حُرْمَةُ المَالِ العَامِّ وَخطُورَةُ التَّعَدِّي عَلَيْهِ

حُرْمَةُ المَالِ العَامِّ وَخطُورَةُ التَّعَدِّي عَلَيْهِ

«حُرْمَةُ المَالِ العَامِّ وَخطُورَةُ التَّعَدِّي عَلَيْهِ»

وَيَتْبَعُهُ:

«مَا صَحَّ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ»

 

جمعٌ وترتيبٌ مِن خُطَبِ الشيخِ العلَّامة:

أبي عبد الله مُحَمَّد بن سَعِيد رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ-.

الْخُطْبَةُ الْأُولَى: 

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

«حُبُّ الوَطَنِ الإِسْلَامِيِّ مِن الإِيمَانِ»

فَقَدْ قَالَ الشَّيْخُ ابنُ عُثْيمين كَمَا في شَرْحِهِ عَلَى «رِيَاضِ الصَّالِحِينَ»: «حُبُّ الوَطَنِ إِنْ كانَ إِسْلَامِيًّا فَهَذَا تُحِبُّهُ؛ لأنَّهُ إِسْلَامِيٌّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وَطَنِكَ الَّذِي هُوَ مَسْقَطُ رَأْسِكَ، وَالوَطَنُ البَعِيدُ عَن بِلَادِ المُسْلِمِينَ, كُلُّهَا أَوْطَانٌ إِسْلَامِيَّةٌ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَحْمِيهَا».

الوَطَنُ إِنْ كانَ إِسْلَاميًّا يجبُ أَنْ يُحَبَّ، وعلى الإِنْسَانِ أَنْ يُشَجِّعَ عَلَى الخَيْرِ في وَطَنِهِ وَعَلى بَقَائِهِ إِسْلَامِيًّا, وَأَنْ يُسْعَى لاسْتِقْرَارِ أَوْضَاعِهِ وَأَهْلِهِ, وَهَذَا هُوَ الوَاجِبُ عَلَى كُلِّ المُسْلِمِينَ.

فَيَجِبُ عَلَى المُسْلِمِينَ أَنْ يَتَعَاونُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى, وأَنْ يَتَحَابُّوا لا يَتَعَادَوْا, وأنْ يَتَنَاصَرُوا وَلَا يَتَخَاذَلُوا, وَأَنْ يَأْتَلِفُوا وَلَا يَخْتَلِفُوا حَتَّى يَسْتَطِيعُوا إِقَامَةَ دِينِهِم وَحِفْظَ أَعْرَاضِهِم وَدِيَارِهِم وَأَمْوَالِهِم, وَلَا بُدَّ مِن نَفْيِ العَصبيةِ والأَغْرَاضِ المَذْمُومَةِ مِن الاستعلاءِ بِالجِنْسِ أو الأَرْضِ أو غَيْرِهَا.

فَإِنَّ الأَرْضَ لا تُقَدِّسُ أَحَدًا, إِنَّمَا يُقَدِّسُ الإِنْسَانَ عَمَلُهُ, وميزانُ التفضيلِ عند اللهِ تَعَالَى هو التَّقْوَى، قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ [الحجرات: 13].

وَمَا أَشَدَّ جُرْمَ مَن يَسْعَى لإِحْدَاثِ الفَوْضَى وإطلاقِ الغَرَائِزِ مِن قيودِهَا وَمَا أَكْبَرَ إِثْمَ مَن سَعْيُهُ لإِضَاعَةِ مَكَاسِبِ الإسْلَامِ في بَلَدٍ يُنَعَّمُ بِنِعْمَةِ اللهِ عَلَيْهِ بِهَذَا الدِّينِ مِنْذُ أَكْثَرَ مِن أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَرْنًا مِن الزَّمَانِ.

وَمِن لَوَازِمِ الحُبِّ الشَّرْعِيِّ للأوطانِ المُسْلِمَةِ, أَنْ يُحَافَظَ على أَمْنِهَا واستقرارِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الأسبابَ المُفْضِيَةَ إلى الفَوْضَى والاضطرابِ والفَسَادِ، فَالأَمْنُ في الأَوْطَانِ مِن أَعْظَمِ مِنَنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ عَلَى الإِنْسَانِ.

فَعَلَى المُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ قَدْرَ بَلَدِهِ الإسْلَامِيِّ وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ في تَحْصِيلِ اسْتِقْرَارِهِ وَأَمْنِهِ، وبُعْدِه وَإِبْعَادِهِ عَن الفَوْضَى، وَعَن الاضطرابِ، وَعَن وقوعِ المُشَاغَبَاتِ.

عَلَى المُسْلِمِ أَنْ يُحِبَّ بَلَدَهُ الإِسْلامِيَّ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَمُوتَ دُونَهُ، فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ، والأَرْضُ مَالٌ، فَمَن مَاتَ دُونَ مَالِهِ فَهُو شَهِيدٌ.

ومِصْرُ التي لا يَعْرِفُ أَبْنَائُهَا قِيمتَهَا؛ يَنْبَغِي أَنْ يُحَافَظَ عَلَيْهَا، وَأَنْ يُحَافَظَ عَلَى وَحْدَتِهَا، وَأَنْ تُجَنَّبَ الفَوْضَى والاضطراب، وَأَنْ تُنَعَّمَ بالأَمْنِ والأَمَانِ والاستقرارِ.

«حُبُّ الوَطَنِ مِنْ تَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-»

قَالَ الشَّيْخُ مُحَمَّد شَاكِر -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «إِيَّاكَ أَنْ تَظُنَّ أَنَّ تَقْوَى اللهِ هِيَ الصَّلَاةُ والصِّيَامُ وَنَحْوُهُمَا مِن العِبَادَاتِ فَقَط، إِنَّ تَقْوَى اللهِ تَدْخُلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَاتَّقِ اللهَ فِي عِبَادَةِ مَوْلَاكَ، لَا تُفَرِّطْ فِيهَا، وَاتَّقِ اللهَ فِي إِخْوَانِكَ لَا تُؤْذِ أَحَدًا مِنْهُم، وَاتَّقِ اللهَ فِي بَلَدِكَ، لَا تَخُنْهُ وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَاتَّقِ اللهَ فِي نَفْسِكَ وَلَا تُهْمِلْ فِي صِحَّتِكَ، وَلَا تَتَخَلَّقْ بِسِوَى الأَخْلَاقِ الفَاضِلَةِ».

*اتَّقِ اللهَ فِي وَطَنِكَ:

اتَّقِ اللهَ في وَطَنِكَ، لَا تَخُنْهُ وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْهِ عَدُوًّا، وَلَا تَدْفَعْهُ إِلَى الفَوْضَى والشِّقَاقِ.

إِنِّي لأَعْجَبُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَخُونَ الخَائِنُونَ؟!!

أَيَخُونُ إِنْسَانٌ بِلَادَهُ؟!!

إِنْ خَانَ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ؟!!

وَقَدْ تَضِيقُ أَخْلَاقُ الرَّجُلِ فَيَظُنُّ أَنَّ وَطَنَهُ قَد ضَاقَ بِهِ، وَالحَقُّ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ القَدِيمُ:

وَرَبُّكَ مَا ضَاقَت بِلَادٌ بِأَهْلِهَا   ***   وَلَكِنْ أَخْلَاقَ الرِّجَالِ تَضِيقُ

وَحَالُ مَنْ فَارَقَ وَطَنَهُ هُوَ:

شَوْقٌ يَخُضُّ دَمِي إِلَيْهِ، كَأَنَّ كُلَّ دَمِي اشْتِهَاء

جُوعٌ إِلَيْهِ... كَجُوعِ دَمِ الغَرِيقِ إِلَى الهَوَاء

شَوْقُ الجَنِينِ إِذَا اشْرَأَبَّ مِن الظَّلَامِ إِلَى الولَادَه

إِنِّي لأَعْجَبُ كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَخُونَ الخَائِنُونَ

أَيَخُونُ إِنْسَانٌ بِلَادَهُ؟!!

