الْمَقَاصِدُ الْعُظْمَى لِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ


 ((الْمَقَاصِدُ الْعُظْمَى لِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ))

عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ بُعِثَ بِأُصُولِ تَشْرِيعٍ جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الملك: 14]؟!!

بَلَى، يَعْلَمُ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ مَا يَصْلُحُ عَلَيْهِ النَّاسُ، وَمَا يُصْلِحُ النَّاسَ؛ فَشَرَّعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحِكْمَتِهِ شَرْعًا حَكِيمًا، لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ.

جَاءَ النَّبِيُّ ﷺ بِهَذَا الشَّرْعِ الْخَاتَمِ الْحَكِيمِ، لَيْسَ فِيهِ خَلَلٌ، وَلَيْسَتْ بِهِ ثُغْرَةٌ يُمْكِنُ أَنْ يَنْفُذَ إِلَيْهَا أَحَدٌ بِعَقْلٍ أَبَدًا؛ فَيَسْتَدْرِكَ عَلَيْهَا مُسْتَدْرِكٌ بِحَالٍ أَبَدًا؛ لِأَنَّهُ شَرْعٌ تَامٌّ كَامِلٌ، كَمَا قَالَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 4].

وَالْعَلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- يَقُولُونَ: مَقَاصِدُ التَّشْرِيعِ ثَلَاثَةٌ، لَا يَخْرُجُ عَنْهَا مَقْصِدٌ مِنْ مَقَاصِدِ التَّشْرِيعِ:

1- الضَّرُورِيَّاتُ.

2- وَالْحَاجِيَّاتُ.

3- وَالتَّحْسِينِيَّاتُ.

فَأَمَّا الضَّرُورِيَّاتُ: فَهِيَ الَّتِي لَا تَسْتَقِيمُ حَيَاةُ النَّاسِ وَلَا آخِرَتُهُمْ إِلَّا بِهَا وَعَلَيْهَا؛ بِحَيْثُ لَوِ اخْتَلَّ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ؛ فَسَدَتْ عَلَى النَّاسِ حَيَاتُهُمْ، وَحَصَّلُوا الْخِزْيَ فِيهَا، وَفَسَدَتْ عَلَى النَّاسِ آخِرَتُهُمْ، وَحَصَّلُوا النَّارَ فِيهَا -عِيَاذًا بِاللهِ وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّحِيمِ-.

ثُمَّ حَصَرَ الْعُلَمَاءُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- هَذِهِ الضَّرُورِيَّاتِ فِي ضَرُورِيَّاتٍ خَمْسٍ -ضَرُورِيَّاتٍ خَمْسٍ تَحْصُرُ هَذِهِ الْأُمُورَ الَّتِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا النَّاسُ، لَا فِي دِينٍ وَلَا دُنْيَا-، وَهِيَ:

1- الدِّينُ.

2- وَالنَّفْسُ.

3- وَالنَّسْلُ.

4- وَالْمَالُ.

5- وَالْعَقْلُ.

ثُمَّ يُبَيِّنُ لَنَا عُلَمَاؤُنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ- هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى وَجْهِهَا الصَّحِيحِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَأْتِي بِمَا يُقِيمُ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ، ثُمَّ إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَأْخُذُ عَلَى أَيْدِي النَّاسِ؛ أَنْ يُفْسِدُوا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الضَّرُورِيَّاتِ، فَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ.

يَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا الشَّهَادَتَيْنِ، وَالصَّلَاةَ، وَالزَّكَاةَ، وَالْحَجَّ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الْأَرْكَانِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَرْكَانِ الْإِيمَانِ.

فَهَذَا هُوَ الدِّينُ، ثُمَّ يَحْفَظُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، فَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْجِهَادَ؛ لِحِفَاظِهِ، وَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَدَّ الرِّدَّةِ؛ لِحِفَاظِ الدِّينِ.

وَيَشْرَعُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا حِفْظَ النَّفْسِ، وَيَحُوطُهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِسِيَاجٍ، فَيَجْعَلُ الْقِصَاصَ وَالدِّيَاتِ؛ مِنْ أَجْلِ أَيِّ اعْتِدَاءٍ عَلَى النَّفْسِ.

