ثَمَرَاتُ كَثْرَةِ الْأُمَّةِ وَحُكْمُ تَنْظِيمِ النَّسْلِ وَتَحْدِيدِهِ
  • شارك