إِنْ خَانَ مَعْنَى أَنْ يَكُونَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ؟!!

الشَّمْسُ أَجْمَلُ فِي بِلَادِي مِن سِوَاهَا، وَالظَّلَام

حَتَّى الظَّلَامُ هُنَاكَ أَجْمَلُ، فَهُوَ يَحْتَضِنُ الكِنَانَه

وَا حَسْرَتَاهُ!! مَتَى أَنَامُ

فَأُحِسُّ أَنَّ عَلَى الوِسَادَه 

مِنْ لَيْلِكِ الصَّيْفيِّ طَلًّا فِيهِ عِطْرُكِ يَا كِنَانَه؟

مَا دَامَ الوَطَنُ إسلامِيًّا فَيَجِبُ الدفاعُ عَنْهُ، وَيَحْرُمُ الإضْرَارُ بِهِ.

«خُطُورَةُ التَّعَدِّي عَلَى المَالِ العَامِّ»

الناسُ في جُمْلَتِهِم لا يَرْقُبُونَ في المالِ العامِّ، وهو مَالٌ تَعَلَّقَت به جميعُ ذِمَمِ المُسلمينَ في جميعِ أحوالِهِم وأحيانِهِم، لا يَرْقُبُونَ في هذا المَالِ العامِّ إلًّا وَلَا ذِمَّةً وَلَا يُرَاعُونَهُ بحالٍ أبدًا، وإِنَّمَا يَسِيرُونَ على القَاعِدَةِ القَدِيمَةِ التي يَحْفَظُهَا الجميعُ: إِذَا خَرِبَ بَيْتُ أَبِيكَ فَخُذْ لَكَ مِنْهُ قَالَبًا!!

*أَسْبَابُ تَهَاونِ المُسلمينَ بالمالِ العامِّ:

السَّبَبُ في هذا وفي أنه قد استقرَّ في أذهانِ الناسِ أنَّ بَيْتَ أبيهِم قد خَرِبَ، وأنه يَنْبَغِي عَلَيْهِم أنْ يَتَحَصَّلُوا على أيِّ شيءٍ مِن المَنَافِعِ بأيِّ صورةٍ مِن الصورِ هو أنَّ كثيرًا مِن المُتَكَلِّمِينَ في الدِّينِ أَفْرَادًا وَجَمَاعَات، إِعْلَامًا وَغَير ذلك، يتكلمونَ عن مَفَاسِدَ تَتَعَلَّقُ بالحكوماتِ، ويتكلمونَ نَاقِدِينَ الحُكَّامَ والحكومات على مُسْتَوَى الشُّعُوبِ الإسلاميةِ في كلِّ بِقَاعِ الأرضِ!!

وقُل لي بربِّكَ ماذا يَفْعَلُ العَامَّةُ المَسَاكِينَ عِنْدَ نَقْدِ الحكوماتِ وَعِنْدَ نَقْدِ الحُكَّامِ، وعند ما يَسْتَقِرُّ في أَذْهَانِ هؤلاء العَوَامِّ المَسَاكِينَ أَنَّ الفَسَادَ قد اسْتَشْرَى في المُجْتَمَعِ بحيثُ إنه لا يُمْكِنُ بحالٍ مِن الأحوالِ أنْ يَتَأَتَّى إِصْلَاحٌ؟!!

قُل لي بربِّكَ إذا ما وَصَلَ النَّاسُ إلى هذه الحَالَةِ مِن الإِحْبَاطِ،  ما الذي يُمْكِنُ أنْ يُرْجَى مِن الصَّلَاحِ مِن وَرَاءِ ذلك؟!!

ما هي المصلحةُ الشرعيةُ التي تَعُودُ على المُجْتَمِعِ المُسْلِمِ مِن نَشْرِ المَفَاسِدِ إعلامًا عند العوامِّ الذين ليسوا مِن أهلِ الحلِّ والعقدِ، والذين لا يملكونَ تغييرًا للواقعِ بحالٍ، وإنما يُحِسُّ الواحدُ منهم أنه غريبٌ لا ينتمي إلى بلدِهِ؟!!

كثيرٌ مِن الجماعاتِ التي تَتَبَنَّى السياساتِ منهجًا والتي تُكْثِرُ مِن نقدِ الحكوماتِ وَنَقْدِ الحُكَّامِ على مستوى العالَمِ الإسلاميِّ أَوْصَلَت المَجْمُوعَ المُسْلِمَ بالشعوبِ المُسْلِمَةِ في أَقْطَارِ الأرضِ إلى حَالَةٍ مِن الاستهتارِ بالمَالِ العَامِّ، وبالإحساسِ بأنَّ الأرضَ المُسْلِمَةَ، الأرضُ التي هي أرضُ الإسلامِ، أصبحَ الإحساسُ بالانتماءِ إليها يكادُ يكونُ معدومًا؛ لأنَّهُم يُحِسُّونَ مِن هذا النقدِ للحكوماتِ والحكامِ أنهم لا يحيَوْنَ في أرضِهِم، وأنَّ البلادَ ليست ببلادِهِم، وأنهم غُرباءُ على هذه البلادِ.

في حين أنَّ هؤلاء العوامَّ عندما يُنْشَرُ عليهم مِثلُ هذا النقدِ لا يملِكُونَ حَوْلًا ولا حِيلَةً، لا يَمْلِكُونَ إلَّا التَّخْرِيب، فتَجِدُ في المُوَصِّلاتِ العامةِ التي يُقالُ عنها خطأً المَوَاصَلَات العَامَّة؛ تَجِدُ الرَّجُلَ إذا ما رَكِبَ مُوَصِّلَةً مِن المُوَصِّلَاتِ العامةِ يُحاولُ أنْ يَزُوغَ مِن المُحَصِّلِ؛ لأنه لا يظُنُّ أنَّ هذا الفِعلَ ينتمي إلى الحرامِ، وهو حرامٌ، وكلُّ ما تحصَّلَ عليه مِن هذا الأجرِ الذي حجبَهُ نظيرَ نقلِهِ هو حرامٌ دخلَ على مالِهِ.

الأنْكَى مِن ذلك أنك تَجِدُ الشبابَ الذي هو عُدَّةُ الأُمةِ عندما يَرْكَبُ تلك المُوَصِّلاتِ العامة يُعْمِلُ فيها يَدَ التخريبِ، وكأنه لا يَنْتَمِي إِلَيْهَا ولا تَنْتَمِي إليه، وكأنهُ يَحْيَا في بَلَدٍ أجنبيٍّ يُعادِيهُ يَكْرَهُهُ ولا يُحبُّهُ!! بل يُريدُ له الخراب!! وأنْ يَتَأَتَّى الخَرَابُ في أَسْرَعِ وَقْتٍ بلا إيابٍ، وأنْ يظَلَّ مُسْتَقِرًّا فيه، لا يَتَعَلَّقُ هذا بالمُوَصِّلاتِ العامةِ وإنما بالطُّرُقِ، ويتعلقُ بالمؤسساتِ العامةِ في أثاثِهَا وفي بُنيانِهَا.