وَيَشْرَعُ لَنَا رَبُّنَا لِحِفْظِ الضَّرُورِيِّ مِنَ الْمَالِ: قَطْعَ الْيَدِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ أَرْكَانِ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَيَشْرَعُ لَنَا تَضْمِينَ الْوَلِيِّ عِنْدَمَا يُفْسِدُ غَيْرُ ذِي عَقْلٍ مَالًا مُحْتَرَمًا مَمْلُوكًا مُقَوَّمًا فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَيَشْرَعُ لَنَا أَنْ نَحْفَظَ الدِّينَ، وَالنَّسْلَ، وَالْعَقْلَ؛ بِأَنْ يَجْعَلَ حَدَّ الشُّرْبِ قَائِمًا؛ بِحَيْثُ الَّذِي يَغْتَالُ الْعَقْلَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ دُونَهُ سَدٌّ لَا يُنْفَذُ مِنْهُ.

هَذِهِ الضَّرُورَاتُ لَيْسَتْ سَوَاءً، فَلَيْسَ الَّذِي يُفْسِدُ فِي الدِّينِ كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَنْفُسِ، كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَمْوَالِ، كَالَّذِي يَعْدُو عَلَى الْأَعْرَاضِ.

هَذِهِ الضَّرُورَاتُ لَيْسَتْ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَلَى سَوَاءٍ، وَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا لَيْسَتْ سَوَاءً.

فَفِي ضَرُورَةِ الدِّينِ لَيْسَتِ الشَّهَادَتَانِ كَمَا يَأْتِي دُونَهُمَا بَعْدُ؛ مِنَ الصَّلَاةِ، أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ الْحَجِّ، أَوِ الصَّوْمِ، أَوْ مَا دُونَ ذَلِكَ.

وَلَيْسَتِ الصَّلَاةُ كَالزَّكَاةِ، أَمْرٌ كَانَ مِنْ رَبِّكَ مَقْضِيًّا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى سَوَاءٍ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

* ثُمَّ يَشْرَعُ لَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَمْرَ الْحَاجِيَّاتِ: وَهِيَ الَّتِي إِذَا فَقَدَهَا النَّاسُ؛ أَصَابَهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي حَيَاتِهِمْ مَا يَجْعَلُ الْحَيَاةَ غَيْرَ يَسِيرَةٍ؛ وَلَكِنْ لَا يَنْهَدِمُ بِفَقْدِهَا حَيَاةٌ.

فَهَذِهِ الْحَاجِيَّاتُ شَرَعَهَا لَنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-.

* ثُمَّ تَأْتِي التَّحْسِينِيَّاتُ بَعْدُ؛ لِكَيْ تَجْعَلَ الْحَيَاةَ رَغْدَةً عَلَى وَتِيرَةٍ سَهْلَةٍ يَسِيرَةٍ مُتَقَبَّلَةٍ عِنْدَ ذَوِي الْفِطَرِ الْمُسْتَقِيمَةِ.

وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ فَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

الْحَاصِلُ: أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ مَقَاصِدَ التَّشْرِيعِ لَيْسَتْ سَوَاءً؛ حَتَّى فِي الْمَقْصِدِ الْوَاحِدِ -كَالْحَاجِيَّاتِ، أَوِ التَّحْسِينِيَّاتِ؛ بَلْهَ الضَّرُورِيَّاتِ- لَمْ يَجْعَلْهَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى سَوَاءٍ.

وَمَعَ ذَلِكَ؛ فَمَا أَكْثَرَ مَا لَا يَلْتَفِتُ الْخَلْقُ إِلَى مِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي دِينِهِ الْعَظِيمِ، دِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- بِالِانْتِسَابِ إِلَيْهِ، وَنَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِأَنْ نَمُوتَ عَلَيْهِ، وَأَنْ نُحْشَرَ عَلَيْهِ، بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ!!

إِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ.

وَالشَّرِيعَةُ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنِ الْعَدْلِ إِلَى الْجَوْرِ، وَعَنِ الرَّحْمَةِ إِلَى ضِدِّهَا، وَعَنِ الْمَصْلَحَةِ إِلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنِ الْحِكْمَةِ إِلَى الْعَبَثِ؛ فَلَيْسَتْ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ.

فَالشَّرِيعَةُ عَدْلُ اللهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَرَحْمَتُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَحِكْمَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ، وَعَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ ﷺ أَتَمَّ دَلَالَةٍ وَأَصْدَقَهَا.

وَهِيَ نُورُهُ الَّذِي بِهِ أَبْصَرَ الْمُبْصِرُونَ، وَهُدَاهُ الَّذِي بِهِ اهْتَدَى الْمُهْتَدُونَ، وَشِفَاؤُهُ التَّامُّ الَّذِي بِهِ دَوَاءُ كُلِّ عَلِيلٍ، وَطَرِيقُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي مَنِ اسْتَقَامَ عَلَيْهِ فَقَدِ اسْتَقَامَ عَلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ.

وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَحَاصِلٌ بِهَا، وَكُلُّ نَقْصٍ فِي الْوُجُودِ فَسَبَبُهُ مِنْ إِضَاعَتِهَا وَتَضْيِيعِهَا.

* مَعْنَى الْمَصْلَحَةِ لُغَةً وَشَرْعًا:

«وَالْمَصْلَحَةُ فِي اللُّغَةِ: كَالْمَنْفَعَةِ وَزْنًا وَمَعْنًى، مَصْلَحَةٌ: مَنْفَعَةٌ.

وَالْمَصْلَحَةُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الصَّلَاحِ، كَالْمَنْفَعَةِ بِمَعْنَى النَّفْعِ، أَوِ الْمَصْلَحَةُ هِيَ لِلْوَاحِدَةِ مِنَ الْمَصَالِحِ.

قَالَ فِي ((اللِّسَانِ)) : ((وَالْمَصْلَحَةُ: الصَّلَاحُ، وَالْمَصْلَحَةُ: وَاحِدَةُ الْمَصَالِحِ)).

فَكُلُّ مَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ -سَوَاءٌ كَانَ بِالْجَلْبِ وَالتَّحْصِيلِ كَتَحْصِيلِ الْفَوَائِدِ وَاللَّذَائِذِ، أَوْ بِالدَّفْعِ وَالِاتِّقَاءِ كَاسْتِبْعَادِ الْمَضَارِّ وَالْآلَامِ- فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُسَمَّى مَصْلَحَةً.

وَالْمُصْطَلَحُ فِيمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ تُعَرَّفَ بِمَا يَلِي: «الْمَنْفَعَةُ الَّتِي قَصَدَهَا الشَّارِعُ الْحَكِيمُ لِعِبَادِهِ؛ مِنْ حِفْظِ دِينِهِمْ، وَنُفُوسِهِمْ، وَعُقُولِهِمْ، وَنَسْلِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ -وَهِيَ الضَّرُورَاتُ الْخَمْسُ-، طِبْقَ تَرْتِيبٍ مُعَيَّنٍ فِيمَا بَيْنَهَا)) .

وَالْمَصَالِحُ الْمُعْتَبَرَةُ: هِيَ الْمَصَالِحُ الْحَقِيقِيَّةُ، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ:

* حِفْظُ الدِّينِ.

* وَحِفْظُ النَّفْسِ.

* وَحِفْظُ الْعَقْلِ.

* وَحِفْظُ النَّسْلِ.

* وَحِفْظُ الْمَالِ.

لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْخَمْسَةَ بِهَا قِوَامُ الدُّنْيَا الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا الْإِنْسَانُ، وَلَا يَحْيَا حَيَاةً تَلِيقُ بِهِ إِلَّا بِهَا.

فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الدِّينِ تَكُونُ بِمَنْعِ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، وَبِمَنْعِ الضَّلَالِ، وَبِمَنْعِ إِثَارَةِ الْأَهْوَاءِ وَالْمَفَاسِدِ.

وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى النَّفْسِ: هِيَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى حَقِّ الْحَيَاةِ الْعَزِيزَةِ الْكَرِيمَةِ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحَيَاةِ، وَعَلَى الْكَرَامَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ.

وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْعَقْلِ: هِيَ حِفْظُهُ مِنْ أَنْ تَنَالَهُ آفَةٌ تَجْعَلُ صَاحِبَهُ مَصْدَرَ شَرٍّ وَأَذًى لِنَفْسِهِ وَلِلنَّاسِ أَوْ عِبْئًا عَلَى مُجْتَمَعِهِ.

وَعَمَلُ الشَّارِعُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى كُلِّ مَا يُنَمِّي الْعَقْلَ وَيَحْفَظُهُ مِنَ الْآفَاتِ.

وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَكُلِّ الْمُخَدِّرَاتِ كَانَ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعَقْلِ وَلِصِيَانَتِهِ.

وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى النَّسْلِ: هِيَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ؛ بِحَيْثُ يَنْشَأُ قَوِيًّا فِي خَلْقِهِ وَخُلُقِهِ، وَمَشَاعِرِهِ، وَمَوَاهِبِهِ، وَدِينِهِ، وَذَلِكَ بِتَنْظِيمِ الْعَلَاقَاتِ الْأُسْرِيَّةِ؛ لِيَتَرَبَّى الْأَوْلَادُ فِيهَا، وَيَنْعَمُوا بِالْحَيَاةِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ، وَبِالْأُمُومَةِ الَّتِي تَتَغَذَّى مِنْهَا الْعَوَاطِفُ، وَتَكْتَمِلُ بِهَا الْمَدَارِجُ؛ فَيَنْشَأُ الْمُسْلِمُ سَوِيًّا لَا عِوَجَ فِيهِ.

وَتَحْرِيمُ الزِّنَا وَالْفَوَاحِشِ كَانَ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى النَّسْلِ وَحِيَاطَتِهِ.

وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْمَالِ تَكُونُ بِالسَّعْيِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَتَنْمِيَةِ الْمَالِ مِنَ الطَّرِيقِ الْحَلَالِ الَّتِي تُتَبَادَلُ فِيهِ الْمَنَافِعُ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ وَلَا جَوْرٍ.

وَمَا حَدُّ السَّرَقَةِ، وَتَحْرِيمُ الرِّبَا وَالرِّشْوَةِ وَالْغَصْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ أَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمَالِ، وَدَرْءِ الضَّرَرِ عَنْهُ.

فَالْمَصَالِحُ الَّتِي شَرَعَ الشَّارِعُ أَحْكَامًا لِتَحْقِيقِهَا، وَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِهَا عِلَلًا لِمَا شَرَعَهُ تُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ: ((الْمَصَالِحَ الْمُعْتَبَرَةَ)) مِنَ الشَّارِعِ؛ مِثْلُ: حِفْظِ حَيَاةِ النَّاسِ، شَرَعَ الشَّارِعُ لَهُ إِيجَابَ الْقِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ الْعَامِدِ.

وَحِفْظُ مَالِهِمُ الَّذِي شُرِعَ لَهُ حَدُّ السَّرِقَةِ.

وَحِفْظُ عِرْضِهِمُ الَّذِي شُرِعَ لَهُ حَدُّ الْقَذْفِ وَحَدُّ الزِّنَا.

وَكُلٌّ مِنَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْقَذْفِ، وَالزِّنَا وَصْفٌ مُنَاسِبٌ، أَيْ: إِنَّ تَشْرِيعَ الْحُكْمِ بِنَاءً عَلَيْهِ يُحَقِّقُ مَصْلَحَةً، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ مِنَ الشَّارِعِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ بَنَى الْحُكْمَ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمُنَاسِبُ الْمُعْتَبَرُ مِنَ الشَّارِعِ: إِمَّا مُنَاسِبٌ مُؤَثِّرٌ، وَإِمَّا مُنَاسِبٌ مُلَائِمٌ عَلَى حَسَبِ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ لَهُ.

وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مَا شَرَعَ حُكْمًا إِلَّا لِمَصْلَحَةِ عِبَادِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَصْلَحَةَ إِمَّا جَلْبُ نَفْعٍ لَهُمْ، وَإِمَّا دَفْعُ ضَرَرٍ عَنْهُمْ.

فَالْبَاعِثُ عَلَى تَشْرِيعِ أَيِّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ هِيَ: جَلْبُ مَنْفَعَةٍ لِلنَّاسِ أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ عَنْهُمْ.

وَهَذَا الْبَاعِثُ عَلَى تَشْرِيعِ الْحُكْمِ هُوَ الْغَايَةُ مِنْ تَشْرِيعِهِ، وَهُوَ حِكْمَةُ الْحُكْمِ.

 

المصدر:جَوْهَرُ الْإِسْلَامِ وَرِسَالَتُهُ السَّمْحَةُ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  حَنَانُ الْأُمِّ وَشَفَقَتُهَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  أَرْكَانُ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ
  رِسَالَةُ نَبِيِّنَا ﷺ عَلَّمَتِ الْعَالَمَ السَّلَامَ وَالْقِيَمَ
  أَسْبَابُ تَحْصِيلِ مَعِيَّةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَاصَّةِ
  تَقْدِيمُ الْمَصْلَحَةِ الْخَاصَّةِ فِي حَالَاتٍ يُهْلِكُ الْجَمِيعَ!!
  الِاجْتِهَادُ فِي تَحْصِيلِ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ فِي رَمَضَانَ
  فَضَائِلُ رِعَايَةِ الْأَيْتَامِ وَالْحَثُّ عَلَيْهَا فِي السُّنَّةِ
  نَمَاذِجُ لِلْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الْمَشْرُوعِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ تِجَاهَ الْأَيْتَامِ وَالْفُقَرَاءِ
  آدَابُ السَّلَامِ
  الْعِيدُ وَاجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَنَبْذُ الْخِلَافَاتِ
  أُمَّةُ مُحَمَّدٍ ﷺ خَيْرُ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
  قَضِيَّةُ الْقُدْسِ قَضِيَّةُ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْإِسْلَامِيَّةِ
  عُقُوبَاتٌ شَدِيدَةٌ لِقَاطِعِ الرَّحِمِ
  مُحَارَبَةُ الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ
  • شارك