تفريغ خطبة عيد الفطر لعام 1437هـ .. اتقوا الظلم

عيد الفطر لعام 1437هـ .. اتقوا الظلم

«خطبة عيد الفطر 1437هـ: اتقوا الظُّلم»

الأربعاء من شوال  1437 هـ  -  الموافق 6/07/2016

إِنَّ الْحَمْدَ لِلّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فاشكروا ربَّكم عبادَ الله على ما أنعمَ عليكم به من هذا العيدِ السعيد، فهذا اليومُ تَوَّجَ اللهُ تبارك وتعالى- به شهرَ الصيام، وافتتح به أشهرَ الحجِّ إلى بيتِ اللهِ الحرام، فاعرفوا قَدْرَ النعمةِ التي أنعمَ اللهُ تبارك وتعالى- عليكم بها: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58].

وقد أنعمَ اللهُ تباركَ وتعالى- علينا بثلاثةِ أعياد؛ اثنتان يدوران في العامِ والثالثُ يدورُ في الأسبوع؛ عيدُ الفِطر وعيد الأضحى ويومُ الجُمعة.

وقد أرادَ اللهُ تبارك وتعالى- لنا أنْ نفرحَ بما أنعمَ علينا به من نِعَمِهِ، فبعدَ موسمٍ فيه من الفرائضِ والسُّننِ ما فيه؛ من الصيامِ ومن القيامِ ومن زكاةِ الفِطر؛ أنعمَ اللهُ تبارك وتعالى- علينا بيومٍ يفرحُ فيه الصائمُ بما قدَّمَ للهِ جلَّ وعلا- من الخيرِ، مؤمِّلًا راجيًا أنْ يتقبلَ اللهُ تعالى منه، وكذلك إذا ما أُدِّيَت المناسك وكان الوفدُ الحجيجُ مُقبلين على اللهِ تبارك وتعالى- قد فرغوا من عُظْمِ ما أوجبَ اللهُ تعالى عليهم في نُسُكِهم؛ شرعَ اللهُ لهم عيدًا يفرحون فيه بنعمةِ اللهِ عليهم، وهو عيدُ الأضحى.

فافرحوا بنعمةِ اللهِ تبارك وتعالى- عليكم؛ فكم ممن كان معكم غيَّبَتهُ ظُلمةُ القبور، وصار تحت الثَّرى؟!!

انقطع عملُهُ إلا مما ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم-، واعرفوا قَدْرَ النعمةِ التي أنعمَ اللهُ عليكم بها أعني نعمة الإسلامِ العظيم-؛

فإنَّ اللهَ تبارك وتعالى- اختار لكم أكملَ الدين وأتمَّهُ وأكملَهُ، وأتمَّ عليكم النعمةَ به، دينُ العدل الذي لا ظُلْمَ معه، دينُ القِسطِ الذي لا جَورَ معه.

والنبي -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم- في أعظمِ مشهدٍ شَهِدَهُ -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم- وشَهِدَهُ معهُ أصحابُهُ رضوان الله عليهم-، يخطبُ فيهم وفي الأجيالِ المُقبِلة، يتهادى سَمْعُهُ في ظِلالٍ من النَّدى، يسمعُهُ كلُّ أحد يسمعُ قولَ الرسول -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم--: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَليْكُم كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا».

﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾ [الأعراف: 29]، أمرَ اللهُ ربُّ العالمين بالعدلِ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ [النحل: 90]، وينهى اللهُ تبارك وتعالى- عن الظلمِ والجَورِ والفواحش ما ظهرَ منها وما بَطَن.

اللهُ تبارك وتعالى- يُبيِّنُ لنا أنَّ مَن أنعمَ اللهُ تبارك وتعالى- عليه بنعمةِ الإسلامِ؛ فأخلصَ الدين وأقامَ التوحيد؛ فلا خوفٌ عليهم ولا هُم يحزنون: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82].

في «صحيح البخاري» وعند مسلم أيضًا من روايةٍ أخرى: أنَّ الصحابة رضي الله عنهم- لمَّا نزلت هذه الآية؛ فَزِعوا إلى رسولِ الله -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-، فقالوا: أيُّنا لم يظلم نفسَهُ يا رسول الله؟

فقال -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-: «ليس ذاك، ألم تسمعوا قولَ لقمان لابنِهِ: ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]؟»

فنهى الله تبارك وتعالى- عن الشركِ به، والشركُ به أظلمُ الظلمِ وأفظعُهُ وأعظمُهُ، وأمرَ اللهُ تبارك وتعالى- بالعدلِ، وأعدلُ العدلِ وأفخمُهُ وأقومُه: توحيدُ اللهِ جلَّ وعلا-.

لقد حذَّرَ النبيُّ -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم- الأمةَ من الظُّلمِ؛ لأن أَمْرَها لا يقومُ إلا على العدل، فالعدلُ أساسُ المُلك، وما حَمَى مَلِكٌ ولا سلطانٌ ولا حاكمٌ ولا أميرٌ مُلْكَهُ بمِثْلِ العدلِ.

إنَّ اللهَ يُقيمَ الدولةَ العادلةَ ولو كانت كافرة، ولا يُقيمُ الدولةَ الظالمةَ ولو كانت مسلمة.

قال رسول الله -صلى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسَلَّم-: «الظلمُ ظلماتٌ يوم القيامة»، وهو حديثُ عبدِ اللهِ بنِ عُمرٍ رضي الله عنهما- في «الصحيحين».

ومن حديثِ جابر يقول: قال رسول الله -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-: «اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».

يُبيِّنُ النبيُّ -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم- أنَّ دعوةَ المظلوم ليس دونَها حجاب: «واتق دعوةَ المظلومِ؛ فإنه ليس دونها حجاب».

اتقِ دعوةَ المظلومِ ولو كان فاجرًا، ففجورُهُ على نفسِهِ.

اتق دعوةَ المظلوم؛ فإنها تصعدُ إلى السماءِ كأنها شرارة.

اتقِ دعوةَ المظلومِ ولو كان كافرًا.

شيءٌ لم يرضهُ اللهُ تبارك وتعالى- لنفسِهِ، أفيرضاهُ من أحدٍ من خَلْقِهِ؟!

«يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا»، لا تظلموا أنفسَكم.

يقول الرسولُ -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-: «مَن ظلمَ قِيدَ شِبرٍ من الأرضِ؛ طُوِّقَهُ من سبعِ أَرَضِينَ يوم القيامة».

يقول النبيُّ -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم- مُحَذِّرًا أنْ يركنَ الإنسانُ إلى المُهلة، فإنَّ اللهَ لا يعجلُ لعجلةِ أحد، ويُملي للظالمِ حتى إذا أخذَهُ لم يُفْلتهُ.

كما قال رسول الله -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-: «لتؤدنَّ الحقوقَ إلى أصحابِها يوم القيامة؛ حتى يُقادَ للشاةِ الجلحاءِ من الشاةِ القرناء»، لأن الشاةَ القرناء لا شك تؤلمُ الجلحاء أكثرَ ممَّا تؤلمُها أختُها.

يبعثُ اللهُ الخلائق ليُقيمَ العدل، وليرفعَ القسط، ويأتي بهذه الحيوانات إقامةً للعدل ورفعًا للقِسط، فتقتصُّ منها كما نطحتها في الدنيا، يقول الرسول -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-: «لتؤدنَّ الحقوقَ إلى أصحابِها؛ حتى يُقادَ للشاةِ الجلحاءِ من الشاةِ القرناء».

فاتقوا الله، لا تظلموا أنفسَكم، اتقوا الظُّلم؛ فإنَّ الظلمَ ظُلماتٌ يوم القيامة، والظلمُ ثلاثةُ أنواع:

*نوعٌ لا يَغْفِرُ اللهُ منه شيئًا: وهو الشركُ باللهِ جلَّ وعلا-: فـ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، فهذا النوعُ لا يتركُ اللهُ منه شيئًا، وإنما يؤاخِذُ به ولا يغفرُ منه شيئًا، وإنما يُعذِّبُ به: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].

*ونوعٌ لا يتركُ اللهُ تبارك وتعالى- منه شيئًا: وهو ظُلمُ العبادِ بعضِهم بعضًا، فلابد من إقامةِ العدل، ومَن لم يتحصل على حقِّهِ في هذه الحياة؛ فسوف يتحصلُ عليه حتمًا لا محالة.

كما قال رسول -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-: «مَن كان عنده مَظلمةٌ لأخيه من مالٍ أو عِرض؛ فليُؤدِّها في هذه الحياة قَبْلَ ألَّا يكونَ درهمٌ ولا دينار، وإنما هي الحسنات والسيئات، فيُؤخذُ من حسناتِهِ ليُعطى مَن ظَلمه، فإنْ فنيت حسناتُه؛ أُخِذَ من سيئاتِ المظلومِ فطُرِحَ عليه ثم طرِحَ في النار».

اتقوا الله، حافظوا على أعمالِكم، لا تجعلوها نهبًا للخصوماتِ والقصاصِ يوم القيامة؛ لأن الرجلَ يُعرضُ عليه كتابُهُ، حتى إذا ما أحسَّ أنه قد نجا، يقومُ مَن يقولُ ممن ظلمَهُ: يا رب أعطني حقي عند عبدك هذا، فيُعطى من حسناتِهِ، فما تزالُ تجتمعُ عليه مُحقَّرات الذنوبِ حتى يُلقى في النارِ وبئس القرار.

حافظوا على أعمالِكم، فالعِبرةُ ليست بالعملِ الصالحِ وحده، وإنما في الحفاظِ عليه؛ فكم ممن عَمِلَ صالحًا ثم لم يجد شيئًا؟!!

«تدرون ما المُفلس؟»

قالوا: مَن لا درهم له ولا دينار.

قال: «لا، المفلسُ من أتى يوم القيامةِ بأعمالٍ عظيمةٍ كالجبال، فيأتي وقد ضربَ هذا، وشتمَ هذا، وأخذَ مالَ هذا، وظلمَ هذا، فيأخذُ هذا من حسناتِهِ، وهذا من حسناتِه، وهذا من حسناتِه، حتى إذا فَنيت حسناتُه؛ أُخِذَ من سيئاتهم، فطُرح عليه، ثم طُرِح في النار».

ليس المُفلس بمُفلسِ الدرهمِ والدينار، المفلسُ مَن يأتي يوم القيامةِ وقد تعلقت برقبتِهِ المظالمُ، فإذا به قد وَزَّعَ حسناتِهِ، ثم لم توفِ بعدُ، فيُؤخذُ من سيئاتِ مَن ظُلِم، ثم يُطرحُ على رأسِهِ، ثم يطرحُ في النارِ وبئس القرار.

واعلموا أنَّ الفواحشَ هي هي، لا تتبدلُ على مَرِّ العصور، فإنَّ الفاحشةَ -أعني الزنا- هي هي، وكذا القتلُ وشُربُ الخمرِ وسَفكُ الدماء، كلُّ ذلك لا يتغيرُ بتغيُّرِ الأزمانِ والأعصار.

ولو أنَّ الإنسانَ نظرَ في قديمِ أحوالِ العالَمِ في مدينةِ «أُور»، وهي مدينةُ الخليلِ إبراهيم عليه السلام-، فتىً يمضي في الطريقِ المُقدس المُفضي إلى معبدِ الآلهة، ومعبدِ الإله «نانا» إله القمر- على وجهِ الخصوص، وكانوا قبل ذلك يسكنون الجبال، فكانوا يجعلون المعابدَ في قِممِها، فلمَّا انحدروا إلى السهولِ؛ اتخذوا المعابد وأعلوا قِممَها لتسكنها الآلهة، كذا كانوا يصنعون، يمضي فتىً في الطريقِ المُقدس المُفضي  إلى معبدِ الآلهةِ «عِشْتَار» وكانت شديدةَ الفِسقِ، ما تزالُ تخرجُ من عشيقٍ إلى عشيق، من الآلهةِ طَورًا ومن الأناسيِّ، ولكنْ تُقدَّم لها القُربات، وتُذْبَحُ عندها الذبائح، ويُسْجَدُ لها، ويُدْعَى عندها ويُطلبُ منها مع فُحشِها، مع أنها ساقطةٌ لا قيمة لها، ولكنْ كذلك تمضي أمورُ الكَهَنَةِ؛ من أجلِ استلابِ العقولِ، ومن أجلِ استلابِ الأموالِ كذلك والفوزِ بالفوائدِ والملذَّات.

يمضي؛ فإذا به عند النهر يجدُ جَمْعًا من الناس، فيتقدمُ مُشفِقًا، ويسألُ واجفًا؛ ما هذا؟

فيقولُ القائلُ مُجيبًا: هذان رجلٌ وامرأة ضُبِطَا مُتَلَبِّسَيْنِ بالفاحشةِ، يُقيِّدُهُما الجُندُ بالحبالِ من أجلِ أنْ يُطْرَحا في ماءِ النهر، فالعذابُ غَرَقًا والموتُ كذلك هو العقوبة.

يتساءل: وهؤلاء الجُند ألم يقعوا في هذه الفاحشةِ ويقعون؟!

وهؤلاء المتفرجون أليسوا كذلك؟!

كما قال المسيحُ بعد: «مَن كان منكم بلا خطيئةٍ فليَرْمِهَا بحجر».

اتقوا الله، فتِّشوا في أنفسِكم، قِفوا على رأسِ طريقِكم، إياكم والغرور؛ فإنه مَهلَكة، ولابد أن يؤدي إلى البوارِ وبئس القرار.

يقول: أليس هنالك من هؤلاءِ مَن صَنَعَ صنيعَها وأفحَش؟!

ولكنْ كذلك تمضي الأمور.

يمضي في طريقِ الإله نانا إلهِ القمر-، فيجدُ على جانبي الطريقِ المُقدس؛ العاهراتِ المُقدَّساتِ، يُمارسن البِغاءَ لحسابِ الآلهة، ويأتي صاحبُ النزوة ليُلقي في حجرِ الواحدةِ درهمًا أو درهمين لتقومَ معه!!

هذا باسمِ الآلهةِ لا شيء فيه!!

تلك إرادة الكَهَنة!!

وكذلك يصنعون في كلِّ زمانٍ ومكان، يُلبِّسون على الناس، ويغشُّونهم في دينِهم؛ لأجلِ أنْ تمتلئ بطونُهم وأكياسُهم، من أجلِ أنْ ينتفخا معًا -أكياسًا وبطونًا-.

ثم يذهبُ، فيجدُ مظاهرَ الاحتفاء عند عِشتار وهي إلهةُ الخِصْبِ عندهم، موصوفةٌ بالفسوقِ يا صاحبي؛ ولكنْ تُقدَّسُ وتُقَدَّمُ لها القرابين-.

يقول: أليس الزنا هو الزنا، عند هذين وعند العاهرات المُقدسات وعند الآلهة؟!!

أليس الزنا هو الزنا؟!!

هو الزنا، حرَّمه اللهُ تبارك وتعالى- كما حرَّمَ الفواحش ما ظهرَ منها وما بطن.

إنَّ النبيَّ -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم- بُعِثَ في أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ لا تقرأ ولا تحسِب، وكانوا يأتون ما يأتون من صنوفِ الفُحشِ والخنا، وكان المجتمعُ قائمًا على العصبيةِ المَحْضة، حتى الدين صار عصبيةً.

ينبغي أن يأتيَ كلُّ أهلِ الجزيرةِ إلى مكة، لا من أجلِ بيتِ اللهِ الحرام، وإنما من أجلِ عصبيةِ قُريش، فهُم الذين يقومون عليه، والمكاسبُ تتوالى، والأمن يُحَفُّ به الوادي، ومع ذلك لا يشكرون اللهَ على نِعمِهِ.

بُعِثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم- والعصبيةُ متأجِّجَةٌ في قومِهِ، فدعاهم إلى الله، اعبدوا اللهَ وحدَهُ لا شريك له، ودَعُوا ما اتخذ آباؤكم وأجدادُكم من الآلهة، فإنها لن تُغني عنكم من اللهِ شيئًا، أنتم تبحثونَ عن الله، واللهُ ربُّ العالمين منكم جِدُّ قريب.

إنَّ اللهَ تبارك وتعالى- هو القريبُ المجيب.

هو تبارك وتعالى- عالٍ في قُربِهِ قريبٌ في علوِّهِ، وهو تبارك وتعالى- العليُّ الأعلى، استوى على عرشِهِ بذاتِهِ بائنٌ من خَلْقِهِ، هو عالٍ فوق جميعِ خَلقِهِ، ومع ذلك فهو أقربُ إليك من نفسك التي بين جنبيْك.

اعبدوا الله، لا تشركوا به شيئًا.

إنَّ الأمنَ والأمان في عبادةِ الله تبارك وتعالى- وحدَهُ، وفي إخلاصِ الدينِ لوجهِهِ الكريم: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 2].

 

فمَن أتى بإيمانٍ كامل، ومَن أتى ببُعدٍ عن الشركِ تمامًا؛ فلهُ الأمنُ الكاملُ والاهتداءُ الكامل، وأمَّا ما فرَّطَ فيه من شأنِ التوحيد، ووقعَ فيه من بعضِ أمورِ الشركِ الذي لا يُخرجُ من المِلَّة؛ فإنَّ له من الأمنِ والهدايةِ بحَسَبِهِ، ولا يلومنَّ امرؤٌ إلا نفسَه.

إنَّ النبي -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم- دعا إلى اللهِ ربِّ العالمين، وتكالبوا عليه؛ حتى ألجئوه ومَن آمنَ معه وألجئوا عشرتَه؛ لأنهم تضامنوا عصبيةً لا يُسلمونَهُ وإن لم يؤمنوا بدينِهِ، ألجئوهم إلى الشِّعبِ ثلاثةَ أعوام، وكتبوا الصحيفةَ، وعُلِّقَت في جوفِ الكعبة، ليس فيها مما يُحترم سوى ما كتبوه: «باسمك اللهم»، هذا يبقى، وما عداهُ يفنى.

ثلاثةُ أعوامٍ مريرة تمرُّ على النبيِّ -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم- وهو يرى النساء، وهو يرى العجائز، وهو يرى الشيوخ، وهو يرى الضَّعَفَة، وهو يرى الأطفال؛ يئنِّون من وطأةِ الجوعِ وهو ينشبُ أنيابَهُ في أكبادِهم، فلا يجدون له دفْعًا إلَّا بمزيدٍ من استجلابِهِ، بتبديدِ الطاقة في البكاءِ وفي النحيبِ، ولا ينفعُهم شيء، والسادةُ من قُريش يأكلون ويتنعمون.

ثلاثةُ أعوامٍ تمرُّ على الرسولِ -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-، لا تنفعُ فيها سِعاية، ولا يُحصِّلُ واحدٌ من المسلمين في الموسم؛ في البيتِ الحرام وفي الوادي المُقدس، والناس كلُّهم آمنون، الطيرُ في السماء آمن، والوحوشُ في الفلواتِ آمنة، وأمَّا المسلمون فلا!!

يخرجُ خارجُهم إلى الأسواقِ ليبتاع، فيذهب إليه قريبُ قرابةٍ من رسولِ الله أبو لَهب- وقد انحاز إلى المشركين، وهو عمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم-، فيقول للتجار: لا تبيعوهم، وأنا أُضْعِفُ لكم السِّعرَ، وتعلمون وفائي، وتعلمون ثروتي، فيرجعون بخُفيِّ حُنين، لا يملكون سوى البكاءِ والنحيب، يتلمسونَ الرضوان عند اللهِ جلَّ وعلا-.

يُحَاصَرون ثلاثةَ أعوام، ثم تتحركُ العواطفُ في قلوبِ بعضِ المشركين وممن لهم رَحِمٌ عند المُحاصَرين، حتى يأتي أبو طالب وهو يقول: إنَّ ابن أخي قد أخبرني أنَّ الأرَضَةَ قد لحسَت الصحيفة أكلتها-، ولم يبق منها إلَّا اسمُ اللهِ وحدَهُ، فلنذهب جميعًا يقول لهم، يقول للسادة؛ للطواغيت؛ للكبارِ من قريش الذين يحاربون الله ورسوله، ويدفعونَ في وجوهِ المؤمنين وأَقْفِيَتِهمْ، ويُعذِّبونهم ويضطهدونهم، ما جريمتهم؟!

أنهم يقولون: لا إله إلا الله!!-.

يقول لهم: فلنذهب جميعًا إلى الكعبة، ولنأت بالصحيفةِ ولننشرها لنقرأَها، فإن كان ابنُ أخي صادقًا؛ فلا يَحِلُّ لكم أنْ تُبقوا هذا الحصارَ الظالم؛ أنْ تجوِّعوا الأطفالَ والنساء، أنْ تَعْدُوا على ذوي أرحامِكم، وأن تُقطِّعوا الأرحامَ على هذه الصورةِ المُفظِعة، اتقوا الله.

 

ذهبوا فأتوا بها، نشروها فلم يجدوا فيه حرفًا سوى اسم الله، ففُكَّ الحصار، وما هو إلا التعذيبُ بعد ذلك، تعذيبٌ بالضربِ وبالسياطِ وبالنارِ، ويذهبُ المؤمنون من أتباعِ رسول الله وأصحابِهِ إلى الحبشة، ديارٍ غريبة، ووجوهٍ غريبة، ولغةٍ غريبة، ودينٍ عنهم غريب، يحميهم اللهُ ربُّ العالمين، يعودون ثم يرجعونَ إلى الحبشةِ مرةً أخرى، ثم بعد ذلك تأتي الهجرةُ إلى مدينة الرسولِ صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

إنَّ أسلافَكُم مِن أصحابِ نبيِّكم تَعِبُوا كثيرًا، لا تُضيِّعوا تَعَبَهُم، اتقوا الله، اتقوا اللهَ ربَّ العالمين في دينِكم، مَن يُحافظُ عليه...مَن يحميه...مَن يدافع عنه سوى المسلمين...سوى أهل السُّنةِ على وجهِ الخصوص؟!! فهُم الذين يعرفون حقيقة الدين ويتمسكون به.

مَن الذين ينظرون في المآلات ولا ينظرون تحت أقدامِهم؟

أهلُ السُّنةِ على وجهِ الخصوص.

مَن الذين يُقدِّرونَ المصلحةَ العامة ويُقدِّمونها على المصلحةِ الخاصة ولو وقعَ عليهم من الظلمِ ما وقع، يحتسبون، يطلبون من اللهِ ربِّ العالمين الرضوان؟

 

إنهم أهلُ السُّنة، يُتَّهَمون بالاتهاماتِ الباطلة، يُتتبَعون، يؤذى منهم مَن يُؤذى، ويُشَرَّدُ منهم مَن يُشَرَّد، ويُعذَّبُ منهم مَن يُعذَّب، ويُشْغَبُ على مَن منهم يُشْغَب، وهم يتضرعون إلى اللهِ ربِّ العالمين يطلبون الثباتَ على الدين.

احذروا الظلم؛ فإنَّ الظلمَ ظلماتٌ يوم القيامة، ولا تغتروا بظواهرِ الأحوال؛ فقد رأيتم بأعيُنِكم كيف زال مُلْكُ الملوك، وتحطمت كراسيٌّ وعروش؟!!

اتقوا اللهَ ربَّ العالمين؛ فقد رأيتم بأعيُنِكم ما لم يَرَهُ ما كان قبلكم، رأيتم عواقبَ الظلمِ الوخيمة وكيف استُلِبَ المُلْكُ ممن كان مالكًا، ثم وقعَ عليه من الذُّلِّ والخَسْفِ والهوان ما رأيتموه بأعيُنِكم وما تعلمونه عِلمَ اليقين، «إنَّ اللهَ ليُملي الظالم، حتى إذا أخذه لم يُفلتْهُ»، ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ [هود: 102].

لا تغتروا بحِلْمِهِ؛ فإنَّ سعيدَ بن جُبير لمَّا سُلِّطَ عليه الحَجَّاج؛ كان يقول وهو يضحك: «عجبتُ من حلمِ اللهِ عليك وجُرأتك على الله».

لا تغتروا بحِلمِ اللهِ، فإنَّ اللهَ تبارك وتعالى- يمهلُ ولا يُهمل، يُملي للظالمِ حتى يأخذَهُ بظُلمِهِ، فإذا ما تورطَ في ظُلمٍ لا يُقبلُ عند اللهِ تبارك وتعالى-؛ رَحِمَ المظلومين.

هذا اليومُ عيدُكم أيها المسلمون، تجتمعون فيه، تُكبِّرون اللهَ ربَّ العالمين، تحمدونَهُ، فتأملوا في حالِكم في جَمْعِكم-؛ حتى تتذكروا به جَمْعَكم يوم القيامة وقد حشرَكم اللهُ ربُّ العالمين والأولينَ والآخرينَ بين يديه في صعيدٍ واحد، ينفُذُهم البصر، ويُسمِعُهم المُتكلم، ولا يخفى على ربِّك تبارك وتعالى- منهم شيء، فتتطايرُ الصحفُ، فآخذٌ بيمينِهِ من أمام، وآخذٌ بشِمالِهِ من وراءِ ظهرِهِ.

ليس العيد في لُبْسِ الجديد، إنما العيد فيمن طاعاتُهُ تزيد.

تأمل اليومَ في حالِك وكيف مضى عليك موسمُ الطاعة الذي رُبما لن أُدركَهُ ولن تُركَهُ، يعلمُ ذلك اللهُ ربُّ العالمين وحده؛ ماذا صنعت؟ وماذا قدَّمْت؟ وماذا أنت ناوٍ أن تصنعَ بعد؟

إنَّ الأمرَ جِدٌّ لا هزلَ فيه.

وأمَّا الذين يسخرونَ يسخرونَ من الدين-؛ فهؤلاء طوائفُ من المجرمين، كانوا كذلك منذُ كان الدين، وهُم جندُ الشيطانِ وأعوانُهُ، وهؤلاء كالذُّباب، ليست لهم قيمة، لا يساوي الواحدُ منهم وزنَهُ من تراب؛ فإنَّ الترابَ يُنتفعُ به، يُتيممُ به عند فَقْدِ الماءِ حقيقةً أو حُكْمًا، أو يُتخذُ لَبِنَةً في جدار، قد يُنتفعُ بهذا التراب، وأمَّا مِثلُ هذا؛ فلا قيمةَ له، ولا كالذباب، فإنّ الذبابَ لا يعصي اللهَ جلَّ وعلا-.

مِثلُ هؤلاء في كلِّ جيل، وفي كل زمان، وفي كلِّ مكان! لا تأبهوا لهم.

اتقوا الله في دينِكم، تمسكوا به، عَضُّوا عليه بالنواجذِ كما أمركم نبيُّكم -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-.

وتأملوا في حالِ شبابِ الأمةِ، فإنهم منقسمون على ثلاثة أقسام:

*القسمُ الأول: تقيٌّ نقيٌّ، مُحِبٌّ للدين، مُقبلٌ على الشريعة، يصومُ الفرض، ويؤدي زكاةَ مالِهِ، ويصلي لربِّهِ نَفْلًا وفرْضًا، ويحجُّ بيتَ ربِّهِ تبارك وتعالى-، ويتكلمُ بالكلمةِ الطيبة، ويصلُ رَحِمَهُ، ويُنفقُ في سبيلِ اللهِ جلَّ وعلا-، ويفعلُ الخيرات، وهو يحاولُ -إن لم يفهم- فَهْمَ الدينِ على الوجهِ الصحيح؛ لكنَّهم مفخرةُ الأمة، ينبغي أنْ تُعْنَى بهم الأمة، وألَّا تَتَبَّعَهُم بأيِّ لونٍ من ألوانِ التعويق، فهُم ذخيرتُها، هُم أمانُها، صمامُ أمانِها هؤلاء الشباب، فإذا ما نُزِعَ صمامُ الأمان؛ فهو الهلاك والدمار، نسألُ اللهَ العافيةَ والسلامة.

*وقسمٌ ثانٍ: ضَاعَ، لم يَعُدْ، استلبتهُ السوالب، واختطفتهُ المذاهب، فصارَ مُلحدًا مُحاربًا للدين، لا يعرفُ ربًّا، ولا يحترمُ نبيًّا، ولا يتمسكُ بكتاب، لا ينتمي لأرض، ولا يدافعُ عن عِرض، ولا يدافعُ عن دينٍ ولا ينتمي إليه، جاهلٌ مطموسٌ، صارَ حربًا على الأُمة، وهؤلاء أشدُّ الخَلْقِ حربًا على أُمَّتِهِم، يتشككونَ في الدين، ويُشكِّكونَ فيه الخَلْقَ؛ بل في ربِّ العالمين، فهذا قِسمٌ معلوم.

*قِسمٌ ثالثٌ: وعلى هذا ينبغي أن تُعْقَدَ الآمالُ، هذا القِسْمُ هُم الحَيَارَى مِنَ الشبابِ، ينظرون إلى الموروث، وتَرَبَّوْا في بيئاتٍ محافِظة، ثم وَفَدَ عليهم ما وَفَدَ من الخَنَا والزنا والفواحش من بَصَرِيَّةٍ وسَمْعِيَّةٍ وذاتيةٍ مبذولة، بغيرِ ثمنٍ تُبذل، فَيَحْتَارُ بين موروثِهِ، بَيْنَ ما تَرَبَّى عليه مِنْ قِيَمِهِ، بين ما كان من أصولِ حضارتِهِ، وبين ما يَلْقَاهُ من سَيْلٍ نَجِس يَنْحَدِرُ عليه لِيَجْرِفَهُ.

هؤلاءِ الحيارى يُشَكَّكونَ في كلِّ حين، يُشَكَّكونَ في القرآنِ وفي نسبتِهِ إلى العليمِ الديَّان، يُشَكَّكونَ في رسولِ الله -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-، ويُشَكَّكونَ في القَدَر، يُشَكَّكونَ في الأصول!!

خذوا بأيديِهم؛ فإنَّ المسلم أخو المسلم، لا يُسلِمُهُ، ولا يظلمُهُ، ولا يخذلُه.

النبيُّ صلى الله عليه وسلم- جاء بالائتلاف وبالنهي عن الخلاف؛ يقول رسولُ الله صلى الله عليه وسلم-: «لا يؤمنُ أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِهِ».

«المؤمنُ أخو المؤمن، لا يُسلِمُهُ ولا يظلمُهُ ولا يخذلُهُ».

«المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيانِ يَشُدُّ بعضُهُ بعضًا وشبَّكَ بين أصابعِهِ -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-».

حقُّ المسلمِ عليك:

لو أنك نظرتَ في حقِّ أخيك المسلمِ عليك ولو كان عنده ما عنده ممَّا لا يُخرجُهُ من المِلَّة ولا يُقيمُهُ على سواءِ البدعة؛ مهما كان من المعاصي، فخُذ بيدِه.

أين يتعلم الدين؟!

فُرِّغَ المجتمعُ كلُّهُ من مُعلِّمٍ للدينِ الحقِّ لهؤلاء المساكين.

ماذا يتعلمون؟! وممن يتعلمون؟!

خذوا بأيديهم؛ فهؤلاء يحتاجونكم، والمسلمُ له حقٌّ عظيم، تدري الكعبة؟ لو أنك استقبلتها، فأخذتَ مِعولًا؛ فَصعِدتَ فوق سَطحِها؛ فنقضتَها نقضتَ الكعبةَ حجرًا حجرًا-؛ لكان إثمُك أهونَ من إثمِك إذا اعتديتَ على بنيانِ أخيك المسلم، «ما يزالُ المرءُ في فُسحةٍ من دينِهِ حتى يُصيبَ دمًا حرامًا».

«كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمُهُ ومالُهُ وعِرضُه»، وهي الأمورُ الأصلية التي حرَّمها اللهُ ربُّ العالمين.

وبيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم- أنَّ الظلمَ يلحقُ العبدَ تِجاه الربِّ جلَّ وعلا- بالشركِ به، والتقصيرِ في أوامرِهِ، وارتكابِ مناهيِه، إلى غيرِ ذلك مما بَيْنَ العبدِ وربِّهِ فيما يتعلقُ بالدين ومن حقوقِ اللهِ عليك.

*وأمَّا ما يتعلقُ بالناس؛ فإنَّ هذا يتعلقُ بثلاثةِ أنواع.

انتبه، إياك أن تعتديَ على مسلمٍ، إياك أن تُريقَ منه قطرةَ دم؛ فهذا عند اللهِ عظيم.

إياك أن تعتديَ عليه بضربٍ أو شَتْم، إياك أنْ تُقبلَ عليه بما يُروِّعُه.

اتق الله، واعلم أنَّ اللهَ سائلُك، وأنك لابد أن تؤاخذ نفسكَ قبل أنْ يؤاخذك.

الدمُ والمال، إياك أنْ تعتديَ على مالِ أخيك؛ فإنَّ اللهَ حرَّمَ السَّرِقَةَ، وحرَّمَ الغصبَ، وحرَّمَ الرِّشوة، وحرَّمَ أَكْلَ أموالِ الناسِ بالباطلِ، وحرَّمَ أَكْلَ أموالِ اليتامى والمساكين.

اتقوا الله.

تلمَّسُوا الرزقَ من سبيلٍ حلالٍ لا شُبهةُ فيه ولا حُرمة.

إنَّ أولَ ما يُنتنُ من العبدِ بعد موتِهِ بطنُهُ.

اتقوا الله في مأكلِكم ومشربِكم وملبسِكم، وفي إطعامِ أهليكم وأبنائكم؛ فإنهم أمانةٌ في أعناقِكم.

«دمُهُ ومالُهُ وعِرضُه»، والعِرضُ: موطنُ المدحِ والقدحِ في الإنسانِ، ليس هو بالذي يَذْهَبُ إليه الذهنُ بَادِيَ الرأي، فهذا نهايةُ المُنتهى.

اتقوا الله في أعراضِكم، إياك أنْ تلمزَ أخاكَ بما يسوء، أو أنْ تُجَبِّهَه بما يكرهُهُ، «المسلمُ للمسلمِ كالبنيان يشدُّ بعضُهُ بعضًا».

«لن يؤمنَ أحدُكم حتى يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسِهِ».

إنَّ النبيَّ -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم- قد أمرَ بإغناءِ المساكينِ في هذا اليوم بإخراجِ صدقةِ الفطرِ بصاعٍ من طعام عن كلِّ رأس؛ مِنْ حُرٍّ وعبد، وذكرٍ وأُنثى، وكبيرٍ وصغير؛ حتى لا يَسْأَلُوا الناسَ تكفُّفًا في يوم العيد.

إنه تكافلُ الأُمة، لا يبقى فيها جائع، ولا ترى فيها عاريًا، وإنما الكلُّ مُنَعَّمٌ بنعمةِ الله، واعلم أنَّك عندما تؤدِّي حقَّ المالِ في مالِك؛ فلا جميلَ لك، لم تَصْنَعْ شيئًا، وإنما أنت مأمورٌ، فتأتي بواجبِك، فإياك أنْ تمُنَّ بشيءٍ أوجبَهُ اللهُ عليك، بل المِنَّةُ للهِ وحدَهُ ولِمَن قدَّرَ اللهُ أنْ يأخذَ منك، فاتق الله، فالمِنَّة له لا لك، وأقبِل على شأنِك.

احرص على ما ينفعُك.

دَعْكَ من السفاسف.

أيتها الأمةُ المرحومة؛ لماذا لا تشتغلينَ الآن إلَّا بالسفاسفِ سفاسفِ الأمور-؟!!

الكلُّ يَمْسِكُ بِتَلَابِيبِ الكُلِّ، الكلُّ يحاربُ الكل، الكلُّ يشتمُ الكل، ما هذا؟!!

هذا عَبَث، هذا إسلامٌ للأمةِ لأعدائِها إسلامًا باردًا بغنيمةٍ باردةٍ لا تكلفةَ فيها.

اتقوا الله، وعليكم بمعالي الأمور ومكارمِها.

خُذوا بالمروءة، كُن رَجُلًا كما يجبُ أنْ يكونَ الرجل؛ لأن الطفلَ لا يمكنُ أنْ يصنعَ ما يصنعُ الرجال إلَّا إذا صار رجُلًا، فتأمل في هذا مليًّا، عليك بالمروءة وقد خُرِمت، فخوارمُ المروءةِ في الخَلْقِ في كلِّ زمانٍ ومكان؛ ولكنْ في هذا الزمان كأنها وُئِدت، كأنها ماتت، وكأنها فَنِيَت، وأمَّا المروءةُ عند أصحابِ المروءات فشيءٌ آخر، إنه أصلُك وعِرضُك ونشأتُك ودينُك الذي هو لحمُك ودمُك.

اتق اللهَ ربَّ العالمين في هذا كلِّهِ، وأَقبِل على ربِّك، والمؤمنُ قنَّاصٌ للحسنات، صائدٌ للمكرُمات، يعرفُ كيف يصلُ إلى الحسنة؛ لِيَقْتَنِصَها، وكيف يَدْلُفُ إلى الْمَكْرُمةِ لِيَحُوزَها، فاتقوا اللهَ في ذلك، واسعَوا له السعيَ الجميل كما أمركم بذلك الرسولُ صلى الله عليه وسلم-.

«من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ له ما تقدم من ذنبِهِ»، «من قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ له ما تقدم من ذنبِهِ»، ومهما وقعَ من تقصير؛ فتجيءُ صدقةُ الفطرِ لتجبرَ الكسرَ، واللهُ ربُّ العالمين هو السميع البصير.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم-: «مَن صام رمضان وأتبعهُ ستًّا من شوال؛ كان كصيام الدَّهرِ»، وفَسَّرَ ذلك في حديثٍ آخر: «فشهرٌ بعشرةِ أشهر، وستةُ أيامٍ بشهرين، فذلك صيامُ العام».

لم يَنْقَضِ الصيامُ، بل هو قائمٌ ما قامت هذه الأمةُ كما علَّمَها رسولُها صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالصيامِ المندوب الذي وضَّحَهُ الرسول -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-.

وكذا قيامُ الليلِ؛ يُبيِّنُ لكم النبيُّ صلى الله عليه وسلم- أنه شرفُكم، أنه عزُّكم، كان يقومُ الليلَ حتى تتفطر تتشققَ، تتورمَ، روايات- قدماه، يقول: «أفلا أحبُّ أنْ أكونَ عبدًا شكورًا»، وهو يراجَعُ، تفعلُ هذا وقد غفرَ اللهُ لك ما تقدمَ من ذنبك وما تأخر؟

إنها العبادة، إنها الصِّلةُ بالمحبةِ والتعظيم، تدري معنى السجود؟

أن يكون أنفُك وجبهتُك موضعُ الشموخِ منك في الرَّغامِ، مُمرَّغيْن بين يدي الله، ذِلَّةٌ ومذلَّةٌ هي العِزُّ والعِزَّةُ، فإنه ما ذَلَّ مَن عَزَّ باللهِ، وما عزَّ مَن ذَلَّ لغيرِ الله.

اتقوا الله ربَّ العالمين، أفيقوا.

إنَّ المواعظَ تتكرر، إنَّ الأحوالَ تتبدل، والقلوبُ هي القلوب، صُلبَةٌ صَدِأَةٌ؛ لأنها لا تُجْلَى إلَّا بذِكْرِ اللهِ، وذِكْرُ اللهِ بعيد، ليس باللسانِ وحدَهُ، ولا بمواطأةِ القلبِ كذلك، وإنما بأنْ ترى آثارَ قُدرتِهِ وعجائبَ صَنعتِهِ في كل شيءٍ، في السحابِ المُسَخَّرِ بين السماءِ والأرضِ، في الشمسِ الضاحيةِ والقمرِ المُنيرِ، في النَّبْتَةِ التي تدلُفُ من جوفِ الأرضِ بقدَرِ اللهِ وأَمْرِهِ؛ لكي تكونَ بعدُ زادًا وزُوَّادًا.

تتأملُ في تبدُّلِ الفصولِ والأعوام، واختلافِ السنين ومَرِّها بالعِزِّ والمَذَلَّةِ، تأتي بما تأتي به، وتبدُّلِ أحوالِ الناسِ فيها من غنىً إلى فقرٍ، ومن فقرٍ إلى غِنى، من صحةٍ إلى مرض، ومن مرضٍ إلى صحة، من حياةٍ إلى موت، ومن موتٍ إلى حياة، بميلادِ مَن يُولد وببَعْثِهِ في هذه الحياة، كلُّ ذلك تراه يدلُّك على قدرةِ الله، وأنَّ ناصيتَك بيدِهِ جلَّ وعلا-.

إياك أنْ تحسبَ أنك بعيدٌ عن المؤاخذة دنيا وآخرة، مَن ظَلَمَ؛ يُؤاخَذُ بالشرعِ، فإنْ أَفْلَتَ فَبِعِقَابِ اللهِ دنيا قبل الآخرة؛ لأنه ما مِن ذنبٍ أجدرُ أنْ تُعَجَّلَ له العقوبةُ في الدنيا مع ما يُدَّخرُ له من العذابِ في الآخرة من البغي وقطيعةِ الرَّحِم.

تبغي؟!!

مَن أنت؟!!

ألا تنظرُ في نفسِك وما يحملُ بطنُك؟!

مَن تكون؟!

إنك لا تملكُ لنفسِك من نفسِك شيئًا، يُمرضُك؛ فهل تملكُ لنفسِك حيلةً أو دَفْعًا؟

يُميتُك؛ هل يُمكنُ أن تعترضَ على رُسُلِ اللهِ الذين أتَوا ليقبضوا روحَك؟!!

مَن تكون وما تكون؟!!

اتق اللهَ في نفسِك، إذا أخذك؛ فلن يُفلتك.

اتق اللهَ، لا تظلم، إياك أنْ تظلم، سيأخذُك، وأنا على يقينٍ من ربِّي بأنَّ اللهَ حرَّم الظلمَ على نفسِهِ، أفيرضاهُ لك؟!!

مَن تكون أنت؟!!

اتق الله، أدِّ الحقوقَ إلى أربابِها، واضبط نفسَك، وأمسك لفظَك، واتقِّ اللهَ في بصرِك وسمعِك، وفي مطعمِك ومشربِك.

لقد رأى أحدُ الصالحين مِنْ سَلَفِنا السابقين الناسَ يتدافعونَ في المسجدِ، فقال: إلى أين؟

قال قائلٌ: إنهم يتدافعونَ إلى الصفِّ الأول.

وكانت تلك القرية أو تلك المدينة أو تلك المَحَلَّةُ يَكْثُرُ فيها أكْلُ أموالِ الناسِ بالباطلِ، ويُحصَّلُ فيها المالُ من حرام، فقام فيهم صائحًا: اتقوا اللهَ وكلوا من حلالٍ، وصَلُّوا في الصفِّ الأخير.

العِبرةُ ليست في هذا، العِبرةُ ليست مظهرًا يُظهَرُ، وإنما العِبرةُ في مَظْهَرٍ يُظْهَرُ على حقيقةٍ قائمة، لا على وَهْمٍ موهوم ولا خيالٍ يتخيلُه مَن يتخيلُ الخيالاتِ ويَسْرِي وراءَ الظنون.

اتقوا الله.

ما الذي يبقى لي ولك؟

إنْ هي إلَّا أيامٌ، أسابيعُ، أشهرٌ، أعوامٌ، كما مرَّ ما مرَّ سَيَمُرُّ ما هو آت، ولا يدري أحدٌ نهايتَهُ متى تكون ولا كيف تكون، وربما لا يُحسَنُ للمرءِ الختام، يُسَلَّطُ عليه الألمُ في المرضِ قبلَ موتِهِ حتى يكفُرَ بربِّهِ، فلا يَلْقَى ربَّهُ تبارك وتعالى- على السَّويَّةِ والإسلام، بل دَعْكَ من هذا بلا مرض، إنما هي السَّكرات، فلا يستطيعُ لها تحمُّلًا، وهو لا يبغي لها دَفْعًا لأنها حقيقةٌ قائمة، فما تزالُ به تعذِّبُهُ وتُضنيهُ وتُعليهُ وتُسفِلُهُ وهو لا يملكُ لنفسِهِ من نفسِهِ شيئًا.

 

كما قال عمرو بن العاص لولده يصف الموت: كأني في تابوت من حديد، سُمِّرَ بمسامير، وكأني أتنفسُ مِن سَمِّ الخياط يعني من عينِ الإبرة-، يقول ذلك وهو يموت، كان حاذقًا، فكان يقولُ قبل أنْ ينزلَ به ما نزلَ: لو أنَّ رجُلًا حكيمًا عاقلًا وَصَفَ لنا عند موتِهِ ما يجدُ من ألمِ الموتِ ومن أحوالِهِ، فلم يجد حكيمًا عاقلًا، فلمَّا حضرتهُ هو الوفاة، ذَكَّرَهُ ولدُهُ عبد الله بما كان يقول: يا أبت، كنتَ تقول لنا كذا وكذا، وأنت على الصفةِ التي ابتغيت، فقُل لنا الآن ما تجد.

قال: يا بُنيَّ كأنَّ أباك في تابوتٍ من حديد، سُمِّرَ بمسامير وكأني أتنفسُ مِن سَمِّ الخياط.

ثم يأتي ما يقطعُ سَمَّ الخياط ويصيرُ ما لله لله وما للترابِ للتراب.

اتقوا الله، اضبطوا بيوتَكم ما استطعتم، فإنَّ الانحرافَ لم يدَع مكانًا لم يدخلهُ، في المخادع على المحصنات، في الشوارع، في المدارسِ، في المعاهدِ، في الكليات، في وسائلِ الإعلامِ من منظورٍ ومسموعٍ ومتلوٍّ مقروء، يؤتى بالمرأة من أجلِ أنْ تكونَ شبكةً تُصطادُ بها القلوب.

اتقوا الله، اتقوا الله في أبنائكم وفي بيوتِكم ما استطعتم، بالنيةِ الصالحةِ يَدْفَعُ اللهُ تبارك وتعالى- جميعَ الكُرُبات، ويُفرِّجُها ربُّ الأربابِ بقُدرتِهِ وحكمتِهِ ورحمتِهِ وحولِهِ وطَولِهِ ومِنَّتِهِ وهو على كلِّ شيءٍ قدير.

قال رسول الله في خطبةِ عيدٍ من الأعياد وهو يعظُ النساءَ: «اتقين الله، فإني اطلعتُ في النارِ فوجدتُ أكثرَ أهلِها النساء، يكفُرن».

قالت واحدةٌ منهن: يكفُرن باللهِ يا رسول الله؟

قال: «لا، يكفُرن العشير، فإنَّ أحدَكم لو أحسن إلى امرأتِهِ أربعينَ سنة ثم أساءَ إليها مرةً واحدة، قالت: ما وجدتُ منك إحسانًا قَط».

على المرأة أنْ تتقيَ اللهَ ربَّ العالمين في نفسِها وأنْ تعلمَ أنَّ ظُلمَها يتعداها، فظُلمُها مُتعدٍّ وليس بقاصرٍ؛ لأنها إذا أبدت مباذلها وأظهرت ما يجبُ أنْ تُخفيَهُ؛ فقد وقعت في الإثمِ والحرام، ولكنْ كلُّ مَن فُتِنَ في ميزانِ سيئاتِها، فذنبُها مُتعدٍّ ليس بقاصر، يقول رسولُ الله: «صنفان من الناسِ لم أرهُما بعدُ: أقوامٌ معهم سياطٌ كأذنابِ البقرِ يضربونَ بها الناس، ونساءٌ كاسياتٌ عاريات، مائلاتٌ مُميلات، رؤوسهُن كأسنمة البُخْت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإنَّ ريحَها ليوجدُ مِن مسيرةِ كذا وكذا».

الكلُّ في سفينةٍ واحدة سفينةُ الوطن-، فإن كُسِرت نسألُ اللهَ السلامة- غَرِقَ الجميع، لن تبقى حينئذٍ عداوةٌ تنفع، والخيانةُ هي الخيانة، فاتقوا اللهَ ربَّ العالمين في أنفسِكم وفيمن وراءكم وفي وطنِكم، في ترابِكم، في أرضِكم، في هوائِكم ومائِكم، فإنَّ ذلك كلَّهُ ممَّا يتوجبُ عليكم أنْ تحافظوا عليه وأن تُدافعوا عنه.

وقد قضى ربُّنا وقدَّر أنْ يكونَ أَمْنُ مِصر أَمْنَ الإسلامِ في هذا العصرِ، حائطُ الصَّدِّ الذي إذا ما هُدِمَ؛ اكتسحت الأمةَ سيولُ الضلالة، سيولُ الإلحاد، سيولُ الفواحش، حتى لا تبقى فيها مكرُمة.

جميعًا مُستهدفون، مَن أحبَّ ومَن كَرِه، مَنْ أَقْبَلَ ومَن أَدْبَرَ، مَن جاء ومَن راح، مَن عَزَّ ومَن ذَلَّ، الكلُّ مُستهدَف.

أفيقوا، اتقوا الله ربَّ العالمين قبل أن تقعَ الواقعة سلَّمكم اللهُ وحماكم، وسلَّمَ اللهُ وطننا وجميعَ أوطانِ المسلمين، وأَحْسَنَ ختامنا أجمعين-.

أسألُ اللهُ جلَّت قدرتُهُ وتقدست أسماؤه- أنْ يرحمَنا، وأن يرحمَ أمواتنا وجميعَ أموات المسلمين، وأن يُحسنَ لنا الختامَ أجمعين، إنه تعالى هو البرُّ الكريم والجوادُ الرحيم.

وصلى اللهُ وسلم على نبيِّنا مُحمد وعلى آلِهِ وأصحابِهِ ومَن دعا بدعوتِهِ إلى يومِ الدين.

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك