الِابْتِلَاءُ بِالْخَيْرِ وَالشَّ


 ((الِابْتِلَاءُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ))

هَذِهِ الْحَيَاةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَاعِدَةٍ مَتِينَةٍ هِيَ الْمِحْنَةُ وَالِابْتِلَاءُ، وَلَيْسَتْ مَبْنِيَّةً عَلَى السُّرُورِ وَالرَّخَاءِ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- خَلَقَ الْخَلْقَ لِيَبْتَلِيَهُمْ وَيَمْتَحِنَهُمْ لِيَرَى صَبْرَهُمْ.

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ وَجَعَلَهُ فِي مِحْنَةٍ، يَفْقِدُ الْمَالَ وَالْأَهْلَ وَالْوَلَدَ، وَتَذْهَبُ عَنْهُ صِحَّتُهُ حِينًا وَتُرَدُّ إِلَيْهِ حِينًا، وَهُوَ فِي حَالَةٍ مِنَ الصِّحَّةِ أَوِ الْمَرَضِ مُبْتَلًى بِهِمَا مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَبْتَلِي فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ فِتْنَةً، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.

هَذَا الْأَمْرُ الْكَبِيرُ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْخَلْقَ، فَإِنَّ اللهَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مُمْتَحَنًا، يَبْلُوهُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ، يُكَلِّفُهُ بِـ (افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ)، وَيَأْتِي الشَّيْطَانُ وَالْهَوَى وَالنَّفْسُ وَقُرَنَاءُ السُّوءِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُزَيِّنُوا لَهُ الْبَاطِلَ، وَأَنْ يُبَغِّضُوهُ فِي الْحَقِّ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَنْصَرِفَ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

فَهَذَا الْأَمْرُ مَدَارُ حَرَكَةِ الْإِنْسَانِ فِي هَذَا الْكَوْنِ، مَا دَامَ عَقْلُهُ مَعَهُ فَإِنَّهُ مُبْتَلًى عَلَى كُلِّ حَالٍ يَكُونُ؛ إِمَّا بِخَيْرٍ وَإِمَّا بِشَرٍّ، إِمَّا بِنِعْمَةٍ وَإِمَّا بِنِقْمَةٍ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَخْرِجَ اللهُ -تَعَالَى- مَكْنُونَ صَدْرِهِ.

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الانبياء: 35].

كُلُّ نَفْسٍ مَخْلُوقَةٍ ذَائِقَةٌ طَعْمَ الْمَوْتِ بِالْفَصْلِ الْكُلِّيِّ بَيْنَ الرُّوحِ الْمُمِدَّةِ بِالْحَيَاةِ وَبَيْنَ النَّفْسِ الَّتِي تَجْتَمِعُ فِيهَا خَصَائِصُ الْكَائِنِ الْقَابِلِ لِلْحَيَاةِ.

وَنَخْتَبِرُكُمْ بِالْمَصَائِبِ وَالْمُؤْلِمَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالنِّعَمِ وَالْأُمُورِ السَّارَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ لِنَمْتَحِنَ إِرَادَاتِكُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَمَنِ اجْتَازَ الِابْتِلَاءَ بِنَجَاحٍ كَانَتِ الْمَصَائِبُ وَالْمُؤْلِمَاتُ الدُّنْيَوِيَّةُ سَبَبَ خَيْرٍ كَبِيرٍ لَهُ فِي الْآخِرَةِ.

وَمَنْ تَجَاوَزَ حُدُودَ اللهِ وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا لَمْ تَنْفَعْهُ النِّعَمُ وَالْخَيْرَاتُ الْكَثِيرَاتُ الَّتِي تَمَتَّعَ بِهَا فِي دُنْيَاهُ، بَلْ تَكُونُ عَلَيْهِ وَبَالًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَإِلَيْنَا وَحْدَنَا تُرْجَعُونَ لِلْحِسَابِ، وَفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ.

 ((إِنَّ الِابْتِلَاءَ قَدْ يَكُونُ فِي مَجَالِ الْأَنْفُسِ؛ فَيَبْتَلِي اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ بِالصِّحَّةِ أَوْ بِالسَّقَمِ، بِالْقُوَّةِ أَوْ بِالضَّعْفِ، بِالسَّعَادَةِ أَوْ بِالشَّقَاوَةِ.

وَيَبْتَلِيهِ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْأَمْوَالِ؛ مِنْ نَحْوِ الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَالْعَوَزِ وَالرَّفَاهِيَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يُجْرِيهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى خَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ)) .

قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27].

وَلَوْ وَسَّعَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَطَغَوْا وَظَلَمُوا وَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنْ يُنَزِّلُ مَا يَشَاءُ إِنْزَالَهُ مِنْ رِزْقٍ لِعِبَادِهِ بِمِقْدَارٍ مُحَدَّدٍ مَعْلُومٍ وَفْقَ حِكْمَتِهِ.

إِنَّهُ -تَعَالَى- عَلِيمٌ عِلْمًا كَامِلًا بِأَحْوَالِ عِبَادِهِ وَطَبَائِعِهِمْ وَبِعَوَاقِبِ أُمُورِهِمْ، وَبَصِيرٌ بِكُلِّ شَيْءٍ فِي كَوْنِهِ، فَيُقَدِّرُ أَرْزَاقَهُمْ بِالْمَقَادِيرِ الَّتِي تَقْتَضِيهَا مَشِيئَتُهُ الْحَكِيمَةُ عَلَى وَفْقِ مَصَالِحِهِمْ.

فَالِابْتِلَاءُ فِي الْمَالِ يَكُونُ بِالسَّعَةِ فِيهِ أَوْ ضِيقِ ذَاتِ الْيَدِ فِيهِ؛ فَالْأَوَّلُ يُبْتَلَى لِيُنَظَرَ هَلْ يَشْكُرُ وَيُؤَدِّي حَقَّ اللهِ فِي الْمَالِ أَوْ لَا، فَيَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: {هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ۖ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ ۚ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38].

هَا أَنْتُمْ يَا هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي جَمِيعِ وُجُوهِ الْبِرِّ؛ فَمِنْكُمُ الَّذِي يَبْخَلُ بِمَا فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ إِخْرَاجَهُ مِنَ الزَّكَاةِ، أَوْ نَدَبَ إِلَى إِنْفَاقِهِ مِنْ وُجُوهِ الْبِرِّ.

وَمَنْ يَبْخَلْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ مُمْسِكًا الْخَيْرَ عَنْ نَفْسِهِ، وَاللهُ -تَعَالَى- الْغَنِيُّ عَنْ صَدَقَاتِكُمْ وَطَاعَاتِكُمْ، وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ الْمُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ.

وَالْآخَرُ يُبْتَلَى بِقِلَّةِ الْمَالِ وَتَقْلِيلِ الرِّزْقِ؛ لِاخْتِبَارِ صَبْرِهِ وَصَلَابَةِ إِيمَانِهِ، أَوْ جَزَعِهِ وَسَخَطِهِ وَضَعْفِ إِيمَانِهِ، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى: 12].

للهِ -سُبْحَانَهُ- جَمِيعُ خَزَائِنِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَجَمِيعُ مَفَاتِيحِ هَذِهِ الْخَزَائِنِ، يُوَسِّعُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَيُضَيِّقُ وَيُقَلِّلُ الرِّزْقَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِحَسَبِ حِكْمَتِهِ؛ لِعِلْمِهِ بِمَا فِي نُفُوسِهِمْ وَمَا هُوَ الْأَحْكَمُ وَالْأَصْلَحُ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ، إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.

وَالِابْتِلَاءُ يَكُونُ بِالْهِبَةِ بِالْأَوْلَادِ، وَيَكُونُ بِالْحِرْمَانِ مِنْهُمْ؛ فَمِنَ الْخَلْقِ مَنْ يَهَبُ لَهُ إِنَاثًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَهَبُ لَهُ ذُكُورًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُزَوِّجُهُ -أَيْ: يَجْمَعُ لَهُ ذُكُورًا وَإِنَاثًا-، وَمِنْهُمْ مَنْ يَجْعَلُهُ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ؛ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49].

مِنْ خَلْقِ اللهِ خَلْقُ الذُّرِّيَّاتِ الْإِنْسَانِيَّةِ ضِمْنَ نِظَامِ التَّنَاسُلِ.

يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا فَلَا يُولَدُ لَهُ ذَكَرٌ، وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ فَلَا يُولَدُ لَهُ أُنْثَى، أَوْ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، فَيُولَدُ لَهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا لَا يُولَدُ لَهُ.

 ((وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ الِابْتِلَاءَ التَّكْلِيفِيَّ بِـ (افْعَلْ وَلَا تَفْعَلْ)؛ فَكَلَّفَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْإِنْسَانَ عَلَى الْمُسْتَوَى الْعَامِّ، وَكَلَّفَ جِنْسَ الْإِنْسَانِ بِتَكَالِيفَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ تَعَرَّضَ لِحَمْلِ الْأَمَانَةِ، فَمَهْمَا أَتَى مِنْهُ مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى مُسْتَوَى الْحَمْلِ لِلْأَمَانَةِ الَّذِي قَدِ ارْتَضَاهُ سَابِقًا» .

إِنَّ التَّشْرِيعَ مَبْنِيٌّ فِي جُمْلَتِهِ عَلَى الِابْتِلَاءِ وَالْمِحْنَةِ، وَالْحَيَاةُ الِابْتِلَاءُ وَالِابْتِلَاءُ الْحَيَاةُ، وَالْإِنْسَانُ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ مَا دَامَ حَيًّا.. فَمَا دَامَ الْمَرْءُ حَيًّا فَهُوَ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ؛ إِمَّا بِالْإِيجَابِ وَإِمَّا بِالسَّلْبِ، إِمَّا بِالْعَطَاءِ وَإِمَّا بِالْمَنْعِ، إِمَّا بِالرَّفْعِ وَإِمَّا بِالْخَفْضِ، إِمَّا بِالْغِنَى وَإِمَّا بِالْفَقْرِ، إِمَّا بِالسَّعَادَةِ وَإِمَّا بِالشَّقَاوَةِ، هُوَ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ دَائِمًا وَأَبَدًا.

 

المصدر:الِابْتِلَاءُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  حُكْمُ مَانِعِ الزَّكَاةِ
  الصَّائِمُونَ الْمُفْلِسُونَ
  الْحَثُّ عَلَى التَّحَابِّ وَالِائْتِلَافِ وَنَبْذُ التَّبَاغُضِ وَالِاخْتِلَافِ
  مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْهِجْرَةِ: هَجْرُ الْبِدَعِ إِلَى السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ
  مَبْنَى الْحَيَاةِ عَلَى الِابْتِلَاءِ
  احْتِرَامُ دِمَاءِ النَّاسِ مِنْ أُصُولِ شَرِيعَةِ الإِسْلَامِ
  تَرْبِيَةُ الطِّفْلِ عَلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ الصَّدِيقِ
  الْعِيدُ وَاجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ وَنَبْذُ الْخِلَافَاتِ
  مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ قَبْلَ الْعَمَلِ وَبَعْدَ الْعَمَلِ
  الدرس الثامن والعشرون : «الاسْتِغْفَــــارُ وَالتَّوْبَةُ»
  جُمْلَةٌ مِنْ سُنَنِ الْعِيدِ
  التَّحْذِيرُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  رِسَالَةٌ إِلَى الْمُنَادِينَ بِالْخُرُوجِ وَإِحْدَاثِ الْفَوْضَى
  الِاجْتِهَادُ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي الْعَشْرِ
  المَوْعِظَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ : ((رَمَضَانُ شَهْرُ الْجَوَدِ وَالْكَرَمِ وَالْعَطَاءِ))
  • شارك