إِقَامَةُ الدُّنْيَا وَتَعْمِيرُهَا بِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ


 

((إِقَامَةُ الدُّنْيَا وَتَعْمِيرُهَا بِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ))

عِبَادَ اللهِ! بِالدِّينِ يَتِمُّ النَّشَاطُ الْحَيَوِيُّ، يَسْتَمِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْآخَرِ مَادَّةَ الدِّينِ وَمَادَّةَ الْحَيَاةِ، لَا كَمَا يَزْعُمُهُ الْمُنْكِرُونَ وَالْمَغْرُورُونَ, وَالْجَاحِدُونَ الْمَأْجُورُونَ أَنَّ الدِّينَ مُخَدِّرٌ مُؤَخِّرٌ لِمَوَادِّ الْحَيَاةِ، وَلَقَدْ -وَاللهِ- كَذَبُوا أَشْنَعَ الْكَذِبِ وَأَوْقَحَهُ، فَأَيُّ مَادَّةٍ مِنْ مَوَادِّ الْحَيَاةِ أَخَّرَهَا أَوْ وَقَفَهَا؟

أَوَلَمْ يَبْلُغْ فِيهَا نِهَايَةَ مَا يُدْرِكُهُ الْبَشَرُ؟

فَلْيَأْتُوا بِمِثَالٍ وَاحِدٍ مِنَ الدِّينِ لَا بِالتَّمْثِيلِ بِأَحْوَالِ مَنْ يَنْتَسِبُ لِلدِّينِ وَهُوَ مِنْهُ خَلِيٌّ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ.

فَكَمَا أَنَّ مُحَمَّدًا ﷺ بُعِثَ إِلَى الْخَلْقِ كُلِّهِمْ؛ إِنْسِهِمْ وَجِنِّهِمْ؛ فَكَذَلِكَ قَدْ تَكَفَّلَ دِينُهُ بِإِصْلَاحِ الْخَلْقِ إِصْلَاحًا رُوحِيًّا وَمَادِّيًّا، وَاسْتَعَانَ بِكُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْآخَرِ، وَبِهِ تَمَّ الْكَمَالُ وَحَصَلَ، فَكَمَا تَوَلَّى تَهْذِيبَ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ؛ فَقَدْ تَوَلَّى تَهْذِيبَ الْحَيَاةِ, وَضَمِنَ لِمَنْ قَامَ بِهِ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ, لَا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ, أَوْ وُجُوهٍ مَحْصُورَةٍ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ حِكْمَةِ اللهِ، وَمِنْ شُمُولِ رَحْمَةِ اللهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الرَّحِيمُ.

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى هَذَا؛ أَنَّ اللهَ قَدْ يَجْمَعُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْ كِتَابِهِ بَيْنَ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ وَبَيْنَ أُمُورِ الْمَعَاشِ وَالنُّظُمِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ؛ كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 45-46].. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ آيَاتٍ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].

وَقَالَ -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 9-10].

أَلَا تَرَى كَيْفَ جَمَعَ بَيْنَ الْأَمْرِ بِذِكْرِ اللهِ وَبِالصَّبْرِ وَالثَّبَاتِ، وَبِالْقُوَّةِ الْمَعْنَوِيَّةِ بِالِاجْتِمَاعِ وَعَدَمِ التَّنَازُعِ, وَبِالْقُوَّةِ الْمَادِّيَّةِ بِقَوْلِهِ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ

فَإِنَّهُ يَشْمَلُ الْأَمْرَيْنِ؛ كَمَا أَمَرَ فِي آيَةِ الْجُمُعَةِ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ فِي وُجُوبِ السَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ، ثُمَّ بَعْدَهَا بِالِانْتِشَارِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ.

وَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 172]، وَقَالَ -تَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا } [المؤمنون: 51])). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ, وَشَرَائِعُ الدِّينِ وَمُعَامَلَاتُهُ التَّفْصِيلِيَّةُ شَاهِدَةٌ بِذَلِكَ، وَهِيَ أَحْسَنُ الشَّرَائِعِ, وَأَحْسَنُ الْأَحْكَامِ وَالْمُعَامَلَاتِ الَّتِي بِهَا تَسْتَقِيمُ الْأَحْوَالُ وَتَزْكُو الْخِصَالُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْعِبَادَاتِ لَيْسَ مُجَرَّدَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ؛ بَلْ جَمِيعُ الْأَعْمَالِ الَّتِي يُتَوَسَّلُ بِهَا إِلَى الْقِيَامِ بِوَاجِبَاتِ النَّفْسِ وَالْعَوَائِلِ وَالْمُجْتَمَعِ الْإِنْسَانِيِّ.

كُلُّ عَمَلٍ يَقُومُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَيُعِينُ عَلَيْهِ؛ فَهُوَ عِبَادَةٌ، فَالْكَسْبُ لِلْعِيَالِ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ، وَكَذَلِكَ الِاكْتِسَابُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْقِيَامُ بِالزَّكَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ, وَالنَّفَقَاتِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ كُلُّهُ عِبَادَةٌ.

وَكَذَلِكَ الصِّنَاعَاتُ الَّتِي تُعِينُ عَلَى قِيَامِ الدِّينِ وَرَدْعِ الْمُعْتَدِينَ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ، وَكَذَلِكَ التَّعَلُّمُ لِلسِّيَاسَاتِ الدَّاخِلِيَّةِ وَالْخَارِجِيَّةِ، وَالتَّعَقُّلُ وَالتَّفَكُّرُ فِي كُلِّ أَمْرٍ فِيهِ نَفْعٌ لِلْعِبَادِ؛ كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ.

وَلَمْ يُرَغِّبِ اللهُ فِي أَمْرِ الشُّورَى فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا إِلَّا لِتَحْقِيقِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَقَاصِدِ الْعَالِيَةِ النَّافِعَةِ، وَشَوَاهِدُ هَذِهِ الْجُمَلِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَثِيرَةٌ جِدًّا.

وَاعْلَمْ أَنَّ التَّطَوَرُّاتِ الَّتِي لَا تَزَالُ تَتَجَدَّدُ فِي الْحَيَاةِ وَالْمُجْتَمَعِ؛ قَدْ وَضَعَ لَهَا هَذَا الدِّينُ الْكَامِلُ قَوَاعِدَ وَأُصُولًا يَتَمَكَّنُ الْعَارِفُ بِالدِّينِ وَبِالْوَاقِعِ مِنْ تَطْبِيقِهَا مَهْمَا كَثُرَتْ وَعَظُمَتْ وَتَغَيَّرَتْ بِهَا الْأَحْوَالُ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ هَذَا الدِّينِ, وَمِنَ الْبَرَاهِينِ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِ الْبَارِي -جَلَّ وَعَلَا- بِالْجُزْئِيَّاتِ وَالْكُلِّيَّاتِ, وَشُمُولِ رَحْمَتِهِ, وَتَمَامِ حِكْمَتِهِ.

أَمَّا غَيْرُهُ مِنَ النُّظُمِ وَالْأُسُسِ -وَإِنْ عَظُمَتْ وَاسْتُحْسِنَتْ- فَإِنَّهَا لَا تَبْقَى زَمَنًا طَوِيلًا عَلَى كَثْرَةِ التَّغَيُّرَاتِ، وَاخْتِلَافِ التَّطَوُّرَاتِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ صُنْعِ الْمَخْلُوقِينَ النَّاقِصِينَ فِي عِلْمِهِمْ وَحِكْمَتِهِمْ وَجَمِيعِ صِفَاتِهِمْ، لَا مِنْ صُنْعِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

أَرَأَيْتَ هَذِهِ الْمَدَنِيَّاتِ الضَّخْمَةَ الزَّاخِرَةَ بِعُلُومِ الْمَادَّةِ وَأَعْمَالِهَا, لَوْ جَمَعُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رُوحِ الدِّينِ، وَحَكَّمُوا تَعَالِيمَهُ الرَّاقِيَةَ الْوَاقِيَةَ الْحَافِظَةَ, أَرَأَيْتَ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ أَمَا تَكُونُ هَذِهِ الْمَدَنِيَّةُ الزَّاهِرَةُ الَّتِي يَصْبُو إِلَيْهَا أُولُو الْأَلْبَابِ وَتَتِمُّ بِهَا الْحَيَاةُ الْهَنِيئَةُ الطَّيِّبَةُ السَّعِيدَةُ، وَتَحْصُلُ فِيهَا الْوِقَايَةُ مِنَ النَّكْبَاتِ الْمُزْعِجَةِ، وَالْقَلَاقِلِ الْمُفْظِعَةِ؟

فَحِينَ فَقَدَتِ الدِّينَ، وَاعْتَمَدَتْ عَلَى مَادِّيَّتِهَا الْجَوْفَاءِ الْخَرْقَاءِ؛ جَعَلُوا يَتَخَبَّطُونَ, وَيَقْتُلُونَ النَّاسَ, وَيُدَمِّرُونَ الْمَوْجُودَاتِ, وَيَعِيثُونَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا, وَيَطْلُبُونَ حَيَاةً سَعِيدَةً، وَلَمْ يَصِلُوا إِلَّا إِلَى حَيَاةِ الْأَشْقِيَاءِ، الْحَيَاةِ الْمُهَدَّدَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِالْحُرُوبِ، وَالْكُرُوبِ وَأَصْنَافِهَا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ!!)) .

((قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

وَهَذَا يَشْمَلُ الْكَمَالَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ, قَالَ -تَعَالَى-: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]؛ أَيْ: أَكْمَلُ وَأَتَمُّ وَأَصْلَحُ؛ مِنَ الْعَقَائِدِ, وَالْأَخْلَاقِ, وَالْأَعْمَالِ, وَالْعِبَادَاتِ, وَالْمُعَامَلَاتِ, وَالْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالْأَحْكَامِ الْعُمُومِيَّةِ.

وَقَالَ -تَعَالَى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].

وَهَذَا يَشْمَلُ جَمِيعَ مَا حَكَمَ بِهِ، وَأَنَّهُ أَحْسَنُ الْأَحْكَامِ وَأَكْمَلُهَا, وَأَصْلَحُهَا لِلْعِبَادِ، وَأَسْلَمُهَا مِنَ الْخَلَلِ وَالتَّنَاقُضِ، وَمِنَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ.

أَمَّا عَقَائِدُ هَذَا الدِّينِ وَأَخْلَاقُهُ وَآدَابُهُ وَمُعَامَلَاتُهُ؛ فَقَدْ بَلَغَتْ مِنَ الْكَمَالِ وَالْحُسْنِ, وَالنَّفْعِ وَالصَّلَاحِ -الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى الصَّلَاحِ بِغَيْرِهِ- مَبْلَغًا لَا يَتَمَكَّنُ عَاقِلٌ مِنَ الرَّيْبِ فِيهِ، وَمَنْ قَالَ سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ قَدَحَ بِعَقْلِهِ, وَبَيَّنَ سَفَهَهُ، وَمُكَابَرَتَهُ لِلضَّرُورَاتِ.

وَكَذَلِكَ أَحْكَامُهُ السِّيَاسِيَّةُ وَنُظُمُهُ الْحُكْمِيَّةُ وَالْمالِيَّةُ وَالِاقْتِصَادِيَّةُ مَعَ أَهْلِهِ وَمَعَ غَيْرِهِمْ؛ فَإِنَّهَا نِهَايَةُ الْكَمَالِ وَالْإِحْكَامِ, وَالسَّيْرُ فِي صَلَاحِ الْبَشَرِ كُلِّهِمْ، بِحَيْثُ يَجْزِمُ كُلُّ عَارِفٍ مُنْصِفٍ أَنَّهُ لَا وَسِيلَةَ لِإِنْقَاذِ الْبَشَرِ مِنَ الشُّرُورِ الْوَاقِعَةِ وَالَّتِي سَتَقَعُ إِلَّا بِاللُّجُوءِ إِلَيْهِ, وَالِاسْتِظْلَالِ بِظِلِّهِ الظَّلِيلِ الْمُحْتَوِي عَلَى الْعَدْلِ وَالرَّحْمَةِ, وَالْخَيْرِ الْمُتَنَوِّعِ لِلْبَشَرِ، الْمَانِعِ مِنَ الشَّرِّ، وَلَيْسَ مُسْتَمَدًّا مِنْ نُظُمِ الْخَلْقِ وَقَوَانِينِهِمُ النَّاقِصَةِ الضَّئِيلَةِ، وَلَا حَاجَةَ بِهِ إِلَى مُوَافَقَةِ شَيْءٍ مِنْهَا، بَلْ هِيَ فِي أَشَدِّ الضَّرُورَاتِ إِلَى الِاسْتِمْدَادِ مِنْهُ؛ فَإِنُّهُ تَنْزِيلُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ الْحَكِيمِ, الْعَلِيمِ بِأَحْوَالِ الْعِبَادِ، ظَاهِرِهَا وَبَاطِنِهَا، وَمَا يُصْلِحُهَا وَمَا يَنْفَعُهَا، وَمَا يُفْسِدُهَا وَمَا يَضُرُّهَا، وَهُوَ أَرْحَمُ بِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ, وَمِنْ نُفُوسِهِمْ الَّتِي بَيْنَ جُنُوبِهِمْ, وَأَعْلَمُ بِأُمُورِهِمْ.

فَشَرَعَ لَهُمْ شَرْعًا كَامِلًا مُسْتَقِلًّا فِي أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، فَإِذَا عَرَفُوهُ وَفَهِمُوهُ وَطَبَّقُوا أَحْكَامَهُ عَلَى الْوَاقِعِ؛ صَلَحَتْ أُمُورُهْمْ، فَإِنَّهُ كَفِيلٌ بِكُلِّ خَيْرٍ، وَمَتَّى أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ فَانْظُرْ إِلَى أَحْكَامِهِ حُكْمًا حُكْمًا؛ فِي سِيَاسَةِ الْحُكْمِ وَالْمَالِ وَالْحُقُوقِ, وَالدِّمَاءِ وَالْحُدُودِ، وَجَمِيعِ الرَّوَابِطِ بَيْنَ الْخَلْقِ؛ تَجِدْهَا الْغَايَةَ الَّتِي لَوِ اجْتَمَعَتْ عُقُولُ الْخَلْقِ عَلَى أَنْ يَقْتَرِحُوا أَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ مِثْلَهَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ وَاسْتَحَالَ.

وَبِهَذَا وَشِبْهِهِ نَعْرِفُ غَلَطَ مَنْ يُرِيدُ نَصْرَ الْإِسْلَامِ بِتَقْرِيبِ نُظُمِهِ إِلَى النُّظُمِ الَّتِي جَرَتْ عَلَيْهَا الْحُكُومَاتُ ذَاتُ الْقَوَانِينِ وَالنُّظُمِ الْمَوْضُوعَةِ، فَإِنَّهَا هِيَ الَّتِي تَتَقَوَّى وَتَقْوَى إِذَا وَافَقَتْهُ فِي بَعْضِ نُظُمِهَا.

وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَإِنَّهُ غَنِيٌّ عَنْهَا، مُسْتَقِلٌّ بِأَحْكَامِهِ لَا يُضْطَّرُ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَوْ فُرِضَ مَوَافَقَتُهُ لَهَا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ فَهَذَا مِنَ الْمُصَادَفَاتِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا، وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا فِي حَالِ مُوَافَقَتِهَا أَوْ مُخَالَفَتِهَا.

فَعَلَى مَنْ أَرَادَ أَنْ يَشْرَحَ الدِّينَ وَيُبَيِّنَ أَوْصَافَهُ لِلْعَالَمِينَ أَنْ يَبْحَثَ فِيهِ بَحْثًا مُسْتَقِلًّا, وَأَلَّا يَرْبِطَهُ بِغَيْرِهِ, أَوْ يَعْتَزَّ بِغَيْرِهِ، فَإِنَّ هَذَا نَقْصٌ فِي مَعْرِفَتِهِ, وَفِي الطَّرِيقِ الَّتِي يُبْصِرُ بِهَا، وَقَدِ ابْتُلِيَ بِهَذَا كَثِيرٌ مِنَ الْعَصْرِيِّينَ رُبَّمَا بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ, وَلَكِنَّهُمْ مَغْرُورُونَ مُغْتَرُّونَ بِزَخَارِفِ الْمَدَنِيَّةِ الْغَرْبِيَّةِ الَّتِي بُنِيَتْ عَلَى تَحْكِيمِ الْمَادَّةِ وَفَصْلِهَا عَنِ الدِّينِ، فَعَادَتْ إِلَى ضِدِّ مَقْصُودِهَا؛ فَذَهَبَ الدِّينُ وَلَمْ تَصْلُحْ لَهُمُ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَعِيشُوا عِيشَةً هَنِيئَةً, وَلَا أَنْ يَحْيَوْا حَيَاةً طَيِّبَةً، وَللهِ عَوَاقِبُ الْأُمُورِ.

أَمَّا الْإِسْلَامُ فَقَدْ سَاوَى بَيْنَ الْبَشَرِ فِي كُلِّ الْحُقُوقِ، فَلَيْسَ فِيهِ تَعَصُّبُ نَسَبٍ، وَلَا عُنْصُرٍ، وَلَا قُطْرٍ وَلَا غَيْرِهَا، بَلْ جَعَلَ أَقْصَاهُمْ وَأَدْنَاهُمْ فِي الْحَقِّ سَوَاءً، وَأَمَرَ الْحُكَّامَ بِالْعَدْلِ التَّامِّ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَأَمَرَ الْمَحْكُومِينَ بِالطَّاعَةِ الَّتِي يَتِمُّ بِهَا التَّعَاوُنُ وَالتَّكَافُلُ، وَأَمَرَ الْجَمِيعَ بِالشُّورَى الَّتِي تَسْتَبِينُ بِهَا الْأُمُورُ, وَتَتَّضِحُ فِيهَا الْأَشْيَاءُ النَّافِعَةُ فَتُؤْثَرُ، وَتَتَّضِحُ فِيهَا الْأَشْيَاءُ الضَّارَّةُ فَتُتْرَكُ وَتُهْمَلُ)) .

إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ أَعَزَّنَا بِهَذَا الدِّينِ, فَمَهْمَا طَلَبْنَا الْعِزَّ فِي غَيْرِهِ أَذَلَّنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

المصدر:حَاجَتُنَا إِلَى الدِّينِ الرَّشِيدِ وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  التَّحْذِيرُ مِنْ إِيذَاءِ الْيَتِيمِ وَقَهْرِهِ
  الوَحْيُ رُوحُ العَالَمِ وَنُورُهُ وَحَيَاتُهُ
  حُسْنُ مُعَامَلَةِ النَّبِيِّ ﷺ لِخَدَمِهِ وَشَفَقَتُهُ بِهِمْ
  مَعَالِمُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ فِي الْعِبَادَاتِ
  الْإِسْلَامُ رَحْمَةٌ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ
  الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ شِفَاءٌ وَحِفْظٌ بِقَدَرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-
  آثَارٌ عَظِيمَةٌ لِلرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ عَلَى الْعَالَمِ
  ثَمَرَاتُ الْمُرَاقَبَةِ وَرِعَايَةِ الضَّمَائِرِ
  حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ
  أَفْضَلُ الصُّوَّامِ أَكْثَرُهُمْ ذِكْرًا للهِ
  الدرس السابع والعشرون : «الْعَفْوُ وَكَظْمُ الغَيْظِ»
  أَمْرُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ فِي كِتَابِهِ
  خَطَرُ اللِّسَانِ
  احْتِرَامُ دِمَاءِ النَّاسِ مِنْ أُصُولِ شَرِيعَةِ الإِسْلَامِ
  ذِكْرُ اللهِ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ
  • شارك