الْوَفَاءُ لِلْوَطَنِ


  ((الْوَفَاءُ لِلْوَطَنِ))

لَقَدْ قَالَ اللهُ -تَعَالَى- ذَاكِرًا الأَوْطَانَ وَمَوَاقِعَهَا فِي القُلُوبِ: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66].

فَسَوَّى بينَ قَتْلِ أَنْفُسِهِمْ وَالْخُرُوجِ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَأَخْبَرَ -تَعَالَى- أَنَّهُ لَوْ كَتَبَ عَلَى عِبَادِهِ الْأَوَامِرَ الشَّاقَّةَ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ، والْخُرُوجِ مِنَ الدِّيَارِ لَمْ يَفْعَلْهُ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ وَالنَّادِرُ.

وَنَسَبَ اللهُ الدِّيَارَ إِلَى مُلَّاكِهَا؛ قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج: 40].

وَلَوْ قَنَعَ النَّاسُ بِأَرْزَاقِهِمْ قَنَاعَتَهُمْ بِأَوْطَانِهِمْ مَا اشْتَكَى عَبْدٌ الرِّزْقَ؛ فَإِنَّ النَّاسَ بِأَوْطَانِهِمْ أَقْنَعُ مِنْهُمْ بِأَرْزَاقِهِمْ.

عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ؛ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ دِيَارِنَا».

فَدَعَا ﷺ أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ رَحْمَتِهِ مَنْ أَخْرَجَهُ مِنْ أَرْضِهِ، وَأَنْ يُبْعِدَ اللهُ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ وَطَنِهِ.

ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ».

وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْحَمْرَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِمَكَّةَ يَقُولُ: «وَاللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ». وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ.

وَعِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ: «وَأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَيَّ». صَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.

وَمِمَّا يَتَوَجَّبُ أَنْ يُدَافِعَ الْمُسْلِمُ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ الْعَدُوَّ الَّذِي يُحَاوِلُ اغْتِصَابَهَا وَاحْتِلَالَهَا، وَأَنْ يُجَاهِدَ دُونَهَا بِالْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ؛ احْتِفَاظًا بِمَا لِأَهْلِهَا فِي وَطَنِهِمْ؛ مِنْ إِقَامَةِ شَعَائِرِ دِينِهِمْ، وَعِبَادَةِ رَبِّهِمْ، وَتَقْلُّبِهِمْ فِي أَمْلَاكِهِمْ، وَصَوْنِ حَرِيمِهِمْ، وَتَصَرُّفِهِمْ فِي مَعَائِشِهِمْ، وَالْقِيَامِ عَلَى تَرْبِيَةِ أَوْلَادِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ عَلَى دِينِ رَبِّهِمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِمْ.

وَكُلُّ ذَلِكَ يُحَاوِلُ الْعَدُوُّ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُولَئِكَ، فَيَقْضِيَ عَلَى شَرَفِ دِينِهِمْ، وَيَمْنَعَ عِبَادَاتِهِمْ، وَيَنْهَبَ أَمْوَالَهُمْ وَمُقْتَنَيَاتِهِمْ، وَيَهْتِكَ حُرَمَهُمْ، وَيَمْحُوَ تَارِيخَ مَجْدِهِمْ، وَيُفْنِيَ لُغَتَهُمْ وَعُلُومَهُمْ فِي رَطَانَتِهِ وَعَوَائِدِهِ.

فَكُلُّ ذَلِكَ وَأَكْثَرُ مِنْهُ مِمَّا يَنْوِيهِ الْعَدُوُّ الْغَاصِبُ لِلْوَطَنِ تِلْقَاءَ أَهْلِهِ؛ وَلِذَا وَجَبَ الْجِهَادُ دُونَهُ لِوَجْهِ اللهِ وَفِي سَبِيلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَأَنْ يَتَحَابُّوا وَلَا يَتَعَادَوْا، وَأَنْ يَتَنَاصَرُوا وَلَا يَتَخَاذَلُوا، وَأَنْ يَأْتَلِفُوا وَلَا يَخْتَلِفُوا؛ حَتَّى يَسْتَطِيعُوا إِقَامَةَ دِينِهِمْ، وَحِفْظَ أَعْرَاضِهِمْ وَدِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.

وَلَا بُدَّ مِنْ نَفْيِ الْعَصَبِيَّةِ وَالْأَغْرَاضِ الْمَذْمُومَةِ؛ مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ بِالْجِنْسِ أَوِ الْأَرْضِ أَوْ غَيْرِهَا، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا، وَإِنَّمَا يُقَدِّسُ الْإِنْسَانَ عَمَلُهُ.

أَخْرَجَ مَالِكٌ فِي ((الْمُوَطَّأِ)) فِي كِتَابِ الْوَصِيَّةِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ أَبَا الدَّرْدَاءِ كَتَبَ إِلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: ((أَنْ هَلُمَّ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ)).

فَكَتَبَ إِلَيْهِ سَلْمَانُ: ((إِنَّ الْأَرْضَ لَا تُقَدِّسُ أَحَدًا، إِنَّمَا يُقَدِّسُ الْإِنْسَانَ عَمَلُهُ)).

وَمِيزَانُ الْفَضْلِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ التَّقْوَى؛ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].

وَمَا أَشَدَّ جُرْمَ مَنْ يَسْعَى لِإِحْدَاثِ الْفَوْضَى، وَإِطْلَاقِ الْغَرَائِزِ مِنْ قُيُودِهَا!!

وَمَا أَكْبَرَ إِثْمَ مَنْ سَعْيُهُ لِإِضَاعَةِ مَكَاسِبِ الْإِسْلَامِ فِي بَلَدٍ يُنَعَّمُ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ بِهَذَا الدِّينِ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا مِنَ الزَّمَانِ.

وَمِنَ الْوَفَاءِ لِلْوَطَنِ: الْحِفَاظُ عَلَى الْمَالِ الْعَامِّ وَعَدَمُ التَّعَدِّي عَلَيْهِ؛ فَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ سَائِلُكَ، وَأَنَّكَ لَا بُدَّ أَنْ تُؤَاخِذَ نَفْسَكَ قَبْلَ أَنْ يُؤَاخِذَكَ.

الدَّمُ وَالْمَالُ.. إِيَّاكَ أَنْ تَعْتَدِيَ عَلَى مَالِ أَخِيكَ؛ فَإِنَّ اللهَ حَرَّمَ السَّرِقَةَ، وَحَرَّمَ الْغَصْبَ، وَحَرَّمَ الرِّشْوَةَ، وَحَرَّمَ أَكْلَ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، وَحَرَّمَ أَكْلَ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ.

الْيَوْمَ عِنْدَمَا تَنْظُرُ فِي الْمَالِ الْعَامِّ.. مَالِي وَمَالِكَ، مَالِ كُلِّ مَنْ يَقْطُنُ هَذَا الْبَلَدَ، مَالِ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، الْمَالُ الْعَامُّ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَمُ الْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ . تَجِدُ النَّاسَ فِي جُمْلَتِهِمْ لَا يَرْقُبُونَ فِي الْمَالِ الْعَامِّ.. وَهُوَ مَالٌ تَعَلَّقَتْ بِهِ جَمِيعُ ذِمَمِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ وَأَحْيَانِهِمْ.. لَا يَرْقُبُونَ فِي هَذَا الْمَالِ الْعَامِّ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً، وَلَا يُرَاعُونَهُ بِحَالٍ أَبَدًا!!

لا يَسْتَقِرُّ فِي عَقْلِ وَاحِدٍ وَلَا فِي وِجْدَانِهِ أَنَّ هَذَا الْمَالَ مَالُهُ، وَأَنَّ هَذَا الْمَالَ تَتَعَلَّقُ بِهِ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُجْتَمَعِ كُلِّهِ، وَأَنَّ الْإِثْمَ فِيهِ أَكْبَرُ مِنَ الْإِثْمِ الْوَاقِعِ عَلَيْهِ عِنْدَمَا يَقَعُ عَلَى مَالٍ خَاصٍّ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْعَامَّ تَعَلَّقَتْ بِهِ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ.

فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَّقِيَ اللهَ رَبَّنَا فِي أُمَّتِنَا، وَفِي أَرْضِنَا الْمُسْلِمَةِ الَّتِي أَقَامَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْهَا، نُدَافِعُ عَنْهَا إِلَى آخِرِ قَطْرَةٍ مِنْ دِمَائِنَا، وَإِلَى آخِرِ مَا فِي أَرْوَاحِنَا مِنْ دِمَاءٍ، وَمَا فِي عُرُوقِنَا مِنْ دِمَاءٍ.


المصدر:الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  عَدْلُ الْإِسْلَامِ مَعَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ
  انْتِصَارَاتُ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْحَاضِ
  عَوَاقِبُ وَخِيمَةٌ لِإِهْمَالِ النَّظَافَةِ
  مِنْ سُبُلِ الْقَضَاءِ عَلَى إِدْمَانِ الْمُخَدِّرَاتِ: الْعِلَاجُ بِالْوَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ وَالطِّبِّيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ
  آثَارُ الْمَعِيَّةِ فِي تَحْقِيقِ السَّلَامِ النَّفْسِيِّ
  صِدْقُ وَحُسْنُ خُلُقِ النَّبِيِّ ﷺ بِشَهَادَةِ أَعْدَائِهِ
  الْجَمْعُ بَيْنَ أَحَادِيثِ الصَّوْمِ، وَعَدَمِهِ في الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ
  الْجَزَائِرُ مِنْ بَعْدِ الِاحْتِلَالِ حَتَّى الْعَشْرِيَّةِ السَّوْدَاءِ
  حَضَّ الْإِسْلَامُ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَنَبَذَ الْكَرَاهِيَةَ
  حُرْمَةُ قَتْلِ الْمَدَنِيِّينَ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ
  وَاجِبُ الْعَبْدِ عِنْدَ الِابْتِلَاءِ
  عَقِيدَةُ الْيَهُودِ التَّوْرَاتِيَّةُ الْقَتْلُ وَالذَّبْحُ
  عِظَمُ حَقِّ الْأَبَوَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ
  الْعِلَاجَاتُ النَاجِعَةُ لِلتَّطَرُّفِ الْفِكْرِيِّ وَمَا نَتَجَ عَنْهُ مِنْ إِرْهَابٍ وَتَدْمِيرٍ وَإِلْحَادٍ
  خُطُورَةُ تَغْيِيبِ وَعْيِ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ
  • شارك