لا يستقرُّ في عقلِ واحدٍ ولا في وجدانِهِ أنَّ هذا المالَ مالُهُ، وأنَّ هذا المالَ تتعلقُ به ذِمةُ المسلمين في المجتمعِ كلِّهِ، وأنَّ الإثمَ فيه أكبرُ مِن الإثمِ الواقعِ عليه عندما يقعُ على مالٍ خاصٍّ؛ لأنَّ المالَ العامَّ تعلَّقَت به ذِمةُ المسلمين.

ما الذي أوصلَ المجتمعات المسلمةَ إلى هذه الحالة؟!!

هذا النَّقْدُ الجَائِرُ لِتِلْكَ السِّيَاسَاتِ مَهْمَا كانت فَاشِلَةً، وَمَهْمَا كانت لا يُدَافَعُ عنها، ولَكِنْ هذا الإعلامُ الذي يظَلُّ هكذا مُعارِضًا، ويُغَذِّي هذه المجموعات مِن الأُمَمِ المُسْلِمَةِ في شعوبِ الأرضِ الإسلامية؛ يُغَذِّيهَا بِكُلِّ ما يدعو إلى الإحباطِ، وبكلِّ ما يدعو إلى عدمِ الانْتِمَاءِ، وبكُلِّ ما يدعو إلى تسليمِ الأرضِ والتفريطِ في العِرضِ إذا جدَّ الجِدُّ ولا حولَ ولا قوةَ إلَّا باللهِ العظيم.

فعلينا أنْ نَتَّقِيَ اللهَ ربَّنَا في أُمَّتِنَا، وفي أرضِنَا المُسلمةِ التي أَقَامَنَا اللهُ ربُّ العالمين عليها، نُدَافِعُ عنها إلى آخرِ قَطْرَةٍ مِن دِمَائِنَا، وإلى آخرِ ما في أَرْوَاحِنَا مِن دِمَاءٍ وَمَا في عُرُوقِنَا مِن دِمَاءٍ.

 «عُقُوبَةُ الغُلُولِ -سَرِقَةُ المَالِ العَامِّ-»

عُقُوبَةُ الغُلُولِ كَمَا قَالَ اللهُ جَلَّت قُدْرَتُهُ- في كِتَابِهِ العَظِيمِ: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 161].

وأمَّا عقوبتُهُ في القَبْرِ، فَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» أنَّ النبيَّ ﷺ أَخْبَرَ عن الرَّجُلِ الذي غَلَّ شَمْلَةً يَوْمَ خَيْبَر، فَقَالَ: «والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَر مِن المَغَانِمِ قَبْلَ المَقَاسِمِ تَشْتَعِلُ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ نَارًا».

الشَّمْلةُ: تَلْفِيعَةٌ، أو هي كِسَاءٌ يُمْكِنُ أنْ يُحِيطَ به المَرْءُ بَدَنَهُ.

النبيُّ ﷺ كَمَا في «الصَّحِيحَيْنِ» عن عُمَرَ مَرَّ مع الصَّحَابَةِ على قُبُورٍ، فَقَالَ الصَّحَابَةُ: فلانٌ شهيدٌ، ثم قالوا: فلانٌ شهيدٌ، ثم قالوا: فلانٌ شهيدٌ.

فقالَ النبيُّ ﷺ للقبرِ الثالث: «كلَّا، إنِّي رَأَيْتُهُ في النَّارِ في بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ».

إذن؛ الغُلُولُ: هو الأَخْذُ مِن المَالِ العَامِّ، يُعَاقَبُ به المُرْءُ في قَبْرِهِ اشْتِعَالًا له عَلَيْهِ في قَبْرِهِ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.

وكذلك العقوبةُ به في المَوْقِفِ، فعن أبي هُريرة في «الصحيحين» قال: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، فَذَكَرَ الْغُلُولَ فَعَظَّمَهُ وَعَظَّمَ أَمْرَهُ، ثُمَّ قَالَ: «لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ فَرَسٌ لَهُ حَمْحَمَةٌ -وهو صَوْتُ الفَرَسِ فيما دُونَ الصَّهِيلِ-، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ نَفْسٌ لَهَا صِيَاحٌ، فَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ.

لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ رِقَاعٌ تَخْفِقُ يعني غَلَّ ثِيَابًا أو ما يَسِيرُ مَسَارَ ذَلِكَ وَيُدْرَجُ في سِلْكِهِ-، فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ: لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ، لَا أُلْفِيَنَّ أَحَدَكُمْ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ صَامِتٌ -يعني ذَهَبًا أو فِضَّةً-، فَيَقُولُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَغِثْنِي، فَأَقُولُ : لَا أَمْلِكُ لَكَ شَيْئًا، قَدْ أَبْلَغْتُكَ».

وَيَلْحَقُ بذلك -عِبَادَ اللهِ- هَدَايَا المُوَظَّفِينَ، فَأَنْتَ تَعْلَمُ حديثَ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ الذي أخرجَهُ مسلمٌ -رَحِمَهُ اللهُ- في «الصَّحِيحِ»، قَالَ اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ ﷺ رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ، فَجَاءَ فَقَالَ: هَذَا لَكُم وَهَذَا أُهْدِيَ لِي -هَذَا لَكُم: يَعْنِي الصَّدَقَةَ التي جَمَعَهَا-، فقامَ النبيُّ ﷺ على المِنْبَرِ، ثُمَّ قَالَ ﷺ: «مَا بَالُ العَامِلِ نَبْعَثُهُ عَلَى عَمَلٍ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُم وَهَذَا لِي، أَفَلَا جَلَسَ في بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْتِي أَحَدُكُم مِنْهَا بِشَيْءٍ إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةً تَيْعَرُ».

 «سَبَبُ تَعْظِيمِ الرَّسُولِ ﷺ لِأَمْرِ الغُلُولِ -الأَخْذُ مِن المَالِ العامِّ-»

لِمَ عظَّمَ الرسولُ ﷺ وشدَّدَ في أمرِ الغُلُولِ وهو الأخذُ مِن المالِ العامِّ؟

أولًا: لأنَّ المالَ العامَّ تتعلقُ به ذِمَمُ جميعِ أفرادِ الأُمَّةِ، فمَن أخذَ شيئًا مِن المالِ العامِّ سرقةً واغتصابًا ونَهْبًا فكأنما سَرَقَ مِن جميعِ أفرادِ الأُمةِ؛ لأنَّ المَسْرُوقَ المَغْلُولَ المُغْتَصَبَ المَنْهُوبَ يَتَعَلَّقُ بِذِمَمِ جميعِ أَفْرَادِ الأُمَّةِ، وأمَّا الذي يَسْرِقُ مِن فُلَانٍ بِعَيْنِهِ فَقَدْ تَعَلَّقَت ذِمَّتُهُ بِهَذَا الَّذِي سُرِقَ مِنْهُ وَحْدَهُ.

ثانيًا: أَضْرِبُ مِثَالًا -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ-، لِمَاذا عَظَّمَ الدينُ مِن أَمْرِ الغُلُولِ مِن أَمْرِ الأَخْذِ مِن المالِ العامِّ-؟

رَجُلٌ فلَّاحٌ عِنْدَهُ مُعَاوِنٌ أَجِيرٌ يُعَاوِنُهُ في فِلَاحَةِ الأَرْضِ وَزَرْعِهَا وَالقِيَامِ عَلَيْهَا، أَعْطَاهُ كَيْلَةً مِن البِرْسِيمِ مِن التَّقَاوِي لكي يَبْذُرَهَا في حَقْلٍ حَدَّدَهُ له، وَذَهَبَ لِيُبَاشِرَهُ فَوَجَدَ المُعَاوِنَ قَد سَرَقَ قَدَحًا أو قَدَحًا ونِصْف مِن كَيْلَةِ البِرسيمِ مِن التَّقَاوِي، وَنَحَّى ذلك جَانِبًا، فَطَرَدَهُ، وَأَعْفَاهُ مِن عَمَلِهِ بَعْدِ أَنْ أَعْطَاهُ أَجْرَهُ.

بعد أَسَابِيعَ لمَّا نَمَى الزرعُ -وكان قد اسْتَعْمَلَ مُعَاوِنًا غيره- كان المُعَاوِنُ الثاني يَسْرِقُ مِن الزَّرْعِ في كلِّ يومٍ حِزْمَةً أو حِزْمَتَيْنِ يَعْنِي شِمَالًا أو شِمَالَيْنِ- في كلِّ يَوْمٍ، فَلَم يَطْرُدْهُ.

فَلَمَّا سَأَلْتُهُ رَحِمَهُ اللهُ- وَكَانَ حَكِيمًا، اللهم ارْحَمْهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً، لمَّا سَأَلْتُهُ، قُلْتُ: طَرَدْتَ الأَوَّلَ لأنَّهُ سَرَقَ، وَأَبْقَيْتَ الثاني وقد سَرَقَ!! فَالفِعْلُ وَاقِعٌ على شَيْءٍ وَاحِدٍ، فلِمَ أَعْفَيْتَ وَأَبْقَيْتَ؟!!

قَالَ: لأنَّ الأولَ سَرَقَ مِن الأُصُولِ، فهو مُؤثرٌ في السَّرِقَةِ جِدًّا، قالَ: هَذَا يَسْرِقُ مِن لَحْمِي الحيِّ، وأمَّا الثاني فَسَرِقَتُهُ لا تُؤَثِّرُ إلَّا قَلِيلًا.

الذي يَسْرِقُ مِن المَالِ العَامِّ يَسْرِقُ مِن اللحْمِ الحيِّ، يَسْرِقُ مِن الأصولِ، وأمَّا الذي يَسْرِقُ مِن الأَرْبَاحِ، وأمَّا الذي يسرِقُ مِن غيرِ ذلك فإنَّ سَرِقَتَهُ لا تكونُ مُؤثرةً كما تُؤثرُ السَّرِقَةُ مِن المَالِ العامِّ.

عِفُّوا حتى يَعِفُّوا، وكما قال المرءُ قديمًا وكان صادقًا: إنْ أردتُم حاكمًا كَعُمَر فَكُونُوا رَعِيَّةً كَرَعِيَّةِ عُمَر، فَلَا تَلُومُوا إِلَّا أَنْفُسَكُم.

أَعَلِمْتَ لِمَاذَا يُشَدِّدُ الدِّينُ في سَرِقَةِ المَالِ العامِّ؟

أَعَلِمْتَ لِمَ يُشَدِّدُ الدينُ في مُوَاقَعَةِ المَرْءِ للحَدَائِقِ العَامَّةِ تَخْرِيبًا وَإِفْسَادًا؟!!

ولِمَ يُشَدِّدُ الدينُ في نَهْبِ وَسَلْبِ المُمْتَلَكَاتِ العَامَّةِ في المُؤسَّسَاتِ، في المُسْتَشْفيات، وفي المَصَالِحِ العَامَّةِ، وفي المُوَصِّلاتِ العامةِ؛ لأنه مَالُ الأُمَّةِ، وهل رَأَيْتَ عَاقِلًا يَسْرِقُ نَفْسَهُ؟!!

الذي يسرِقُ مِن المالِ العامِّ والذي يُخرِّبُ في المالِ العامِّ إنما يُخَرِّبُ في مالِ نفسِهِ، وإنما يُعَجِّلُ بدمارِ أُمتِهِ ولا حول ولا قوة إلَّا باللهِ العليِّ العظيم-.

النبي ﷺ إنما جاءَ بالخيرِ وبالحقِّ، فاتَّبِعُوهُ تَهْتَدُوا.

 «حَافِظُوا عَلَى بَلَدِكُم صَخْرَةِ الإِسْلَامِ»

مِصْرُ أرضٌ يُرْفَعُ فيه الأذانُ، يُوَحَّدُ فيه الرَّحِيمُ الدَّيَّانُ، أَرْضٌ تُقَامُ فيها الشَّعَائِرُ مِن الجُمَعِ والأَعْيَادِ، أَرْضٌ تَظْهَرُ فيها مَظَاهِرُ الإِسْلَامِ وَإِنْ كانَ فيها مَا فِيهَا، حَافِظُوا على المَوْجُودِ واجْتَهِدُوا في تَحْصِيلِ المَفْقُودِ, لَا تُضَيِّعُوا مَا في أَيْدِيكُم مَن أَجْلِ وَهْمٍ وَسَرَابٍ، فَلَيْسَ هَذَا مِن العَقْلِ في قَبِيلٍ ولا دَبِيرٍ.

«رِسَالَةٌ إِلَى جَمَاعَةِ الإِخْوَانِ وَالجَمَاعَاتِ الَّتِي تُهَدِّدُ أَمْنَ الوَطَنِ»

اليومَ عِنْدَمَا تَنْظُرُ في المَالِ العَامِّ مَالِي ومَالُكَ، مَالُ كلِّ مَن يَقْطُنُ هَذَا البَلَدَ، مَالُ المُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، المَالُ العَامُّ تَتَعَلَّقُ به ذِمَمُ المُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ، لِمَاذَا تُخَرِّبُونَهُ؟!

لِمَاذَا تَحْرِقُونَهُ؟!

لِمَاذَا تُفَجِّرُونَهُ؟!

لِمَاذَا تُرِيدُونَ إِسْقَاطَ الدَّوْلَةِ؟!

أَنْتُم تُصَارِعُونَ عَلَى المُلْكِ، وَتَخْدَعُونَ النَّاسَ بَعْدَ أَنْ خَدَعْتُم أَنْفُسَكُم بِأَنَّكُم تُصَارِعُونَ عَلَى المُلْكِ مِن أَجْلِ الدِّينِ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

«عُقُوبَاتُ المُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ»

فَقَد قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة: 33].

المُحَارِبُونَ للهِ وَرَسُولِهِ هُم الذينَ بَارَزُوهُ بِالعَدَاوَةِ وَأَفْسَدُوا في الأَرْضِ بِالكُفرِ والقَتْلِ وَأَخْذِ الأَمْوَالِ وَإِخَافَةِ السُّبُلِ، وَالمَشْهُورُ أَنَّ هذه الآيَةَ الكَرِيمَةَ في أَحْكَامِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الذينَ يَعْرِضُونَ للنَّاسِ في القُرَى والبَوَادِي، فَيَغْصِبُونَهُم أَمْوَالَهُم وَيَقْتُلُونَهُم وَيُخِيفُونَهُم فَيَمْتَنِعُ النَّاسُ مِنْ سُلُوكِ الطريقِ التي هُم بها، فَتَنْقَطِعُ بِذَلِكَ.

فَأَخْبَرَ اللهُ أنَّ جَزَاءَهُم وَنَكَالَهُم عند إِقَامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِم أَنْ يُفْعَلَ بهم وَاحِدٌ مِنْ هذه الأمورِ.

واختلفَ المُفَسِّرُونَ: هَل ذَلِكَ على التَّخْيِيرِ، وَأَنَّ كُلَّ قَاطِعِ طَرِيقٍ يَفْعَلُ به الإِمَامُ أو نَائِبُهُ مَا رَآهُ المَصْلَحَةَ مِن هذه الأمورِ المَذكورةِ في الآيةِ، وَهَذَا ظَاهِرُ اللفْظِ، أَو أَنَّ عُقُوبَتَهُم تَكُونُ بِحَسَبِ جَرَائِمِهِم؟

فَكُلُّ جَرِيمَةٍ لَهَا قِسْطٌ يُقَابِلُهَا كَمَا تَدُلُّ عليه الآيةُ بِحِكْمَتِهَا وَمَوَافَقَتِهَا لِحِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّهُم إِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا مَالًا تَحَتَّم قَتْلُهُم وَصَلْبُهم حَتَّى يُشْتَهَرُوا وَيُرْتَدَعَ غَيْرُهُم، وَإِنْ قَتَلُوا وَلَم يَأْخُذُوا مَالًا تَحَتَّم قَتْلُهُم فَقَط، وَإِنْ أَخَذُوا مَالًا وَلَم يَقْتُلُوا تَحَتَّم أَنْ تُقَطَّعَ أَيديهم وَأَرْجُلُهُم مِن خِلَافٍ، اليَدُ اليُمْنَى وَالرِّجْلُ اليُسْرَى.

وَإِنْ أَخَافُوا النَّاسَ وَلَم يَقْتُلُوا وَلَا أَخَذُوا مَالًا نُفُوا مِنْ الأَرْضِ، فَلَا يُتْرَكُونَ يَأوونَ في بَلَدٍ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُم، وَهَذَا قَوْلُ ابنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا- وكثيرٍ مِنْ الأئمةِ على اخْتِلَافٍ في بَعْضِ التَّفَاصِيلِ.

﴿ذَلِكَ﴾ أى: ذَلِكَ النَّكَالُ ﴿لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا﴾ أى: فضيحةٌ وعار، ﴿وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم﴾: فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ قَطْعَ الطَّرِيقِ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، مُوجِبٌ لِفَضِيحَةِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخرةِ، وَأَنَّ فَاعِلَهُ -أي أنَّ قَاطِعَ الطريقِ- مُحَارِبٌ للهِ ولِرَسُولِهِ، وإذا كان هذا شَأْنَ عِظَمِ هذه الجَرِيمَةِ؛ عُلِمَ أنَّ تَطْهِيرَ الأَرْضِ مِن المُفْسِدِينَ وَتَأمِينَ السُّبُلِ والطُّرُقِ عن القَتْلِ وَأَخْذِ الأَمْوَالِ وَإِخَافَةِ النَّاسِ؛ عُلِم أنَّ هَذَا مِن أَعْظَمِ الحَسَنَاتِ وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَأَنَّهُ إِصْلَاحٌ فِي الأَرْضِ كَمَا أَنَّ ضِدَّهُ إِفْسَادٌ في الأرضِ.

﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ﴾: أي مِن هؤلاءِ المُحَارِبِينَ، ﴿فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾: أي فَيَسْقُطُ عَنْهُ ما كانَ للهِ مِن تَحَتُّمِ القَتْلِ والصَّلْبِ وَالقَطْعِ والنَّفْيِ، وَمِنْ حَقِّ الآدَمِيِّ أَيْضًا إِنْ كَانَ المُحَارِبُ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ، فَإِنْ كانَ المُحَارِبُ مُسْلِمًا فَإِنَّ حَقَّ الآدَمِيِّ لا يَسْقُطُ عَنْهُ مِن القَتْلِ وَأَخْذِ المَالِ.

وَدَلَّ مَفْهُومُ الآيةِ عَلَى أَنَّ تَوْبَةَ المُحَارِبِ بَعْدَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَا تُسْقِطُ عَنْهُ شَيْئًا وَالحِكْمَةُ في ذَلِكَ ظَاهِرَةٌ، وَإِذَا كَانَت التَّوْبَةُ قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ تَمْنَعُ مِن إِقَامَةِ الحَدِّ في الحِرَابَةِ؛ فَغَيْرُهَا مِن الحُدُودِ إِذَا تَابَ مِن فِعْلِهَا قَبْلَ القُدْرَةِ عَلَيْهِ مِن بَابِ أَوْلَى.

«مِن الإِفْسَادِ فِي الأَرْضِ: تَخْرِيبُ المُنْشَآتِ وَالاعْتِدَاءُ عَلَى المُمْتَلَكَاتِ العَامَّةِ»

فَقَطْعُ الطَّرِيقِ، وَتَرْوِيعُ الآمِنِينَ وَالسَّابِلَةِ، وَإِخَافَةُ النَّاسِ، وَتَخْرِيبُ المُنْشَآتِ، وَتَفْجِيرُ الأَبْرَاجِ الكَهْرُبَائِيَّةِ والأَكْشَاكِ، والاعْتِدَاءُ عَلَى المُمْتَلَكَاتِ العَامَّةِ وَالخَاصَّةِ؛ كلُّ ذَلِكَ مِنْ الحِرَابَةِ؛ مِنْ الإِفْسَادِ في الأَرْضِ، مِمَّا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ العَارَ وَالشَّنَارَ في الدُّنْيَا مَعَ مَا لَهُ مِن العَذَابِ الأَلِيمِ العَظِيمِ في الآخرَةِ.

ويدخلُ في الإِفْسَادِ في الأرضِ وفي المُحَارَبَةِ للهِ تَعَالَى وَلِرَسُولِهِ ﷺ؛ الاتِّجَارُ في المُخَدِّرَاتِ وَالمُفَتِّرَاتِ، وَكُلِّ مَا مِن شَأْنِهِ أَنْ يُغيِّبَ الوَعْيَ أَوْ يُذْهْبَهُ أَوْ يُضْعِفَ العَقْلَ أو يَحْجُبَهُ، بَل يَدْخُلُ المُتَعَاطِي لِلمُخَدِّرَاتِ بِأَيِّ شَكْلٍ مِن أَشْكَالِهَا، وَبِأَيِّ ضَرْبٍ مِن ضُرُوبِهَا في الإِفْسَادِ في الأَرْضِ والمُحَارَبَةِ للهِ ورسولهِ، ذلك باعتبارِ ما يَؤولُ إليه أَمْرُهُ وَيَصِيرُ إليه حَالُهُ، إذ يُضَيِّعُ المُدْمِنُ نَفْسَهُ وَيُضيِّعُ مَنْ يَعُولُ، بَل يُضَيِّعُ حَقَّ دِينِهِ وَحَقَّ وَطَنِهِ، وَيُهْدِرُ طَاقَاتِهِ، وَيُبَدِّدُ ثَرْوَاتِهِ، ويُفرِّطُ في عِرْضِهِ وَشَرَفِهِ، وَيَظْلِمُ مَنْ له حَقٌّ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ لَا يَفْعَلُ وَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ؟!

فمِنْ الإفسادِ في الأرض ومِنْ المُحَارَبَةِ للهِ وَرَسُولِهِ تَضْيِيعُ شَبَابِ الأُمَّةِ وَشِيبِهَا، وَإِهْدَارُ ثَرْوَاتِهَا وَمُقَدَّرَاتِهَا، وَتَضْيِيعُ الذُرِيَّةِ وَالأَهْلِ، وَالتَّفْرِيطُ في حَقِّ الدِّينِ وَحَقِّ الوَطَنِ.

