إِسْهَامَاتُ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِي فِي خِدْمَةِ الْمُجْتَمَعِ


((إِسْهَامَاتُ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِي فِي خِدْمَةِ الْمُجْتَمَعِ))

لقدْ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْإِحْسَانِ فِي عَلَاقَةِ الْمُسْلِمِ بِأُسْرَتِهِ وَمُجْتَمَعِهِ: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36].

{وَبِذِي الْقُرْبَى}؛ أَيْ: وَبِذِي الْقُرْبَى إِحْسَانًا، أَحْسِنُوا إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَإِلَى ذِي الْقُرْبَى، {وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36].

فَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْإِحْسَانِ؛ إِحْسَانِ الْمَرْءِ فِي أُسْرَتِهِ، وَإِحْسَانِ الْمَرْءِ فِي مُجْتَمَعِهِ.

وَجَاءَ الْأَمْرُ فِي الْقُرْآنِ بِإِحْسَانِ الْفِعَالِ وَالْمَقَالِ، بِإِحْسَانِ الْأَفْعَالِ وَإِحْسَانِ الْأَقْوَالِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].

فَكَمَا أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْإِحْسَانِ فِي الْأَفْعَالِ، أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ فِي الْأَقْوَالِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43].

اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيَّنَ لَنَا فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ جُمْلَةً مِنْ صُوَرِ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ وَالْبَذْلِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177].

وَأَعْطَى الْمَالَ عَلَى شِدَّةِ حُبِّهِ لَهُ الْفُقَرَاءَ مِنْ أَهْلِ قَرَابَتِهِ، وَالْيَتَامَى الَّذِينَ تُوُفِّيَ آبَاؤُهُمْ وَلَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ، وَالْمَسَاكِينَ الَّذِينَ يَدُلُّ ظَاهِرُهُمْ عَلَى أَنَّهُمْ ذَوُو حَاجَةٍ، وَالْمُسَافِرَ الْمُنْقَطِعَ عَنْ أَهْلِهِ، وَالطَّالِبِينَ الْمُسْتَطْعِمِينَ، وَأَعْطَى الْمَالَ فِي مُعَاوَنَةِ الْمُكَاتَبِينَ حَتَّى يَفُكُّوا رِقَابَهُمْ، أَوْ فِي فَكِّ الْأَسْرَى مِنْ أَيْدِي الْعَدُوِّ بِفِدَائِهِمْ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الصَّدَقَةَ مُسْتَحَبَّةٌ، وَتُشْرَعُ فِي كُلِّ وَقْتٍ، لِإِطْلَاقِ الْحَثِّ عَلَيْهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلِلتَّرْغِيبِ فِيهَا؛ قَالَ تَعَالَى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177].

وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 280].

وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ))، ذَكَرَ مِنْهُمْ: ((وَرَجَلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا صَنَعَتْ يَمِينُهُ)).

وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُ الْمُتَصَدِّقِ، غَيْرَ مُمْتَنٍّ بِهَا عَلَى الْمُحْتَاجِ؛ قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264].

* وَالصَّدَقَةُ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى الْأَبْعَدِينَ؛ فَقَدْ أَوْصَى اللهُ بِالْأَقَارِبِ، وَجَعَلَ لَهُمْ حَقًّا عَلَى قَرِيبِهِمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26].

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ، وَصِلَةٌ)). رَوَاهُ سَلْمَانُ الضَّبِّيُّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)): ((أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ، وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ)).

وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْمَالِ حُقُوقًا سِوَى الزَّكَاةِ:

* نَحْوَ مُوَاسَاةِ الْقَرَابَةِ، وَصِلَةِ إِخْوَانِكَ، وَإِعْطَاءِ سَائِلٍ، وَإِعَارَةِ مُحْتَاجٍ، وَإِنْذَارِ مُعْسِرٍ، وَإِقْرَاضِ مُقْتَرِضٍ.

قَالَ تَعَالَى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19].

* وَيَجِبُ إِطْعَامُ الْجَائِعِ، وَقِرَى الضَّيْفِ، وَكُسْوَةُ الْعَارِي، وَسَقْيُ الظَّمْآنِ، بَلْ ذَهَبَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ- إِلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِدَاءُ أَسْرَاهُمْ، وَإِنِ اسْتَغْرَقَ ذَلِكَ أَمْوَالَهُمْ كُلَّهَا.

هَذِهِ كُلُّهَا مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ لِأَنَّهُ دِينُ الْمُوَاسَاةِ وَالرَّحْمَةِ، دِينُ التَّعَاوُنِ وَالتَّآخِي فِي اللهِ، فَمَا أَجْمَلَهُ! وَمَا أَجَلَّهُ! وَمَا أَحْكَمَ تَشْرِيعَهُ!

إِنَّ مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ الْعَظِيمَةِ: التَّطَوُّعَ.

وَالتَّطَوُّعُ: النَّافِلَةُ، وَكُلُّ مُتَنَفِّلٍ بِخَيْرٍ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ.

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} [البقرة: 184].

وَالتَّطَوُّعُ: مَا تَبَرَّعَ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ مِمَّا لَا يَلْزَمُهُ فَرْضُهُ.

وَالتَّطَوُّعُ يُكَمِّلُ الْفَرَائِضَ وَيَجْبُرُ نَقْصَهَا؛ فَفِي حَدِيثِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَلَاتُهُ، فَإِنْ كَانَ أَتَمَّهَا كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَتَمَّهَا قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِمَلَائِكَتِهِ: انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَتُكَمِّلُونَ بِهَا فَرِيضَتَهُ، ثُمَّ الزَّكَاةُ كَذَلِكَ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ)). وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ فِي ((الْمُسْنَدِ))، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ.

 ((الْحَثُّ عَلَى الْعَمَلِ التَّطَوُّعِي فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].

لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ السِّرِّيَّةِ الَّتِي تَكُونُ دَاخِلَ الْمُجْتَمَعَاتِ بَعِيدًا عَنْ عِلْمِ وَمُرَاقَبَةِ الْقِيَادَةِ الْمُؤْمِنَةِ الْمُسْلِمَةِ؛ إِلَّا فِي نَجْوَى الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالصَّدَقَةِ لِذِي حَاجَةٍ مُتَعَفِّفٍ يَكْرَهُ أَنْ تُفْتَضَحَ حَاجَتُهُ؛ مُحَافَظَةً عَلَى مَكَانَتِهِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ.

أَوْ مَجْلِسٍ تَكُونُ فِيهِ نَجْوَى قَائِمَةٌ عَلَى أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ أَوْ أَشْخَاصٍ بِأَعْيَانِهِمْ؛ فَوَاجِبُ النَّصِيحَةِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالِ أَنْ تَكُونَ سِرًّا لَا حَدِيثًا مُعْلَنًا، وَإِلَّا كَانَ فَضِيحَةً لَا نَصِيحَةً، وَرُبَّمَا جَرَّأَتْهُ الْفَضِيحَةُ عَلَى التَّمَادِي فِي الْغَيِّ وَالْمُجَاهَرَةِ بِالْإِثْمِ مَعَ الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ.

أَوْ مَجْلِسٍ تَكُونُ فِيهِ نَجْوَى قَائِمَةٌ عَلَى مُحَاوَلَةِ الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمَيْنِ؛ لِيَتَرَاجَعَا إِلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ مِنَ الْأُلْفَةِ وَالِاجْتِمَاعِ.

وَمَنْ يَفْعَلْ تِلْكَ الْأُمُورَ طَلَبًا لِمَرْضَاةِ اللهِ وَخَالِصَةً لِوَجْهِهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ فِي الْآخِرَةِ أَجْرًا عَظِيمًا لَا يَعْلَمُ قَدْرَهُ إِلَّا اللهُ.

 ((وَقَدْ حَضَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْإِيثَارِ، وَهُوَ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ الْجُودِ، وَهُوَ الْإِيثَارُ بِمَحَابِّ النَّفْسِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا، وَبَذْلُهَا لِلْغَيْرِ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، بَلْ مَعَ الضَّرُورَةِ وَالْخَصَاصَةِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ خُلُقٍ زَكِيٍّ))؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].

الْأَنْصَارُ الَّذِينَ تَوَطَّنُوا الْمَدِينَةَ وَاتَّخَذُوهَا سَكَنًا، وَأَسْلَمُوا فِي دِيَارِهِمْ، وَأَخْلَصُوا فِي الْإِيمَانِ، وَتَمَكَّنُوا فِيهِ مِنْ قَبْلِ هِجْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْهِمْ؛ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُنْزِلُونَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَيُشَارِكُونَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَزَازَةً وَغَيْظًا وَحَسَدًا مِمَّا أُعْطِيَ الْمُهَاجِرُونَ مِنَ الْفَيْءِ دُونَهُمْ؛ عِفَّةً مِنْهُمْ، وَشُعُورًا بِحَقِّ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أَصَابَهُمُ الْفَقْرُ بِسَبَبِ الْهِجْرَةِ.

ويُؤثِرُ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ إِلَى مَا يُؤْثِرُونَ بِهِ.

وَمَن يَكْفِهِ اللهُ الْحَالَةَ النَّفْسَانِيَّةَ الَّتِي تَقْتَضِي مَنْعَ الْمَالِ حَتَّى يُخَالِفَهَا فِيمَا يَغْلِبُ عَلَيْهَا مِنَ الْبُخْلِ وَالْحِرْصِ الشَّدِيدِ الَّذِي يَدْفَعُ إِلَى ارْتِكَابِ كَبَائِرِ الْإِثْمِ، فَيُنْفِقُ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَعَالَى- فِي الْمَصَارِفِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِالْإِنْفَاقِ فِيهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِذَلِكَ؛ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى، فَأُولَئِكَ الْفُضَلَاءُ رَفِيعُوا الدَّرَجَةِ هُمْ وَحْدَهُمُ الظَّافِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ، الْفَائِزُونَ بِكُلِّ مَطْلَبٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

يُصْرَفُ جُزْءٌ مِنْ هَذَا الْمَالِ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، الَّذِينَ أُجْبِرُوا عَلَى تَرْكِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، يَرْجُونَ أَنْ يَتَفَضَّلَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا وَبِالرِّضْوَانِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَنْصُرُونَ اللهَ، وَيَنْصُرُونَ رَسُولَهُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ.

أُولَئِكَ الْمُتَّصِفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ هُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْإِيمَانِ حَقًّا، وَالْأَنْصَارُ الَّذِينَ نَزَلُوا الْمَدِينَةَ مِن قَبْلِ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَارُوا الْإِيمَانَ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ، يُحِبُّونَ مِنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ، وَلَا يَجِدُونَ فِي صدُورِهِمْ غَيْظًا وَلَا حَسَدًا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ في سَبِيلِ اللهِ إِذَا مَا أُعْطُوا شَيْئًا مِنَ الْفَيْءِ وَلَمْ يُعْطَوْا هُمْ.

وَيُقَدِّمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْمُهَاجِرِينَ فِي الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَوْ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ.

وَمَن يَقِهِ اللهُ حِرْصَ نَفْسِهِ عَلَى الْمَالِ، فَيَبْذُلُهُ في سَبِيلِهِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِنَيْلِ مَا يَرْتَجُونَهُ، وَالنَّجَاةِ مِمَّا يَرْهَبُونَهُ.

عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ نَدَبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الْمُسَارَعَةِ، وَتَرْكِ التَّبَاطُؤِ فِي الْخَيْرَاتِ، وَالْمُسَابَقَةِ وَالْمُبَادَرَةِ إِلَى تَحْصِيلِ الْخَيْرَاتِ؛ حَتَّى نَلْقَى جَزَاءَ ذَلِكَ وَثَوَابَهُ فِي الْآخِرَةِ.

يَقُولُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61]؛ يَعْنِي: يُسَابِقُونَ مَنْ سَابَقَهُمْ إِلَيْهَا، فَهُمْ يَتَسَابَقُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَكُلٌّ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ إِلَى الْخَيْرَاتِ سَابِقًا.

وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُخْبِرُنَا فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ أَنَّهُ يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُسَارِعَ إِلَى الْمَغْفِرَةِ مِنَ اللهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ.

{وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عمران: 133]: سَارِعُوا إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ، وَإِلَى الطَّاعَةِ، أَوْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، أَوِ الْإِخْلَاصِ، أَوِ التَّوْبَةِ مِنَ الرِّبَا، أَوِ الثَّبَاتِ فِي الْقِتَالِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَهِيَ آيَةٌ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ.

لَقَدْ حَضَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيْرِ، وَأَمَرَنَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِذَلِكَ؛ فَقَالَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}.

فأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْمُسَارَعَةِ إِلَى الْمَغْفِرَةِ؛ يَعْنِي: بِتَحْصِيلِ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ، وَهِيَ الطَّاعَةُ.

وَقَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 113-114].

وَذَكَرَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَا كَانَ مِنْ زَكَرِيَّا وَآلِهِ: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90-89].

وذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ صِفَاتِ الْمُؤْمِنِينَ: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 57-61].

وَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِاسْتِبَاقِ الْخَيْرَاتِ: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 148].

فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهَا بِالْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيْرَاتِ وَالْمُسَابَقَةِ إِلَيْهَا، وَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ التَّوَانِيَ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ لَيْسَ بِالْخَيْرِ، وَأَنَّ الْإِسْرَاعَ فِي طَلَبِ الْخَيْرِ هُوَ الْخَيْرُ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُسَارِعًا فِي تَحْصِيلِ الْمَغْفِرَةِ بِأَسْبَابِهَا وَشُرُوطِهَا، وَإِلَّا كَانَ مِنَ الْمُقَصِّرِينَ.

لَقَدْ حَثَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى عُمُومِ الْخَيْرِ وَأَفْعَالِهِ؛ فَقَالَ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20].

وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى أَدَائِهَا فِي أَوْقَاتِهَا، وَأَعْطُوا الزَّكَاةَ الْوَاجِبَةَ، وَتَصَدَّقُوا فِي وُجُوهِ الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ؛ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ.

وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ عَمَلٍ إِرَادِيٍّ؛ سَوَاءٌ كَانَ عَمَلًا قَلْبِيًّا أَمْ نَفْسِيًّا أَمْ جَسَدِيًّا، تَلْقَوْا أَجْرَهُ وَثَوَابَهُ عِنْدَ اللهِ، تَجِدُوا ذَلِكَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ مِنَ الَّذِي ادَّخَرْتُمُوهُ وَلَمْ تُقَدِّمُوهُ.

وَاطْلُبُوا الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللهِ لِذُنُوبِكُمْ وَتَقْصِيرِكُمْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَفِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ، إِنَّ اللهَ كَثِيرُ السَّتْرِ وَعَظِيمُهُ، دَائِمُ الرَّحْمَةِ وَعَظِيمُهَا.

 

المصدر:خِدْمَةُ الْمُجْتَمَعِ بَيْنَ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ وَالْوَاجِبِ الْكِفَائِيِّ وَالْعَيْنِيِّ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  جُمْلَةٌ مِنْ فَضَائِلِ الصَّوْمِ
  أَهَمِّيَّةُ الْفَهْمِ وَالْوَعْيِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  مِنَ الثَّمَرَاتِ الْعَظِيمَةِ لِلزَّكَاةِ: تَحْقِيقُ التَّكَافُلِ وَالتَّوَازُنِ الْمُجْتَمَعِيِّ
  الْأَثَرُ الْمُدَمِّرُ لِأَكْلِ الْحَرَامِ في الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  لَا يُجزِئُ إِخرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ قِيمَةِ الطَّعَامِ
  رِسَالَةٌ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ: اتَّقُوا اللهَ فِي مِصْرَ
  رَحْمَةُ الْإِسْلْامِ فِي فُتُوحَاتِهِ وَنَبْذُهُ لِلْعُنْفِ وَالْعُنْصُرِيَّةِ
  اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ
  مَثَلٌ عَجِيبٌ فِي رِقَابَةِ السِّرِّ وَرِعَايَةِ الضَّمِيرِ
  خَوَارِجُ الْعَصْرِ وَتَكْفِيرُ الْمُجْتَمَعَاتِ
  الدرس الرابع والعشرون : «سَلَامَةُ الصَّدْرِ»
  لِينُ الْكَلَامِ وَحُسْنُهُ مَعَ الْوَالِدَيْنِ
  مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ: بَيَانُ مَكَانَةِ الْقُدْسِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فِي الْإِسْلَامِ
  الْوَعْيُ بِالتَّحَدِّيَّاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ وَسُبُلِ مُوَاجَهَتِهَا
  أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا
  • شارك