الْهِجْرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ أَوَّلُ هِجْرَةٍ فِي الْإِسْلَامِ


((الْهِجْرَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ أَوَّلُ هِجْرَةٍ فِي الْإِسْلَامِ))

«فَلَمَّا اشْتَدَّ أَذَى الْمُشْرِكِينَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ، وَفُتِنَ مِنْهُمْ مَنْ فُتِنَ حَتَّى قِيلَ لِأَحَدِهِمْ -أَيْ: لِبَعْضِ الَّذِينَ أَسْلَمُوا وُجُوهَهُمْ وَقُلُوبَهُمْ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-: اللَّاتُ وَالْعُزَّى إِلَهُكَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ.

وَحَتَّى إِنَّ الْجُعَلَ -وَهُوَ دَابَّةٌ سَوْدَاءُ كَالْخُنْفُسَاءِ مِنْ دَوَّابِّ الْأَرْضِ، قِيلَ هُوَ أَبُو جِعْرَانَ- لَيَمُرُّ بِهِمْ، فَيَقُولُونَ لِمَنْ أَسْلَمَ: وَهَذَا إِلَهُكَ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟!! فَيَقُولُ: نَعَمْ .

وَمَرَّ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلٍ بِسُمَيَّةَ أُمِّ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَهِيَ تُعَذَّبُ، وَكَذَلِكَ يُعَذَّبُ زَوْجُهَا وَابْنُهَا، فَطَعَنَهَا بِحَرْبَةٍ فِي فَرْجِهَا حَتَّى قَتَلَهَا!! .

فَلَمَّا اشْتَدَّ الْبَلَاءُ؛ أَذِنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لَهُمْ بِالْهِجْرَةِ الْأُولَى إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ رُقَيَّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللهِ ﷺ .

وَكَانَ أَهْلُ هَذِهِ الْهِجْرَةِ الْأُولَى اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا وَأَرْبَعَ نِسْوَةٍ.

ثُمَّ كَانَتِ الْهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ إِلَى الْحَبَشَةِ، وَفِيهَا نَحْوُ ثَمَانِينَ رَجُلًا وَبِضْعَ عَشْرَةَ امْرَأَةً، فَانْحَازَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى مَمْلَكَةِ أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ آمِنِينَ.

فَلَمَّا عَلِمَتْ قُرَيْشٌ بِذَلِكَ بَعَثَتْ فِي أَثَرِهِمْ عَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بِهَدَايَا وَتُحَفٍ مِنْ بَلَدِهِمْ إِلَى النَّجَاشِيِّ؛ لِيَرُدَّهُمْ عَلَيْهِمْ، فَأَبَى ذَلِكَ النَّجَاشِيُّ عَلَيْهِمْ، فَوَشَوْا إِلَيْهِ أَنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ فِي عِيسَى: إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ.

فَاسْتَدْعَى الْمُهَاجِرِينَ إِلَى مَجْلِسِهِ، وَمُقَدَّمُهُمْ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى؟

فَتَلَا عَلَيْهِ جَعْفَرٌ صَدْرًا مِنْ سُورَةِ {كهيعص}، فَأَخَذَ النَّجَاشِيُّ عُودًا مِنَ الْأَرْضِ، فَقَالَ: مَا زَادَ عِيسَى عَلَى هَذَا وَلَا هَذَا الْعُودَ . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ.

فَسَلَفُنَا مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا ﷺ السَّابِقِينَ أُوذُوا فِي اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِيذَاءً عَظِيمًا، عُذِّبُوا وَطُورِدُوا، وَخَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَدُورِهِمْ وَمُمْتَلَكَاتِهِمْ مُهَاجِرِينَ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَلَمْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْبِحَارِ، وَإِنَّمَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الصَّحَرَاءِ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ رَكِبُوا الْبَحْرَ عَلَى مَتْنِهِ، وَشَقُّوا عُبَابَهُ إِلَى الضَّفَّةِ الْأُخْرَى إِلَى الْحَبَشَةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَفِرُّوا بِدِينِهِمْ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَعْبُدُوا رَبَّهُمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَعِيدًا عَنْ إِيذَاءِ قُرَيْشٍ لَهُمْ.

لَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَنْتَشِرُ، أَجْمَعُوا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَلَّا يُبَايِعُوهُمْ، وَلَا يُنَاكِحُوهُمْ، وَلَا يُكَلِّمُوهُمْ، وَلَا يُجَالِسُوهُمْ حَتَّى يُسَلِّمُوا إِلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ.