يَدْخُلُ في الإِفْسَادِ في الأرضِ وَفِي المُحَارَبَةِ للهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ تَخْرِيبُ المُنْشَآتِ وَتَحْرِيقُ المُمْتَلَكَاتِ، والاعْتِدَاءُ عَلَى الحُرُمَاتِ، وَتَبْدِيدُ ثَرْوَاتِ الأُمَّةِ وَمُقَدَّرَاتِهَا.

فَكلُّ هذا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَ حَدُّ الحِرَابَةِ والإِفْسَادِ في الأرضِ كَمَا بَيَّنَهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- في كِتَابِهِ العَزِيزِ، وَكَمَا طَبَّقَهُ النبيُّ ﷺ عَلَى مَنْ اسْتَحَقَّهُ.

«الإِرْهَابُ والتَّخْرِيبُ وإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ مِن الإِفْسَادِ في الأَرْضِ»

مِن الإِفْسَادِ في الأَرْضِ: التَّخْرِيبُ والتَّحْرِيقُ وَإِرَاقَةُ الدِّمَاءِ وَالاعْتِدَاءُ عَلَى المُمْتَلَكَاتِ العَامَّةِ والخَاصَّةِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مِن الإِفْسَادِ في الأَرْضِ، يَقُومُ به مَن يَقُومُ مِن المُنْتَمِينَ إلى الجَمَاعَاتِ المُنْحَرِفَةِ مِن الإِخْوَانِ المُسْلِمِينَ وَمِن التَّكْفِيرِيينَ مِن القُطْبيينَ وَغَيْرِهِم، مِن المُفْسِدِينَ في الأرضِ المُحَارِبِينَ للهِ وَرَسُولِهِ السَّاعِينَ في الأَرْضِ بِالفَسَادِ والإِفْسَادِ البَاغِينَ لِهَذَا الوَطَنِ الضَّيَاع والسقوط في هَاوِيَةٍ لَا قَرَارَ لَهَا.

اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا، حَافِظُوا عَلَى مُمْتَلَكَاتِكُم، حَافِظُوا عَلَى مُؤسَّسَاتِكُم، حَافِظُوا عَلَى مُنْشَآتِكُم، حَافِظُوا عَلَى أَمْوَالِ الأُمَّةِ وَكُونُوا عَلَيْهَا سَاهِرِينَ

والله يَرْعَاكُم وَيَتَوَلَّاكُم وَهُوَ نِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِير.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

*****

وَبَعْدُ:

«مَا صَحَّ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ»

*****

 «فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ يَغْفِرُ اللهُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ؛ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ»

فَعَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَصْحَابِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا- مِنْ طُرُقٍ شَتَّى يَشُدُّ بَعْضُهَا بَعْضًا: عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو وَأَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَعَوْفِ بْنِ مَالِكٍ وَعَائِشَةَ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا-، عَنِ النَّبِيِّ قَالَ: «يَطَّلِعُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى خَلْقِهِ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ».

وَهَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِمَجْمُوعِ طُرُقِهِ، لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ، وَلَا رَيْبَ فِيهِ.

 «الصِّيَامُ فِي شَعْبَانَ»

أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَنِ الحِبِّ بْنِ الْحِبِّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أُمِّهِ أُمِّ أَيْمَنَ حَاضِنَةِ رَسُولِ اللهِ ، وَأَيْمَنُ هُوَ أَخُو أُسَامَةَ لِأُمِّهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أُمِّهِ وَعَنْ أَبِيهِ-، قَالَ: «قُلْتُ لِلنَّبِيِّ : مَا لِي أَرَاكَ تَصُومُ فِي شَهْرِ شَعْبَانَ مَا لَا تَصُومُ فِي غَيْرِهِ مِنَ الشُّهُورِ -يَعْنِي خَلَا رَمَضَانَ-؟!

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «هَذَا شَهْرٌ يَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ بَيْنَ رَجَبٍ وَرَمَضَانَ, تُرْفَعُ فِيهِ الْأَعْمَالُ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي فِيهِ وَأَنَا صَائِمٌ».

«شَعْبَانُ شَهْرٌ يَغْفُلُ عَنْهُ النَّاسُ»

هَذَا شَهْرٌ يَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ؛ إِذْ إنَّهُ يَقَعُ بَيْنَ رَجَبٍ -وَهُوَ شَهْرٌ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ, وَالْعَرَبُ كَانَتْ -حَتَّى فِي جَاهِلِيَّتِهَا- تُقَدِّسُ وَتَحْتَرِمُ الْأَشْهُرَ الحُرُمَ؛ فَكَيْفَ وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَصَّ عَلَى أَنَّهَا حُرُمٌ بِحُرْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا؟! فَالْعَرَبُ كَانَتْ تُقَدِّسُهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ, وَالْمُسْلِمُونَ أَشَدُّ مَعْرِفَةً لِقَدْرِ الْأَشْهُرِ الحُرُمِ فِي هَذَا الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ, فَالنَّاسُ يَعْرِفُونَ قَدْرَ شَهْرِ رَجَبٍ.

وَأَمَّا شَهْرُ رَمَضَانَ؛ فَإِنَّهُ شَهْرُ الْقُرْآنِ, وَشَهْرُ الْقِيَامِ وَالذِّكْرِ, وَشَهْرُ الصِّيَامِ, وَهُوَ شَهْرٌ مَعْلُومُ الْفَضِيلَةِ عِنْدَ النَّاسِ كَافَّةً.

وَأَمَّا هَذَا الشَّهْرُ شَهْرُ شَعْبَانَ؛ وَمَا سُمِّيَ شَعْبَانَ إِلَّا لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَشَعَّبُونَ فِيهِ فِي أَمْرِ الْغَزْوِ، إِذْ يَخْرُجُونَ مِنَ الشَّهْرِ الحَرَامِ مُتَعَطِّشِينَ إِلَى سَفْكِ الدِّمَاءِ، كَمَا كَانَ الشَّأْنُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ؛ فَسُمِّيَ شَعْبَانَ لِهَذَا الْأَمْرِ الَّذِي مَرَّ ذِكْرُهُ، فَيَقُولُ نَبِيُّنَا ﷺ: إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ يَقَعُ بَيْنَ شَهْرَيْنِ مَعْلُومَيِ الْقَدْرِ, مَعْرُوفَيِ الْفَضْلِ عِنْدَ النَّاسِ كَافَّةً؛ وَعَلَيْهِ فَيَغْفُلُ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ, ثُمَّ إِنَّهُ تُعْرَضُ فِيهِ الْأَعْمَالُ وَتُرْفَعُ, وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ. هَذَا كَلَامُهُ ﷺ.

 «الْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَتَطْهِيرُ الْقَلْبِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ»

إِنَّ الْعِبَادَةَ الْجَلِيلَةَ الَّتِي يَحْرِصُ عَلَيْهَا الْمَرْءُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ وَفِي كُلِّ لَيَالِي الْعَامِ؛ بَلْ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ مِنْ لَحْظَاتِ الْعُمُرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هِبَةً لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِهِ فِي دُنْيَاهُ؛ يَحْرِصُ الْإِنْـسَانُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُبَرَّءًا مِنَ الشِّرْكِ مُنَزَّهًا عَنْهُ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- قَدْ مَضَتْ مَشِيئَتُهُ بِأَلَّا يَغْفِرَ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ, فَلَا يَغْفِرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ هَذَا الدِّيوَانِ شِيْئًا -وَلَوْ كَانَ يَسِيرًا-، وَلَا يَسِيرَ فِيهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ.

إِلَّا أَنَّ الْمَرْءَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَرِيصًا فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ عَلَى أَنْ يَكُونَ طَاهِرَ الجَنَانِ، مُبَرَّأَ الْأَرْكَانِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا فِيمَا يُغْضِبُ الْعَزِيزَ الدَّيَّانَ, بَلْ يَكُونُ بَاحِثًا عَنْ مَرْضَاةِ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ.

 

عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي الْخَلَاصِ مِنَ الشِّرْكِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ بِتَصْفِيَةِ الْقَلْبِ مِمَّا يَعْلَقُ بِهِ مِنَ الشَّوَائِبِ، وَمَا يَجُرُّ إِلَيْهِ الشِّرْكُ مِنْ تِلْكَ الْمَادَّةِ الْقَذِرَةِ بِالحَمْئَةِ الْمَسْنُونَةِ؛ مِنْ تِلْكَ الشَّحْنَاءِ بِالْبَغْضَاءِ، بِالْغِلِّ، بِالْحَسَدِ.

وَيَا لله! هَلْ تَجِدُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَقِيَّ الْفِطْرَةِ سَوِيَّ الطَّوِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ يَنْطَوِيَ بَاطِنُهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا القَذَرِ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟!

«وَلَا يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» كَمَا قَالَ الرَّسُولُ , لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُم إِيمَانًا صَحِيحًا كَامِلًا مُعْتَبَرًا فِي مِيزَانِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَقْبُولًا عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ, فَكَيْفَ بِتِلْكَ الْمَادَّةِ الْقَذِرَةِ مِنَ الشَّحْنَاءِ, مِنَ الحِقْدِ, مِنَ الْغِلِّ, مِنَ الْحَسَدِ, مِنَ الْبَغْضَاءِ, تَنْطَوِي عَلَيْهَا نَفْسٌ مُشَوَّهَةٌ حَتَّى يَتَشَوَّهَ الظَّاهِرُ تَبَعًا؟!

«أَحَادِيثُ لَا تَصِحُّ، وَبِدَعٌ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَان»

الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه فِي سُنَنِهِ عَنْ عَلِيٍّ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ - يَرْفَعُهُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَّمَهُ ﷺ مِنْ لَدُنْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يُبَلِّغُهُ لَا يَكْتُمُهُ, وَإنَّمَا يُؤَدِّيهِ أَدَاءً لِلْأَمَانَةِ وَنُصْحًا لِلْأُمَّةِ، فَيَقُولُ: «إِذَا كَانَتِ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ؛ فَقُومُوا لَيْلَهَا, وَصُومُوا نَهَارَهَا».

فَهَذَا حَدِيثٌ مَوْضُوعٌ, فِي سَنَدِهِ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ؛ قَالَ فِيهِ الْإِمَامَانِ أَحْمَدُ وَابْنُ مَعِينٍ -رَحِمَهُمَا اللهُ جَلَّ وَعَلَا-: كَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ -يَعْنِي: ابْنَ أَبِي سَبْرَةَ-.

فَكَانَ يَكْذِبُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَيَضَعُ الْأَحَادِيثَ.

الْمُتَصَوِّفَةُ؛ إِذْ يَجْتَمِعُونَ فِي الْمَسَاجِدِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ فِي صَلَاةِ  الْمَغْرِبِ, يَقُومُ قَائِمُهُمْ بَعْدَ الصَّلَاةِ يُصَلُّونَ مَا يُسَمَّى بِـ(صَلَاةِ الرَّغَائِبِ)!!

وَهِيَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ، وَفِي أَوَّلِ رَجَبٍ، وَهِيَ صَلَاةٌ أَلْفِيَّةٌ لِمَنِ اسْتَطَاعَهَا مِنْهُمْ، وَكَانَ فِي بِدْعَتِهِ جَلْدًا وَعَلَيْهَا مُقِيمًا, وَيُصَلُّونَ مِئَةَ رَكْعَةٍ, كُلُّ رَكْعَةٍ تُصَلَّى بِسُورَةِ الْإِخْلَاصِ عَشْرًا عَشْرًا، فَهَذِهِ أَلْفٌ، فَهِيَ صَلَاةٌ أَلْفِيَّةٌ!!

لَمْ يَتَّبِعْهَا وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَا وَلَمْ يَفْعَلْهَا خَيْرُ الْبَرِيَّةِ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ- وَإنَّمَا هِيَ عَمَلٌ مُحْدَثٌ مُبْتَدَعٌ.

وَيَا لَلَّهِ الْعَجَب؛ كَيْفَ يُتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِمَا لَمْ يَشْرَعْ؟!!

وَكَيْفَ يُتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِالضَّلَالَةِ؟!!

وَهَذَا نَبِيُّكُمْ ﷺ، صَحَّ عَنْهُ قَوْلُهُ: «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ, وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ».

وَأَمَّا الدُّعَاءُ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ-؛ فَهُوَ مِنْهُ بَرِيءٌ, وَهُوَ مِنْهُ بَرَاءٌ, وَعَبْدُ اللهِ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَنْ يَتَوَرَّطَ -وَلَا أَحَدٌ مِنَ الْأَصْحَابِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ- فِي الِافْتِئَاتِ عَلَى الشَّرْعِ الْأَغَرِّ، وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْإِحْدَاثِ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَبِإِلْصَاقِ شَيْءٍ بِدِينِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ ﷺ.

 

هَذَا الدُّعَاءُ الَّذِي يَأْخُذُ بِهِ النَّاسُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ؛ يَحْسَبُونَ (تَبَعًا لِلشِّيعَةِ وَلِلضُّلَّالِ مِمَّنْ حَادُوا عَنْ صِرَاطِ مُحَمَّدٍ ﷺ أَنَّ لَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ هِيَ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهَا قَوْلَهُ: ﴿حم* وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ [الدُّخَانُ :1- 2], ثُمَّ يَقُولُ رَبُّنَا -تَبَارَك وَتَعَالَى-: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ*فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدُّخَانُ :3- 4], فَيَظُنُّ الظَّانُّ أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ هِيَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ, وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا اللَّيْلَةُ الَّتِي يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ: هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ التَّقْدِيرِ.

فَلَمْ يَصِحَّ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ إِلَّا عُمُومُ الْمَغْفِرَةِ لِأَهْلِ الْأَرْضِ؛ خَلَا مَا كَانَ مُشْرِكًا أَوْ كَانَ مُشَاحِنًا.

 «اخْتِصَاصُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِصِيَامٍ أَوْ بِقِيَامٍ بِدْعَةٌ»

إِنَّ الْعِبَادَةَ الْعَظِيمَةَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ لَمْ يَأْتِ بِهَا أَثَرٌ صَحِيحٌ مِنْ كِتَابٍ، وَلَا مِنْ سُنَّةٍ, وَلَا مِنْ هَدْيِ صَاحِبٍ، وَلَا إِجْمَاعِ أُمَّةٍ, أَنَّهَا تُخَصُّ بِقِيَامٍ, أَوْ أَنَّها تُخَصُّ بِعِبَادَةٍ بِعَيْنِهَا دُونَ مَا يَفْعَلُ الْإِنْسَانُ فِي سَائِرِ لَيَالِيهِ إِنْ كَانَتْ تِلْكَ عَادَتَهُ, وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ دَأْبُهُ، وَكَذَلِكَ يَسِيرُ مَعَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بَاحِثًا عَنْ مَرْضَاةِ رَبِّهِ -جَلَّ وعَلَا-, فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ؛ فَلَا بَأْسَ.

وَأَيْضًا لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ هَكَذَا؛ تَخْصِيصُهَا بِالْقِيَامِ شَيْءٌ لَمْ يَأْتِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.

وَأَمَّا صِيَامُ النِّصْفِ؛ فَإِنْ كَانَ تَخْصِيصًا لِتَوَهُّمِ مَزِيدِ فَضْلٍ؛ فَهَذَا ابْتِدَاعٌ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لَمْ يَأْتِ بِهِ أَثَرٌ مِنْ كِتَابٍ، وَلَا مِنْ سُنَّةٍ، وَلَا مِنْ فِعْلِ صَاحِبٍ، وَلَا إِجْمَاعِ أُمَّةٍ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ يَصُومُ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ شَعْبَانَ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْأَيَّامِ الْغُرِّ الْبِيضِ؛ فَهَذِهِ بِذَاتِهَا قَدْ وَرَدَ فِيهَا النَّصُّ الصَّحِيحُ, وَكَان النَّبِيُّ ﷺ حَرِيصًا عَلَى أَنْ يَصُومَ الْأَيَّامَ الْبِيضَ, فَإِنْ وَقَعَ هَذَا الْيَوْمُ فِي عَادَةِ مَنْ يَصُومُ الْأَيَّامَ الْغُرَّ الْبِيضَ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ هِجْرِيٍّ مُبَارَكٍ؛ فَهَذَا كَذَلِكَ, وَإِلَّا فَقَدْ وَقَعَ فِي ابْتِدَاعٍ؛ إِذْ يَحْسَبُ مُتَوَهِّمًا أَنَّ النَّبِيَّ حَضَّ عَلَى ذَلِكَ, وَقَدْ مَرَّ ذِكْرُ حَالِ الْحَدِيثِ، إِذْ هُوَ حَدِيثٌ مَكْذُوبٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ: «إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ؛ فَقُومُوا لَيْلَهَا, وَصُومُوا نَهَارَهَا».

هَذَا كَذِبٌ مَصْنُوعٌ مُخْتَلَقٌ مَوْضُوعٌ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

 

«وَظِيفَةُ الدِّينِ فِي الْحَيَاةِ»

إِنَّمَا وَظِيفَةُ الدِّينِ فِي الْحَيَاةِ: أَنْ يُغَيِّرَ الْمَرْءُ مِمَّا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ ضَلَالٍ وَانْحِرَافٍ، وَسُوءِ سِيرَةٍ، وَسُوءِ طَوِيَّةٍ، وَسُوءِ قَصْدٍ, يُغَيِّرَهُ الدِّينُ إِلَى مَا يُحِبُّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيَرْضَاهُ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.

فَإِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنِ التَّغْيِيرِ؛ فَقُلْ لِي بِرَبِّكَ: فَأَيَّ شَيْءٍ أَفَادَهُ دِيْنُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟!

وَبِأَيِّ شَيْءٍ مِنْ دِيْنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ اسْتَفَادَ وَانْتَفَعَ؟!

 «أَصْحَابُهُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ- أَكْرَمُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ»

النَّبِيُّ ﷺ كَانَ أَصْحَابُهُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ- أَكْرَمَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ.

كَانَ الصَّحَابَةُ يَتَأَثَّرُونَ مُحَمَّدًا ﷺ, وَيَتَتَبَّعُونَ أَحْوَالَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْهُمْ-.

عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُصْلِحَ مَا أَفْسَدَهُ, وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَصِلَ مَا قَطَعَهُ, وَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ مُتَوَقِّيًا حَذِرًا, فَإِنَّ التَّقْوَى كَمَا بَيَّنَ أُبَيٌّ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- لِلْفَارُوقِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ- إِذْ يَسْأَلُهُ وَهُوَ الْفَارُوقُ؛ فَيَقُولُ: يَا أُبَيُّ؛ مَا التَّقْوَى؟ فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ أَمَا سِرْتَ فِي طَرِيقٍ ذِي شَوْكٍ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: شَمَّرْتُ وَاجْتَهَدْتُ. قَالَ: فَتِلْكَ التَّقْوَى.

فَانْظُر إِلَى هَذَا الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ -الَّذِي هُوَ أَقْرَأُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - كَيْفَ نَوَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بَصِيرَتَهُ, وَأَلْقَى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ النُّورَ عَلَى لِسَانِهِ, وَحَمَلَ عُمَرَ -رُضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- حَمَلَهُ مِنْ وَادِي الْمَعَانِي إِلَى وَادِي الْمَبَانِي, وَأَخَذَ بِيَدِهِ -رُضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمَا- إِلَى وَسِيلَةٍ تَوْضِيحِيَّةٍ تَعْلِيمِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ بِأَمْرِ حِسِيٍّ مَعْلُومٍ مُشَاهَدٍ -بَلْ هُوَ مُجَرَّبٌ-؛ لِأَنَّهُ سَأَلَهُ

عَمَّا يَصْنَعُ عِنْدَمَا يَسِيرُ فِي طَرِيقٍ ذِي شَوْكٍ, فَقَرَّرَهُ بَدْءًا:

 أمَا سِرْتَ في طَرِيقٍ ذِي شَوْكٍ؟

 

 

 

 

«دَرْبُ الْحَيَاةِ مَلِيءٌ بِأَشْوَاكِهَا»

هَذَا دَرْبُ الْحَيَاةِ مَلِيءٌ بِأَشْوَاكِهَا, مَلِيءٌ بِأَشْوَاكِ الْحَيَاةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخَلْقِ, فِي التَّعَامُلِ مَعَ الخَلْقِ المُفْضِي حَتْمًا إِلَى شَحْنَاءَ لَا يُحِبُّهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَلَا يَرْضَاهَا, إِلَى أَحْقَادٍ وَأَحْسَادٍ, إِلَى هُمُومٍ وَغُمُومٍ, إِلَى ظُلْمٍ وَطُغْيَانٍ وَعُدْوَانٍ.

وَكَذَا التَّعَامُلُ مَعَ الْبَشَرِ, كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ الْأَوَّلُ:

عَوَى الذِّئْبُ فَاسْتَأْنَسْتُ بِالذِّئْبِ إِذْ عَوَى

***

وَصَــوَّتَ إِنْسَــانٌ فَكِـدتُّ أَطِيــرُ

هَكَذَا, هَكَذَا فِي دَرْبِ الْحَيَاةِ، فِي أَشْوَاكِهَا, فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ مُتَوَقِّيًا, وَأَنْ يُعْطِيَ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ, وَأَنْ يَأْخُذَ بِزِمَامِ الْقَلْبِ بِيَدٍ مِنْ حَدِيدٍ، حَتَّى يُقِيمَهُ عَلَى صِرَاطِ رَبِّنَا الْحَمِيدِ؛ حَتَّى لَا يَزِلَّ وَلَا يَضِلَّ, وَحَتَّى لَا يَأْخُذَ الهَوَى بِزِمَامِ قَلْبِهِ، فَيُطَوِّحَ بِهِ فِي مَطَارِحَ لَا تَلِيقُ بِمُؤْمِنٍ أَبَدًا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُحْسِنًا, فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ لِلْغُفْرَانِ رَاجِيًا.

فَهَذَا هَذَا -عِبَادَ اللهِ!-.

فَلَيْلَةُ النِّصْفِ فِيهَا هَذَا الْفَضْلُ, فِيهَا عُمُومُ الْمَغْفِرَةِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ.

فَاللهمَّ طَهِّرْنَا وَبَرِّئْنَا مِنَ الشِّرْكِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.

اللهمَّ طَهِّرْنَا مِنَ الشَّحْنَاءِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا(1).

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

*****

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك