الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ فِي الْقُرْآنِ


((الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ فِي الْقُرْآنِ))

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَّقُوا اللهَ وَاتَّبَعُوا رَسُولَهُ! نَفِّذُوا ارْتِبَاطَاتِكُمُ الَّتِي عَقَدْتُمُوهَا مَعَ رَبِّكُمْ بِسَبَبِ إِيمَانِكُمْ، وَالْعُقُودَ الَّتِي عَقَدْتُمُوهَا مَعَ أَنْفُسِكُمْ بِسَبَبِ حَلِفِكُمْ وَنَذْرِكُمْ عَلَى أَلَّا تَفْعَلُوا فِعْلًا أَوْ تَكُفُّوا عَنْ فِعْلٍ، وَالْعُقُودَ الَّتِي عَقَدَهَا بَعْضُكُمْ مَعَ بَعْضٍ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ؛ مِن بَيْعٍ، وَإِجَارَةٍ، وَرَهْنٍ، وَشَرِكَةٍ، وَمُضَارَبَةٍ، وَزَوَاجٍ وَنَحْوِهَا، فَالْتَزِمُوا بِهَا، وَبِالْعُقُودِ الَّتِي تَعْقِدُهَا الدَّوْلَةُ الْمُسْلِمَةُ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الدُّوَلِ فِي السِّلْمِ وَالْحَرْبِ.

وَكَمَا أَمَرَ دِينُنَا الْحَنِيفُ بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ حَذَّرَنَا مِنْ نَقْضِهَا، وَنَهَانَا عَنْ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِهَا؛ فَالْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ تَعْظِيمٌ للهِ، وَعَدَمُ الْوَفَاءِ بِهَا عَدَمُ تَعْظِيمٍ لَهُ؛ فَهُوَ قَدْحٌ فِي التَّوْحِيدِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [النحل:91].

{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ}: بِالِالْتِزَامِ بِمُوجِبِهِ؛ مِنْ عُقُودِ الْبَيْعَةِ، وَالْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا.

{وَلَا تَنقُضُوا الْأَيْمَانَ}؛ أَيْ: أَيْمَانَ الْبَيْعَةِ، أَوْ مُطْلَقَ الْأَيْمَانِ.

{بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}: بَعْدَ تَوْثِيقِهَا بِذِكْرِ اللهِ تَعَالَى.

{وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا}؛ أَيْ: شَاهِدًا عَلَيْكُمْ بِتِلْكَ الْبَيْعَةِ.

{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}: مِنْ نَقْضِ الْأَيْمَانِ وَالْعُهُودِ؛ وَهَذَا تَهْدِيدٌ.

وَمَعْنَى الْآيَةِ: يَأْمُرُ -تَعَالى- بِالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْأَيْمَانِ الْمُؤَكَّدَةِ بِذِكْرِهِ؛ لِأَنَّهُمْ بِذَلِكَ جَعَلُوهُ -سُبْحَانَهُ- شَاهِدًا وَرَقِيبًا عَلَيْهِمْ، وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- يَعْلَمُ أَفْعَالَهُمْ وَتَصَرُّفَاتِهِمْ، وَسَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا.

وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ، وَمِنْهَا مَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ؛ مِنْ إِعْطَاءِ الذِّمَّةِ، فَإِنَّهَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا؛ لِأَنَّهَا فَرْدٌ مِنْ أَفْرَادِ مَعْنَى الْآيَةِ».

وَقَالَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].

وَأَوْفُوا بِأَوَامِرِ اللهِ وَنَوَاهِيهِ، وَمَا بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْعِبَادِ مِنْ مَوَاثِيقَ اتَّفَقْتُمْ عَلَيْهَا بِلَا نَقْضٍ وَلَا إِخْلَافٍ وَلَا نَقْصٍ، إِنَّ مُعْطِيَ الْعَهْدِ كَانَ مَسْئُولًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللهِ عَنْ حِفْظِهِ وَالْوَفَاءِ بِهِ.

وَمَدَحَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَهْلَ الْوَفَاءِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ؛ فَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 54].

وَضَعْ فِي ذَاكِرَتِكَ -أَيُّهَا الْمُتَلَقِّي لِآيَاتِ رَبِّكَ- خَبَرَ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُنَزَّلَ فِي الْقُرْآنِ وَاحْفَظْهُ وَتَدَبَّرْهُ، وَاسْتَذْكِرْهُ عِنْدَ الْمُنَاسَبَاتِ الدَّاعِيَاتِ؛ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ، لَمْ يَعِدْ شَيْئًا إِلَّا وَفَى بِهِ، وَكَانَ رَسُولًا حَامِلًا لِوَظَائِفِ رِسَالَةٍ رَبَّانِيَّةٍ، نَبِيًّا مُخْبِرًا عَنِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَقَالَ تَعَالَى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23].

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ قَامُوا بِمَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ وَوَفَّوْا بِهِ، فَبَعْضُ هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ مَنْ وَفَّى بِعَهْدِهِ مَعَ اللهِ، وَأَدَّى نَذْرَهُ، وَصَبَرَ عَلَى الْجِهَادِ حَتَّى اسْتُشْهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَنْ بَقِيَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَنْتَظِرُونَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ؛ إِمَّا الشَّهَادَةَ أَوِ النَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ.

وَكِلَا الْفَرِيقَيْنِ -الَّذِينَ قَضَوْا نَحْبَهُمْ، وَالَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ قَضَاءَهُ حَتَّى غَايَتِهِ- مَا بَدَّلُوا فِيمَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ تَبْدِيلًا مَا، بَلْ حَافَظُوا عَلَى عُهُودِهِمْ وَنَفَّذُوهَا وَوَفَّوْا بِهَا.

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} [المعارج: 32 - 35].

وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ مُرَاعُونَ حَافِظُونَ، مُجْتَهِدُونَ عَلَى أَدَائِهَا وَالْوَفَاءِ بِهَا، وَهَذَا شَامِلٌ لِجَمِيعِ الْأَمَانَاتِ الَّتِي بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الْخَلْقِ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَسْرَارِ.

وَكَذَلِكَ الْعَهْدُ.. شَامِلٌ لِلْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ عَلَيْهِ اللهَ، وَالْعَهْدِ الَّذِي عَاهَدَ الْخَلْقَ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْعَهْدَ يُسْأَلُ عَنْهُ الْعَبْدُ: هَلْ قَامَ بِهِ وَوَفَّاهُ، أَمْ رَفَضَهُ وَخَانَهُ فَلَمْ يَقُمْ بِهِ؟

وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ إِلَّا بِمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نَقْصٍ وَلَا كِتْمَانٍ، وَلَا يُحَابِي فِيهَا قَرِيبًا وَلَا صَدِيقًا وَنَحْوَهُ، فَيَكُونُ الْقَصْدُ بِإِقَامَتِهَا وَجْهَ اللهِ.

وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ بِالْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، أُولَئِكَ الْمَوْصُوفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ؛ أَيْ أَوْصَلَ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ، وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

 

المصدر:الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  الْجَزَائِرُ مِنْ بَعْدِ الِاحْتِلَالِ حَتَّى الْعَشْرِيَّةِ السَّوْدَاءِ
  رِقَابَةُ السِّرِّ وَالضَّمِيرِ مِنْ سُبُلِ تَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ
  النَّفْسُ مَعَ صَاحِبِهَا كَالشَّرِيكِ فِي الْمَالِ!!
  مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ: حُسْنُ الْخُلُقِ
  عَقِيدَةُ الْيَهُودِ التَّوْرَاتِيَّةُ الْقَتْلُ وَالذَّبْحُ
  قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ
  رِسَالَةٌ أَخِيرَةٌ مُهِمَّةٌ وَجَامِعَةٌ إِلَى الأُمَّةِ المِصْرِيَّةِ خَاصَّةً
  فَوَائِدُ مِنْ دَوْرَةِ الْإِمَامِ الطَّبَرِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-
  الْحِرْصُ عَلَى الْإِخْلَاصِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي الْحَجِّ
  النَّهْيُ عَنِ الْإِسْرَافِ وَالْحَثُّ عَلَى الِاعْتِدَالِ فِي السُّنَّةِ
  عَاقِبَةُ إِهْمَالِ أَدَوَاتِ الْفَهْمِ وَالْوَعْيِ
  الشَّائِعَاتُ سِلَاحُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُغْرِضِينَ
  الإِسْلَامُ أَعْظَمُ نِعَمِ اللهِ على العَبْدِ
  ذِكْرُ كِبَرِ السِّنِّ وَالشَّيْخُوخَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  سَبِيلُ نَجَاتِكَ إِمْسَاكُ لِسَانِكَ إِلَّا عَنْ خَيْرٍ!
  • شارك