وَكَتَبُوا بِذَلِكَ صَحِيفَةً وَعَلَّقُوهَا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، فَانْحَازَ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ إِلَى الشِّعْبِ إِلَّا أَبَا لَهَبٍ، فَإِنَّهُ ظَاهَرَ قُرَيْشًا.

وَحُبِسَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَمَنْ مَعَهُ فِي شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ نَحْوَ ثَلَاثِ سِنِينَ .

وَعَانَوْا مِنَ الْجُوعِ عَنَاءً شَدِيدًا حَتَّى أَكَلُوا أَوْرَاقَ الْأَشْجَارِ، ثُمَّ ثَنَّوْا بِلِحَاءِ الْأَشْجَارِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا وَقَعَ مِنَ الْمَجَاعَةِ الْعَظِيمَةِ، وَظَلُّوا مَحْصُورِينَ فِي الشِّعْبِ، مُقَاطَعِينَ مِنْ قُرَيْشٍ ثَلَاثَ سِنِينَ.

وَلَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ، ثُمَّ مَاتَتْ خَدِيجَةُ، وَبَيْنَهُمَا يَسِيرٌ، اشْتَدَّ الْبَلَاءُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِنْ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الطَّائِفِ -إِلَى ثَقِيفٍ-؛ رَجَاءَ أَنْ يُؤْوُوهُ وَيَنْصُرُوهُ، وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَلَمْ يَنْصُرُوهُ بَلْ آذَوْهُ، وَكَانَ مَعَهُ مَوْلَاهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَأَقَامَ بَيْنَهُمْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ لَا يَدَعُ أَحَدًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ إِلَّا جَاءَهُ وَكَلَّمَهُ.

فَقَالُوا: اخْرُجْ مِنْ بَلَدِنَا، وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ، فَجَعَلُوا يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى دَمِيَتْ قَدَمَاهُ، فَانْصَرَفَ رَاجِعًا مِنَ الطَّائِفِ إِلَى مَكَّةَ مَحْزُونًا، وَدَخَلَهَا فِي جِوَارِ الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيٍّ، وَكَانَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكًا .

وَهَذَا إِيذَاءٌ عَظِيمٌ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ!!

وَأَرْسَلَ رَبُّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَيْهِ مَلَكَ الْجِبَالِ يَسْتَأْمِرُهُ أَنْ يُطْبِقَ الْأَخْشَبَيْنِ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَالْأَخْشَبَانِ جَبَلَاهَا اللَّذَانِ هِيَ بَيْنَهُمَا، قَالَ: ((لَا، بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ يُخْرِجُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا))  » . كما في ((الصحيحين))، فَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، مَا أَحْلَمَهُ، وَمَا أَشْفَقَهُ، وَمَا أَرْأَفَهُ!

 

المصدر:الْمَفَاهِيمُ الصَّحِيحَةُ لِلْهِجْرَةِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  الْجَمْعُ بَيْنَ أَحَادِيثِ الصَّوْمِ، وَعَدَمِهِ في الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
  تُوبُوا وَأَنِيبُوا وَأَسْلِمُوا إِلَى رَبِّكُمْ!
  فَضَائِلُ صِلَةِ الرَّحِمِ
  تَفَاعُلُ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ الْقُرْآنِ الكريم
  أَعْظَمُ الْبِرِّ: طَاعَةُ اللهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ ﷺ
  مِنْ آدَابِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمَةِ: إِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ، وَإِعَانَةُ الضُّعَفَاءِ وَذَوِي الِاحْتِيَاجَاتِ الْخَاصَّةِ
  الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَالْمِنْحَةُ بَعْدَ الْمِحْنَةِ
  المَوْعِظَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ ((رَمَضَانُ شَهْرُ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ))
  مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ فِي رَمَضَانَ: تَحْقِيقُ التَّوْحِيدِ
  عِيدُكُمْ السَّعِيدُ بِالتَّطَهُّرِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْبِدَعِ وَالْمَعَاصِي
  الْأَثَرُ الْمُدَمِّرُ لِأَكْلِ الْحَرَامِ في الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  خَصَائِصُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ
  مَتَى فُرِضَتِ الزَّكَاةُ؟
  رِسَالَةٌ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ: اتَّقُوا اللهَ فِي مِصْرَ
  صُوَرٌ مِنْ سُوءِ وَحُسْنِ الْخَاتِمَةِ
  • شارك