تفريغ خطبة دروس من الهجرة

دروس من الهجرة

«دروس من الهجرة»

إنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ له، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صلي الله عليه وعلى آله وسلم-.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70-71].

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَمَا أنْ أرسلَ اللهُ ربُّ العالمين رسولَهُ الكريم -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- هِدَايَةً ونُورًا حتى جَاءَهُ الإيذاءُ مِن كلِّ صَوْب، وطَالَ الإيذاءُ فِيمَنْ طَالَ مُحمدًا -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- إلَّا أنهُ لَم يَخْلُص إليه شيءٌ يكرهُهُ حتى  ماتَ عمُّهُ أبو طالب على رَأْسِ عَشْرِ سَنَوَاتٍ مِن مبعثِ الرسولِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، وكانَ الأذى لمَّا حلَّ بساحةِ الأصحابِ عليهم الرضوان-؛ أَمَرَهُم النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- أنْ يُهَاجِرُوا إلى الحَبَشَة، وأخبرَهُم أنَّ بها مَلِكًا عادلًا لا يُظلمُ عنده أحد.

فهاجرَ إلى الحبشةِ في سبيلِ اللهِ ربِّ العالمين مَن هاجرَ، ثُمَّ سَعَت قريشٌ سِعَايَتَهَا مِن أجلِ أنْ تَرُدَّ المُهاجرينَ مِن الحبشةِ إلى مَكَّةَ مِن أجلِ فتنتِهِم وتعذيبِهم؛ فثَبَّتَ اللهُ ربُّ العالمين النَّجاشيَّ طيَّبَ اللهُ ربُّ العالمين ثَرَاهُ وأَحْسَنَ في الجنَّةِ مَثْوَاهُ-، إذ أسلمَ بعدُ قلبَهُ وزِمامَهُ للهِ ربِّ العالمين وتَبِعَ النبيَّ الأمينَ صلى الله عليه وسلم-، فَثَبَّتَهُ اللهُ ربُّ العالمين؛ فَلَم تَبْلُغ قُريشٌ مِن ذلك مَبْلَغًا، وسَمِعَ المُهَاجِرُونَ إلى الحبشةِ أنَّ قريشًا قد فَاءَت إلى ظِلِّ العقلِ وأنها كَفَّت الأذى والإيذاءَ عن مُحَمَّدٍ وحزبِهِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، فعادَ مَن عاد مخدوعًا بهذا البرقِ الخُلَّبِ الذي لا مَطَرَ فيه ولا غيْث، حتى إذا ما كانوا على مَشَارِفِ مَكَّةَ؛ عَلِموا عِلْمَ اليقينِ أنَّ الأذى قد ازدادَ جدًّا، فعادَ إلى الحبشةِ مَن عادَ ودَخَلَ إلى مكةَ مَن دَخَلَ.

وكان فيمَن هاجرَ إلى اللهِ ربِّ العالمينَ فِرارًا بدينِهِ مِن الأذى والاضطهَاد أبو سَلَمَةَ بنُ عبدِ الأسدِ وزوْجُهُ أُمُّ سَلَمَة هندُ بنتُ زادِ الراكبِ المَخزومي، وكان أبوها من الأجوادِ المشهورين في الجاهليةِ حتى لُقِّبَ بزادِ الراكب.

هاجرَ أبو سَلَمَة وأمُّ سَلَمَة إلى الحبشةِ ثم عَادَا فيمَن عادَ، وزادت الفتنةُ وزادَ الاضهاد حتى كانت بيعةُ العقبةِ الثانية، وأَذِنَ اللهُ ربُّ العالمين للنبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- بالقتالِ، فأنزل اللهُ ربُّ العالمين قولَه: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج: 39-41].

فأَذِنَ اللهُ ربُّ العالمين بهذا البلاغِ الشافي الكافي لرسولِهِ صلى الله عليه وسلم- بالقِتَال، وأُسْقِطَ في يدِ قُريش؛ إذ كان النبي -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- بعد بيعةِ العقبةِ الثانية قد قالَ لأصحابِهِ: «أُريتُ دارَ هجرتِكُم، أُريتُ دارًا سَبِخَةً بين لابتيْن»

والأرضُ السَّبِخَةُ: هي مدينةُ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- بما يَعْلُوها مِن الملوحةِ، فليس بها من الشَّجَرِ إلَّا القليل وهو شجرُ النَّخل، ولكنَّها لا تُنبِتُ فيما عدا ذلك نباتًا إلَّا القليل النادر.

بين لابتيْن: أي بين الحَرَّتيْن، والحَرَّةُ أرضٌ ذاتُ حجارةٍ سُود كأنما احتُرِقت بالنَّار.

فهاجرَ بأمرِ اللهِ ربِّ العالمين ثمَّ بِأَمْرِ النبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم- إلى مدينةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم- مَن هاجرَ، وكان أوَّلَ مَن هاجرَ إلى مدينةِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- مُصعبُ بنُ عُميْر وابنُ أمِّ مكتوم، فكانا يُقرآن الناسَ القرآن، ثُمَّ جَاءَ بلالٌ وسعدٌ وعمارُ بنُ ياسرٍ رضي الله عنهم أجمعين-، ثُمَّ جاء عُمَرُ بن الخَطاب في عشرينَ من أصحابِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.

وأرادَ أبو سَلمة أنْ يُهاجرَ بزَوْجِهِ أمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنه وعنها- ومعهما ولدُهُما سَلَمَة رضي اللهُ عنه وأرضاه-، أرادَ أبو سلمةَ أنْ يُهاجرَ بزَوْجِهِ وولدِهِ إلى مهَاجِرِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم-، وَخَرَجَ بها على بَعيرٍ يقودُهُ، فما هو إلَّا أنْ رآها بعضُ قومِها مِن بني مخزوم؛ فَتَسَامَعَ بها القومُ وجاءوا إلى أبي سَلمةَ فقالوا له: يا هذا؛ أمَّا نفسُكَ فَقَد غَلَبْتَنَا عليها، وأمَّا صاحبتُنَا؛ فوالله لا ندَعُهَا لك تسيرُ بها في بلدانِ اللهِ ربِّ العالمين مُشَرَّدَةً طَريدةً، فَحَجَزُوا أمَّ سَلمة، وتسامعَ قومُ أبي سَلمةَ رضي الله عنه- مِن بني عبد الأسد بِمَا كان مِن شأنِ بني مخزوم وأنهم حَجَزُوا سَلمةَ وأُمَّهُ، فجاءوا إلى بني مخزوم أرادوا أنْ يأخذوا سَلَمَةَ منهم، فقالوا: أمَّا ابنتَكُم وصاحبتَكُم فدُونَكم لا نُريدُها، وأمَّا ولدُنَا؛ فإنه بَضْعَةٌ مِنَّا ولا بُدَّ أنْ نَأْخَذَهُ.

وتجاذبَ القومُ سلمةَ بن أُمِّ سلمةَ رضي الله عنه وعنها- حتى خلعوا يدَهُ كما قالت أُمُّ سَلمة رضوان الله عليها-، وَأَخَذَهُ قومُ أبيه مِن بني عبدِ الأسد واحتُجِزَ عندَهُم، وأمَّا هي فكانت تخرجُ إلى الأبْطَحِ إلى المكانِ الذي وَقَعَت فيه الواقعة-؛ لكي تَنْدُبَ حظًّا عاثِرًا جِدا حلَّ بساحتِها ونزلَ على رأسِها رضوان الله عليها-.

فأمَّا زَوْجُهَا فإنه سَارَ مُهاجِرًا إلى اللهِ ربِّ العالمين، وأمَّا ابنُهَا فَقَدْ أَخَذَهُ قومُ أبيه، فهي لا تَخْلُصُ إليه ولا يَخْلُصُ إليها، وأمَّا هي فمُحتجزَةٌ في مكةَ لا تستطيعُ مِن الكفارِ فِكاكًا ولا فِرارًا، وظلَّت عامًا كاملًا تخرجُ إلى الأبْطَحِ، تجلسُ في ذلك الموضعِ الذي وَقَعَت لَهَا فيه الواقعة؛ لكي تَندُبَ حظًّا عاثِرًا جِدًّا ضارِعةً إلى اللهِ ربِّ العالمين أنْ يُفَرِّجَ كَرْبَها مِن الصباحِ إلى المساءِ جالسةً على صخرةٍ باكيةً حتى رَقَّ لها رجُلٌ مِن قومِها بعدما ظلَّت سنةً كاملةً على ذلك.

فقال: ألَا خَلِّيْتُم بين هذه المسكينةِ وبين زوجِهَا وولدِهَا.

فقالوا: إنْ شاءت أنْ تخرجَ مهاجرِةً؛ فَعَلَت، فلنْ نَحُولَ بينها وبين ذلك.

وَخَرَجَت وَتَوَسَّطَ العقلاءُ عند بني عبد الأسد مِن قوم أبي سلمةَ، فَرُدَّ سلمةُ إلى أُمِّهِ، وخرجت هي على بعيرٍ ومعها ولدُهَا في حِجرها وليس لها مِن حمايةٍ إلَّا حمايةُ اللهِ ربِّ العالمين وَحْدَهُ، وَلَقيَهَا عند التنعيمِ وهو موضعٌ معروفٌ الآن لكلِّ مَن حجَّ أو اعتمر على بُعْدِ ثلاثةِ أميالٍ مِن بلدِ اللهِ الحرام، لَقِيَهَا عثمانُ بنُ مظعونٍ رضوان الله عليه- وكان مشركًا لم يُسلِم بعدُ، لقيَهَا؛ فقال: إلى أين يا بنتَ زادِ الراكبِ؟

فقالت: خرجتُ مُهَاجِرَةً إلى اللهِ ورسولِهِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.

فقال: ومِثْلُكِ تخرجُ وَحْدَهَا.

فصَحِبَهَا عثمان بن مظعونٍ رضوان الله عليه- حتى إذا ما كانت هناك عند قُبَاءٍ بقريتِها، قال: إنَّ زَوْجَكِ بهذه القريةِ، فَدُونَكِ، ثُمَّ عَادَ رَاجِعًا إلى مَكَّةَ المُكَرَّمَة زَادَهَا اللهُ ربُّ العالمين كَرَمًا وَتَشْرِيفًا-.

هذا مَلْمَحٌ واحدٌ مِن ملامحَ كثيرة جدًّا مِمَّا وقعَ مِن الأذى والاضطهادِ على أصحابِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، وأمَّا الموقفُ الذي كان فيه النبي -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- قبلَ أنْ يُهاجرَ بالإذنِ مِن اللهِ ربِّ العالمينَ إلى المدينةِ التي شَرَّفَهَا اللهُ ربُّ العالمين به صلى الله عليه وسلم-، أمَّا الموقف؛ فَقَدْ حَكَاهُ اللهُ ربُّ العالمين في مُحكمِ التنزيل: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ * وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا ۙ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ [الأنفال: 30-33].

صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ جَعَلَهُ اللهُ ربُّ العالمين أمَنَةً لهم مِن العذابِ، مع أنهم قد حادُّوهُ وشاقُّوهُ واضطهدُّوهُ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، الموقفُ يُلَخِّصُهُ البيانُ القرآنيُّ في جملةٍ مِن كلمتيْن: ﴿قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا﴾: وهي كلمةٌ مُعبِّرةٌ جدًّا عن الملالِ والضجر ﴿قَدْ سَمِعْنَا﴾، ﴿وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا ۙ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾، فأمَّا قولُهُم: ﴿قَدْ سَمِعْنَا﴾ فإنها مُتَفَجِّرَةٌ بطاقاتٍ هائلةٍ مِن التعبيرِ عن المَلَلِ وعن الضجرِ وعن الإعراضِ عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم-، ﴿قَدْ سَمِعْنَا﴾: أي ابُعد عنَّ بهذا الذي تقول؛ فقَد سَمعناه، ﴿لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا ۙ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾.

ثمَّ يُغْرِقُونَ في قلةِ العقلِ وفي سَفَاهَةِ المَنطقِ: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾، هلَّا قَالُوا: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فاهْدِنَا إليْه، ولكنَّهُم لإغراقِهِم في مُجانبةِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- وتكذيبِهِ وفي الحسدِ له -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- أنْ اخْتَصَّهُ اللهُ ربُّ العالمين بالرسالةِ الخاتِمةِ وأنزلَ على قلبِهِ القرآنَ العظيم حَسَدًا للنبيِّ الأمين صلى الله عليه وسلم-؛ يَتَمَنَونَ على اللهِ ربِّ العالمين ويشترطون، اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا الذي جاءَ به مُحَمَّدٌ مِن الوعدِ والوعيد هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.

هذه آياتٌ بيِّنات تُبيِّنُ لنا مدى ما كان فيه الرسولُ صلى الله عليه وسلم- مِن العَنَتِ والاضطهادِ حتى فَرَّ بدينِهِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- مُهَاجِرًا إلى اللهِ ربِّ العالمين.

أَذِنَ اللهُ ربُّ العالمين للنبيِّ بِالهِجْرَةِ، وكانت جودةُ الإعداد ودِقَّةُ الاستعدادِ ظاهرةً جليَّةً، ولا نقول إنَّ الرسولَ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- كان يستعدُّ لهذا الحدثِ العظيمِ استعدادَ بَشَر، ولكنَّما هو استعدادُ بَشَرٍ يُوحى إليه، فَقَدْ كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم- مُؤيَّدًا بالوحي في كلِّ شيء، وبخاصةٍ في أمثالِ هذه المواقفِ العظيمةِ الفَارِقَةِ، حتى إنَّ اللهَ ربَّ العالمين لَم يَدَع مُحَمَّدًا -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- في مَعْرِضِ هذا الأمرِ العظيم إلَّا وَقَد دَلَّنَا ربُّنَا تبارك وتعالى- بِذِكْرِ المِنَّةِ عليه: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 40].

إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ مُؤيَّدًا بالوحي -صَلَّى اللهُ عَليه وعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، ولَكِنَّ دِقَّةَ الإعداد وسلامةَ الاستعدادِ من الرسولِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- تدُلُّ المسلمينَ على وجوبِ الأخذِ بالأسبابِ دائمًا وأبدًا، وانظُر فيما كان مِن تفصيلِ أَمْرِ ذلك، فإنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم- لمَّا أَذِنَ اللهُ ربُّ العالمين له بالهجرةِ، وحدَّدَ له المَوْضِعَ الذي يهاجرُ إليه -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، قَدَّمَ بين يَدي هِجْرَتِهِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- كلَّ أصحابِهِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- ولم يَبْقَ معهُ قَبْلَ الهجرةِ التي وقعت منه -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- إلَّا أبو بكر رضوان الله عليه- وعليُّ بن أبي طالبٍ رضي اللهُ عنه- وإلَّا مَن فُتِنَ في دينِهِ مِمَّن حَجَزَتْهُ قريش، وَحَالَت بينه وبين الخروجِ مُهاجرًا إلى اللهِ ربِّ العالمين ورسولِهِ الكريم -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، وهذا لَعَمْرُ اللهِ الكريم هو عينُ التضحية وعينُ البَذْل وعينُ الفداء، لم يخرُج رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم- عندما أُذِنَ له في الهجرة أوَّلَ مَن خرج، بل تخلَّفَ في مَكَّةَ صلى الله عليه وسلم- وقدَّمَ الأصحابَ بين يديه، فهاجَرُوا جميعًا إلَّا مَن قَضَى اللهُ ربُّ العالمين بِفِتْنَتِهِ؛ فثَبَتَ، أو انحرفَ عن المنهجِ السَّويِّ نسألُ اللهَ السلامةَ والعافية-.

وأمَّا الأمرُ الثاني: فإنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم- اختارَ اللهُ ربُّ العالمين له في الهجرةِ صاحبًا وهو أبو بكرٍ رضوان الله عليه-، وكان يستأذنُ النبيَّ في أنْ يُهاجرَ إلى اللهِ ورسولِهِ، فيقولُ له النبيُّ صلى الله عليه وسلم-: «يا أبا بكر على رِسْلِكَ لعلَّ اللهَ يجعلُ لك صَاحِبًا».

فكان يقولُ: الصُّحبة الصُّحبةَ يا رسول الله، يرجو أنْ يكونَ صاحبَ النبيِّ في هِجْرَتِهِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، وابتاعَ أبو بكرٍ رضوان الله عليه- راحلتيْن، فعَلَفَهُما وَرَق السَّمُرِ ثمَّ إنه جعلَ ذلك عنده في مكانٍ حدَّدَهُ أربعةَ أشهُرٍ سواءَ حتى أَذِنَ اللهُ ربُّ العالمين لنبيِّهِ بالخروجِ مُهاجرًا إلى مهاجرهِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.

وأمَّا أَمْرُ نبيِّا -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- في ليلةِ هِجْرتِهِ؛ فَأمْرٌ مؤيَّدٌ بالوحي مِن السماء مِن عند اللهِ ربِّ العالمين، يَظَلُّ عليٌّ رضوان الله عليه- في فِرَاشِ النبي صلى الله عليه وسلم-، وقد تسَجَّى بِبُرْدِهِ الحضرميِّ الأخضر، والرسول ليس في بيتِهِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، بَل ذَهَبَ في وقتٍ تَخْفُتُ فيه الرقابةُ وَتَنَامُ فيها أعيُنُ الرُّقباء عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم-، ذهب في الهاجِرَةِ وكانت الهجرةُ في آخرِ شهرٍ مِن أشهُرِ الصيفِ في السنةِ الثالثة عشرة مِن مبعثِ الرسول صلى الله عليه وسلم-، فذهبَ في وقتِ القيلولةِ في الهاجرةِ في وقتٍ لو وَضَعْتَ فيه لَحْمًا نيِّئًا على رِمالِ الصحراءِ المُحْرِقَةِ لأَنْضَجَتْهُ، ذهبَ إلى بيتِ أبي بكر في ساعةٍ لم يكُن يأتي فيها أبا بكرٍ رضوان الله عليه-، يقولُ أبو بكرٍ رضوان الله عليه-: ما أَرَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم- قد أتى في هذا الوقتِ إلَّا لحَدَثٍ حَدَثَ.

فَلَمَّا دخلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم-؛ أعلمَهُ بأنَّ الإذنَ بالهجرةِ قد جاءَهُ مِن اللهِ ربِّ العالمين.

فقال: يا رسول الله الصُّحبةَ الصُّحبة.

قال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم-: «قد جعلَ اللهُ لك صاحبًا يا أبا بكر».

وخرجَ الرسولُ في وقتِ الهاجرةِ مِن خَوْخَةٍ في بيتِ أبي بكر وهي كوَّةٌ نافِذةٌ في الجدارِ الخلفيِّ لبيتِ أبي بكر-، وإذا كانت هناك رقابةٌ مِن استخباراتِ قُريش تَرْقُبُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم-، وكانوا قد بَيَّتُوا قَتْلَهُ في الليلةِ التي هاجرَ فيها صلى الله عليه وسلم-، إذا كانت أعيُنُ الرُّقباءِ تَرْقُبُهُ؛ فإنها تتطلعُ إلى بابِ بيتِ أبي بكر، وأمَّا الرسولُ صلى الله عليه وسلم- فيخرُجُ مع أبي بكرٍ رضوان الله عليه- مِن خَوْخَةٍ في الجدارِ الخَلْفيِّ لبيتِ أبي بكرٍ رضوان الله عليه-.

وأمَّا النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- فيسيرُ صَوْبَ الجنوبِ، مع أنهم يعلمون أنَّ طريقَ الشَّمالِ مُؤدٍّ إلى المدينةِ التي يُهَاجِرُ إليها -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، نَزَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم- جنوبًا إلى جبلِ ثَوْر ودخلَ الغارَ مع صاحبِهِ رضي الله عنه- في غارِ ثَوْرٍ مع أبي بكرٍ رضوان الله عليه-، فَدَخَلَ أبو بكرٍ بين يدي النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- وقال: يا رسول الله على رِسْلِكَ حتى أستبرئ لك الغار، ودخلَ ففَتَحَ الغار، مزَّقَ رِدَائَهُ وجعلَهُ في الشقوقِ حذَرًا مِن أنْ يكونَ بها شيءٌ مِن الهَوَّامِ فيؤذيَ ذلك رسولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، وَدَخَلَ مع النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.

مِن جودةِ الإعدادِ وسلامةِ الاستعدادِ أنْ جعلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم- عبد الله بن أبي بكرٍ رضي الله عنهما- عَيْنًا على قريش يتلصصُ عليهم في الأصباحِ، فإذا ما كان المساء أخذَ ما وضعَ عليه سَمْعَهُ ويدَهُ وسَمْعَ قلبِهِ وذهبَ إلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم- فأخبرَهُ، والنبيُّ مع صاحبِهِ في الغارِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.

وأمَّا تأمينُ أَمْرِ المَئونةِ فَقَدْ جُعِلَ إلى أسماءَ بنتِ أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها-، وانظُر إلى توزيعِ الأدوارِ ها هنا، لم يجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم- أَمْرَ الزادِ إلى عبد الله بن أبي بكر؛ لأنه لو حَمَلَ زادًا في إحدى يديْهِ أو كلتيْهِما ثمَّ خَرَجَ إلى أيِّ سبيل؛ لتَبِعتهُ أعيُنُ الرُّقباء وتَبِعَتْهُ بعد ذلك أقدامُهُم ولعَلِموا مَوْضِعَ النبي -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، فَنَحَّى عنه النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- ذلك وَجَعَلَهُ مَنوطًا بأسماءَ بنتِ أبي بكر، والأُنثى والمرأةُ وكانت أسماءُ حَامِلًا رضوان الله عليها- تسيرُ خمسةَ أميالٍ كاملات إلى غارِ ثَوْر في جبلِ ثَوْر وهو جبلٌ شَاهِقٌ شَهْمٌ صُلْبٌ مُتَجَهِم حجارتُهُ مَسنونةٌ عنيفةٌ حادَّةٌ حتى لقد حَفِيَت قَدَمَا رسولِ اللهِ-، المرأةُ إذا حَمَلَت زَادًا وطعامًا ومتاعًا لا يُلتفتُ إليها، كانت أسماءُ تؤمِّنُ أمْرَ الزاد وكان عبد الله بنُ أبي بكر يأتي للنبيِّ باستخباراتِ قُريش، ولم يجعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم- أمْرَ الاستخباراتِ مَوكولًا بأسماء؛ لأنَّ المرأةَ مهما بلغَ عقلُهَا لا يُمكنُ أنْ يكونَ واعيًا حافظًا كالرَّجُلِ الحاذقِ اللبيب؛ هذه واحدة.

وثانية: أنَّ أسماء لا تستطيعُ وهي امرأة أنْ تدخلَ في منتدياتِ قريش ولا أنْ تدخلَ في مجامعِ الرجال لتتفقدَ الأخبار ثم تذهبَ بها إلى رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.

كذلك وزَّعَ النبيُّ الأدوار -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، وأمْرٌ آخر لم يُغْفلهُ رسولُ الله وحاشا للهِ أنء يصنع -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- وهو أنَّ عبدَ الله بن أبي بكر رضي الله عنهما- وأسماءَ بنتَ أبي بكرٍ رضي الله عنهما- إذا ما سارا إلى الغارِ عند رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- كان للأقدامِ آثارٌ على الرمالِ، فرُبما أتى القَافَةُ مِن تُبَّاعِ الأثرِ فدَلَّوا قريشًا على موضعِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم- اقتفاءً للآثارِ على الرمال.

فكان عامر بن فُهيْرة مولَى أبي بكرٍ رضي الله عنه وأرضاه- على غَنَمٍ له، إذا ما جاءَ عبد الله وجاءت أسماء وَلَدَا أبي بكرٍ رضي الله عنهم أجمعين-، جاءَ بِغَنَمِهِ فَسَارَ على طريقِهِما فعَفَّ على الآثار، ثم يبيتُ بأغنامِهِ عند الغارِ عند رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- فيحلبُ لهم فيشربونَ هنيئًا مريئًا صلى الله على مُحَمَّدٍ ورضي الله عن صاحبِهِ في الغار رضوانًا كبيرًا-، فإذا ما كان الصباحُ وقد لاحَ بتباشيرِهِ؛ عاد عامرُ بن فُهيرة إلى قُريشٍ كأنما أصبحَ فيهم وكذلِكُم كان استعدادُ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.

وأمرٌ آخر لم يَغِب عن رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- وحاشا للهِ أنْ يغيبَ-؛ ذلك أنه استغلَّ الخبرةَ التي كانت عند المشركين، فإنَّ أبا بكر استأجرَ ابنَ أُرَيْقِط ليكونَ دليلًا هاديًا، وكان رجُلًا مُشركًا ولكنَّهُ كان عليمًا بمجاهلِ الصحراوات، فأتاهُم على رأسِ ثلاثةِ أيام مِن مَبيتِهِم في الغارِ صلى الله على مُحمَّدٍ ورضي اللهُ ربُّ العالمين عن صاحبِهِ-، جاءَهُم فأمعنَ بالسَّيرِ تجاهَ الجنوب ثُمَّ استدارَ غربًا حتى إذا كان قريبًا مِن ساحلِ البحرِ الأحمر؛ سَلَكَ طريقًا غيرَ مطروقةٍ أبدًا هي نادرةٌ جدًّا ما يطرُقُهَا طَارِقٌ-، وسارَ مُصْعِدًا صَوْبَ الشَّمال حتى قَدُمَ مدينةَ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.

دخلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم- المدينةَ وحَلَّ بقُباءَ في بني عمرو بنِ عَوْفٍ في شهرِ ربيعٍ الأوَّل في السنةِ الثالثةَ عشرةَ مِن مبعثِهِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، وخرجَ جواري الأنصار ورجالُ الأنصار ونساءُ الأنصار، حتى اليهود في وقتِ قيلولةٍ شديدةِ الحَرِّ فيها واحةُ النبيِّ بِظِلٍّ وبَرَد، وقد نزلَ نُزولًا بالسكينةِ كلِّها على مدينتِهِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، فلمَّا أنْ رآهُ يهوديٌّ وكان على حِصنٍ مِن حصونِهِم، قال: يا بَني قَيْلَة؛ هذا جَدُّكُم الذي تنتظرون، هذا عظيمُكُم الذي تنتظرون، فَخَرَجَت المدينةُ عن بَكْرةِ أبيها للقاءِ الحبيبِ المحبوبِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.

فأمَّا الجواري مِن ولائدِ الأنصار فَأَخَذْنَ الدُّفوف يضربنَ ويُغنِين فَرَحًا بمَقدمِ النبيِّ الأمين: نحن جوارٍ مِن بني الأنصار حَبَّذَا مُحَمَّدٌ مِن جار -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.

ولَم يَقُلن ما هو مشهورٌ بين عامةِ المسلمين وخاصتهم: طَلَعَ البدرُ علينا مِن ثَنيَّات الوداع، وَجَبَ الشكرُ علينا ما دعا للهِ داع؛ لأنَّ ثنيَّاتِ الوداعِ إنما هي في قِبَلِ الشامِ صَوْبَ المدينةِ مِن أعلى مِن جهةِ القادمِ مِن الشام، وأمَّا ثَنيَّاتُ الوداعِ والغناءُ الذي كان مِن جواري الأنصارِ فرحًا بقدومِ النبيِّ؛ فكان عند عودتِهِ صلى الله عليه وسلم- مِن غزوةِ تبوك، وأمَّا في الهجرةِ فَكُنَّ يُغنينَ بين يديْهِ قائلات: نحن جوارٍ مِن بني الأنصار حبَّذا مُحَمَّدٌ مِن جار -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.

نزلَ النبيُّ قُباءَ وَبَنَى المسجد وظلَّ فيهم إلى يومِ الجُمُعة، ثُمَّ رَكَب ناقتَهُ القَصْوَاء وسارَ إلى بني عَوْفِ بنِ سالمٍ، فَوَجَبَت عليه فيهم الجُمُعة، فنزلَ فصلَّى هنالكَ الجُمُعة ولم يَكُن مَسْجِدُهُ قد أُسِسَّ بعدُ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، ثُمَّ بُعِثَت الناقةُ مِن مَبرَكِها بعد الصلاة، والقومُ جميعًا يتدافعون: إلينا يا رسول الله، إلينا يا رسولَ الله، وأَكْرِم بك مِن جارٍ يا رسولَ الله.

كلُّهُم يريدُ أنْ يحظَى بشرفِ نزولِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، وأمَّا الحكمةُ وأمَّا الفطنة دَعْكَ مِن هذا-، وأمَّا النُّبوَّةُ وأمَّا الصدقُ وأمَّا الإخلاصُ وأمَّا الوفاءُ فيأبَى إلى أنْ يُطيِّبَ قلوبَ الجميع؛ ليعلمَ الجَمْعُ أنَّ الأمرَ للهِ ربِّ العالمين وحدَهُ، وأنَّ شَرَفَ نزولِ المصطفى عند أحدٍ من هؤلاء الأكرامِ الأكارمِ الأطهارِ الأخيارِ إنما هو بتوقيفٍ مِن اللهِ ربِّ العالمين، لا بِأَمْرٍ مِن مُحَمَّدٍ، مع أنَّ أمْرَ مُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم- لا يكونُ إلَّا بوحيٍ مِن اللهِ ربِّ العالمين، قال: «دَعُوا ناقتي وخَلُّا سبيلَها فإنها مأمورة».

وانطلقت الناقةُ وعليها خَيْرُ رَاكِب، خَيْرُ مَن مَسَّ الحصى قطُّ وانطلقت، كلما مرَّ على قومٍ بحَيِّهِم: إلينا يا رسول الله، إلى المَنَعَةِ والغَلَبةِ وحُسْنِ الجِوار، يقولُ: «خَلُّوا سبيلَ ناقتي فإنها مأمورة»، فتنطلقُ حتى إذا كان عند أخوالِ أبيه مِن بني عَديِّ بنِ النَّجَار، خَرَجُوا إليه بخؤولتِهِم لأبيه، يقولون: هَلُمَّ إلى أخوالِكَ يا رسول الله، إنَّ  لنا عندك لَرَحِمًا مصونة، ف......إلينا وانزل علينا يا أكرمَ جار، فَسَرَّح النبيُّ في الحيِّ بصرَهُ وعاد سبعةً وأربعين عامًا عندما أتت به أُمِّهِ وهو في السادسةِ مِن عُمُرِهِ بعد موتِ أبيه لتُزيرَهُ قبرَ أبيه بالمدينةِ عند أخوالِهِ مِن بني عَديِّ بنِ النَّجَار، ولَعِبَ النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- في سَاحَةِ خؤولتِهِ في مَرَاتعِ الشبابِ وفي مواطنِ الصِّبا مع لِدَاتِهِ مِن خؤولةِ أبيه مِن بني عَديِّ بن النَّجار منذُ سبعةٍ وأربعينَ عامًا.

النبيُّ الآن على ناقتِهِ القصواء يقول: «خَلُّوا سبيلَ ناقتي فإنها مأمورة»، والدموعُ تقطُرُ مِن عينيْهِ إذ يذكرُ أُمَّهُ عندما جَاءَت به منذ نصفِ قرنٍ مِن الزمان لتُزيرَهُ قبرَ أبيه، فبَكَت عند القبرِ ما بَكَت، ثُمَّ أَخَذَت بِيَدِ وليدِهَا صبيِّهَا مُحَمَّد -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، يتيمُ الأبِ، في السادسةِ مِن عُمُرِه، وأرادت أنْ تعودَ به إلى مكةَ إلى آلِ أبيه، فلمَّا أنْ كانت بالصحراءَ بالبادية بين مكة والمدينة جاءها أَجَلُهَا، وإنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم- ليتخطى بصرُهُ يومَ الهجرةِ نِصْفَ قرنٍ مِن الزمان ليَرَى منظرَ المُحتضرة بين يَديْهِ وَمَا مَعَهُ مِن أَحَدٍ إلَّا أَمَتُهُ أمُّ أَيْمَن بَرَكَة وَقَد أَسْنَدَت مولاتَها إلى صدرِها.

وسَمْعُ الزمان يأتي إلى سَمْعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم- يومَ الهجرةِ عندما نَظَرَ إلى الساحةِ عند خؤولةِ أبيه، يأتي سَمْعُ الزمانِ إلى سَمْعِ النبيِّ بحَشْرَجةِ أُمِّهِ المُحتضَرَةِ وكيف أنها فاضت روحُهَا بين يديْه، ثُمَّ حملتْها أَمَتُهَا ومولاتُهَا إلى الأبواءِ بقريةٍ بين يثربَ عندما كان ذلك اسمُهَا، وبينها وبين مكةَ ما بينها، فدُفِنَت بالأبواء وعادت بيدِ النبيِّ مُضاعَفَ اليُتْمِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.

واليومَ يعود صلى الله عليه وسلم- على ناقتِهِ: «خَلُّوا سبيلَها يا خؤولةَ أبي فإنها مأمورة»، وخَلَّوا سَبيلَهَا وخرجت فذهبت إلى المِرْبَدِ وكان لغُلاميْن يتيميْن بالمدينة، فبَرَكَت ثمَّ قامت فانبعثت ثمَّ أعادت نظرَهَا مُوليَّةً فعادت شيئًا؛ فبَرَكَت في مَبركِهَا الأولِ، فنزلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم-، ووُضِعَ رَحْلُ ناقتِهِ فحملَهُ أبو أيوب إلى دارِهِ مُسرِعًا، والقومُ يقولون: إلينا يا رسول الله حتى نبنيَ لك بيتًا، فيقول النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-: «المرءُ مع رَحْلِهِ».

فَنَزَلَ على أبي أيوبٍ الأنصاريِّ، وكان المَوْضِعُ الذي بَرَكَت فيه الناقةُ بأمْرِ اللهِ ربِّ العالمين هو الموضعُ الذي يهفو إليه قلبُ كلِّ مسلمٍ اليوم؛ هو موضعُ مسجدِ النبي -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، فَبُنيَ له فيه المسجد وَشَارَكَ في حَمْلِ الترابِ على عاتقِهِ، لئِن قَعَدْنَا والنبيُّ يعملُ لذاك مِنَّا العملُ المُضَلَّلُّ، «اللهم ارحم الأنصارَ والمُهاجرة..اللهم ارحم الأنصارَ والمُهاجرة» يقولُهَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم- مُشاركًا للأنصارِ والمُهاجرين في العملِ في الحفرِ لأساسِ مسجدِ النبيِّ الكريم صلى الله عليه وسلم-.

ثمَّ بُنِيَت حُجُرات رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم-، ما وصْفُهَا؟

يقولُ الحسَنُ السِّبطُ بنُ عليِّ بن الزهراء سِبطُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم-: «كُنْتُ أدخلُ أبياتَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم- وأنا غلامٌ مُراهق، فتطولُ يدي سَقْفَ بيتِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم-، فَأمَّا بَعْضُ حُجُرات الرسول: فحجارةٌ بعضُها فوقَ بعضٍ وسقفُهَا مِن جَرِيد ولا شيء عليها، وأمَّا حُجرةٌ حُجرةُ عائشة: فَجُدُرُهَا مِن جَريدٍ مُطَيَّنٍ وسَقْفُهَا مِن جَريدٍ لا شيء عليه، وعلى بابِهَا سِتْرٌ مَرخيٌّ هو بابُ بيتِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم- الذي بَنَى فيه على عائشةَ رضوان الله عليها-، وأمَّا أثاثُ بيتِ رسولِ الله -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-: فَشُدِّت أعوادٌ وجُعِلَ عليها حِبالٌ مِن لِيفٍ وطُرِحَ عليها فِراشٌ مِن أَدَمٍ أي: مِن جِلْدٍ- حَشْوهُ ليف، ليس بين الفراشِ وبين الأرضِ إلَّا الحصير»، فهذا بيتُ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.

وأمَّا القصورُ في الشَّمَال قصورُ كِسْرَى وقَيْصر وأمراء غسَّان- يرتعونَ في قصورِهِ وكذلك في الحِيَرَةِ وفي مِصر، وفي الجنوبِ في صنعاء في اليمن، فأمَّا القصورُ فآياتٌ مِن آياتِ المِعْمَارِ حدِّث عنه ولا حرج-، وأمَّا الأثاث فباذخٌ باذخٌ باذخ لا يَصِفُ العقلُ توهُّمَ بعض ما كان عليه، وأمَّا قبرُ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- الذي هو اليوم في حُجْرةِ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- فحُجرتُهُ قَبْرُهُ وَقَبْرُهُ حُجرتُهُ وأثاثُ بيتِهِ ما قد وَصَفْتُ  وأمْرُ نبيِّك إلى اللهِ ربِّ العالمين الذي يحفظُهُ وَيَرْعَاهُ، فأمَّا الأضواء فَلَم تخطف شيئًا مِن أضواءِ النبوة مِن هذا البيتِ المتواضع بيتِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم-، فلمَّا طلعَت شَمْسُهُ؛ كُسِفَت كلُّ الأنوار وأُطفئِت كلُّ الشموع وأضاءت شمسُ الرسولُ  -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.

اللهم صلى وسلم وبارك على مُحَمَّدٍ صلاةً وسلامًا دائميْن مُتلازميْن إلى يومِ الدين.

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم.

﴿الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ- صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّين.

أَمَّا بَعْدُ:

عبادَ الله؛ إنَّ الرسولَ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- لمَّا نَزَلَ المَدينةَ وجدَ اليهودَ يصومونَ يومَ عاشوراء، فقال: «ما هذا؟»

قالوا: هذا يومٌ نَجَّى الله ربُّ العالمين موسى وَقَوْمَهُ وغَرَّقَ فِرعونَ وقومَهُ، فكان موسى عليه السلام- يَصُومُهُ شُكْرًا للهِ ربِّ العالمين، فنحنُ نصومُهُ.

فقالَ الرسولُ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-: «نحنُ أَوْلى بِمُوسى منُكم»، فَصَامَهُ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.

في «الصحيحين» أنَّ الرسولَ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- أَرْسَلَ مُناديًا في يومِ عاشوراء في غَدَاتِهِ أي: مُبكِّرًا- يُنادي في قُرى الأنصارِ بجوارِ المدينة أي: في منازلِهِم-: «مَن كان منكم قد أصبحَ صائمًا فليُتِمَّ صَوْمَهُ، ومَن كان منكم قد أفطر فليُتِمَّ الصومَ إلى المساء».

وعن الرُّبيِّع بنتُ مُعَوِّذٍ رضي اللهُ عنها وأرضاها- قالت: أمرَنَا رسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- بصيامِ يومِ عاشوراء، فكُنَّا نصومُ ونُصَوِّمُ صِبياننا، وكُنَّا نأخذُ الصبيانَ إلى المسجدِ؛ نصنعُ لهم اللُّعَب مِن العِهْنِ أي مِن الصُّوفِ-، فإذا بَكَوا على الطعامِ؛ لَهَّيْنَاهُم بذلك العِهنِ حتى يأتي المغربُ فنُفطرُ أجمعون».

فالرسولُ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- أَمَرَ بصيامِ يومِ عاشوراء، وكان الأمرُ في بدءِهِ على الفَرْضيَّةِ، فَفُرِضَ صومُ يومِ عاشوراءَ سنةً واحدةً؛ لأنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- دَخَلَ المدينةَ في ربيعٍ الأولِ وفُرِضَ الصيامُ في رمضانَ في السَّنَةِ الثانيةِ مِن الهجرة، فَلَم يَمْضِ على الرسولِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- غيرُ مُحَرَّمٍ واحدٍ شهرُ اللهِ الحرامِ المُحرَّم-، فَصَامَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم- وأمَرَ أَصْحَابَهُ بأنْ يصوموا جميعًا لا يتخلفُ منهم عن الصيامِ أحد، فلمَّا أنْ فَرَضَ اللهُ ربُّ العالمين صَوْمَ رَمَضَان؛ جاءَ الأمرُ على النسخِ، فأصبحَ صيامُ يومِ عاشوراء نَفْلًا سُنَّةً عن رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-، فَمَن شاءَ صامَ ومَن لم يشأ لم يَصُم، غيرَ أنَّ الذي يشاءُ الصيامَ فبتوفيقٍ مِن اللهِ ربِّ العالمين يَتْبَعُ قَدَمَ النبيِّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.

وأمَّا الفضلُ الذي فيه:

فيقولُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم-: «أحتَسِبُ على اللهِ أنْ يُكَفِّرَ ذنوبَ السنةِ الماضية».

وعن أبي قتادةَ رضي الله عنه- قال: «سُئِلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم- عن صيامِ يومِ عَرَفَةَ أي: لغيرِ الواقفِ بعرفة-، فقال: «يُكَفِّرُ سنةً ماضيةً وسنةً باقية»، وسُئِلَ عن صيامِ يومِ عاشوراء، فقال: «يُكَفِّرُ سنةً ماضية»؛ لأنَّ عاشوراء مختصٌّ بموسى عليه السلام-، وأمَّا عرفة فمُختصٌّ بمُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم-؛ لذلك كان ما خصَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم- أشرفَ مِمَّا خصَّ موسى عليه السلام-، فعرفةُ صيامُهُ يُكَفِّرُ عامين، وأمَّا عاشوراء الذي خصَّ موسى عليه السلام- فيُكَفِّرُ عامًا واحدًا، ونحن أَوْلَى بموسى من اليهودِ عليهم لعائنُ اللهِ أجمعين-.

النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم- صامَ يومَ عاشوراء ولم يُفَرِّط فيه أبدًا، فلمَّا كان العامُ الذي قُبِضَ فيه أرادَ أنء يُخالفَ اليهود؛ فقال: «لئن عشتُ إلى قابلٍ لأصُومنَّ التاسعَ والعاشر»، فلم يدُر عليه الحَوْلُ-صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.

أمَّا أكملُ الصومِ في عاشوراء: فأنْ تصومَ التاسعَ والعاشرَ والحادي عشر.

وأمَّ المرتبةُ الوسْطَى: فأنْ تصومَ التاسعَ والعاشرَ.

وأمَّا أدونُ المنازلِ: فأنْ تصومَ العاشرَ وحدَهُ.

وبينَ العلماء خلاف: هل عاشوراء هذه هي العاشرُ مِن المُحرَّم أمْ هي التاسعُ منه؟

فقولُ ابن عباسٍ فيما هو عنه صحيحٌ في «صحيح مسلم»: أنَّ عاشوراء هي التاسعُ مِن المُحَرَّمِ كَمَا وَرَدَ عنه صَحيحًا عندما سُئلَ عن هذا اليومِ؛ فقال: «عُدَّ إذا ما رأيتَ هلالَ المُحَرَّمِ، فإذا ما كان التاسعُ فَصُم».

قيل: كذلك كان يفعلُ رسولُ الله؟

قال: «نعم -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-».

وهذا غيرُ مُتَّجِه وإنما هو مِن فِقْهِ عبد اللهِ بن عباس وقد دلَّ الرَّجُلَ على ما فيه إشكال وَتَرَكَ ما هو ظاهر؛ لأنه مُقَرَّرٌ عند السائل أنَّ عاشوراء هي اليومُ العاشر بلا خلاف، ولَكِنْ لمَّا غَمُضَ على هذا السائل أنْ يصومَ التاسعَ وكان عند ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما- مِنْهُ عِلْم؛ دلَّهُ على التاسع وَتَرَكَ ما هو به عالِم رضي اللهُ عنه وأرضاه- هو حَبْرُ الأُمَّة وتُرجُمان القرآن كَمَا دَعَا له النبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.

فعلينا عبادَ اللهِ أنْ نتذكرَ مِنَّةَ اللهِ ربِّ العالمين على نَبيِّهِ وكليمِهِ موسى في يومِ عاشوراء لمَّا نَجَّاهُ اللهُ ربُّ العَالَمِين والمؤمنينَ معه مِن فرعونَ وقومِهِ، وكان مِن جميلِ صُنعِ اللهِ ربِّ العالمين لموسى عليه السلام- أنَّ فرعونَ عليه لَعَائنُ الله- لمَّا أرادَ أنْ يقتلَ موسى وهو في المَهْدِ صَبيٌّ؛ ما كان منه إلَّا أنْ تَتَّبعَ الغِلمانَ والولائدَ مِن بني إسرائيل يُقَتِّلُهُم ويُذَبِّحُهُم تَذْبيحًا، فَأبَى ربُّك وهو القادرُ المُقتدر إلَّا أنْ يُرَبَّى مَن يبحثُ عنه فرعون عليه لعائن الله-؛ أنْ يُرَبَّى موسى -عليه السلام- في بيتِ فرعون وفي حِجْرِ امرأتِهِ وكان أَمْرُ ربِّك قَدَرًا مقدورًا، ثُمَّ كانَ مِن جميلِ صُنعِ اللهِ لموسى عليه السلام- أنْ جعلَ اللهُ ربُّ العالمين البحرَ فِرْقيْن؛ كلُّ فِرْقٍ كالطَّودِ العظيم، وَجَعَلَ قاعَ البحرِ يَبَسًا ﴿طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَىٰ﴾ [طه: 77]، فلا يَخْشَى دَرَكًا مِن فرعون وجُندِهِ ولا يَخْشَى أنْ يلتئمَ عليه البحر ، نجَّاهُ اللهُ ربُّ العالمين في يومِ عاشوراء ونحن أَوْلَى بموسى مِن اليهودِ، فعلينا أنْ نصومَ هذا اليومَ العظيم، وأنْ نصومَ اليومَ التاسع فهي سُنَّةُ النبيِّ الأمين، وأنْ نصومَ اليومَ الحادي عشر وهو أحوطُ لاختلافِ الأئمة حتى نكونَ آخذينَ للفضلِ بجماعِ اليدين.

نسألُ اللهَ أنْ يهديَنا وإياكم سواء الصراط.

وصلى الله وسلم على النبي الأمين مُحَمَّد صلاةً وسلامًا دائميْن إلى يوم الدين.

اللهم اغفر لنا وارحمنا اللهم اغفر لنا وارحمن اللهم اغفر لنا وارحمنا.

وَصَلَّى اللهُ وسَلَّم على النبيِّ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم-.

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك