حَقُّ الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ تَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَذُلُّ الْعَاقِّ لِوَالِدَيْهِ


((حَقُّ الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ تَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-

وَذُلُّ الْعَاقِّ لِوَالِدَيْهِ))

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23].

{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].

فَمَا يَأْتِي أَمْرٌ بِالتَّوْحِيدِ إِلَّا وَيَعْقُبُهُ أَمْرٌ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَبَوَيْنِ، وَمَا يَأْتِي أَمْرٌ بِعَدَمِ الشِّرْكِ وَبِالتَّنَصُّلِ مِنْهُ إِلَّا وَيَعْقُبُهُ أَمْرٌ بِالتَّنَصُّلِ مِنَ الْعُقُوقِ وَبِالْبُعْدِ عَنْهُ، لِمَ؟!!

لِأَنَّ الْأَبَوَيْنِ هُمَا السَّبَبُ الظَّاهِرُ لِوُجُودِكَ، فَإِذَا جَحَدْتَ السَّبَبَ الظَّاهِرَ الَّذِي تَعْلَمُهُ لِوُجُودِكَ كُنْتَ لِلسَّبَبِ الَّذِي لَمْ تَرَهُ عَيْنُكَ أَشَدَّ جَحْدًا وَأَعْظَمَ نُكْرًا!!

إِذَا كُنْتَ تَجْحَدُ مَنْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سَبَبًا فِي وُجُودِكَ أَبًا وَأُمًّا وَهُمَا ظَاهِرَانِ تَحْتَ عَيْنَيْكَ وَأَنْتَ تَرَاهُمَا حَقِيقَةً تَرُوحُ وَتَجِيءُ بَيْنَ يَدَيْكَ، إِذَا كُنْتَ لِلسَّبَبِ الظَّاهِرِ فِي وُجُودِكَ جَاحِدًا فَأَنْتَ لِلسَّبَبِ الَّذِي لَمْ تَرَهُ -وَهُوَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- غَيْبٌ لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ- أَنْتَ لِلسَّبَبِ الَّذِي لَمْ تَرَهُ تَكُونُ عِنْدَئِذٍ أَشَدَّ جَحْدًا وَأَعَظْمَ نُكْرًا.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا بِرَّ وَالِدِينَا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ فِيمَا تُحِبُّ، بَلْ إِنَّ الْبِرَّ كُلَّ الْبِرِّ فِيمَا تَكْرَهُ، وَأَنْ تَحْمِلَ النَّفْسَ عَلَى مَا تَكْرَهُ، وَأَلَّا تُقَدِّمَ عَلَى الْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْحَدَبِ عَلَيْهِمَا، أَلَّا تُقَدِّمَ عَلَى ذَلِكَ امْرَأَةً وَلَا وَلَدًا، وَلَا مَالًا وَلَا ضِيَاعًا وَلَا عَمَلًا؛ فَكُلُّ ذَلِكَ لَا قِيمَةَ، تَحْتَ مَوَاطِئِ الْأَقْدَامِ إِنْ تَعَارَضَ مَعَ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ، كُلُّ ذَلِكَ لَا قِيمَةَ لَهُ إِنْ تَعَارَضَ مَعَ الْأَصْلِ الْكَبِيرِ الْأَعْظَمِ.

لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ؛ لَا زَوْجَةٌ وَلَا وَلَدٌ وَلَا شَيْءٌ يُمْلَكُ مِنْ مَالٍ وَلَا ضِيَاعٍ وَلَا رِيَاشٍ، لَا يُقَدَّمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى بِرِّهِمَا وَمَحَبَّتِهِمَا وَإِنْ كَانَا مَا كَانَا، فَمَا يَأْتِي مِنَ الْقَذَرِ مِنْهُمَا فِي حَالِ كِبَرِهِمَا وَضَعْفِ تَمْيِيزِهِمَا قَدْ جَاءَ مِنْكَ فِي حَالِ حَدَاثَتِكَ مَعَ شَبَابِهِمَا أَضْعَافَ أَضْعَافِ أَضْعَافِهِ.

لَا يَأْنَفَانِ أَنْ يُمِيطَا عَنْكَ ذَلِكُمُ الْأَذَى وُهُمَا يَأْكُلَانِ بِيُمْنَاهُمَا وَيُمِيطَا عَنْكَ الْأَذَى -رُبَّمَا- بِأَيْسَارِهِمَا، وَتَزْكُمُ الْأُنُوفَ مَا تَزْكُمُهَا مِنْ تِلْكَ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ مِمَّا يَتَأَتَّى مِنَ الْأَبْنَاءِ صِغَارًا، لَا يَتَقَزَّزَانِ وَلَا يَتَفَزَّزَانِ وَلَا يَتَأَزَّمَانِ وَلَا يَتَلَاوَمَانِ وَلَا شَيْءَ، بَلْ إِنَّمَا هُوَ الضَّحِكُ الْعَابِسُ وَالْعُبُوسُ، لَا بَلِ هُوَ الْعُبُوسُ الضَّاحِكُ وَالضَّحِكُ الْعَابِسُ وَشَيْءٌ يَمُرُّ كَسَحَابَةِ الصَّيْفِ، ثُمَّ إِقْبَالٌ بِمَحَبَّةٍ وَوُدٍّ بِتَقْبِيلٍ، يَا اللهُ! مَا أَجْمَلَ الْأُبُوَّةَ! وَيَا اللهُ مَا أَحْلَى الْأُمُومَةَ!

وَيِا لَحَسْرَةِ الَّذِي انْقَضَتْ عَنْهُ وَمَضَتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفِيءَ إِلَى ظِلَالِهَا كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: «رَغِمَ أَنْفُهُ، رَغِمَ أَنْفُهُ، رَغِمَ أَنْفُهُ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ؟

قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ -أَوْ أَحَدَهُمَا- فَدَخَلَ النَّارَ». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».

قَالَ ﷺ «رَغِمَ أَنْفُهُ»: «رَغِمَ» أَصْلُهُ: لَصِقَ أَنْفُهُ بِالرَّغَامِ: وَهُوَ تُرَابٌ مُخْتَلِطٌ بَرَمْلٍ، ومَعْنَاهُ: ذَلَّ وَخَزِيَ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ غَايَةِ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ إِذَا اسْتَعَزَّ شَمَخَ بِأَنْفِهِ، فَإِذَا جُعِلَ أَنْفُهُ بِالرَّغَامِ مُلْتَصِقًا، فَهَذِهِ نِهَايَةُ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ.

سَأَلَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- رَسُولَ اللهِ ﷺ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَنْ ذَكَرَ؛ كَيْ لَا يَتَّصِفُوا بِصِفَاتِهِ، وَحَتَّى لَا يَفْعَلُوا فِعْلَهُ، وَلِكَيْ لَا يَتَوَرَّطُوا فِيمَا تَوَرَّطَ فِيهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ؟ وَهَذَا مِنْ حِرْصِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-عَلَى الْخَيْرِ وَاتِّبَاعِ الْهُدَى وَالسَّدَادِ.

قَالَ ﷺ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبْرِ -أَوْ أَحَدَهُمَا- فَدَخَلَ النَّارَ»: فِي رِوَايَةٍ: «عِنْدَهُ الْكِبَرُ» مَرْفُوعٌ؛ لِأَنَّهُ فَاعِلُ الظَّرْفِ، وَخُصَّ بِهِ لِأَنَّهُ أَحْوَجُ الْأَوْقَاتِ إِلَى حُقُوقِهِمَا؛ لِأَنَّ الْأَبَوَيْنِ إِذَا عَلَتْ بِهِمُ السُّنُونَ فَإِنَّهُمَا يَحْتَاجَانِ إِلَى الْبِرِّ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِمَا إِلَى الْبِرِّ فِي حَالِ صِحَّتِهِمَا وَشَبَابِهِمَا.

«مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبْرِ -أَوْ أَحَدَهُمَا- فَدَخَلَ النَّارَ»: فَدَعَا عَلَيْهِ ﷺ بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ، فَيُصِيبُهُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: التَّحْذِيرُ مِنْ عُقُوقِهِمَا، وَبَيَانُ عِظَمِ عِقَابِ الْعُقُوقِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ عِنْدَ كِبَرِهِمَا وَضَعْفِهِمَا بِالْخِدْمَةِ أَوِ النَّفَقَةِ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَصَّرَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ، وَأَرْغَمَ اللهُ -تَعَالَى- أَنْفَهُ وَأَذَلَّهُ وَصَغَّرَهُ.

إِنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، أَنَّ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ -أَوْ أَحَدِهِمَا- مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ النَّارِ.

فَمَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ -أَوْ أَحَدَهُمَا- عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ فَلْيَبْذُلْ جُهْدَهُ فِي بِرِّهِمَا؛ فِي بِرِّ الْوَالِدَةِ وَبِرِّ الْوَالِدِ، بِقَدْرِ مَا يَسْتَطِيعُ، بِلِينِ الْكَلَامِ، وَالتَّعْلِيمِ، وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَالْإِنْفَاقِ، وَالْمُوَاسَاةِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ بَيَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِلْبَارِّ بِوَالِدَيْهِ.

وَكَمَا أَسْلَفْتُ الْعَكْسُ بِالْعَكْسِ؛ فَإِنَّ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ بِالْخُرُوجِ عَنْ طَاعَتِهِمَا وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِمَا، هَذَا مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ -وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ-، فَإِذَا دَخَلَ النَّارَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ، فَهُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ، بِمَا اقْتَرَفَهُ مِنَ الْعُقُوقِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ.

فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ)) ؛ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ.

النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِيهِ هَذَا الْأَمْرُ مِنْ عِنْدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: ((اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ))؛ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ؛ فَإِنْ قَدَّمْتَ حُسْنًا فَالْحُسْنَى هُنَالِكَ، وَإِنْ قَدَّمْتَ السُّوءَ فَالسُّوأَى هُنَالِكَ، وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَكَمَا زَرَعْتَ تَحْصُدُ.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا بِرَّ وَالِدِينَا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

المصدر:التَّرْهِيبُ مِنَ الْعُقُوقِ وَعَوَاقِبِهِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  سُبُلُ صَلَاحِ الْقَلْبِ وَثَمَرَتُهُ
  التَّوْحِيدُ أَكْبَرُ عَوَامِلِ الْقُوَّةِ فِي بِنَاءِ الدُّوَلِ وَعِزَّتِهَا وَنَصْرِهَا
  أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ: سَلَامَةُ الصُّدُورِ وَبَذْلُ النَّفْسِ لِلْمُسْلِمِينَ
  الْآمَالُ فِي الْمِنَحِ وَالْعَطَايَا وَسَطُ الْمِحَنِ وَالْبَلَايَا
  جُمْلَةٌ مِنْ سُنَنِ الْعِيدِ
  الِاسْتِسْلَامُ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- شَاخِصًا فِي قِصَّةِ الْخَلِيلِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-
  اتَّقُوا اللهَ فِي صَخْرَتَيِ الْإسْلَامِ -مِصْرَ وَبِلَادِ الْحَرَمَيْنِ-
  المَوْعِظَةُ الحَادِيَةَ عَشْرَةَ : ((رَمَضَانُ شَهْرُ الْأَحْدَاثِ وَالِانْتِصَارَاتِ الْعَظِيمَةِ))
  تَعْظِيمُ الْمَسَاجِدِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  رِحْلَةُ الْعَوْدَةِ تَبْدَأُ بِالتَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ
  فَضْلُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَالنَّهْيُ عَنِ الظُّلْمِ فِيهَا خَاصَّةً
  ذِكْرُ اللهِ حَيَاةٌ..
  التَّرْهِيبُ مِنَ الْخِيَانَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ: الْحِفَاظُ عَلَى مَرَافِقِ الْوَطَنِ الْعَامَّةِ
  سَبِيلُ نَجَاتِكَ إِمْسَاكُ لِسَانِكَ إِلَّا عَنْ خَيْرٍ!
  • شارك