فَضْلُ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَجِيجِ


فَضْلُ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَجِيجِ

فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((ثَلَاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ؛ فَهَذَا صِيَامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ)).

((صِيَامُ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ، وَصِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؛ أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ)).

وَفِي لَفْظٍ: وَسُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ، فَقَالَﷺ: ((يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ)).

وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ: تَكْفِيرُ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ.

 وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هَذَا خَاصٌّ بِالصَّغَائِرِ، وَالْكَبَائِرُ تُكَفَّرُ بِالتَّوْبَةِ.

وَقَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ بَازٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((كُلُّ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، بِالِاسْتِقَامَةِ عَلَى مَا أَوْجَبَ اللهُ، وَتَرْكِ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْفَضَائِلَ وَهَذِهِ الْأَعْمَالَ مِنْ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ مَعَ الْأَسْبَابِ الْأُخْرَى الَّتِي شَرَعَهَا اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَمَعَ السَّلَامَةِ مِنَ الْمَوَانِعِ الَّتِي تَمْنَعُ الْمَغْفِرَةَ، وَذَلِكَ هُوَ الْإِصْرَارُ عَلَى الْكَبَائِرِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: 135].

فَشَرَطَ فِي هَذَا عَدْمَ الْإِصْرَارِ، وَالْإِصْرَارُ: هُوَ الْإِقَامَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَعَدَمُ التَّوْبَةِ مِنْهَا، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ عَدَمِ الْمَغْفِرَةِ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)).

وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ: أَنْ يَحْذَرَ الِاتِّكَالَ عَلَى أَحَادِيثِ التَّرْغِيبِ وَالْوَعْدِ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْ أَحَادِيثِ الْوَعِيدِ وَآيَاتِ الْوَعِيدِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَأْخُذَ بِهَذَا وَهَذَا.

 يَجِبُ أَنْ يَحْذَرَ مِمَّا حَرَّمَهُ اللهُ مِنَ الْمَعَاصِي، وَأَنْ تَكُونَ عَلَى بَالِهِ الْأَحَادِيثُ وَالْآيَاتُ الَّتِي فِيهَا الْوَعِيدُ لِمَنْ تَعَدَّى حُدُودَ اللهِ وَانْتَهَكَ مَحَارِمَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ يُحْسِنُ ظَنَّهُ بِرَبِّهِ، وَيَرْجُوهُ، وَيَتَذَكَّرُ وَعْدَهُ بِالْمَغْفِرَةِ وَبِالرَّحْمَةِ لِمَنْ يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا، بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، فَلَا يَقْنَطُ وَلَا يَأْمَنُ.

وَهَذَا هُوَ طَرِيقُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، وقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء: 57].

وَهَكَذَا أَهْلُ الْإِيمَانِ مِنْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ، هُمْ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ، يُوَحِّدُونَ اللهَ، وَيَخْشَوْنَهُ، وَيُؤَدُّونَ فَرَائِضَهُ، وَيَدَعُونَ مَحَارِمَهُ، وَيَرْجُونَهُ وَيَخَافُونَهُ -جَلَّ وَعَلَا- )). انْتَهَى كَلَامُهُ -رَحِمَهُ اللهُ-.

فَتَكْفِيرُ الذُّنُوبِ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ لَا يَكُونُ لِلْكَبَائِرِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ, وَلَا يَكُونُ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ بِمِثْلِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ لِحُقُوقِ الْعِبَادِ؛ فَإِنَّهَا لَا بُدَّ أَنْ تُؤَدَّى.

وَلَا يَقَعُ الصَّومُ -كَمَا هُوَ مَعلُومٌ- مِنْ أَحَدٍ بَعْدَ الْمَعْصُومِ ﷺ كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ, وَكَمَا يُحِبُّهُ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ لِنَفْسِهِ أَنْ يَقَعَ, فَيَكُونُ فِيهِ مِنَ التَّقْصِيرِ مَا فِيهِ, وَلَكِنْ يَكُونُ تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ عَلَى حَسَبِ مَا أَتَى بِهِ مِنَ اليقِينِ وَالِاحْتِسَابِ، ((إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا)): إِيمَانًا بِالَّذِي شَرَعَ ذَلِكَ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ كَمَا فِي صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ, وَاحْتِسَابًا عِندَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْأَجْرِ عَلَى الْمَشَقَّةِ, وَمُخَالَفَةِ الْعَادَةِ فِي الصِّيَامِ.

وَيَنْبَغِي عَلَى الْإِنسَانِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مَا صَامَ مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ، وَلَا الْعَمَلَ بِهِ, وَأَنَّ الصِّيَامَ لَيْسَ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ وَإِنَّمَا الصِّيَامُ عَنِ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ, فَإِذَا أَمْسَكَ عَمَّا أَحَلَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ, وَأَخَذَ فِي أَثْنَاءِ صِيَامِهِ يَأْتِي بِمَا حُرِّمَ عَلَيْهِ -صَائِمًا وَمُفْطِرًا- مِمَّا جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى حَرَامًا فِي كُلِّ حِينٍ وَآنٍ؛ فَمَا هَذَا بِصَائمٍ!!

يَصُومُ عَنِ الْحَلَالِ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ وَيُمْسِكُ عَنْ ذَلِكَ؛ وَيَرْتَعُ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ, وَيَشْتُمُ هَذَا, وَيَسُبُّ هَذَا, وَيَأْكُلُ مَالَ هَذَا, وَيَنْفَلِتُ لِسَانُهُ بِمَا لَا يَجْمُلُ وَلَا يَحِلُّ, فَأَيُّ صِائمٍ هَذَا؟!!

وَمَا الَّذِي يُؤَمِّلُهُ مِنْ تَكْفِيرِ ذُنُوبِ سَنَةٍ مَضَتَ أَوْ سَنَةٍ بَقِيَتْ؟!!

إِنَّمَا هَذَا يَأْتِي بِالْوِزْرِ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي فِي الطَّاعَةِ بِمَا يَمْحَقُ ثَوابَهَا مَحْقًا, وَالنَّبِيُّ ﷺ أَرشَدَنَا إِلَى أَنَّ العَبْدَ إِذَا صَامَ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَلَّى بِمَكَارَمِ الْأَخلَاقِ, وَأَنْ يُمْسِكَ عَنِ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَمَا دُونَهُمَا, ((وَإنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ شَتَمَهُ فَلْيَقُل: إِنِّي صَائمٌ, إِنِّي صَائمٌ)). فَهَذَا فِي رَمَضَانَ، وَفِي كُلِّ صَومٍ.

فَاعْلَمُوا عِبَادَ اللهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَى الْإِنسَانِ أَنْ يُخَلِّصَ ذَلِكَ مِنْ أَسْرِ نَفْسِهِ, وَمِنْ عَادَاتِهَا، وَمِنَ الْعُرْفِ الَّذِي يَغْلِبُ عَلَيْهَا, وَمِنَ التَّقَالِيدِ الَّتِي تَحْكُمُهَا, وَأَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)).

فَالصَّومُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِصًا, وَهُوَ يَجْزِيِ عَلَيْهِ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ وَبمَا لَا يُعَدُّ وَلَا يُحْصَى؛ شَرِيطَةَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُ فِي ذَلِكَ مُمْتَثِلًا أَمْرَ اللهِ, مُتَّبِعًا هَدْيَ نَبِيِّهِ ﷺ.

فَلْيَعْزِمِ الْمَرْءُ، وَلْيَنْوِ أَنْ يَصُومَ يَومَ عَرَفَةَ -إِنْ لَمْ يَكُنْ صَائمًا فِي الْعَشْرِ؛ أَنْ يَصُومَ يَوْمَ عَرَفَةَ-.

 وَمَنْ لَمْ يَصُمْ فَيَنْبَغِي عَلَيْهِ أَلَّا يُفَوِّتَ هَذِهِ الْفُرْصَةَ الْعَظِيمَةَ, وَلْيَجْتَهِدْ فِي الدُّعَاءِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ, فِي وَقْتِ النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ, وَلْيَسْأَلِ اللهَ الْمَغْفِرَةَ, وَلْيَسْأَلِ اللهَ الرَّحْمَةَ, وَلْيَسْأَلِ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- مَا أَبَاحَهُ مِنَ الْمَسَائِلِ.

لَا يَدْعُو بِإِثْمٍ وَلَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ, وَلَا يَعْتَدِي فِي الدُّعَاءِ.

*أَكْثَرُ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ بِعَرَفَةَ:

عَلَى الْمُسْلِمِ أن يُقْبِلَ عَلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-, وَيَأْخُذَ بِذِكْرِ اللهِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ عِنْدَمَا قَالَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَه, لَهُ المُلكُ وَلَهُ الحَمدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ)), فَهَذَا خَيْرُ مَا يُقَالُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ.

فَقَدْ أَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((الشُّعَبِ)) بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ الْحُسَيْنِ الْمَرْوَزِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ عَنْ تَفْسِيرِ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((أَكْثَرُ دُعَائِي وَدُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي بِعَرَفَةَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، وَإِنَّمَا هُوَ ذِكْرٌ لَيْسَ فِيهِ دُعَاءٌ.

قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْتُ حَدِيثَ مَنْصُورٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ، فَهَلْ سَمِعْتَهُ؟

قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ.

قَالَ: ذَاكَ تَفْسِيرُ هَذَا.

ثُمَّ قَالَ: أَتْدَرِي مَا قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ الصَّلْتِ حِينَ أَتَى ابْنَ جُدْعَانَ يَطْلُبُ نَائِلَهُ وَمَعْرُوفَهُ؟

قَالَ: قُلْتُ: لَا.

قَالَ: إِنَّمَا أَتَاهُ فَقَالَ:

                    أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي   ***   حَيَاؤُكَ، إِنَّ شِيمَتَكَ الْحَيَاءُ

                    إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا     ***   كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِكَ الثَّنَـاءُ

وَهَذَا الْبَيْتُ يُقْرَأُ هَكَذَا أَيْضًا-:

                أَأَذْكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي   ***      حِبَاؤُكَ، إِنَّ شِيمَتَكَ الْحِبَاءُ

                 إِذَا أَثْنَى عَلَيْكَ الْمَرْءُ يَوْمًا    ***     كَفَاهُ مِنْ تَعَرُّضِكَ الثَّنَاءُ

قَالَ سُفْيَانُ: فَهَذَا مَخْلُوقٌ حِينَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْجُودُ، قِيلَ: يَكْفِينَا مِنْ تَعَرُّضِكَ الثَّنَاءُ عَلَيْكَ؛ حَتَّى تَأْتِيَ عَلَى حَاجَتِنَا؛ فَكَيْفَ بِالْخَالِقِ الْعَظِيمِ؟!))

قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((جَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيْنَ أَفْضَلِ الدُّعَاءِ وَأَفْضَلِ الثَّنَاءِ؛ فَإِنَّ الذِّكْرَ نَوْعَانِ: دُعَاءٌ وَثَنَاءٌ، فَقَالَ: ((أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ، وَلَهُ الْحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)). وَلَمْ يَقُلْ: أَفْضَلُ مَا قُلْتُ يَوْمَ عَرَفَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ هَذَا الْكَلَامَ، وَإِنَّمَا هُوَ أَفْضَلُ مَا قُلْتُ مُطْلَقًا فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَفِي غَيْرِ يَوْمِ عَرَفَةَ)).

*فَضْلُ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)):

وَ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)): سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَمُقْتَضٍ لِذَلِكَ، وَلَكِنَّ الْمُقْتَضِي لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ إِلَّا بِاسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهِ، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، فَقَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ مُقْتَضَاهُ؛ لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ، أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ، وَلِهَذَا قِيلَ لِلْحَسَنِ: ((إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ.

فَقَالَ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَأَدَّى حَقَّهَا وَفَرْضَهَا؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ)).

وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ لِمَنْ سَأَلَهُ: ((أَلَيْسَ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) مِفْتَاحَ الْجَنَّةِ؟

قَالَ: بَلَى؛ وَلَكِنْ مَا مِنْ مِفْتَاحٍ إِلَّا وَلَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَا أَسْنَانَ لَهُ؛ لَمْ يُفْتَحْ لَكَ، وَإِنْ جِئْتَ بِمِفْتَاحِ لَهُ أَسْنَانٌ؛ فُتِحَ لَكَ)).

فَـ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) هِيَ أَعْظَمُ مَا يُقَالُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، كَمَا قَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ.

 وَ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) اشْتَمَلَتْ عَلَى نَفْيٍ وَإِثْبَاتٍ، فَنَفَتِ الْإِلَهِيَّةَ عَنْ كُلِّ مَا سِوَى اللهِ تَعَالَى، فَكُلُّ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ -فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ-؛ فَلَيْسَ بِإِلَهٍ، وَلَا لَهُ مِنَ الْعِبَادَةِ شَيْءٌ.

وَأَثْبَتَتْ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) الْإِلَهِيَّةَ للهِ وَحْدَهُ، بِمَعْنَى: أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَأْلَهُ غَيْرَهُ، أَيْ: لَا يَقْصِدُهُ بِشَيْءٍ مِنَ التَّأَلُّهِ، وَهُوَ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ الَّذِي يُوجِبُ قَصْدَهُ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ؛ كَالدُّعَاءِ، وَالذَّبْحِ، وَالنَّذْرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَأْلَهُ إِلَّا اللهَ؛ أَيْ: لَا يَعْبُدُ إِلَّا هُوَ، فَمَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)) عَارِفًا لِمَعْنَاهَا، عَامِلًا بِمُقْتَضَاهَا؛ مِنْ نَفْيِ الشِّرْكِ وَإِثْبَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ للهِ، مَعَ الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ ذَلِكَ وَالْعَمَلِ بِهِ.

 فَهَذَا هُوَ الْمُسْلِمُ حَقًّا، فَإِنْ عَمِلِ بِهَا -أي: بـ(لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)-ظَاهِرًا مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ فَهُوَ الْمُنَافِقُ، وَإِنْ عَمِلَ بِخِلَافِهَا مِنَ الشِّرْكِ؛ فَهُوَ الْكَافِرُ وَلَوْ قَالَهَا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُنَافِقِينَ يَعْمَلُونَ بِهَا ظَاهِرًا، وَهُمْ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ؟!!

عَبْدَ اللهِ! عَلَيْكَ أَنْ تُحَقِّقَ تَوْحِيدَكَ؛ فَلَيْسَ عَمَلٌ بِنَافِعِكَ إِذَا لَمْ يَكُنْ تَوْحِيدُكَ مُحَقَّقًا، كَمَا لَوْ أَنَّكَ صَلَّيْتَ بِدُونِ طُهُورٍ؛ فَإِنَّ صَلَاتَكَ لَا تُعَدُّ صَلَاةً فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ، وَكَذَا مَهْمَا أَتَيْتَ بِهِ مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ تَتَزَلَّفُ بِهِ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- مَعَ الشِّرْكِ؛ فَإِنَّهُ حَابِطٌ مَرْدُودٌ عَلَى فَاعِلِهِ.

 ((اجْتَهِدُوا فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَفِي غَيْرِهِ))

عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ الْيَومِ, وَفِي كُلِّ حِينٍ وَحَالٍ, وَلَكِنْ فِي هَذَا الْيَومِ خَاصَّةً؛ لِعَظِيمِ الرَّحَمَاتِ الْمُتَنَزَّلَاتِ بِهِ.

فَهَذَا زَمَانُ عِتْقٍ مِنَ النَّارِ:

 فَلْيُعَرِّضِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ لِرَحْمَةِ رَبِّهِ؛ بِالْإِقْلَاعِ عَنْ ذُنُوبِهِ وَمَعَاصِيهِ, وَبِالْإِقَامَةِ عَلَى طَاعَتِهِ وَمَحَابِّهِ.

 وَلْيُقْبِلْ عَلَى قَلْبِهِ؛ فَلْيُنَقِّهِ مِنْ غِشِّهِ, وَلْيُخَلِّصْهُ مِنْ وَضَرِهِ, وَلْيَحْمِلْ عَلَى قَلْبِهِ؛ حَتَّى يَسْتَقِيمَ عَلَى أَمْرِ رَبِّه.

 وَلْيَدْعُ اللهَ جَاهِدًا أَنْ يَهْدِيَ قَلْبَهُ, وَأَنْ يَشْرَحَ صَدْرَهُ, وَأَنْ يُصْلِحَ بَالَهُ, وَأَنْ يُدْرِكَ أَمَّةَ مُحَمَّدٍ ﷺ بِرَحْمَةٍ شَامِلَةٍ؛ تَرْفَعُ عَنهَا الْكَرْبَ, وَتَكْشِفُ عَنْهَا الْهَمَّ وَالْغَمَّ.

فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي هَذَا الْيَوْمِ الْعَظِيمِ فِي الْأَخْذِ بِمَا قَالَهُ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ وَرَغَّبَ فِيهِ؛ وَهُوَ الصِّيَامُ.

 ثُمَّ يَجْتَهِدُ فِي الدُّعَاءِ خَاصَّةً عَشِيَّةَ يَوْمِ عَرَفَةَ؛ لِيُصَادِفَ وَقْتَ النُّزُولِ الْإِلَهِيِّ مُتَعَرِّضًا لِرَحَمَاتِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-, عَسَى أَنْ يَرْحَمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. 

 

المصدر : فضل يوم عرفة، والدروس المستفادة من خطبة حجة الوداع

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  سُبُلُ مُوَاجَهَةِ الإِدْمَانِ
  مُحَمَّدٌ ﷺ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، وَدِينُهُ دِينُ الرَّحْمَةِ
  صَلَاحُ الْمُجْتَمَعِ يَبْدَأُ بِصَلَاحِ الْفَرْدِ وَالْأُسْرَةِ
  مَوْتُ الْمُسْلِمِ دِفَاعًا عَنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْخِتَامِ
  خُطُورَةُ الشَّائِعَاتِ عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ
  سِمَاتُ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ فِي ضَوْءِ الشَّرْعِ
  هَذِهِ هِيَ الْمُؤَامَرَةُ عَلَى مِصْرَ الْآنَ
  انْتِصَارُ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ فِي السَّادِسِ مِنْ أُكْتُوبَر
  ضَوَابِطُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الْمَشْرُوعِ وَالْعَمَلُ الْجَمَاعِيُّ التَّنْظِيمِيُّ الْمُبْتَدَعُ
  بِدَعٌ وَضَلَالَاتٌ مُخْتَرَعَةٌ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ
  وِقَايَةُ الْأَبْنَاءِ مِنْ مَكْرِ أَصْحَابِ الْأَحْزَابِ وَالْجَمَاعَاتِ
  الْوَعْيُ بِأَخْطَرِ عَدُوٍّ لِلْإِنْسَانِ
  تَحْرِيمُ الْإِسْلَامِ للتَّفْجِيرُ وَالتَّدْمِيرُ، وَالقَتْلُ وَالتَّخْرِيب
  التَّضْحِيَةُ بِالرُّوحِ دِفَاعًا عَنِ الْوَطَنِ
  فَضْلُ مِصْرَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَأَعْلَامُهَا
  • شارك