الإِسْلَامُ دِينُ العَمَلِ وَقَضِيَّةُ الرِّزْقِ

الإِسْلَامُ دِينُ العَمَلِ وَقَضِيَّةُ الرِّزْقِ

«الإِسْلَامُ دِينُ العَمَلِ وَقَضِيَّةُ الرِّزْقِ»

جمعٌ وترتيبٌ مِن خُطَبِ الشيخِ العلَّامة:

أبي عبد الله مُحَمَّد بن سَعِيد رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ-.

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّـهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

«الأَمَانَةُ في العَمَلِ»

فإنَّ اللهَ ربَّ العالمين أمرَ بأداءِ الأماناتِ، وأداءُ الأماناتِ يدخلُ فيه كلُّ شيءٍ في الحياةِ، فالعباداتُ أمانةٌ، والخيانةُ فيها أنْ تُنْتَقصَ، فإذا انتقصَ الإنسانُ مِن العبادةِ فهو خائنٌ، والمعاملاتُ أمانةٌ، وما يُستَأْمَنُ عليه المرءُ أَمَانَةٌ، والسِّرُّ أمانةٌ، وكلُّ أمرٍ تعلَّقَ به أمرٌ ونهيٌ في دينِ اللهِ تبارك وتعالى- فهو أمانةٌ، والخيانةُ فيه ألَّا يُؤتَى به على الوجهِ الشرعيِّ المطلوب.

فإذا كان إنسانٌ في عملٍ، فالعملُ الذي استُؤمِنَ عليه أَمَانَةٌ، فإذا خَانَ فيه فهو خائنٌ، وجزاءُ الخائنِ معلومٌ، وكلُّ مَن أُسنِدَ إليه عَمَلٌ؛ فَلَمْ يَأْتِ به على وَجْهِهِ فقَدْ أَكَلَ مِن حَرَامٍ إنْ كان مُتَحَصِّلًا مِن وَرَاءِ ذلك على أَجْرٍ شَاءَ أمْ أبَى-(1).

«حَثُّ اللهِ عَلَى الجِدِّ والاجْتِهَادِ في العَمَلِ في القُرْآنِ الكَرِيمِ»

*حَثَّ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ عَلَى العَمَلِ وَطَلَبِ الرِّزْقِ -رِزْقَ اللهِ- بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ:

قال تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾ [الجمعة: ١٠]. يعني: فإذا فُرِغَ مِن صَلَاةِ الجُمُعَةِ، فَتَفَرَّقُوا في الأَرْضِ للتِّجَارَةِ والتَّصَرُّفِ في حَوَائِجِكُم وَمَطَالِبِ حَيَاتِكُم، وَمَصَالِحِ دُنْيَاكُم، واطْلُبُوا رِزْقَ اللهِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ، واذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا في جَمِيعِ أَحْوَالِكُم رَغْبَةً في الفَوْزِ بِخَيْرَيْ الدُّنْيَا والآخِرَةِ(2).

وقال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15]. اللهُ الذي جَعَلَ لَكُم الأَرْضَ مُنْقَادَةً سَهْلَةً مُطَوَّعَةً، تَحْرُثُونَهَا وَتَزْرَعُونَهَا، وَتَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَهَا، وَتَنْتَفِعُونَ مِن طَاقَاتِهَا وَخَصَائِصِ عَنَاصِرِهَا، فَامْشُوا في جَوَانِبِهَا وَأَطْرَافِهَا وَنَوَاحِيهَا مَشْيًا رَفِيقًا لِتَحْصِيلِ مَطَالِبِ الحَيَاةِ، وَكُلُوا مِمَّا خَلَقَهُ اللهُ لَكُم في الأَرْضِ، واكْتَسِبُوا الرِّزْقَ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ تَعَالَى لَكُم، وَتَذَكَّرُوا يَوْمَ الحِسَابِ، وإليه وَحْدَهُ تُبْعَثُونَ مِن قُبُورِكُم يومَ القيامةِ للحِسَابِ وَفَصْلِ القَضَاءِ وَتَنْفِيذِ الجَزَاءِ(3).

وقال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ [القصص: ٧٧].

المَعْنَى: اطْلُب في تَصَرُّفِكَ فِيمَا أَعْطَاكَ اللهُ مِن الأَمْوَالِ الكَثِيرَةِ، قَاصِدًا ثَوَابَ رَبِّكَ الذي لا يَنْفَد في الجَنَّةِ بِأَنْ تَقُومَ بِشُكْرِ اللهِ فِيمَا أَنْعَمَ عَلَيْكَ، وَمِن أَجْلِ أَنْ تُنْفِقَ المَالَ الذي أَعْطَاكَ في رِضَاهُ، ولا تَفْهَمُ أَنَّنَا نَنَصْحُكَ أَنْ تَجْعَلَ كلَّ مَا آتَاكَ اللهُ مُوَجَّهًا لِتَحْصِيلِ ثَوَابِ الآخرةِ في جَنَّاتِ النَّعِيمِ، بَلْ نَقُولُ لَكَ أَيْضًا: لا تَتْرُك حَظَّكَ مِن الطَّيِّبَاتِ التي أَحَلَّهَا اللهُ لَكَ ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ﴾.

وَأَحْسِنْ إِلَى فُقَرَاءِ قَوْمِكَ وَمَسَاكِينِهِم وَذَوِي الضَّرُورَاتِ والحَاجَاتِ فيهم بِمَالٍ أو قَوْلٍ أو عَمَلٍ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ بِنِعْمَتِهِ(1).

وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾ [الشرح: ٧-٨].

فإذا فَرَغْتَ مِن عَمَلٍ نَافِعٍ مُفِيدٍ يُقَرِّبُكَ إلى اللهِ؛ فَاجْتَهِد في عَمَلٍ نَافِعٍ جَدِيدٍ، وَأَتْعِب نَفْسَكَ فيه، وَلَا تُخْلِي وَقْتًا مِن أَوْقَاتِكَ فَارِغًا، وَلَا تَرْكَنُ إلى الرَّاحَةِ والدَّعَةِ، وإلى رَبِّكَ وَحْدَهُ فَتَضَرَّع، واجَعْل رَغْبَتَكَ إلى اللهِ تَعَالَى في جَمِيعِ مَطَالِبِ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ، وَتَرَفَّع عَمَّا في أَيْدِي النَّاسِ، فهو وَحْدَهُ القَادِرُ على إِجَابَتِكَ وَإِسْعَافِكَ(2).

«حُثُّ النَّبِيِّ عَلَى العَمَلِ وَبَيَانُهُ لِلْأَجْرِ العَظِيم عَلَى نَفَقَةِ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ»

عن المِقْدَامِ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: «مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ وَزَوْجَتَكَ وَخَادِمَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ». أَخْرَجَهُ البخاريُّ في «الأدبِ المُفردِ»، وأحمد، والنسائيُّ في «الكبرى»، وَصَحَّحَهُ الألبانيُّ في «السلسلةِ الصَّحِيحَةِ».

هَذََا الحديثُ دليلٌ على بَيَانِ شَيْءٍ مِن فَضَائِلِ الإسلامِ وَمَحَاسِنِهِ، وذلك أنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ على نَفْسِكَ مِن المَأكلِ والمَشْرَبِ ونحوِ ذلك مِمَّا تَنْتَفِعُ به؛ يكونُ لَكَ فيه صَدَقَة، وَهَكَذَا ما أَنْفَقْتَهُ على مَن تَحْتَ يَدِكَ مِن زَوْجَةٍ وابْنٍ وَخَادِمٍ ومَمْلُوكٍ لَكَ فيه صَدَقَات، وهذا يَحْتَاجُ إلى النِّيَّةِ، أَنَّ ما أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ أَيُّهَا المُسْلِمُ وَعَلَى أَهْلِكَ وَعَلَى مَمْلُوكِكَ وَعَلَى الأَجِيرِ الخَادِمِ والقَرِيبِ والبَعِيدِ.

كلُّ مَا أَنْفَقْتَهُ فَلَكَ فيه صَدَقَات، وَهَذَا كَمَا أَسْلَفْتُ مِن مَحَاسِنِ الإسلامِ وَفَضَائِلِهِ، وَمِن رَحْمَةِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالمُسْلِمِينَ والمُسْلِمَاتِ، ويحتاجُ هذا إلى النِّيَّةِ، أي أنْ تَنْويَهُ نِيَّةً عامَّةً في كلِّ ما أَنْفَقْتَ مِن مَالِكَ في وجوهِ الحَلَالِ؛ ومِن ذَلِكَ المَطْعَمُ والمَشْرَبُ والمَسْكَنُ والمَرْكَبُ تَحْتَسِبُهُ فَلَكَ فيه صَدَقَاتٌ جَارِيَةٌ.

وهكذا إذا قَدَّمْتَ إِحْسَانًا تَحْتَسِبُ فيه الأجْرَ عند اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وفي الحديثِ: «لَا أَجْرَ إِلَّا عَن حِسْبَةٍ» صَحَّحَهُ لغيرِهِ الألبانيُّ في «الصحيحة»-؛ أي: لِمَن يَحْتَسِبُ، وهو بِمَعْنَى حَدِيثِ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ»؛ أي: تَنْوِي إِذَا قُدِّمَ لَكَ الطَّعَامُ مِن حَلَالٍ أَنْ تَنْوِيَ في هذا الطعامِ أَنَّكَ تُحْسِنُ به إلى نَفْسِكَ، وتَتَقَوَّى به على طَاعَةِ اللهِ وَقَضَاءِ حَاجَاتِكَ المُبَاحَةِ والشَّرْعِيَّةِ، فَيَكُونُ لَكَ في هذا الطَّعَامِ أَجْرٌ، وَهَذَا تَكَرُّمٌ مِن اللهِ عَزَّ وَجَلَّ- وَإِحْسَانٌ وَإِفْضَالٌ، وَهَكَذَا كلُّ مَن أَكَلَ مِن مَائِدَتِكَ، وَكُلُّ مَن شَرِبَ مِمَّا كَسَبَت يَدُكَ لَكَ فيه أَجْرٌ.

وَهَذَا جَاءَ مُوَضَّحًا في الأحاديثِ الثَّابِتَةِ عن النبيِّ ﷺ، وهو رَحْمَةٌ مِن اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهَذَا المُسْلِمِ الضَّعِيفِ، وَأَنَّ هذا العَبْدَ المُسْلِمَ ذَكَرًا كانَ أو أُنْثَى لا يَضِيعُ مِن عَمَلِهِ شَيْءٌ أَبَدًا، حتى هذا الشيءُ الذي يَنْتَفِعُ به ويَحْفَظُ صِحَّتَهُ وَبِنْيَتَهُ، ويَحْفَظُ وَلَدَهُ له فيه الأجورُ المُضَاعَفَةُ؛ الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إلى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ(1).

«احْذَر مِنَ البَطَالَةِ وَمِنَ الْفَارِغِينَ البَطَّالِينَ»

إنَّ الجُنْدي الَّذِي يُعَانِي مِنَ البَطَالَةِ يُجِيدُ المُشَاغَبَاتِ...

كانَ النَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُ أَصْحَابَهُ عَلَى المَحَكِّ العَمَلِيِّ قَائِمِينَ(2).

وكانَ مِن سَلَفِنا الصَّالِحينَ من أَهلِ العِلمِ الرَّاسِخِينَ مَن إِذا اشتغل بِبَرْيِ قَلمٍ؛ تَمتَمتْ شفَتاهُ بذِكرِ الله، فلَا يُضيِّعُ الوقتَ بينَ انقطَاعِهِ عنِ الكتابةِ والتحرِير وبَريِ قلَمِه استعدادًا لكتابةٍ جَدِيدة، كانُوا كَذلِك يصْنَعُون، بلْ كانَ منهُم من يُعِدُّ للبَطَّالين الَّذين يزعُمُون أنَّهم يزُورُون إِخوانَهُم فِي الله محبةً فِيه، وَهُم إنَّما يقْطَعُون أَوقاتَ الفراغِ عن حقيقةَِ ما ينْبغِي أنْ تكونَ فِيه.

هُم مِنَ البطَّالِين الفارِغِين، يزُورُ الوَاحِدُ منهُم أخاه ليُضَيِّعَ عليهِ رأْسَ المالِ فِي الحياةِ مِن غيرِ مَا فائِدةٍ وَلاَ عائِدة بل يُوَرِّطُهُ فِي كَذِبٍ وَغيبةٍ وتَقْطِيعٍ لأَرْحامٍ ومَا أَشْبَه.

وكُن مِن النَّاسِ على حَذَر، وكُن من أَهلِ زمانِكَ خاصةً على حَذَر، احذرْهُم وَلا تُخَوِّنهُم، ولكنْ كُنْ مِنهُم علَى حَذَر فَقَلَّ مَن يُريدُ لكَ الخيْر ويحْرِص عليك ويرجُو لكَ النَّفْع ويُقدِّمُه لك.

اتَّقِهِم مَا شِئتَ وما استَطَعت ولا تُضَيِّع حُقُوقَهُم علَيْك، علِّمهُم إنْ كنت عالِما، وادعُهُم إنْ كنت داعِيًا، وأعطِهِم إنْ كنت واجِدًا، وانصَحْهَم إنْ كنتَ بالمعروفِ آمِرَا، وازجُرْهُم عنِ الباطلِ إنْ كنتَ عنِ المنْكَرِ نَاهِيا، وقدِّم لهُم الخيرَ ما استَطَعت، وكُن مِنهُم على حَذَر، كن مِن أهلِ زمَانِك على حَذَر؛ فأَكثرُهُم مِنَ البطَّالِين.

كانَ بعضُ سَلَفِنا مِن عُلمَائِنا -رحمةُ الله عَلَيهِم- يُعِدُّ للبطَّالِين الفَارِغِينَ المُبَدِّدين للأَوقَاتِ إِذا مَا زَارَهُ الوَرَقَ لِيُقطِّعَهُ بسِكِّينِ الورق والأقلامَ لِيبرِيَها لَه والمِدادَ لِيُعِدَّهُ لَه؛ فَيُشَغِّلُهُ في آلَةِ العِلْم، وهي تَسْتغرِقُ مِن زمَانِهِ زَمَانًا؛ فيكونُ قد رَبِحَ زمانَهُ وزمانَ زائِرِه، حتَّى لَاَ يتَبَدَّدَ في غيرِ طائلٍ، وحتَّى لَا يعُودَ عليهِ بالخُسران -خُسرانِ المآلِ والحَال-(1).

عَلَى المُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي دِينِهِمْ، وَفِي إِخْوَانِهِمْ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَفِي بَلَدِهِمْ، وَفِي مُسْتَقْبَلِ أَبْنَائِهِمْ وَحَفَدَتِهِمْ، عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَّقُوا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

*****

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

«قَضِيَّةُ الْرِّزْقِ»

«قَضِيَّتَان مَحْسُومَتَان مِنَ اللهِ تَعَالَى: قَضِيَّةُ الْرِّزْقِ وَقَضِيَّةُ الْأَجَلِ»

فإنَّ أعظمَ قضيتيْن تَشْغَلَانِ النَّاسَ عَلَى مَرِّ العُصُورِ وَكَرِّ الدُّهُورِ هُمَا:

1*قَضِيَّةُ الرِّزْقِ.

2*وَقَضِيَّةُ الأَجَلِ.

ومِن العجيبِ أنَّ اللهَ تبارك وتعالى- حسمَ هاتين القضيتيْن، بحيثُ إنه لا مدخلَ لأحدٍ فيهما بزيادةٍ ولا نقصان، فإنَّ اللهَ -تبارك وتعالى- قَدَّرَ الآجالَ وقَدَّرَ الأرزاقَ، وكتبَ ذلك في اللوحِ المحفوظِ، فلا زيادةَ في ذلك ولا نقصان، وقد قال النبيُّ ﷺ كما في الحديثِ الثابت عنه: «إنَّ رُوحَ القُدُسِ -يعني جبريلَ عليه السلام- نَفَثَ في رُوعي -والنَّفْثُ: هو نفخٌ فوقَ النفخِ المجردِ ودونَ التَّفْلِ، وإنما هو بِرِيقٍ يسير-، إنَّ رُوحَ القُدُسِ نفَثَ في رُوعي -أي: في نَفْسِي وضميري وخاطري- أَنَّهُ لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَتَسْتَوْعِبَ رِزْقَهَا».

قالَ النبي ﷺ في هذا الحديثِ: «فاتَّقُوا اللهَ وأَجْمِلُوا في الطَّلَبِ، واعْلَمُوا أنَّ مَا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يُنَالُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ».

«لَنْ تَمُوتَ نَفْسٌ إلَّا إِذَا اسْتَكْمَلَتْ أَجَلَهَا وَاسْتَوْعَبَت رِزْقَهَا»

بيَّنَ النبيُّ ﷺ أنه لن تموتَ نَفْسٌ إلَّا إذا استكملت أجَلَهَا واستوعبت رِزقَهَا، وهذا الأمرُ دارجٌ معلومٌ عند عوامِّ الناسِ، فإنك تَجِدُ الكلَّ يقول: فلانًا يحيا برِزقٍ، لن تَجِدَ أبدًا أحدًا مَن يقول: إنَّ فلانًا يحيا بغيرِ رزقٍ.

فكُلُّ إنسانٍ لا يحيا إلَّا برزقٍ، وهذا الرزقُ يتعددُ، ولا يتوقفُ عند حدودِ المالِ، ولا عند حدودِ الطعامِ والشرابِ، فكلُّ ما يلحَقُ الإنسانَ فإنما هو رزقٌ مِن اللهِ تبارك وتعالى-، واللهُ عزَّ وجلَّ- عنده خزائنُ كلِّ شيءٍ، مِن مطلقِ ما يُقالُ له شيء، ومِن بدايةِ ما يُقالُ له شيء، خزائنُ الرزقِ مِن المالِ، ومِن الجاهِ، ومِن الشهرةِ، ومِن الطعامِ ومِن الشرابِ ومِن الكِسوةِ، حتى خزائن الهَمِّ وخزائنِ الغَمِّ نسألُ اللهَ السلامةَ والعافيةَ-.

«سَبَبُ الْبَلَاءِ وَالتَّقَاتُلِ فِي العَالَمِ شَهْوَتَيْ الْفَرْجِ وَالفَمِّ»

فقضيةُ الرزقِ محسومةٌ، ومع ذلك فتقاتلُ الناسِ على هذه المسألةِ تقاتلٌ ذريعٌ! وكلُّ ما يحدثُ في العالَمِ إنما يعودُ في النهايةِ إلى فَرْجٍ وفَمٍّ، فهاتان الشهوتان سببُ كلِّ البلاءِ الحاصلِ في هذا الوجودِ، واللهُ تبارك وتعالى- حسمَ لنا هذه الأمور، وبيَّن اللهُ تبارك وتعالى- أنَّ ما عنده لا يُنالُ إلَّا بطاعتِهِ، وبيَّنَ أنَّ الذين يتَّقُونَ اللهَ تبارك وتعالى- يرزقُهم اللهُ مِن حيثُ لا يحتسبون:  ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2-3].

«الْرِّزْقُ عَطَاءُ نِعْمَةٍ وَمَنْعُ بَلَاءٍ وَمُصِيبَةٍ»

والرزقُ قد يكونُ بالإيجادِ وقد يكونُ بالسَّلْبِ، فإنَّ ما يصرفُهُ اللهُ تبارك وتعالى- عن الإنسانِ مما يُكَلِّفُهُ المالَ الكثير مِن الأمراضِ ومِن المصائبِ ومما يلحَقُ الإنسانَ مما يسؤوهُ مِن القَدَرِ الذي لا يُواتيه ولا يُلائمُهُ.

كلُّ ذلك كأنما أُوتيَهُ مالًا، وحصَّلَهُ رزقًا مِن عند اللهِ -جلَّ وعلا-، خيرُ الرزقِ العافيةِ في الدينِ والدنيا والآخرة نسألُ اللهَ أنْ يهديَنا أجمعين-.

«لَوْ تَوَكَّلْتُم عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمُ اللَّهُ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ»

عن عُمَرَ بن الخطابِ رضي اللهُ عنه- فيما أخرجَهُ الإمامُ أحمد، والترمذيُّ، والنسائيُّ وغيرُهم بإسنادٍ صحيحٍ، عن رسولِ اللهِ ﷺ قال: «أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ تَوَكَّلْتُم عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمُ اللَّهُ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَعُودُ بِطَانًا».

فبيَّنَ النبيُّ ﷺ في هذا الحديثِ قاعدتيْن كبيرتيْن في أصلِ هذا الدين:

*الأولى: هي قاعدةُ التوكُّلِ.

*والثانيةُ: قاعدةُ الأخذِ بالأسبابِ.

والحديثُ يُفهَمُ فهمًا مضبوطًا، ولا عُذرَ لأحدٍ في فهمِهِ على هذا النحوِ المغلوطِ؛ لأنَّ الحديثَ بنفسِهِ فيه الدلالة على وجوبِ الأخذِ بالأسبابِ، فإنَّ الطيرَ في الوُكُنَاتِ وفي الأعشاشِ لا تبقَى في أعشاشِهَا، وإنما تُبَكِّرُ في الذَّهابِ لالتقاطِ رِزقِهَا.

يقولُ رسول اللهِ ﷺ: «لَوْ تَوَكَّلْتُم عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمُ اللَّهُ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو...»: والغُدُوُّ: هو الخروجُ في بُكرَةِ النهارِ، فتغدوُ هذه الطيورُ مِن أعشاشِهَا ووُكُنَاتِهَا مِن أجلِ التقاطِ رزقِهَا مُبَكِّرَةً مع خيوطِ الفجرِ الأولِ، ساعيةً في أرضِ اللهِ، لكنَّهَا لا تحملُ لرِزقِهَا همًّا، واللهُ تبارك وتعالى- يرزقُهَا كما رزقَهَا الحياةَ؛ لأنه لا يحيا أحدٌ مِن غيرِ رزقٍ، والحياةُ والأجَلُ يرتبطانِ بالرِّزقِ ارتباطًا مباشرًا، بحيثُ إنه لا يحيا كائنٌ حيٌّ بغيرِ رزقٍ، يقولُ الناسُ: «فلانٌ حيٌّ يُرزقُ»، ولن تَجِدَ أبدًا أنَّ فلانًا حيٌّ لا يُرزقُ، فارتباطُ الأجَلِ بالرزقِ أمرٌ حتميٌّ بصيرورةٍ تمضي إلى الموتِ، وحينئذٍ لا أجَلَ ولا رِزْق.

«حُصُولُ الْرِّزْقِ الْطَّيِّبِ بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ»

فالنبيُّ ﷺ يُبيِّنُ لنا أنَّ الطيورَ تغدو مُبَكِّرَةً مِن أعشاشِهَا، تطلبُ رِزقَهَا، تَلْتَقِطُهُ في جَنَبَاتِ الأرضِ، لا تحملُ له هَمَّا، «خِمَاصًا»: جمعُ أَخْمَص، وهذه الحواصلُ الخُمْص قد التزقت لحومُهَا ببعضِهَا، بحيثُ إنها لا تحوي شيئًا، «تَغْدُو خِمَاصًا، وَتَعُودُ بِطَانًا»: وقد امتلأت بطونُهَا وحواصلُهَا، مِن أين؟ مِن رِزقِ اللهِ جلَّ وعلا-، هل قَدَّرَت لذلك تقديرًا؟! هل وضَعَت له خُطةً للعملِ مِن أجْلِ اكتسابِهِ؟!

وإنما أخذَت بالأسبابِ، فلا بُدَّ مِن الأخذِ بالأسبابِ مع التوكلِ على ربِّ الأسبابِ، بحيثُ إنَّ الإنسانَ يخرجُ مِن قيدِ الربوبية؛ لأنه ليس له فيه مدخَل، ويدخلُ في أَسْرِ العبوديةِ، فهذا هو التوكُّلُ، أنه يخرجُ مِن الربوبيةِ، لا يدَّعِي رِزقًا، ولا يدَّعِي حَوْلًا ولا حِيلةً؛ لأنَّ اللهَ هو خالقُهُ وهو رازقُهُ، وهو مالِكُ أمرِهِ، وناصيتُهُ بيدِهِ، وهو يفعلُ به ما يشاءُ على مقتضى حكتِهِ، ولا رادَّ لقضائِهِ فيه، ولا رادَّ لِحُكْمِهِ فيه، يفعلُ ما يشاءُ ويحكمُ بما يُريدُ، وأمَّا الأخذُ بالأسبابِ فهذا موكولٌ إلى العبدِ، ولا يُعَوِّلُ المرءُ على السببِ؛ لأنَّ الناسَ يأخذونَ كثيرًا بالأسبابِ ولا يُحَصِّلُونَ شيئًا مِن النتائجِ.

«مَخْلُوقَاتٌ لَا تُحْصَى مَرْزُوقَةٌ بِرِزْقِ اللهِ»

ولنعْلَم جميعًا أنَّ هذا الكونَ عامرٌ بالكائناتِ التي لا يُحصيهَا إلَّا الله، وكلُّهَا مرزوقٌ مِن رزقِ اللهِ جلَّ وعلا-، وهو أمرٌ عندما يتأملُ المرءُ فيه يكادُ عقلُهُ يذهبُ منه، فعليك أنْ تتصورَ مَثَلًا وأنْ تعلمَ أنَّ الكائنات البحرية التي تحيا في البحارِ والمحيطات هي أكثرُ عددًا مِن الكائناتِ البريةِ بما لا يُقاس، وكُلُّهَا مرزوقةٌ، ولكلٍّ منها دورةُ حياة، تُولَدُ بالميلادِ الذي قَدَّرَهُ اللهُ، ثم تمضي في حياتِهَا برزقٍ مِن طعامٍ أو شرابٍ أو تغذيةٍ أو نَفَسٍ أو إخراجٍ، تتكاثرُ أو لا تتكاثرُ، ثم ينتهي أَجَلُهَا عند حدٍّ حَدَّدَهُ اللهُ تبارك وتعالى-، ومَسَارِبُهَا في الحياةِ محسوبةٌ.

*النملُ مثالٌ عجيب!

هذا النملُ الذي تراهُ مِن كبيرٍ وصغيرٍ كلُّهُ مخلوقٌ بخَلْقِ اللهِ جلَّ وعلا- وبقدرتِهِ، بدأ ببدايةٍ مُعيِّنَةٍ، بدايةِ الخَلْقِ له، بكُلِّ نملةٍ نملة، مِمَّا لا يُحصيه إلَّا اللهُ جلَّ وعلا-، ثم تمضي في حياتِهَا مرزوقةً برِزقِهَا، فتنمو شيئًا فشيئًا، تتكاثرُ أو لا تتكاثرُ، ثم إذا جاء أَجَلُهَا انتهى عُمُرُهَا.

في دورةِ الحياةِ هذه حركةُ حياةٍ وحركةٌ في الوجودِ، وهذه الحركةُ مرصودةٌ مكتوبةٌ في اللوحِ المحفوظِ، ما مِن شيء!

*والفَيْرُوسَاتُ مِثالٌ آخَر!

فإذا ما تنزَّلْتَ إلى الكائناتِ الدنيا، وأخذتَ الفيروسات مَثَلًا، ومِن الفيروساتِ ما لا يُرى بالعينِ المجردةِ تحت المِجهر إلَّا بتكبيرِهِ برُبعِ مليون مرة ب 250 ألْف مرة- مِن أجلِ أنْ يُرَى هذا الفيروس الذي يفعلُ في الناسِ ما تعلمون، كـ «فيروس سي» مثَلًا في إصابةِ الكَبِدِ، فهذا لا يُرَى إلَّا مُكَبَّرًا برُبعِ مليون مرة، واللهُ ربُّ العالمين بدأَهُ وبدأَ خلْقَهُ في وقتٍ حدَّدَهُ، وجعلَ له دورةَ حياة، يُصيبُ الخليةَ الفُلانيةَ مِن الكَبِدِ في وقتٍ يُحَدِّدُهُ اللهُ، وبطريقةٍ يدخلُ بها إلى الجسدِ! وله تغذيتُهُ، وله إخراجُهُ، وله دورةُ حياتِهِ بتكاثرِهِ، وبإصابتِهِ لِمَا يُصيبُهُ مِن تلك الخلايا في الكَبِدِ الإنسانيِّ مُدَمِّرًا أو غيرَ مُدَمِّر، ثم يمضي في حياتِهِ إلى نهايتِهَا بأعدادٍ لا يعلمُ عددَهَا إلَّا الله!! وكلُّ ذلك بعينِ الرعايةِ مرصود، وكلُّ ذلك يصِلُ رزقُهُ، ويمضي عليه أَجَلُهُ، وكذلك الكائنُ الإنسانيُّ.

«الْزَمْ حَدَّكَ، أَنْتَ عَبْدٌ مِن عِبَادِ اللهِ، لِمَاذَا تَتَكَبَّرُ؟!»

والخلاصةُ: أنَّ الإنسانَ ينبغي عليه أنْ يلزمَ حدَّهُ، وأنْ يعلمَ أنه عبدٌ مِن عبادِ الله، وأنه ليس له مِن الأمرِ شيءٌ، وأنَّ هذا الذي تراهُ في هذا الوجودِ مِن انتفاخِ بعضِ الناس، ومِن سَيْرِهِم في الحياةِ كأنهم أنصافُ آلهة! ومِن قولِ الواحدِ منهم: إنما وَرِثْتُهُ كابِرًا عن كابِرٍ! وانظُر إلى أصولي! وانظُر إلى النَّسَبِ والحَسَبِ وما أشبه! كلُّ هذا باطلٌ لا قيمة له، ومَن بطَّأَ به عملُهُ لم يُسرِع به نَسَبُهُ، وأين الحسيبُ النسيبُ أبو لهب وهو مِن أرومةِ قريش، ومِن صفوةِ العربِ، وهو عمُّ رسولِ اللهِ ﷺ، وهو في النارِ؟!

وأين هو مِن بلالٍ رضي اللهُ تبارك وتعالى عنه-، وكان عبدًا حبشيًّا مملوكًا، فأعتقَهُ أبو بكرٍ رضي اللهُ عنه-، فكان عُمرُ بعد ذلك يقولُ: «أبو بكرٍ سيِّدُنَا وأعتقَ سيِّدَنَا» يعني بلالًا رضي الله عنه-، يقفُ على الكعبةِ مُؤذِّنًا، وقد خفضَ اللهُ ربُّ العالمين الشركَ وأهلَهُ، وتواضعت رقابُ الأرُومةِ التي كانت شريفةً في الجاهليةِ، فصارت بكُفرِهَا تحت مواطئ الأقدامِ كما بيَّنَ النبيُّ ﷺ.

وهؤلاء في الآخرةِ يعني المُتكبرين- يُحشرُون أمثالَ الذَّرِّ، يطؤهم الناسُ بأقدامِهِم، ولهم في النارِ نارٌ محدودةٌ يُقالُ لها: بُولُسَ وهي نارُ الأنيارِ.

وهؤلاء الذين يفتخرونَ بآبائِهِم وأحسابِهِم وأجدادِهِم الذين ماتوا، الواحدُ منهم في دَعْوَاهُ كالجُعْلِ: وهو الجُعرانُ وهو الخُنفُسَةُ كما تعلمون، كالجُعْلِ يُدْهدهُ الخُرْءَ بفِيهِ، مَن يكونون؟

«تَوَاضَعْ فَأَنْتَ لَا تَمْلُكُ شَيْئًا بَدْءً وَمُنْتَهى!!»

الإنسانُ في النهايةِ لا يملكُ شيئًا بدءًا ومُنتهًى وما بين ذلك، فعلى المرءِ أنْ يتواضعَ لرَبِّهِ، وأنْ يتطامنَ لخالِقِهِ، وأنْ يعلمَ أنه ليس له مِن الأمرِ شيء، والعِزُّ في الذُّلِّ، العِزُّ في الحياةِ بالذُّلِّ للهِ جلَّ وعلا-، والحريةُ الحقيقيةُ في العبوديةِ للخالقِ الأعلى جلَّ وعلا-(1).

«الإِسْلَامُ قَرَنَ بَيْنَ العِلْمِ النَّافِعِ والعَمَلِ الصَّالِحِ»

مِن المَعلومِ المُقَرَّرِ، أنَّ العِلْمَ، إِنَّمَا يَشرُفُ مِن أَجْلِ العَمَلِ به؛ لأَجْلِ مَا يُحْدِثُهُ في النَّفْسِ والرُّوحِ والضَّمْيرِ مِن أَثَرٍ، وَمَا يَنْعَكِسُ به عَلَى الحَيَاةِ مِن سُلُوكٍ وَعَمَلٍ.

وَكُلُّ عِلْمٍ لا يُثْمِرُ عَمَلًا، فَهُوَ حُجَّةٌ على العَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وبَيْنَ العِلْمِ والعَمَلِ فَجْوَةٌ إِنْ وُجِدَت، لا تُرْدَمُ إِلَّا بِالنِّفَاقِ، وَإِنَّ مِمَّا تَمَيَّزَ به أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ ﷺ، كَوْنَهُم قَرَنُوا بَيْنَ العِلْمِ والعَمَلِ.

 فَعَن أَبِي عَبْدِ الرحمن السُّلَمِيِّ قالَ: «حَدَّثَنَا الذينَ كانُوا يُقْرِئُونَنَا القُرْآنَ مِن أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- أَنَّهُم تَعَلَّمُوا القُرْآنَ عَشْرَ آيَاتٍ عَشْرَ آيَاتٍ لَا يَتَجَاوَزُوهُنَّ، حَتَّى يَفْقَهُوهُنَّ، ويَعْمَلُوا بِهِنَّ، قَالُوا: فَتَعَلَّمْنَا العِلْمَ والعَمَلَ جَمِيعًا».

وهذه عَلَامَةٌ فَارِقَةٌ بَيْنَنَا، وَبَيْنَ أَصْحَابِ نَبِيِّنَا ﷺ؛ لأنَّهُم لم يَتَعَلَّمُوا العِلْمَ لِلتَّرَفِ الفِكْرِيِّ، ولا للمَتَاعِ العَقْلِيِّ، ولا ليُمَارُوا به العُلَمَاءَ، ولا ليُجَارُوا به السُّفَهَاءَ، ولا لَيَرْتَفِعُوا به على أَكْتَافِ الخَلْقِ، وإنَّمَا تَعَلَّمُوا العِلْمَ للعَمَلِ، وبِهَذَا وأَمْثَالِهِ مِن الأصولِ النَّافِعَةِ والقَوَاعِدِ الجَامِعَةِ كانوا سَابِقِينَ، بحيثُ لا يُدْرَكُونَ ولا يُلْحَقُونَ.

والعِلْمُ مَا أَوْرَثَكَ الخَشْيَةَ، وَكُلُّ عِلْمٍ لَم يُثْمِر خَشْيَةً، فَلَيْسَ بِعِلْمٍ في الحَقِيقَةِ، فإنَّ العِلْمَ لَيْسَ بِكَثْرَةِ الروايةِ والكُتُبِ، وإنَّمَا العِلْمُ مَا أَفَادَ الخَشْيَةَ والعَمَلَ.

 وَقَد كانَ سَلَفُنَا -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِم أَوْعَى الخَلْقِ بِهَذَا الأَمْرِ، وكانُوا أَعْظَمَ النَّاسِ تَحَقُّقًا بِهِ، فَكَانُوا سَابِقِينَ، بِحَيْثُ لَا يُدْرَكُونَ، وَلَا يُلْحَقُونَ.

والنبيُّ ﷺ بَيَّنَ في أَحَادِيث كَثِيرَةٍ، خُطُورَةَ هَذَا الأمْرِ عِنْدَ المُخَالَفَةِ، وكيف أَنَّ الذي يُعَلِّمُ النَّاسَ العِلْمَ، وَلَا يَعْمَلُ بِهِ، كالشَّمْعَةِ تُضِيءُ للنَّاسِ، وَتَحْرِقُ نَفْسَهَا، وَبَيَّنَ الرسولُ ﷺ عِقَابَ مَنْ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالمَعْرُوفِ وَلَا يَأْتَمِرُ بِهِ، وَخُطُورَةَ شَأْنِ مَن يَنْهَاهُم عَن المُنْكَرِ وَلَا يَنْتَهِي عَنْهُ، فَفِي حَدِيثِ الحِبِّ ابنِ الحِبِّ -رضوانُ اللهِ عَلَيْهِ- أُسَامَةَ بن زَيْد، أنَّ النبيَّ ﷺ قَالَ:

 «يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي النَّارِ، فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ، فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ، حَتَّى يُطِيفَ بِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ، أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالمَعْرُوفِ، وَتَنْهَانَا عَنِ الْمُنْكَرِ؟

 فَيَقُولُ: بَلَى، كُنْتُ آمُرُكُم بِالمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُم عَنِ المُنْكَرِ وَآتِيهِ».

 فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عِقَابَهُ في النَّارِ، أَنْ جَمَعَ عَلَيْهِ الخَلْقَ، على هذه الصورةِ المُزْرِيَةِ، تَنْدَلِقُ أَقْتَابَهُ مِن بَطْنِهِ والأَقْتَابُ: جَمْعُ قِتْبٍ، وَهِيَ المَصَارِين، تَخْرُجُ مِن دُبُرِهِ- يَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِرَحَاهُ، حتى يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ مِن شَنَاعَةِ مَنْظَرِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَيَسْأَلُونَ مُتَعَجِّبِينَ، هَذَا آمِرٌ نَاهٍ، كانَ يَأْمُرُ بِالمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عن المُنْكَرِ، وكان فَوْقَنَا في ظَاهِرِ الأَمْرِ مَرْتَبَةً، إِذْ يَأْمُرُنَا وَيَنْهَانَا، فَمَا الذي حَطَّهُ في هذا الدَّرْكِ الهَابِطِ، وَنَزَلَ به إلى هذهِ المَنْزِلَةِ المُتَدَنِيَةِ، مَا لَكَ يا فلان؟!! يَعْرِفُهُم ويَعْرِفُونَهُ، يُذَكِّرُونَهُ فَيَتَذَكَّرُ، أَلَسْتَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عن المُنْكَرِ؟!! ولَا مَجَالَ للإنْكَارِ، بَلَى؛ كُنْتُ آمَرُكُم بِالمَعْرُوفِ ولا آتِيهِ، وأَنْهَاكُم عن المُنْكَرِ وآتِيهِ.

إِنَّ مِمَّا قَد عَمَّ شَرُّهُ، وَتَطَايَرَ حَتَّى غَمَرَ شَرَرُهُ، فَعَمَّ الآفَاقَ، وَلَم يَنْجُو مِنْهُ إِلَّا مَن رَحِمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-؛ مَا دَخَلَت بِهِ الفِتَنُ الحَالَّةُ في شُهُورِهَا المُنْصَرِمَةِ، عَلَى قُلُوبِ المُسْلِمِينَ، فَزَادَت القُلُوبُ قَسَاوَةً فَوْقَ قَسَاوتِهَا، وَتَحَجُّرًا فَوْقَ تَحَجُّرِهَا، وانْهَارَت الأَخْلَاقُ إِلَّا لَمَمًا، وَصَارَ النَّاسُ في أَمْرٍ مَرِيجٍ.

سَعَادَةُ المَرْءِ في التَّوَازُنِ بَيْنَ القُوَّتَيْنِ؛ العِلْمِيَّةِ والعَمَلِيَّةِ، فَمَن زَادَت قُوَّتُهُ العِلْمِيَّةِ عَلَى قُوَّتِهِ العَمَلِيَّةِ، أَصَابَهُ نِفَاقٌ وَرِيَاءٌ، فَمَن أَدْرَكَتْهُ رِيَاحُ السَّعَادَةِ، وَهَبَّت عَلَيْهِ بِسُكُونِهَا، حَتَّى يَسْتَقِرَّ قَلْبُهُ عَلَى قَرَارِهِ؛ مَنَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ، بِالتَّوَازُن بينَ قُوَّتَيْهِ العِلْمِيَّةِ والعَمَلِيَّةِ، كَمَا كانَ أَصْحَابُ رسولِ اللهِ ﷺ: «تَعَلَّمْنَا العِلْمَ والعَمَلَ جَمِيعًا»، فَمَا تَعَلَّمُوا أَمْرًا مِن أُمُورِ الدِّينِ إِلَّا عَمِلُوا بِهِ.

وَلَا فَارِقَ بَيْنَ العِلْمِ والعَمَلِ بِزَمَانٍ -رضوانُ اللهِ عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ-(1).

«رِسَالَةٌ أَخِيرَةٌ مُهِمَّةٌ وَجَامِعَةٌ إِلَى الأُمَّةِ المِصْرِيَّةِ خَاصَّةً»

أَيُّهَا المُصْرِيونَ، اعْمَلُوا، واجْتَهِدُوا في العَمَلِ، فَإِنَّهُ لَا خُرُوجَ مِمَّا نحنُ فيه مِن أَزْمَةٍ إِلَّا بِكَلِمَتَيْنِ أَنْ يَعْمَلَ كُلُّ مِنَّا عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ، لَا عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهِ؛ لأنَّ النَّاسَ حَتَّى هذه لا يَعْمَلُونَهَا، يَعْنِي هُم لا يَعْمَلُونَ أَصْلًا، لَا عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ وَلَا عَلَى قَدْرِ الحَاجَةِ، هُم تَعَوَّدُوا عَلَى الأَخْذِ مِن غَيْرِ عَطَاءٍ، وَهَذَا لَا يَرْضَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ-، وَلَا يَرْضَاهُ هَذَا الدِّينُ الحَنِيفُ.

عِزُّكُم وَشَرَفُكُم دِينُكُم، حَيَاتُكُم وَمَمَاتُكُم، دُنْيَاكُم وَأُخْرَاكُم هُوَ هَذَا الدِّينُ الحَنِيفُ(2).

وَبَعْدُ:

«شَعْبَانُ شَهْرٌ يَغْفُلُ عَنْهُ النَّاسُ»

فَشَعْبَانُ شَهْرٌ يَغْفُلُ عَنْهُ النَّاسُ...

شَعْبَانُ شَهْرٌ يَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ؛ إِذْ إنَّهُ يَقَعُ بَيْنَ رَجَبٍ -وَهُوَ شَهْرٌ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ, وَالْعَرَبُ كَانَتْ -حَتَّى فِي جَاهِلِيَّتِهَا- تُقَدِّسُ وَتَحْتَرِمُ الْأَشْهُرَ الحُرُمَ؛ فَكَيْفَ وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَصَّ عَلَى أَنَّهَا حُرُمٌ بِحُرْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا؟! فَالْعَرَبُ كَانَتْ تُقَدِّسُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, وَالْمُسْلِمُونَ أَشَدُّ مَعْرِفَةً لِقَدْرِ الْأَشْهُرِ الحُرُمِ فِي هَذَا الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ, فَالنَّاسُ يَعْرِفُونَ قَدْرَ شَهْرِ رَجَبٍ.

وَأَمَّا شَهْرُ رَمَضَانَ؛ فَإِنَّهُ شَهْرُ الْقُرْآنِ, وَشَهْرُ الْقِيَامِ وَالذِّكْرِ, وَشَهْرُ الصِّيَامِ, وَهُوَ شَهْرٌ مَعْلُومُ الْفَضِيلَةِ عِنْدَ النَّاسِ كَافَّةً.

وَأَمَّا هَذَا الشَّهْرُ شَهْرُ شَعْبَانَ؛ وَمَا سُمِّيَ شَعْبَانَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَشَعَّبُونَ فِيهِ فِي أَمْرِ الْغَزْوِ، إِذْ يَخْرُجُونَ مِنَ الشَّهْرِ الحَرَامِ مُتَعَطِّشِينَ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ، كَمَا كَانَ الشَّأْنُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَسُمِّيَ شَعْبَانَ لِهَذَا الْأَمْرِ الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ، فَيَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ يَقَعُ بَيْنَ شَهْرَيْنِ مَعْلُومَيِ الْقَدْرِ, مَعْرُوفَيِ الْفَضْلِ عِنْدَ النَّاسِ كَافَّةً؛ وَعَلَيْهِ فَيَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ, ثُمَّ إِنَّهُ تُعْرَضُ فِيهِ الْأَعْمَالُ وَتُرْفَعُ, وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ. هَذَا كَلَامُهُ ﷺ.

«الصِّيَامُ فِي شَعْبَانَ»

أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنِ الحِبِّ بْنِ الْحِبِّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أُمِّهِ أُمِّ أَيْمَنَ حَاضِنَةِ رَسُولِ اللهِ ، وَأَيْمَنُ هُوَ أَخُو أُسَامَةَ لِأُمِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أُمِّهِ وَعَنْ أَبِيهِ-، قَالَ: «قُلْتُ لِلنَّبِيِّ : مَا لِي أَرَاكَ تَصُومُ فِي شَهْرِ شَعْبَانَ مَا لَا تَصُومُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ -يَعْنِي خَلَا رَمَضَانَ-؟!

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هَذَا شَهْرٌ يَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ, تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي فِيهِ وَأَنَا صَائِمٌ».

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ (1). 

 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك