تفريغ محاضرة الرد على الملحدين:الرد على بعض شبهات الملحدين، وبيان بعض صفات الخالق

الرد على الملحدين:الرد على بعض شبهات الملحدين، وبيان بعض صفات الخالق

«الرد على الملحدين»

«الرد على بعض شبهات الملحدين، وبيان بعض صفات الخالق»

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّم.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فإن كثيرًا من الملحدين أَتَوْا بشبهات واعتراضات، ومعلوم أن المؤمن عنده جواب عن كل اعتراضٍ وإجابةٌ عن كل سؤال، وما يأتي به هَؤُلَاءِ لا يخرج عَنْ كونه مَحْضَ مغالطاتٍ، كما فعل «دِيفِزْ» تبعًا ل«هِيُومْ»، وهما من كبار الْمُلْحِدِينَ، وقد تبين لنا سهولةُ الرد على سؤال «دِيفِزْ» ، ومِنْ قَبْلِهِ «هِيُومْ»، وهو السؤال القائل: إِذَا كَانَ الله تعالى موجودًا من غير سببٍ موجِدٍ؛ فلماذا لا يكون العالم أَيْضًا موجودًا من غير سبب موجد؟

والإجابة: لأن الله تعالى أزلي، بينما الكون حادث.

«دِيفِزْ» و«بَارُو» ومن نحا نحوهم فِي تقليد هيوم يعطون انطباعًا بأن المستدلين على وُجُود الخَالِق بالدليل الكوني؛ قرروا بمحض الهوى أن الكون يحتاج إِلَى سبب موجد، ثم قرروا اعْتِبَاطًا أن الله لا يحتاج إِلَى مثل هذا السبب، ولِذَلِكَ زعموا أعني أُولَئِكَ الْمُلْحِدِينَ أَنَّهُ لا يمكن الوقوف عَنْد حدود العالم؛ لَكِنهم عَنْدما وصلوا إِلَى الله؛ وقفوا عَنْده، فلم يَتَعَدَّوْهُ.

فهذا كلام الْمُلْحِدِينَ بالنسبة للمؤمنين.

ولا فرق بزعمهم! - بين الوقوف هنا والوقوف هُنَالِكَ، وهذا منهما ومن غيرهِما تَخْلِيطٌ غَفَلَ أصحابُه عَن الفرق الكبير بين طبيعة الكون  الحَادث والخَالِقِ الأزلي، والنبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ أخبرنا أن السؤال عمن خلق الله هو من إيحاء الشيطان؛ فقد روى البخاري في «صحيحه» بسنده عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه -، أن رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ قال: "يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فيقُولَ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ من خلق كَذَا؟ حَتَّى يَقُول: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَه؛ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللهِ وَلْيَنْتَهِ ".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - معلقًا على هذا الْحَدِيث:

العلوم الفطرية الضرورية حاصلة مع صحة الفطرة وسلامتها، وقد يعرض للفطرة ما يفسدها ويمرضها، فترى الْحَقّ باطلًا، كما فِي البدن إِذَا فسد أو مرض؛ فإنه يجد الحلو مُرًَّا، ويرى الواحد اثنين، فهذا يعالج بما يزيل مرضه، والقرآن فِيه شفاء لما فِي الصدور من الأمراض، والنبي صلى الهم عليه وآله وسلم عَلِمَ أن وسواس التسلسل فِي الفاعل يقع فِي النفوس، وأنه معلومُ الفسادِ بالضرورة، فأمر عَنْد ورود ذلك الوسواس بالاستعاذة بالله منه والانتهاء عنه.

الْحَدِيث فِيه إشارة لطيفة إِلَى أن إنكار بَدَائِهِ العقولِ ودلالاتِها القطعيةِ يُعَدُّ مخالفة للدين الْحَقّ واتباعًا للشيطان، ويلزم عَنْ هذا أن يكون فِي مخالفة ما جاء به الدين الْحَقّ؛ أن يكون فِيه مخالفة لمقتضيات العقل، فأَنَّى يكون مَنْ يُثِيرُ الشبهات حول بعض الْحَقائق الشرعية عقلانيًا؟!

فليت الإسلاميين المعاصرين يُسَمُّون أمثالَ هَؤُلَاءِ ب«أهلِ الأهواء» كما كَانَ يسميهم أهل السنة قديمًا؛ لأن هذا هو الوصفُ المناسِبُ لحالهم، ولأن وصفهم بالعقلانيين يزيدهم غرورًا وشرًا؛ لِأَنَّهُ يزين لهم أن العقل معهم، وأن المستمسكين بالنصوص عاطفيون وليسوا بعقلانيين؛ لِأَنَّهُم يَقُولون عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُخَلِّطِينَ مِنَ الْمُلْحِدِينَ والْمُخَرِّفِينَ؛ يقولون عنهم: "هم العقلانيون"، فيُعْطُونهم سندًا وحجةً مما يزيدهم غواية وشرًا؛ لأنهم يحسبون حينئذ أن العقل معهم، وأن المستمسكين بالنصوص في الجانب المقابل ليس معهم العقل، وإنما معهم محض العاطفة!!

شَبِيهٌ بما سَبَقَ: قولٌ يردده كثير من الْفَلَاسِفَة الْمُلْحِدِينَ، ويأخذه عَنْهُمْ ويردده على الطلابِ فِي الجامعاتِ بعضُ الأساتذة، فَحْوَى هذا القول: أن فكرة الإله القادر على كل شيء فكرةٌ متناقضة، يستحيل كما يزعمون أن يكون أحدٌ قادرًا على كل شيء؛ لماذا؟

يجيبون بأنه إِذَا كَانَ قادرًا على فعل كل شيء؛ فلْيَقْدِرْ على فعل كذا وكذا، ثم يأتون ببعض المحالات العقلية: هل يستطيع أن يُرَبِّعَ الدائرةَ؟!!

هل يستطيع أن يفعل ما لا يمكنه فعله؟!!

هل يستطيع أن يخلق حَجَرًا لا يمكنه تحريكه؟!!

سُخْفٌ كثيرٌ كَمِثْلِ هذا!!

ما عَلِمُوا أن علماءنا قد قَالوا منذ زمان بعيد: "إن قدرة الله تعالى لا تتعلق بالمستحيلات"، ولم يَقُولوا: "إنَّهُ لا يقدر على فعل المستحيلات"؛ لأن الله تعالى قادر على فعل كل شيء، وأما المستحيل؛ فليس بشيء؛ لأن المستحيل: عدمه لذاته من حيث هي، فهو معدوم أصلًا، فلا تتعلق به قدرة الله رب العالمين!!

فقدرة الله جَلَّ وَعَلَا لا تتعلق بالمستحيلات، ولَكِن علماءنا كَانوا أعظمَ دقةً وأكثرَ أَدَبًا، فلم يَقُولوا: "إن الله لا يقدر على كذا" من هذه المستحيلات العقلية، وإنما قَالوا: "لا تتعلق بها قدرة الله".

ولم يقولوا:"إنه لا يَقْدِرُ على فعلها"؛ لأن الله تعالى قادر على فعل كل شيء.

وأما المستحيل؛ فليس بشيء أصلًا؛ لأنه معدوم!!

هب زيدًا من الناس اتُّهِمَ بحادث سرقة، فجيء بعمرو أمام القاضي ليشهد، فجرى بينه وبين القاضي الحوار التالي:

ما اسمك؟

قال: ليس لي من اسم، لَكِن اسمي بطرس.

هل رأيت هذا الرجل من قبل؟

نعم رأيته.

منذ متى؟

منذ الغد.

هل رأيته يسرق؟

رأيته؛ لَكِني لم أره ألبتة.

ماذا يفهم القاضي من هذه الأجوبة البطرسية؟!!

لا شيء.

هل عدم فهم القاضي راجع إِلَى نقصٍ فِي عقله، بحيث إِذَا جئنا بقاض آخر أذكى منه؛ يستطيع أن يفهم ما لم يفهم هو؟

الجواب: كلا؛ لماذا؟

لأن عمرًا لم يقل شيئًا، والفهم إنما يكون لمعنىً يُدْرَكْ، فإذا كَانَ الكلام لا معنى له يدرك؛ فإنه لا يفهم منه شيء، ولِذَلِكَ كَانَ من الإنصاف لمن لا يفهم من الكلام المتناقض شيئًا؛ ألا نقول: "إنَّهُ لم يفهم"؛ لِأَنَّهُ ليس هُنَالِكَ شيء يفهم، ثم هو لم يفهمه، ولَكِن إِذَا قلنا: "إنَّهُ لم يفهم" أعني الكلام المتناقض -؛ فهذا يوحي بأن هُنَالِكَ شيئًا يمكن أن يفهم؛ لَكِنه عجز عَنْ فهمه، لَكِن الواقع أَنَّهُ ليس هُنَالِكَ ما يفهم، لِذَلِكَ اختار علماؤنا ذَلِكَ التعبير الدقيق فقالوا: "إن قدرة الله تعالى لا تتعلق بالمحالات العقلية"، ولم يَقُولوا: "إنَّهُ لا يقدر عليها"، وإنما قالوا:"قدرة الله عز وجل لا تتعلق بالمستحيل"، ولم يَقُولوا: "إنَّهُ لا يقدر على فعله"؛  لِأَنَّهُ ليس بشيء يُفْعَلُ أصلًا؛ فهذا المستحيل معدوم.

