مَعْنَى الْكَلِمَةِ وَبَيَانُ أَصْلِهَا وَمَعْدِنِهَا


 ((مَعْنَى الْكَلِمَةِ وَبَيَانُ أَصْلِهَا وَمَعْدِنِهَا))

لَقَدْ مَيَّزَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- الْإِنْسَانَ بِالْبَيَانِ، وَمَنَحَهُ نِعْمَةَ الْإِبَانَةِ، فَغَدَا بِفَضْلِ رَبِّهِ مُفْصِحًا مُبِينًا.

وَبِالْبَيَانِ خَرَجَ الْإِنْسَانُ عَنْ حَدِّ الْبَهِيمَةِ الْعَجْمَاءِ إِلَى حَدِّ الْإِنْسَانِ النَّاطِقِ الْمُبِينِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ [الرحمن: 1-4].

وَلَمَّا كَانَتِ (الْكَلِمَةُ) حَجَرَ الزَّاوِيَةِ فِي ذَلِكَ الْبَيَانِ، كَانَ حَظُّهَا مِنَ الْفَضِيلَةِ إِنْ حَسُنَتْ فَسَمَتْ، عَلَى قَدْرِ نَصِيبِهَا مِنَ الرَّذِيلَةِ إِنْ سَاءَتْ فَتَرَدَّتْ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ تَعَالَى، مَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ تَعَالَى، لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

وَ(الْكَلِمَةُ) قَدْ تُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهَا اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِمَعْنًى مُفْرَدٍ، وَقَدْ يُقْصَدُ بِهَا الْكَلَامُ، كَقَوْلِهِمْ فِي (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ): كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ.

وَكَقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللهَ بَاطِلُ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.

وَالْمَقْصُودُ هُنَا هُوَ (الْكَلِمَةُ) الْمُرَادُ بِهَا اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِمَعْنًى مُفْرَدٍ، وَ(الْكَلِمَةُ) الْمُرَادُ بِهَا الْكَلَامُ؛ كُلُّ أُولَئِكَ مَقْصُودٌ.

وَالْكَلَامُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ (شَاهِدُ الْحَالِ) -وَإِنْ لَمْ يَلْفِظْ بِهِ لِسَانٌ- دَاخِلٌ فِي مُرَادِنَا أَيْضًا، عَلَى حَدِّ قَوْلِ الشَّاعِرِ:

أَشَارَتْ بِطَرْفِ الْعَيْنِ خِيفَةَ أَهْلِهَا

                   إِشَارَةَ مَحْزُونٍ، وَلَمْ تَتَكَلَّمِ

فَأَيْقَنْتُ أَنَّ الطَّرْفَ قَدْ قَالَ: مَرْحَبًا

                   وَأَهْلًا وَسَهْلًا بِالْحَبِيبِ الْمُتَيَّمِ

بَلْ إِنَّ (الْكَلَامَ) الْمُضْمَرَ الَّذِي يُكِنُّهُ الْفُؤَادُ، وَلَا تُبْدِيهِ الْجَوَارِحُ، مِمَّا هُوَ مَعْنِيٌّ فِيمَا نُحَاوِلُهُ مِنْ بَيَانِ شَأْنِ (الْكَلِمَةِ).

فَـ(الْكَلِمَةُ) إِنَّمَا تَصْدُرُ مِنْ قَائِلِهَا مُلَوَّنَةً بِأَلْوَانٍ بَاطِنَةٍ، مُبِينَةً عَنْ ذَاتِ نَفْسِهِ وَدَخِيلَةِ قَلْبِهِ، وَلَوْ أَنَّنَا جَرَيْنَا عَلَى سَنَنِ الْبَدَاهَةِ لَيَمَّمْنَا وُجُوهَنَا شَطْرَ (الْقَلْبِ) لَا شَطْرَ (اللِّسَانِ)، وَأَلْقَيْنَا عَلَى بَابِهِ رِحَالَنَا، ثُمَّ قَرَّرْنَا فِي تَسْلِيمٍ أَنَّهُ:

إِنْ كَانَ الْقَلْبُ صَالِحًا فَقَدْ صَلَحَتِ (الْكَلِمَةُ)، وَإِنْ كَانَ طَالِحًا فَقَدْ فَسَدَتِ (الْكَلِمَةُ)؛ فَصَلَاحُ (الْكَلِمَةِ) وَفَسَادُهَا، فَرْعُ صَلَاحِ الْقَلْبِ وَفَسَادِهِ، سُنَّةُ اللهِ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا.

وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ (أَدَبِ النَّفْسِ) وَ(أَدَبِ اللَّفْظِ) أَوْثَقُ مِنْ أَنْ يُنَبَّهَ عَلَيْهَا أَوْ يُشَارَ إِلَيْهَا، وَمَا مِنْ سُوءِ أَدَبٍ فِي اللَّفْظِ إِلَّا وَالنَّفْسُ مَنْبَعُهُ وَحَمْأَتُهُ، وَفِيهَا مَبَاءَتُهُ وَبُؤْرَتُهُ، وَمَا أَجْمَلَ وَأَصْدَقَ قَوْلَ مَنْ قَالَ: «إِنَّ نَفْسَ الْإِنْسَانِ إِذَا اتَّسَخَتْ، كَانَ كَلَامُهُ فِي حَاجَةٍ إِلَى أَنْ يُغْسَلَ بِالْمَاءِ وَالصَّابُونِ!».

وَوَاضِحٌ أَنِّي أَعْنِي بِـ(الْكَلِمَةِ) أَمْرًا تَكْمُنُ وَرَاءَهُ الْإِرَادَةُ وَالْخُلُقُ وَأَثَرُ الدِّينِ جَمِيعًا، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ كَلَامًا يُمْكِنُ أَلَّا يَدُلَّ عَلَى مَعْنًى مُسْتَكِنٍّ فِي النَّفْسِ، مُتَوَارٍ بَيْنَ الْحَنَايَا، فَقَدْ عَنَى مُسْتَحِيلًا وَقَصَدَ عَدَمًا.

فَحَتَّى أُولَئِكَ الَّذِينَ يُعَاقِرُونَ (أُمَّ الْكَبَائِرِ) وَيُصِيبُهُمُ الْخُمَارُ، يَهْذُونَ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ، وَيَهْرِفُونَ بِمَا يَعْرِفُونَ لَا بِمَا لَا يَعْرِفُونَ، بِمَعْنَى أَنَّهُمْ إِنَّمَا يُعَبِّرُونَ عَنْ خَيَالَاتِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ فَاسِقَةً، وَيُعْرِبُونَ عَنْ خَوَاطِرِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ مَاجِنَةً، وَهَذِهِ وَتِلْكَ فِي النِّهَايَةِ خَيَالَاتُهُمْ هُمْ، وَخَوَاطِرُهُمْ هُمْ.

وَفَرْقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ مَا أَقْصِدُ مِنْ دَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى الْبَاطِنِ فِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ مِنْ غَفْلَةٍ وَانْتِبَاهٍ، وَسُكْرٍ وَصَحْوٍ، فَرْقٌ بَيْنَ مَا أُرِيدُ مِنْ تَقْرِيرِ ذَلِكَ، وَسُقُوطِ الْمُجَازَاةِ عَنِ السَّاهِي وَمَنْ كَانَ فِي حُكْمِهِ عَلَى مَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَوَاضِعِهِ.

كَأَنِّي أُرِيدُ أَنْ أَقُولَ:

أَقْصِدُ بِـ(الْكَلِمَةِ): الْإِبَانَةَ عَنْ مَوْقِفِ إِنْسَانٍ.

وَأَقْصِدُ بِـ(الْكَلِمَةِ): الْإِفْصَاحَ عَنْ خَفَايَا نَفْسٍ تُظْهِرُ الْكَلِمَةُ مَا خَفِيَ فِيهَا، وَمَا اسْتَقَرَّ بِهَا.

وَأَقْصِدُ بِـ(الْكَلِمَةِ): الْعُنْوَانَ الَّذِي تَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مَوَاقِفُ الْمُتَكَلِّمِ، فَتَظْهَرُ فِيهَا مَكْنُونَاتُ صَدْرِهِ، وَمُغَيَّبَاتُ ضَمِيرِهِ.

أَقْصِدُ بِـ(الْكَلِمَةِ): كُلَّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ ذَاتِ الْمُتَكَلِّمِ، وَأَنْ يُعْرِبَ عَنْ حَقِيقَةِ نَفْسِهِ.

وَهَلْ كَانَ قَوْلُ مَنْ قَالَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ: ﴿هُوَ أُذُنٌ﴾ [التوبة: 61]. يُرِيدُونَ: «مَنْ قَالَ لَهُ شَيْئًا صَدَّقَهُ فِينَا، وَمَنْ حَدَّثَهُ صَدَّقَهُ، فَإِذَا جِئْنَاهُ وَحَلَفْنَا لَهُ صَدَّقَنَا».

هَلْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ يَصْدُرُ عَنْ غَيْرِ نَفْسٍ تَشَبَّعَتْ بِنِفَاقِهَا، وَتَشَبَّثَتْ بِكُفْرِهَا حَتَّى نَضَحَ هَذَا الْقَوْلُ عَلَى لِسَانِهَا؟!!

وَانْظُرْ إِلَى دَفْعِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ نَبِيِّهِ ﷺ، فَإِنَّهُ لَمْ يَنْفِ سُبْحَانَهُ كَلِمَتَهُمْ، وَإِنَّمَا نَفَى قَصْدَهُمْ، وَوَجَّهَ الْكَلِمَةَ: {هُوَ أُذُنٌ﴾ وِجْهَتَهَا الَّتِي هِيَ حَقٌّ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ﴾؛ أَيْ: هُوَ أُذُنٌ خَيْرٌ يَعْرِفُ الصَّادِقَ مِنَ الْكَاذِبِ، {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ أَيْ: وَيُصَدِّقُ الْمُؤْمِنِينَ، {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ}؛ أَيْ: وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ.

ثُمَّ بَيَّنَ جَزَاءَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ ﷺ، وَيَقُولُونَ فِيهِ مَا لَيْسَ إِلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ، فَقَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 61].

فَلَيْسَتِ (الْكَلِمَةُ) إِلَّا تَعْبِيرًا عَنْ (مَوْقِفِ) الْقَلْبِ، وَبَيَانًا لِحَالَةِ الرُّوحِ، وَإِعْرَابًا عَنْ ذَاتِ الضَّمِيرِ.

وَقَدِيمًا كَانَ الْمُنَافِقُونَ يَأْتُونَ النَّبِيَّ ﷺ، فَيَشْهَدُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَنَّهُمْ صَدَّقُوا وَآمَنُوا، وَقُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ مُكَذِّبَةٌ، فَيَقُولُونَ كَلَامًا لَا تُصَدِّقُهُ شَوَاهِدُ أَخْبَارِهِمْ، وَلَا يَنْطَبِقُ عَلَى وَاقِعِ حَالِهِمْ، وَيَقُولُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِمْ: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1].

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «أَيْ: إِذَا حَضَرُوا عِنْدَكَ وَاجَهُوكَ بِذَلِكَ، وَأَظْهَرُوا لَكَ ذَلِكَ، وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ، وَلِهَذَا اعْتَرَضَ بِجُمْلَةٍ مُخْبِرَةٍ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ فَقَالَ: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}؛ أَيْ: فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُطَابِقًا لِلْخَارِجِ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ صِحَّةَ مَا يَقُولُونَ وَلَا صِدْقَهُ؛ وَلِهَذَا كَذَّبَهُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَادِهِمْ».

فَهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ كَلَامًا ظَاهِرُهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَلَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا التَّكْذِيبُ وَالشَّكُّ، وَهُمْ فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ لَا يَعْنُونَ مَعْنَى مَا يَقُولُونَ، وَمِنْ هُنَا انْطَبَقَ نِفَاقُ قُلُوبِهِمْ عَلَى مُرَادِهِمْ مِنْ كَلَامِهِمْ، وَثَبَتَ أَنَّ الْكَلَامَ إِنَّمَا يُعَبِّرُ عَنِ الْقَلْبِ لَا عَنْ غَيْرِهِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. 

 

 

المصدر:أَمَانَةُ الْكَلِمَةِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  الْآمَالُ فِي الْمِنَحِ وَالْعَطَايَا وَسَطُ الْمِحَنِ وَالْبَلَايَا
  مَعَانِي الْيَأْسِ وَالْقُنُوطِ وَحُكْمُهُمَا
  عِظَمُ شَأْنِ الْأَمَانَةِ وَخُطُورَةُ رَفْعِهَا
  مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ
  الإِسْلَامُ أَعْظَمُ نِعَمِ اللهِ على العَبْدِ
  تَفَاعُلُ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ الْقُرْآنِ الكريم
  مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي الْعِبَادَاتِ
  ثَمَرَاتُ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ
  صُوَرٌ مِنْ سُوءِ وَحُسْنِ الْخَاتِمَةِ
  مِنَ الثَّمَرَاتِ الْعَظِيمَةِ لِلزَّكَاةِ: تَحْقِيقُ التَّكَافُلِ وَالتَّوَازُنِ الْمُجْتَمَعِيِّ
  النَّبِيُّ ﷺ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي الْبِرِّ وَالْوَفَاءِ
  مُوجَزُ تَارِيخِ الْقُدْسِ الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ
  الْإِسْلَامُ أَعْظَمُ نِعْمَةٍ مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-
  وَقَدْ أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَمْرِ
  حُقُوقُ الْحَاكِمِ الْمُسْلِمِ فِي الْإِسْلَامِ
  • شارك