انظر الآن فِي كل الأمثلة التي يُسْتَدَلُّ بها على أن مفهوم القدرة على كل شيءٍ مفهومٌ متناقضٌ، كما ضَرَبُوا لِذَلِكَ الأمثلةَ السابقةَ؛ فلننظر فِيها مثلًا مثلًا:

إذا كَانَ المقصود - مثلًا - بتربيع الدائرة؛ لأنهم يقولون: تقولون: إن الله قادر على كل شيء؟

فيقول المؤمن: نعم.

فيقول: هل يستطيع أن يُرَبِّعَ الدائرة؟

فيقال له: ما المقصود بتربيع الدائرة؟

هل المقصود: أن تُجْعَلَ خطوطًا، فيكون عَنْدنا شكل مربع؟ يعني أن نأخذ الخط الَّذِي تَكَوَّنَ منه محيطُ الدائرةِ لنجعله شكلًا مربعًا؟

إن قال: نعم؛ قيل له: هذا أمر عادي يقدر عليه أي أحد من البشر!!

فهذا يسير.

وأما إِذَا كَانَ المقصود به: هو أن تجعل الشيء دائريًا ومربعًا فِي الوقت نفسه؛ فهذا كلام متناقض؛ لأن الشيء إِذَا كَانَ مربعًا؛ فيلزم ألا يكون دائريًا، وإذا كَانَ دائريًا؛ فيلزم ألا يكون مربعًا.

فهذا - كما ترى - كلام متناقض لو أُرِيدَ، وإن أراد بجعل الشيء الدائري مربعًا بمعنى: أننا نجعل محيط الدائرة مربعًا؛ فهذا يقدر عليه كل أحد.

وأما أن يكون دائريًا مربعًا في الوقت عينه؛ فهذا كلام متناقض!!

قد لا يكون الأمر جليًا هذا الجِلَاءَ بالنسبة لمسألة الحَجَرِ؛ لَكِنك إِذَا تأملته؛ وجدته هو الآخر كلامًا متناقضًا.

نقول: إن الله تعالى قادر على كل شيء، فيقول لنا هذا المنكر لوجود الله: هل يستطيع ربكم أن يخلق حجرًا لا يستطيع تحريكه؟ وهو يظن أن سؤاله هذا يَضْطَرُّنَا إِلَى القول بأن الله ليس قادرًا على كل شيء.

لا تحسب هذا إلقاء بشبهات؛ فإن أخًا لنا كريمًا أخبرني الآن قبل هذا المجلس أن هُنَالِكَ محاضِرًا دكتورًا فِي كلية من الكليات الشرعية سألهم هذا السؤال، فقال: هل يستطيع الله تبارك وتعالى أن يخلق حجرًا لا يستطيع تحريكه؟!!

فقلت له: اجلس، ستسمع الإجابة إن شاء الله، وهذا من عجائب الموافقات، وهو يدلنا على أن الله يثبتنا بمشيئته ورحمته فِي هذا الَّذِي نحن فِيه؛ لأن لقائل أن يَقُول: هذه كلها من الشبهات التي يثيرها الملاحدة، ولَكِنها ما زالت تَزْحَفُ - أو قُلْ: تَطِيرُ -، حتى وقعت على أُولَئِكَ الْمَخَابِيلِ من الَّذِينَ يُدَرِّسُون حتى فِي الكليات الشرعية، وهم يسوقون بذَلِكَ لا من أجل أن يَحُلُّوا الإشكال فِيه، وإنما يُلْقُونَ الشبهةَ، ثم يَفِرُّون كالْجُبَنَاءِ!!

فالآن: هل يستطيع ربكم أن يخلق حجرًا لا يستطيع سبحانه -تحريكه؟

عَنْدما يأتي الملحد بهذه الشبهة، بهذا السؤال؛ يظن أن سؤاله هذا يضطرنا إِلَى القول بأن الله ليس قادرًا على كل شيء؛ لِأَنَّهُ يظن أننا مضطرون أن نجيب؛ إما ب«نعم» أو ب«لا»، وفي كلا الحالين يتحقق له ما يريد.

فإن قلنا: "نعم، يستطيع"؛ قَالَ: إِذًَا هُنَالِكَ شيء لا يستطيعه، وهو تحريك هذا الحجر الَّذِي خلقه.

وإن قلنا: "لا"؛ قَالَ: "إِذًَا هُنَالِكَ شيء لا يستطيعه، فهو ليس قادرًا على كل شيء"؛ لَكِننا لن نجيب بهذا ولا بذاك، لن نقول:"نعم" ولا "لا"؛ بل نقول له: إن سؤالك ينطوي على تناقض، فهو أمر مستحيل عقلًا، قدرة الله تعالى لا تتعلق بالمستحيلات، وإنما بالممكنات العقلية؛ لأن المستحيل عقلًا هو ليس فِي الْحَقيقة بالشيء حتى يقال: إنَّهُ يقدر عليه أو لا يقدر عليه، فالمستحيل عقلًا هو: المعدوم، عدمه لذاته من حيث هي، فإذا وجد؛ فإنه لا يكون مستحيلًا، وإنما يصير ممكنًا.

السؤال معناه: هل يستطيع القادر على كل شيء ألا يقدر على بعض الأشياء؟!

هذا معنى سؤال الحجر الذي أتى به الْحَجَرُ!!

هل يستطيع القادر على كل شيء ألا يقدر على بعض الأشياء؟!

هذا سؤال متناقض!!

فإذا سألنا هذا السؤال صفعناه على قفاه!!

هل يستطيع القادر على كل شيء أن يقدر على أن يَحُدَّ من قدرته على كل شيء؟!  

كل هذا كما ترى كلام متناقض!!

ثم إن حجرًا لا يستطيع الخَالِقُ سبحانه تحريكه؛ هو أمر غير متصور عقلًا؛ لماذا؟

لأن الخَالِق ما دام قادرًا على كل شيء؛ فمعنى ذَلِكَ أَنَّهُ ليس لقدرته حد، فافتراض حجرٍ لا يستطيع الخَالِق تحريكَه؛ هو افتراض لمستحيلٍ عقلًا؛ لِأَنَّهُ افتراضٌ لوجودِ شيءٍ يحتاج تحريكُه إِلَى قدرةٍ هي أكبرُ من القدرةِ التي لا نهايةَ لها.

هل يستطيع الإنسان أن يصنع شيئًا أن يبني - مثلًا - بناء لا يستطيع تحريكه؟

نعم؛ لِأَنَّهُ لا استحالة عقلية فِي هذا السؤال.

الإنسان يصنع شيئًا لا يستطيع تحريكه.

الذي جعل هذا ممكنًا عقلًا فِي حال الإنسان: هو أن الإنسان لا يخلق المواد التي يركِّب منها ما يصنع، فهو - مثلًا - ينقل حجرًا يستطيع حمله، ثم يضيف إِلَيْهِ حجرًا آخر مثله، وهكذا، فإذا تجمعت هذه الحجارة فِي بناء؛ لم يقدر على تحريكه.

أإذا بَنَى البَنَّاءُ بيتًا؛ يستطيع أن يحمله على كاهله؟!! أو أن يجعله على ظهر حمار؟!!

إذًا؛ هو إذا جَمَّعَ هذه الحجارة فِي بناء؛ لم يقدر على تحريك البناء؛ لأن تحريكه يحتاج إِلَى قوةٍ فوقَ قوته؛ لَكِن الخَالِق هو خالق كل شيء، فلا يمكن أن يعجزه شيء.

فالإجابة يسيرة كما ترى؛ لأن السؤال متناقض، وكذَلِكَ فِي سائر هذه الشبهات التي يأتي بها أُولَئِكَ القوم.

قال بعض الْفَلَاسِفَة: إن أهم مقدمة يقوم عليها هذا الدليل: هو أَنَّهُ لا بد لكل حادث من سبب؛ ولَكِن ما الدليل على هذا؟

لماذا لا تحدث بعض الأشياء بغير سبب؟

مَرَّ مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ إِذَا لم يكن للحادث سبب؛ فلا مَنَاصَ من القول إما بأنه جاء من العدم المحض، أو أَنَّهُ خلق نفسه، أو أَنَّهُ أحدثه حادث مثله، وقد مر بيان فساد القول بكل هذا.

لم يبق إلا القول بأنه لا بد للحوادث من أَسْبَاب، ثم إنك تجد بعض القائلين بإنكار السببية هَؤُلَاءِ حين يكون الأمر متعلقًا بوجود الخَالِق؛ هم من أكثر المتمسكين بالسببية؛ حتى يكون الأمر لهم.

أما إِذَا كَانَ دفاعًا عَنْ فاعلية الخَالِق، عَنْ خالقية الخَالِق الْعَظِيم؛ فإنهم يَرُدُّون قانون السببية!!

فهَؤُلَاءِ متلاعبون!!

هَؤُلَاءِ حمقى مخرِّفون!!

وأكثرهم يعلمون أَنَّهُم ضالون مضلون!!

فإذًا؛ ثبت بالدليل العقلي، كما ثبت بدليل الفطرة، كما ثبت بدليل الهداية، كما ثبت بدليل العناية، كما ثبت بدليل الآيات، كما ثبت بالدليل الخلقي - فِيما مر ذكره فِي الرد على الْمُلْحِدِينَ -؛ ثبت بهذا جميعه أَنَّهُ لا بد من مسبِّب، لا بد من سبب لكل مسبَّب، ولا بد للمخلوق من خالق، لا بد للموجود من موجد؛ ولَكِن من هو الخَالِق؟

الأدلة كلها تدل بيقينٍ لا يقبل الريبَ ولا الشكَّ أن المخلوق لا بد له من خالق؛ ولَكِن من هو الخَالِق؟

الدليل العقلي أوصَلَنا إِلَى وُجُود خالق للكون؛ فمن هو هذا الخَالِق؟

إنه لا يمكن عقلًا أن يكون شيئًا غيرَ الخَالِق الْحَقّ الَّذِي تدركه الفطرة، والذي دعت إِلَى عبادتِه رسلُ الله، أي أن الخَالِق الَّذِي أوصلنا إِلَيْهِ الدليلُ العقلي هو الخَالِق نفسه الَّذِي يحدثنا عَنْه النص الديني «القرآن الْعَظِيم»، ولا غرابةَ فِي ذَلِكَ؛ لأن الله الَّذِي خلق الكون، وجعله دليلًا على وُجُوده؛ هو الَّذِي أنزل الكتاب مُصَدِّقًا لشهادة الكون، ومفصلًا لتلك الشهادة.

وإليك الأدلة على ذَلِكَ:

استنتجنا من وُجُود الأشياء الحَادثة وُجُودَ خالق لها، واستنتجنا بعض صفات هذا الخَالِق، ويمكن أن نستنتج من تلك الصفات صفاتٍ أخرى، هي صفات الخَالِق الْحَقّ جَلَّ وَعَلَا.

من هذه الصفات:

أولًا: صفة الخَالِقية:

صفة الخَالِقية أنت تثبتها للسبب، تثبتها للموجِد، تثبتها للمؤثِّر، تثبتها للخالق؛ فلا بد من أن تكون له صفة الخَالِقية، وقد وردت فِي مثل قوله تعالى: «اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ».

«هُوَ اللَّهُ الخَالِق الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ».

«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2»).

«وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ».

«بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ».

فإذًا؛ استنتجنا بالدليل العقلي وُجُودَ السبب، ونستنتج أَيْضًا بالدليل العقلي ثبوتَ صفة الخَالِقية له جَلَّ وَعَلَا.

كذَلِكَ نستنتج صفةً أخرى، وهي: كونُهُ أزليًا.

هُنَالِكَ صفاتٌ أخرى يمكن استنتاجها عقليًا من هاتين الصفتين، وصفاتٍ يمكن استنتاجُها من تلك الصفات المستَنْتَجَةِ.

صفةُ الأبدية:

مَرَّ مِنْ قَبْلُ البرهانُ الدالُّ على أن صفة الأزلية تستلزم صفة الأبدية، فالأول هو الآخر، الأول الَّذِي لا قبل له هو الآخر الَّذِي لا شيء بعده، الأول الذي لا شيء قبله هو الآخر الذي لا شيء بعده، وما سمي بالأزلية والأبدية فِي أمثال هذه الأدلة العقلية هما الصفتان الواردتان فِي القرآن الكريم فِي مثل قوله تعالى: «هو الأول والآخر»، فالأولية كما قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيث الَّذِي أخرجه مسلم فِي «صحيحه»: "أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ".

فالأولية والآخرية هي الأزلية والأبدية، وقد ورد فِي القرآن الْعَظِيم، وورد تفسيره فِي سنة النَّبِيّ الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فالله تعالى سابقٌ فِي وُجُوده لكل موجود، فكل موجودٍ اللهُ عز وجل سابقُ وجوده؛ لِأَنَّهُ هو الَّذِي أعطاه الوجود، فهو بهذا المعنى أولٌ، وهو باق بعد زوال كل مخلوق زائل، فهو بهذا المعنى آخِر، فأشار ربنا تَبَارَكَ وَتَعَالَى إلى ذلك بقوله: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27»)، وقال النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دعائه: "أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ".

إذا كَانَ كل ما فِي الوجود ما عدا الموجودِ الأزلي حادثًا، وكان هو سَبَبًَا لكل حادث؛ فلا حادثَ يعتمد اعتمادًا كليًا على حادثٍ غيره، لا فِي مجيئه إِلَى عالم الوجود أي فِي ابتداءِ وُجُوده ، ولا فِي استمراره موجودًا.

وإذًا؛ فكما أن الموجود الأزلي خالقُ الحوادث وموجِدُها؛ فهو حافظها وراعيها، وهذا معنى الربوبية، فتَسْتَنْتِجُ أَيْضًا صفةَ الربوبية، فالله عز وجل خالقٌ بمعنى أَنَّهُ يُكَوِّنُ الأشياءَ ويُوجِدُها، وهو أَيْضًا ربٌّ وحافظٌ ومُقِيتٌ، بمعنى أَنَّهُ الَّذِي تَعْتَمِدُ عليه المخلوقاتُ فِي استمرار وُجُودها، وهذا هو الْمَعْنِيُّ بآياتٍ؛ كقوله تعالى: «وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْض إِلَّا بِإِذْنِهِ».

«وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم (255»).

«وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْض إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا».

«اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62»).

وإذا كَانَ كل  شيء سواه مخلوقًا له؛ فهو معتمدٌ فِي استمرار وُجُوده عليه، وهذا هو معنى صفةِ القَيُّومِيَّةِ التي وردت فِي مثل قوله جَلَّ وَعَلَا: «اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ».

«وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ»؛ لأن القيوم هو القائمُ بنفسه، الْمُقِيمُ لغيره.

كذَلِكَ تَسْتَنْتِجُ صِفَةَ الأَحَدِيَّةِ، فالخَالِقُ الأزليُّ الأَبَدِيُّ القيومُ لا بد أنْ يكونَ واحدًا، واحدًا فِي ذاته وصفاته، فلا ثَانِيَ له يُمَاثِلُهُ، وواحدًا فِي أفعاله، لا يَشْرَكُهُ فِي فعلِها شيءٌ؛ لِأَنَّهُ لو شَرَكَهُ؛ فإما أنْ يكونَ الأثرُ معتمِدًا عليهما معًا، بحيث إنَّ أحدَهما لا يستطيع الاستقلالَ به، وفي هذه الحال يكون كلٌّ منهما عاجزًا معتمِدًا فِي فعله على غيره؛ لأن كُلًا منهما ما كَانَ لِيَسْتَطِيعَ الفعلَ لو لا موافقةُ الآَخَرِ أو مساعدَتُهُ؛ لَكِنَّ الدليلَ سَاقَنا مِنْ قَبْلُ إِلَى أنَّ ما كَانَ أزليًا لا بد أنْ يكونَ قائمًا بنفسه، مستقِلًا عَنْ غيره؛ وإذًا فالذي يَعْتَمِدُ فِي فعلِه على غيرِه لا يكون أزليًا؛ بل يَلْزَمُ أنْ يكونَ حادثًا.

وإما أنْ يُضَادَّ عَمَلُ أحدِهما عَمَلَ الآَخَرِ، وبذَلِكَ ومِنْ بَابِ أَوْلَى تَنْتَفِي عَنْهُمْا صفةُ الأزلية.

هذا الدليل هو الَّذِي سماه علماءُ المسلمين مِن قَبْلُ: «دليلَ التَّمَانُعِ»، وقد قرره شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى- تقريرًا موجَزًا وافيًا، فقال رحمه الله جل وعلا -:

ذَلِكَ أن هَؤُلَاءِ النُّظَّارِ قَالوا: إِذَا قُدِّرَ رَبَّانِ متماثلانِ؛ فإنه يجوز اختلافُهُما، فَيُرِيدُ أحدُهما أنْ يَفْعَلَ ضِدَّ مُرَادِ الآَخَرِ، وحينئذٍ: فإِمَّا أنْ يَحْصُلَ مرادُ أحدِهِما، أو كلاهُما، أو لا يَحْصُلُ مرادُ واحدٍ منهما.

والأقسامُ الثلاثةُ باطلةٌ، فَيَلْزَمُ انتفاءُ الملزوم.

فأما الأول؛ فلأنه لو وُجِدَ مُرَادُهُمَا؛ لَلَزِمَ اجتماعُ الضِّدَّيْنِ، وأنْ يكونَ الشيءُ الواحدُ حيًا ميتًا، متحركًا ساكنًا، قادرًا عاجزًا إِذَا أراد أحدُهما أَحَدَ الضِّدَّيْنِ، وأراد الآَخَرُ الضِّدَّ الآَخَرَ، فإذا نَفَذَتْ إرادتُهُما مَعًا؛ لزم مِنْ ذَلِكَ وُجُودُ الضِّدَّيْنِ، وهذا مُحَالٌ.

وأما الثاني؛ فلأنه إِذَا لم يَحْصُلْ مرادُ واحدٍ منهما؛ لَزِمَ عَجْزُ كلٍّ منهما، وذَلِكَ يُنَاقِضُ الربوبيةَ.

وأيضًا فإذا كَانَ الْمَحَلُّ لا يخلو مِنْ أَحَدِهِمَا؛ لَزِمَ اختلافُ القِسْمَيْنِ المتقابِلَيْنِ؛ كالحركةِ والسكونِ، والحياةِ والموتِ، فِيما لا يخلو عَنْ أحدهما.

وإنْ نَفَذَ مرادُ أحدِهما دونَ الآَخَرِ؛ كَانَ النافِذُ مُرَادُهُ هو الرَّبَّ القَادِرَ، والآَخَرُ عاجزًا ليس بِرَبٍّ، فلا يكونان مُتَمَاثِلَيْنِ.

فلَمَّا قيلَ لهم: هذا إنما يَلْزَمُ إِذَا اخْتَلَفَتُ إرادَتُهُمَا، فَيَجُوزُ اتفاقُ إرادَتِهِمَا؛ أجابوا بأنه إِذَا اتَّفَقَا فِي الإرادةِ؛ امْتَنَعَ أنْ يَكُونَ نَفْسُ ما فَعَلَهُ أَحَدِهِمَا نَفْسَ مفعولِ الآَخَرِ، فإنَّ استقلالَ أحدِهِمَا بالفعلِ والمفعولِ يَمْنَعُ استقلالَ الآَخَرِ به؛ بل لا بُدَّ أنْ يَكُونَ مفعولُ هذا مُتَمَيِّزًَا عَنْ مفعولِ هذا، وهذا معنى قولِهِ تعالى: «إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ»، وهذا مُمْتَنِعٌ، لأنَّ العالَمَ مُرْتَبِطٌ ارْتِبَاطًا يُوجِبُ أنَّ فاعِلَ هذا ليس هو مُسْتَغْنِيًَا عَنْ فاعلِ الآَخَرِ، لِاحْتِيَاجِ بعضِ أجزاءِ العَالَمِ إِلَى بَعْضٍ.

وأيضًا فلا بُدَّ أنْ يَعْلُوَ بعضُهم على بَعْضٍ، فإنَّ ما ذكرناه مِنْ جَوَازِ تَمَانُعِهِمَا، إنما هو مَبْنِيٌّ على جوازِ اختلافِ إِرَادَتِهِمَا.

وذَلِكَ أمرٌ لازمٌ مِنْ لَوَازِمِ كَوْنِ كُلٍّ منهما قادرًا، فإنهما إِذَا كَانَا قَادِرَيْنِ؛ لَزِمَ جَوَازُ اختلافِ الإرادةِ.

وإنْ قُدِّرَ أَنَّهُ لا يجوزُ اختلافُ الإرادةِ، بل يَجِبُ اتفاقُ الإرادةِ؛ كَانَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي دَلَالَتِهِ على نَفْيِ قُدْرَةِ كُلِّ واحدٍ منهما، فإنه إِذَا لم يَجُزْ أنْ يُرِيدَ أَحَدُهُمَا ويَفْعَلَ إلا ما يُرِيدُهُ الآَخَرُ، ويَفْعَلُهُ الآَخَرُ؛ لَزِمَ أَلَّا يَكُونَ واحدٌ منهما قادرًا إلَّا إِذَا جَعَلَهُ الآَخَرُ قادرًا، ولَزِمَ أَلَّا يَقْدِرَ أَحَدُهُمَا إِلَّا إِذَا لم يَقْدِر الآخَرُ. 

وعلى التَّقْدِيرَيْنِ؛ يَلْزَمُ أَلَّا يَكُونَ واحدٌ منهما قادرًا، فإنه إِذَا لم يُمْكِنْهُ أَنْ يُرِيدَ ويَفْعَلَ إلا ما يُرِيدُهُ الآَخَرُ ويَفْعَلُهُ، والآَخَرُ كذَلِكَ، وليس فَوْقَهُمَا أَحَدٌ يَجْعَلُهُمَا قَادِرَيْنِ مُرِيدَيْنِ؛ لم يكنْ هذا قادرًا مُرِيدًا حتى يكونَ الآَخَرُ قادرًا مريدًا.

وحينئذٍ فإِنْ كَانَ كُلٌّ منهما جَعَلَ الآَخَرَ قادرًا مُرِيدًا؛ كَانَ هذا دَوْرًا قَبْلِيًَّا، وهو دَوْرُ الفَاعِلِينَ والعِلَلِ.

كما لو قِيلَ: لا يُوجَدُ هذا حتى يُوجِدَهُ هذا، ولا يُوجَدُ هذا حتى يُوجِدَهُ الآَخَرُ؛ فإنَّ هذا مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ فِي صريحِ العقلِ.

انتهى كلامُ شيخِ الإِسلامِ الرَّبَّانِيِّ العَالِمِ شيخِ الإِسلامِ ابنِ تيميةَ رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً -.

هُنَالِكَ صفةٌ أخرى نَسْتَنْتِجُها مما مَرَّ تقريرُه بالدليلِ العقلي، وهي صفةٌ عظيمةُ الشأنِ؛ لِأَنَّها ستكون المِفْتَاحَ لِمَا يَلِيهَا مِنْ صفاتٍ، والبرهانَ الحاسِمَ على أنَّ الموجودَ الأزليَّ الَّذِي قَادَنَا إِلَيْهِ البرهانُ هو الإِلَهُ الَّذِي يُحَدِّثُنا عَنْه القرآنُ، ولَكِنْ فَلْنَبْدَأْ بهذا السؤالِ:

كيف تَصْدُرُ المخلوقاتُ عَنْ ذَلِكَ الخَالِقِ الأزلي؟

نحن نَعْرِفُ مِنْ تَجْرِبَتِنَا طَرِيقَتَيْنِ لِصُدُورِ الحوادثِ، فالأشياءُ الجامدةُ وبعضُ الأشياءِ الْحَيَّةِ تَصْدُرُ عَنْها آثارُها صُدُورًا طبيعيًا، أو قُلْ: قَسْرِيًَّا، وأما بعضُ الأشياءِ الْحَيَّةِ الأخرى وأَرْقَاهَا: الإنسانُ -؛ فإنَّ بعضَ آثارِها تَصْدُرُ عَنْها صدورًا إِرَادِيًَّا.

فهل تَصْدُرُ الحوادثُ عَنِ الخالقِ صدورًا قَسْرِيًَّا يَقْتَضِيهِ خَالِقِيَّتُهُ مِنْ غيرِ شعورٍ منه ولا تدبيرٍ؛ أو أَنَّها عَنْه بإرادَتِهِ؛ إِنْ شَاءَ فَعَلَ، وإنْ شَاءَ تَرَكَ؟

كيف يمكن لهذه الحوادثِ المختلفةِ التي نشاهدها أنْ تَصْدُرَ عَنِ الخَالِقِ صدورًا يقتضيهِ خَالِقِيَّتُهُ مِنْ غيرِ شعورٍ منه ولا قصدٍ ولا إرادة؟

دَعْنَا نحاولُ فَهْمَ ذَلِكَ؛ بأنْ نَأْخُذَ مخلوقًا واحدًا، ولْيَكُنْ الإنسانَ، ولْنَتَسَاءَلْ:

كيف أَوْجَدَهُ الخَالِقُ؟

إذا قلنا: إنَّ وُجُودَ الإنسانِ أَمْرٌ تقتضِيهِ خَالِقِيَّةُ الخَالِقِ؛ فَيَلْزَمُنا القولُ بأنَّ الإنسانَ أَزَلِيٌّ مع الخَالِقِ؛ لِأَنَّهُ مِنَ المستحيلِ عقلًا: أنْ يُوجَدَ الشيءُ ولا يوجَدَ معه الشيءُ الَّذِي تقتضِيهِ طبيعتُهُ، لَكِنَّنا نَعْرِفُ أنَّ عُمُرَ الإنسانِ ليس مِنَ الأزليةِ فِي شيءٍ، بل هو عُمُرٌ لا يتجاوز بضع آلافٍ من السنين؛ فكيف تَأَخَّرَ عَنْ الخَالِق شيءٌ تقتضي طبيعتُه وُجُودَه؟

قد يقال: إن طبيعته اقتضت وُجُوده فِي الوقت الَّذِي وُجِدَ فِيه من غير تقدُّمٍ ولا تَأَخُّرٍ، لَكِنَّ هذا قولُ مَن لا يَتَصَوَّرُ معنى الأزليةِ ولا مَعْنَى الاِقْتِضَاءِ؛ لأننا إِذَا فرضنا الشيءَ موجودًا مِنْ غيرِ أنْ يوجَدَ معه ما يقتضيه طَبْعُهُ؛ فكأنما فَرَضْنَاه موجودًا بطبعٍ سوى طَبْعِهِ، وإذا لم نَقُلْ: إنَّهُ أمرٌ يقتضيه طَبْعُهُ؛ فماذا نقول؟!!

أنقول: إنَّهُ يُحْدِثُ آثارَه كما تُحْدِثُ المخلوقاتُ الطبيعيةُ آثارَها؛ كالمطر الذي يُنْبِتُ الزرعَ، والزرعِ الَّذِي يُخْرِجُ الثَّمَرَ، والدَّفْعِ الَّذِي يُحَرِّكُ الْحَجَرَ، والضَّرْبِ الَّذِي يَقْتُلُ....وهكذا؟

لَكِنك إِذَا تأملتَ هذه الأَسْبَابَ الطبيعيةَ؛ وجدتَهَا كما كَانَ يَقُول علماؤنا: "لا تَسْتَقِلُُّّ بفعلٍ"، بل إن أفعالها كلها تعتمد على توفر شروطٍ خارجة عَنْها، فالمطر لا يُنْبِتُ الزرعَ إلا إِذَا كَانَ السحابُ قد ساقه إِلَيْهِ، وإلا إِذَا كَانَت درجةُ الْحَرَارَةِ مناسِبَةً لِتَحَوُّلِ السحابِ إِلَى قَطَرَاتِ ماءٍ، وإلا إِذَا كَانَت هُنَاكَ جاذبيةٌ تَسْمَحُ بسقوطِهِ، لا بِبَقَائِهِ معلَّقًا فِي الهواء، وإلا إِذَا كَانَت هُنَاكَ أرضٌ صالحةٌ للزرع، وإلا إِذَا كَانَ فِيها بَذْرٌ صالِحٌ للإنبات، وإلا إِذَا تَوَفَّرَ له الْأُكْسُجِين.....وهكذا وهكذا، إِلَى ما لا يكادُ يُحْصَرُ مِنْ هذه الشروطِ والأَسْبَابِ الخارجةِ عَنْ نِطَاقِ الماءِ النازِلِ مِنَ السماءِ.

فإذا قلنا: إنَّ الخَالِقَ أَيْضًا لا يَخْلُقُ إلا بِمِثْلِ هذه الشروطِ والأَسْبَابِ الخارِجيةِ عَنْ قدرتِهِ؛ لم يَعُدْ هو الخَالِقَ الَّذِي مَرَّ التدليلُ على وُجُوده؛ لأنَّ الدليلَ سَاقَنَا إِلَى خالقٍ هو خالقٌ لكُلِّ شيءٍ، فمِنَ التناقضِ أنْ نقول: "إنَّهُ خالقٌ لكلِّ شيءٍ"، ثم نقول: "إنَّهُ لا يَخْلُقُ إلا بشروطٍ وأسبابٍ خارجةٍ عَنْ إرادته"!!

مَنِ الَّذِي خَلَق إِذًا تلك الأَسْبَاب؟!

وإذا لم يكن الخَالِقُ خالقًا بالطَّبْعِ؛ فالْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا أي بهذا المعنى وهذا -؛ فلم يَبْقَ إلا أنْ يكونَ خالقًا بالإرادة، وإذًا فهذا الخَالِق مُرِيدٌ، وهذا هو الوصفُ الَّذِي وَرَدَ وَصْفُهُ بِهِ فِي القرآنِ الكريم:

«إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُول لَهُ كُنْ فيكُونُ».

«إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ».

«إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ».

«إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ».

«وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».

«إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ».

«وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ».

فصفة الإرادة لا بد من إثباتها لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، حتى الَّذِينَ كَانوا يُثْبِتونَ وُجُودَ الخَالِق الْعَظِيم ويَنْفُونَ الصفاتِ، ويُعَطِّلُون اللهَ تبارك وتعالى مِنْ كمالاتِهِ ومِنْ صفاته؛ لم يستطيعوا نفيَ صفةِ الإرادةِ؛ لِأَنَّهُا لا بد أن يُثْبِتَهَا العقلُ، وقد مَرَّ فِي كلام علماءنا المتقدمين أن الإرادة هي: تخصيصُ كلِّ مُمْكِنٍ بأحدِ وُجُوهِهِ الْمُمْكِنَةِ.

كلُّ ما تَرَاهُ مُمْكِنٌ، وخُصِّصَ بوجهٍ مِنْ وجوهه الممكنةِ فِي الوجود، فالسماء هي السماء على هذا النحو؛ لماذا كَانَت كذَلِكَ؟

كَانَ يمكن أَلَّا تكون كذَلِكَ، والأرضُ كذَلِكَ، والشجر والحجر والجبال والدواب؛ بل الإنسان؛ لماذا وُجِدْتَ على ما أنتَ عليه من حيث الطول، ومن حيث اللون، ومن حيث الفهم، ومن حيث الذكورة، إِلَى غير ذَلِكَ؟

كَانَ يمكن أن يكونَ أنثى، لا ذكرًا، والأنثى كذَلِكَ، كَانَ يمكن أن تكون ذكرًا؛ فَلِمَ خُصِّصَ هذا بالذُّكُورِيَّةِ، وخُصِّصَتْ تلك بالأُنُوثَةِ؟

وكذَلِكَ كَانَ يمكن أن يكون هذا وهذا خُنْثَى مُشْكِلًا، أو خنثى غيرَ مُشْكِلٍ.

فتخصيصه بهذا دليلٌ على اتصاف الخَالِق الْعَظِيم بصفة الإرادة، لِذَلِكَ كَانوا لا يستطيعون عَنْها فَكَاكًا.

هم يُنكِرُونَ سائرَ صفاتِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فإذا قَالَ لهم الْمُثْبِتُونَ من أهل السنة: هل تَنْفُونَ عَنِ اللهِ صفةَ الإرادة؟

قَالوا: "لا، نثبت لله صفةَ الإرادة"، فكان أهل السنة يأخذون بِخَنَاقِهِم، إِذَا أثبتوا صفة الإرادة؛ قَالوا لهم: شَبَّهْتُم على قانُونِكُم؛ لِأَنَّهُم كَانوا يَقُولون لأهل السنة: أنتم إِذَا أَثْبَتُّمْ للهِ السمعَ والبصرَ، إِلَى غير ذَلِكَ من صفات الكمال الإلهي؛ فأنتم مُشَبِّهُون، فكَانُوا يَنْفُونَها بِزَعْمِ التَنْزِيهِ، فيقولُ لهم أهل السنة: هل تثبتون الله صفة الإرادة؟ لا يمكن أن يَقُولوا: لا نثبتها؛ لأن هذا الخلق كله يدل على صفة الإرادة لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بتخصيصه، خَصَّصَ اللهُ كلَّ موجودٍ بوجهٍ مِنْ وجوهِهِ الممكنة.

فهذا إثبات لصفة الإرادة لله جل وعلا.

فيقال لأولئك المعطلة: تُثْبِتُونَ صفةَ الإرادة؟

فيقولون: نعم.

فيقول لهم أهل السنة: شَبَّهْتُمْ.

فيقولون: كيف؟

يقولون: أَثْبَتُّمْ لله الإرادةَ، وقد أثبت الله الإرادةَ لكثيرٍ منْ خلقِهِ؛ حتى أثبتها للجدار؛ «يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ».

فيقولون: لا، إنما أثبتنا صفة الإرادة لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى على أَنَّها إرادةٌ لا كإرادة المخلوق.

فيقال لهم: القول فِي صفةٍ من الصفاتِ كالقولِ فِي سائرِ الصفات، ونحن نُثْبِتُ لله سمعًا لا كَسَمْعِ المخلوق، وبصرًا لا كَبَصَرِ المخلوق.

فإذًا؛ صفة الإرادة يَسْتَدِلُّ العقلُ عليها بمجردِ النظرِ فِي خلق الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

إذا كَانَ مريدًا؛ فيلزم أن يكون عالمًا؛ لأن الإرادة تَسْتَلْزِمُ الْعِلْم، لِأَنَّهُا: تخصيصُ الممكِنِ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِهِ الْمُمْكِنَةِ.

وإذًا؛ فصفة الإرادة تستلزم صفةَ الْعِلْم.

كيف تُرِيدُ ما لا تَعْلَمُ؟!

إنَّ مَنْ يَفْعَلُ شيئًا بغير علم؛ لا يقال: "إنَّهُ أراده"، بل يُسْتَشْهَدُ بعَدَمِ عِلْمِهِ بما فَعَلَ على عدمِ إرادتِهِ له، وما دام هذا الخَالِقُ هو الخَالِقَ لكلِّ شيءٍ؛ فَيَلْزَمُ أن يكون عالمًا بكل شيء؛ «أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ».

«هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْض جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ».

فإذًا؛ نثبت لله صفة الإرادة.

ولا بد من إثبات صفة الْعِلْم.

ما دُمْتَ أَثْبَتَّ صِفَةَ الإرادةِ؛ فلا بد من إثباتِ صفةِ العلمِ، وعِلْمُهُ بما فِي مخلوقاته من أشكالٍ وألوانٍ وأحوالٍ؛ يقتضي أنْ يكونَ سميعًا بصيرًا، ولِذَلِكَ فكثيرًا مَّا يَقْرِنُ القرآنُ الكريمُ بَيْنَ صِفَتَيِ الْعِلْمِ والسمعِ، والسمعِ والبصرِ:

«وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

«وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ».

«سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».

«وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ».

وإذا كَانَ عالمًا مريدًا سميعًا بصيرًا؛ فلا بد أن يكون حيًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا لم يكن حيًا؛ لم يكن مريدًا، ولم يكن عالمًا، ولم يكن سميعًا، ولم يكن بصيرًا.

فإذًا؛ كَانَ عالمًا مريدًا سميعًا بصيرًا؛ فلا بد أن يكون حيًا؛ لأن صفة الحياة من لوازم هذه الصفات، أي أن الشيء لا يمكن أن يكون مريدًا عالمًا سميعًا بصيرًا، ثم يكونُ مع ذَلِكَ ميِّتًا، أو يكونُ جمادًا؛ بل لا بد أن يكون حيًا، وأَنْ تكونَ حياتُهُ أَرْقَى أنواعِ الحياةِ؛«وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا».

«وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا».

«هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ».

هذا القَدْرُ مِنَ الصفاتِ يَكْفِي الآنَ لِبَيَانِ أنَّ الخَالِقَ الَّذِي دَلَّنَا العقلُ على وُجُودِه هو الخَالِقُ الَّذِي دَعَانَا الشرعُ لِلْإِيمانِ به وعِبَادَتِهِ، مع أنَّ صفاتٍ غيرَها كثيرة مذكورةٌ فِي الكتاب والسنة الصحيحة.

وعليه؛ فإنَّ كُلَّ محاولةٍ لِجَعْلِهِ مادَّةً مِنَ الْمَوَادِّ، أو كائنًا من هذه الكائنات، إنما هو شَطَطٌ مِنَ القولِ؛ لأن كثيرًا مِنْ أُولَئِكَ الضُّلَّالِ يُسَلِّمُون بالدليلِ العقلي، فيقولون: نعم، سَلَّمْنَا بأنه لا بُدَّ لكلِّ مُسَبَّبٍ مِنْ سَبَبٍ، سَلَّمْنَا بأنَّ لكلِّ موجود موجِدًا، وأن لكل مخلوقٍ خالقًا.

فيقال لهم: وهذا الخَالِقُ مَنْ هُوَ؟

فأما المؤمنون؛ فإنهم يَمُدُّون الْخَطَّ على استقامتِهِ، ويقولون: هذا الخَالِقُ الَّذِي دلنا العقلُ بأدلتِه العقليةِ كما مَرَّ على وُجُوده له هذه الصفاتُ، فإذا رَجَعْنَا إِلَى كتاب ربنا وسنةِ نبينا؛ وجدنا الصفاتِ التي هدانا إِلَيْهِا العقلُ مذكورةً لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَوَرَاءَ ذَلِكَ من الصفاتِ ما قَرَّرَهُ اللهُ رَبُّ العالمينَ فِي كتابِه وعلى لسانِ رسولِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ.

هذه هي الصفات.

فَلْنَنْتَقِلْ فِي الْحَدِيثِ مِنْ هذه الصفاتِ إِلَى الذاتِ الْحَامِلَةِ لهذه الصفاتِ:

الأمور التي نتحدث عَنْها نوعان: نوع له وُجُود خارجي مستقل عَنْ أذهاننا، فهو موجود؛ سواء علم الناس أو غيرُهم من المخلوقات بوجوده أم لم يعلموا، ونوع له وُجُودٌ فِي أذهاننا، ولا وُجُود له إلا فِي أذهاننا فقط، فهذا لا يوجد إلا إِذَا وُجِدت الأذهان، وليس هُنَالِكَ من نوع ثالث، وإنما هو العدم المحض.

مثال النوع الأول: هذه المخلوقات التي نشاهدها لها وُجُود خارجي مستقل عَنْ أذهاننا، من أناس وحيوانات وبحار وأنهار، وما لا نشاهده؛ كالمخلوقات التي تسكن فِي قاع البحار، وكالمخلوقات التي أخبرنا عَنْها ربنا ولم نرها؛ من ملائكة وجن وجنة ونار.

مثال النوع الثاني وهو الذي يوجَد في الأذهان -: ما يَتَعَاوَرُنا من أحوال نفسية؛ من سرور وحُزْن، وحب وبغض، ورجاء ويأس، وما نستحدثه بخيالنا من كائنات؛ كالغُولِ والعَنْقَاءِ - أَلَا إن المستحيل ثلاثة: الغول والعنقاء والْخِلُّ الوَفِّيُّ -، وما نتصوره من معان مجردة كالزيادة والنقصان، فهذا يوجد فِي أذهاننا، نحن نُحِسُّ ونشعر بالحب وبالبغض، وباليأس وبالرجاء، نحن نحس بالسرور وبالحزن؛ ولَكِنْ أين هذا؟!

هل له وُجُود مستقل خارجي؟!

هذا إنما نُحِسُّه، هذا يوجد فِي الأذهان، لا يوجد فِي الأعيان.

ما نتصوره من معان مجردة كالزيادة والنقصان، وما نجرده من الموجودات؛ كجنس المادة وجنس الإنسان، أي: المادة التي لا تتصف بصفة من الصفات.

الإنسان الَّذِي يشار إِلَيْهِ بالبَنَان.

الموجودات كلها؛ سواءٌ ما كَانَ منها ذا وُجُود حقيقي موضوعي، أو وُجُودٍ ذهني؛ لها خصائص تميزها عَن المعدومات، فالموجود سواء كَانَ فِي الأعيان أو كَانَ فِي الأذهان؛ له خصائص تميز هذا الموجودَ عَن المعدوم.

أهم هذه الخصائص: كونها توصف بصفات ثبوتية، فالنهر عميق أو ضَحْلٌ، طويلٌ أو قصيرٌ، كثيرُ التَّعَرُّجِ أو قَلِيلُه.

الفكرة التي فِي الذهن وهي من الموجود فِي الأذهان واضحةٌ أو غامضةٌ، مُعَقَّدَةٌ أو يسيرةٌ، حسنةٌ أو خبيثةٌ.

فالموجودات كلها تتميز إِذًَا عَن المعدومات بكون الأخيرة لا يمكن أن توصف بصفة ثبوتية، فأنت لا تستطيع أن تصف المعدوم بصفة ثبوتية، ويمكن أن توصَفَ تلك المعدوماتُ بما لا نهايةَ له من الصفات السلبية، فإذا لم يكن الشيء موجودًا بل كَانَ معدومًا؛ أَمْكَنَ أن نقول عَنْه: إنه ليس بطويل ولا قصير، ولا فوقَ ولا تحتَ، ولا فِي هذه الجهة ولا تلك، ولا مادةَ ولا رُوحَ، ولا تراه الأعينُ ولا تَسْمَعُهُ الآَذَانُ، ولا تَلْمَسُهُ الأَيْدِي ولا تَشُمُّهُ الأُنُوفُ، ولا يَتَحَرَّكُ ولا يَسْكُنُ.....وهكذا وهكذا، إِلَى ما لا نهاية له من هذه السُّلُوب، فهذا كله للمعدوم.

الموجودات الخارجية الموضوعية لها خصائص تميزها؛ ليس عَن المعدومات فحسب، بل عَنْ الموجودات الذهنية إن صح أن تسمى تلك الموجودات الذهنية ب«الموجوداتِ» أصلًا -.

مما يميزها: كونها لها ذوات تحمل صفاتها، ولها صور تميز كلًا منها عَنْ غيره من الموجودات.

ومن أهم خصائصها: كونها مما يمكن من حيث المبدأ مشاهدتُه والإشارةُ إِلَيْهِ، فهي بهذه الصفة كلُّها محسوسات، وما لا يمكن مشاهدته على الإطلاق، وتحتَ أي ظرف من الظروف، وبأي موجود من الموجودات؛ فهذا لا وُجُودَ حقيقيَّ له، بل إما أن يكون عَدَمًا، أو أن يكون أَمْرًا ذهنيًا مجردًا.

وأما الموجودات التي لها واقع خارجي، لها وجود خارجي حقيقي؛ فهذه هي التي يمكن أن تُبْصَرَ بالأعين، وأن يشار إِلَيْهِا حيث هي.

فماذا تقول الآن عَن الخَالِق؟!!

إنه لا يمكن أن يكون عدمًا.

هذا أمر بديهي.

وإذا لم يكن عدمًا؛ فلا بد أن يوصَفَ بصفاتٍ ثبوتية؛ لأن العدم وحده هو الَّذِي لا يوصف بالصفات الثبوتية، وإنما يوصف بالصفات السلبية.

ولا يمكن أن يكون ذا وُجُودٍ ذهنيٍّ مجرد؛ لِأَنَّهُ هو خالق الأذهان، فوجودُهُ سابقٌ للأذهان.

لم يَبْقَ إِذًا إلا أن نقول: أَنَّهُ ذو وُجُودٍ خارجيٍّ حقيقيٍّ موضوعي، وإذا قلنا ذَلِكَ؛ لَزِمَنَا القولُ بأنه شيءٌ كما أخبر عَنْ نفسه؛ «قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ»، وأن له ذاتًا تَحْمِلُ صفاتِهِ، وأن له صورةً، وأن له كيفًا يتميز به عَنْ مخلوقاته، وهذا الكيف يتعلق بصفاته، ونحن نثبت ذَلِكَ الكيف؛ ولَكِننا نقطع الطَّمَعَ عَنْ معرفته وعلمه، فليس معنى أننا نقول: نحن نعرف الصفة، ونعرف معنى الصفة، ولَكِننا نُفَوِّضُ الكَيْفَ إِلَى الله تبارك وتعالى؛ أَنَّهُ ليس له كيفٌ؛ بل قولنا هذا "نُفَوِّضُ الكَيْفَ إِلَى الله"، "نفوض الكيفية إلى الله"؛ دليلٌ على أن للصفة كيفيةً؛ ولَكِن نحن لا نعرفها؛ بدليل قولك: "ونفوض الكيفية إِلَى الله"، نقطع الطمع عن معرفتها.

فإذًا؛ إذا كَانَ كذَلِكَ؛ لَزِمَ إمكانُ رؤيته، بل لزم أَيْضًا إمكانُ الإشارة إِلَيْهِ كما فعل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ؛ لأن هذه صفاتٌ لازمةٌ لكل موجودٍ؛ خالقًا كَانَ أم مخلوقًا، فما لا يتصف بها لا يكون موجودًا حقيقيًا، دَعْكَ أنْ يكونَ خالقًا.

وبعض الناس سَيَقِفُ شَعْرُهُمْ مِنْ هذا الكلام؛ كالأشاعرة والماتريدية والمعطلة وغيرهم؛ لأن بعض الأفكار الفلسفية المادية وَجَدَت طريقَهَا - مع الأسف - إِلَى العقيدة الإسلامية منذ زمن بعيد، فأَفَْسَدَتْ على الناسِ فِطْرَتَهُمْ، ثم أَفْسَدَتْ عليهم عُقُولَهم، فَجَعَلَتْهم يَأْنَسُون إِلَى ما تَنْفِرُ منه الطِّبَاعُ الفِطْرِيَّةُ، ويُقَرِّرون ما تُنكِرُهُ العقولُ السَّوِيَّةُ.

أصل هذه الفلسفة المادية التي تَأَثَّرَ بها الجهميةُ والمعتزلةُ من ناحيةٍ، والمشبهةُ المجسمة من ناحية أخرى: أن الموجود حقيقةً هو هذه المخلوقات المادية المشاهدة، فإذا كَانَ الشيء موجودًا؛ فلا بد أن يكون مثلها، وإلا فما هو بموجود!!

مَالَ المشبِّهُ إِلَى جانب إثبات وُجُود الخَالِق، ولما كَانَ الموجود عَنْدهم كما مر بحسب تلك الفلسفة لا بد أن يكون مشابهًا لهذه الموجودات المخلوقة؛ فقد شبهوا الله سبحانه بمخلوقاته، فجعلوا صفاتِه مِنْ سمعٍ وبصرٍ وكلامٍ ويَدٍ وعَيْنٍ مشابِهَةٌ لصفاتِ الأجسامِ الحَادثة هذه، قَالوا: مع فارق فِي العِظَمِ والقوةِ!!

فإِلَى هذا صار وذَهَب المشبهة.

وأما الجهمية؛ فمَالُوا إِلَى جانبِ تَنْزِيهِ الخَالِقِ عَنْ مخلوقاته؛ لَكِنهم لما اعتقدوا أن الموجود حقيقةً لا بد أن يكون جسمًا كهذه الأجسام؛ اعتقدوا أن كل صفة توصَف بها هذه المخلوقاتُ لا يمكن أن يوصف بها الخَالِق، وإلا كَانَ مشابهًا له، فصار غلاتهم ينكرون كل الصفات الثبوتية للخالق، أو يأولونها تأويلًا يعطل معانيها، ولا يصفونه إلا بالأوصاف السلبية.

وأما غير الغلاة منهم وتندرج تحت هَؤُلَاءِ جماعاتٌ كالأشاعرة وغيرهم -؛ فجعلوا يفعلون هذا مع بعض الصفات دون بعض، ينكرون أو يأولون من الصفات ما يرونه دالًّا على المشابهة؛ كالذات والعين واليد، ولَكِنْ ما لا يوصف إلا بالصفات السلبية إنما هو العدم كما مر -.

لقد فَرَّ الجهمية من تشبيه الخَالِق بالمخلوقات، فوقعوا فِيما هو شَرٌّ منه، وهو تشبيهُهُ بالمعدومات، لِذَلِكَ قَالَ أهل السنة: إن الْمُجَسِّمَةَ يَعْبُدُونَ صَنَمًا، والْمُعَطِّلَةَ يَعْبُدُونَ عَدَمًا.

الجهمية النُّفَاةُ فَرُّوا من تشبيه الله تبارك وتعالى بخلقه، فقالوا: "لو أَثْبَتْنَا الصفاتِ لله تبارك وتعالى؛ كنا مُشَبِّهِينَهُ بخلقِهِ"!!

فَنَفَوْا عنه الصفاتِ!! 

فَفَرُّوا مِنْ تشبيهِ الخالقِ العظيمِ بالموجودات إلى تشبيهِهِ بالمعدومات؛ لأنهم إنما جعلوا له كل السُّلُوبِ!! فهم يَقُولون: لا فوقَ ولا تحتَ، ولا يمينَ ولا يَسَارَ، ولا أَمَامَ ولا خَلْفَ، ولا موجودَ ولا معدومَ، إِلَى غير ذَلِكَ مما إِذَا وُصِفَ العَدَمُ به؛ قيل: هذا هو العَدَمُ حقًا، ولا يُوصَفُ العَدَمُ بِأَبْلَغَ منه!!

فهذا التصور الجهمي التعطيلي للخالق الْعَظِيم صار - مع الأسف الشديد - التصورَ الشائعَ الآنَ بين جماهيرِ المثقفين من المنتسبين إِلَى الإسلام.

وإذا كَانَ أصل البلاء إنما جاء من الفلسفة اليونانية المادية؛ فإن هذه الفلسفة هي الإرث الفكري الَّذِي وَرِثَهُ الغَرْبُ، وبَنَى عليه فَلْسَفَتَهُ الماديةَ الْحَدِيثةَ، وإذا كَانَت المادية القديمة هي الأصلَ الَّذِي نَشَأَت عَنْه المشكلة؛ فإن المادية الْحَدِيثة هي الغذاء الَّذِي يُمِدُّها اليومَ بالحياة.

لقد تَغَلْغَلَ الفِكْرُ الماديُّ المعاصر فِي تصورات الناس كما لم يتغلغل الفكر المادي الأول، فصار جزءًا من مفهوم الْعِلْم؛ بل صار عَنْد كثير من الناس- حتى المعارضين له جزءًا من مفهوم العقل، لِذَلِكَ صرتَ ترى المؤمنين المستمسكين بالدين الْحَقّ يصفون أصحاب هذا الاتجاه بالعقلانيين، فجعلوا أُولَئِكَ المعطلةَ النفاةَ آَخِذِينَ بالعقل، كَأنَّما العقلانيةُ والدينُ الصحيحُ لا يجتمعان!!

أما أهلُ السنةِ السابقون؛ فكَانُوا يسمونهم ب«أهل الأهواء».

المعاصرون يقولون عن هؤلاء: "هم العقلانيون"، فيجعلون العقل في صَفِّهِم؛ إذًا فالعاطفة في صف المثبتين!!

فَيُسِيئُون إلى أنفسِهم، ويَمُدُّونَ أولئك في غُرُورِهِم وطُغْيَانِهِم وهم لا يشعرون!!

سَلَفُنَا سَمَّوْا أولئك المعطلة ب«أهلِ الهواء»، ب«أهلِ البدع»، وأما المعاصرون؛ فيسمونهم ب«العقلانيين»؛ لِأَنَّهُم كَانوا أعني السابقين من علماءنا يعلمون أن العقل لا يمكن أن يكون سَبَبًَا للضلال، وإنما الَّذِي يسبب الضلالَ هو اتباع الهوى، فقالوا: هم أهل الأهواء.

مشكلة المعطل: أَنَّهُ يريد أن يكون ماديًا، ويريد مع ذَلِكَ أن يكون مؤمنًا بالله، ولهذا يقع فِي تناقضٍ لا مَخْرَجَ له منه إلا باللجوء إِلَى التعطيل أو غير التعطيل.

إن ماديته تقتضيه أن يَقُول: "إنَّهُ لا موجودَ إلا ما كَانَ مركَّبًا من هذه المادة"، فهذه ماديته، تقضي بهذا، وإيمانه يقتضيه القول بوجودِ موجودٍ غيرِ مُرَكَّبٍ من المادة، فهو لا يريد أن يصف الخَالِق بأي صفة ثبوتية؛ لأن هذا يجعله ماديًا، ولا يريد أن ينفي عَنْه صفة الوجود؛ لأن هذا يتناقض مع إيمانه، فيَبْقَى مؤمنًا بوجود شيءٍ يَصِفُهُ بأنه فِي كل مكان، وأنه لا يَحُدُّهُ زمانٌ ولا مكانٌ، وأنه مُطْلَقٌ لا يُشَارُ إِلَيْهِ بالبَنَانِ، ولا صورةَ له، ولا يوصَفُ بِعُلُوٍّ ولا انخفاضٍ، ولا بِكَوْنِهِ داخِلَ العالَمِ ولا خَارِجَهُ، وأنه لا يَرَى، ولا يَتَكَلَّمُ، ولا يتحرك، ولا يَرَى، ولا....ولا ......من هذه السلوب!!

أليس من حق الملحد المنكِرِ لوجود الخَالِق أن يَقُول لأمثال هَؤُلَاءِ: ما الفرق الْحَقيقي بيني وبينكم؟!! إنكم تصفون هذا المعدومَ بكونه خالقًا، وأنا أقول: ما دام معدومًا؛ فليس هُنَالِكَ من خالق، لَكِن إِذَا اتفقنا على الْحَقائق؛ فلا مشاحة فِي الألفاظ!!

أَمَا وقد ظَهَرَ أن هذا الموقفَ التعطيليَّ مِنْ صفاتِ الخَالِقِ الْعَظِيمِ سبحانه ليس مَوْقِفًا عقلانيًا؛ فقد آَنَ أن يَتَبَيَّنَ الآنَ أَنَّهُ ليس أَيْضًا بموقفٍ إسلامي؛ لِأَنَّهُ يخالِفُ صريحَ النصوصِ القرآنيةِ والسُّنِّيَّةِ، ولأن تأويلاتِهِ تخالِفُ قواعدَ اللغةِ التي نَزَلَ بها هذا القرآنُ المجيدُ وجَاءَتْ بها هذه السنةُ المجيدة الرشيدة، فهو مخالفٌ للعقل، مخالفٌ للفطرة، مخالفٌ للحس، مخالفٌ لِلُّغَةِ، ومخالفٌ للنقل.

الصفات التي دُلِّلَ عليها فِيما مضى بالعقل والشرع؛ يلزم أن تكون ثبوتية حقيقية.

العلاقة بين الذوات وبعض الصفات علاقةٌ ضرورية، أيْ أَنَّهُ إِذَا كَانَت هُنَالِكَ ذات أو ذوات؛ فلا جَرَمَ تكون لها صفات.

لا توجد ذات لا توصف بصفة.

إذا وجدت الذات؛ فلا بد من أن تكون الذات موصوفة.

هذا أمرٌ حَتْمٌ يقضي به العقل؛ أنه لا توجد ذاتٌ أبدًا بغير صفةٍ من الصفات، على الأقلّ توصَفُ بأنها موجودةٌ، وإلا فكيف تُثْبِتُ ذاتًا ولا تُثْبِتُ لها الوجودَ؟!!

هذا على أقل تقدير.

فأنت إذا قلتَ: "أُثْبِتُ الذاتَ"؛ فلا بد من أن تُثْبِتَ لها الصفات.

فإذا قلتَ: "هي ذاتٌ"؛ فَعَلَى الأَقَلّ تُثْبِتُ لها صفةَ الوجود.

فإذا قَالَ: هو وُجُودٌ لا كالوجود فِي المخلوقات؛ فيقال: وكذَلِكَ سائرُ الصفات.

إِذَا كَانَت هُنَالِكَ صفاتٌ وجودية؛ فلا جَرَمَ تحملها ذات، فالصفات لا تكون مجردةً عَن الذوات، ولا الذات تكون مجردة عَنْ الصفات إلا فِي الأذهان، وهذا ما مر ذكره كثيرًا: أن هذا المطلق أعني المطلق الكلي هو الَّذِي يوجد فِي الأذهان، ولا يكون فِي الأعيان؛ لِأَنَّهُ إن وجد فِي الأعيان؛ صار من كونه موجودًا فِي الأذهان إِلَى تَحَقُّقِهِ فِي الأعيان؛ كالوجود، فصفة الوجود تثبتها للخالق الْعَظِيم الَّذِي أوجد كل موجود، وتثبتها للموجودات.

هذه الصفة؛ عَنْدما تقول: "أنا أُثْبِتُ لله تَبَارَكَ وَتَعَالَى هذه الصفةَ"؛ فيقال لك: ولَكِنها ثابتة أَيْضًا للمخلوق، فأنت تقول: "أنا أُثْبِتُ القَدْرَ المشتَرَكَ، أو ما يقال له: «الكُلِّيُّ العامُّ»".

هذا يكون متحقِّقًا فِي الأذهان، لا متحققًا فِي الأعيان، فإذا ما صار وُجُودُ الخَالِق له؛ كَانَ على قَدْرِه، فتكونُ الصفةُ على قدرِ الذات، فيكونُ وُجُود الخَالِق الْعَظِيم على قَدْرِ ذاتِهِ، وذاتُهُ ليس كَمِثْلِها ذاتٌ، فوجودُه ليس كمثله وُجُودٌ، ويكون وُجُودُ كُلِّ موجودٍ على قَدْرِهِ، فالوجودُ لِلْحَجَرِ سِوَى الوجودِ للنبات، سِوَى الوجودِ للحيوان، سِوَى الوجودِ للإنسان، إِلَى غيرِ ذَلِكَ من أصنافِ الموجودات.

إذًا؛ عَنْدنا هذا القَدْرُ المشْتَرَكُ، فهذا يُثْبِتُهُ العقلُ، وهو معنى قولِ أهلِ السنة: إننا نَفْهَمُ المعنى، يعني «الرحمنُ على العرش استوى»، نحن نفهم المعنى، نعرف معنى الاستواء، ولَكِن إِذَا قيل: "استوى الرحمن على عرشه"؛ صار استواؤه له، فيكونُ لائقًا بذاته، وكذَلِكَ إِذَا قَالَ قائل: "استوى الرجلُ على ظهر الدابة"، "استوت السفينةُ على الجُودِيِّ، على الجبل"؛ فَيَكُونُ استواءُ كلٍّ على قَدْرِ كُلٍّ.

فالصفات تكون على قدر الذوات.

وأما أن تَفْرِضَ ذاتًا مجرَّدَةً من الصفات؛ فهذا لا يكونُ إلا فِي الأذهان.

لا يكون فِي الأعيان.

أما الواقعُ المعايَنُ؛ فلا يَعْرِفُ صفاتٍ مجردة، ولا يَعْرِفُ ذاتًا مجردَةً من الصفات.

هذا ما يَقْضِي به العقلُ، وهذه هي الأدلةُ قد أَدَّتْ بنا فِي نهاية الأمر إِلَى هذا السؤال.

إذًا؛ الأدلةُ العقليةُ إِلَى ما يُضَمُّ إِلَيْهِا من أدلةِ الفطرةِ، وأدلةِ الآياتِ، وأدلةِ الحِسِّ؛ بل وأدلةِ الإجابة، فدليلُ الإجابةِ يَعْرِفُهُ كُلُّ إنسانٍ بِتَجْرِبَتِهِ؛ يَقَعُ فِي الضَّائِقَةِ، فَيَسْأَلُ ربَّه ويَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ ولو كَانَ كافرًا -، فيأتي التَّفْرِيجُ عَنْه، وتأتي الإجابةُ له، فَيَسْتَدِلُّ بذَلِكَ على وُجُود الخَالِق الْعَظِيم.

فالدليل العقلي مضمومًا إِلَيْهِ ما مَرَّ من سائر الأدلة؛ دَلَّنَا على وُجُود خالقٍ لهذه المخلوقات، وموجِدٍ لهذا الوجود، فيأتي السؤال:

ومَنْ هو الخَالِق؟

هو الَّذِي دلنا عليه الكتاب المجيد، ودلنا على صفاته، ودلنا كذَلِكَ نبيُّنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صفاته فِي سنته الشريفة.

فهذا هو المطلوب إثباته، والحمد لله رب العالمين.

وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك