((خُطُورَةُ الشَّائِعَاتِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((الشَّائِعَاتُ سِلَاحُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُغْرِضِينَ))
«فَقَدْ تَوَعَّدَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَهْلَ الشَّرِّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب: 60] أَيْ: مَرَضُ شَكٍّ أَوْ شَهْوَةٍ.
{وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} أَيْ: الْمُخَوِّفُونَ الْمُرْهِبُونَ الْأَعْدَاءَ، الْمُتَحَدِّثُونَ بِكَثْرَتِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ.
وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَعْمُولَ الَّذِي يَنْتَهُونَ عَنْهُ؛ لِيَعُمَّ ذَلِكَ كُلَّ مَا تُوحِي بِهِ أَنْفُسُهُمْ إِلَيْهِمْ، وَتُوَسْوِسُ بِهِ، وَتَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ مِنَ التَّعْرِيضِ بِسَبِّ الْإِسْلَامِ وَأهْلِهِ، وَالْإِرْجَافِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَتَوْهِينِ قُوَاهُمْ، وَالتَّعَرُّضِ لِلْمُؤْمِنَاتِ بِالسُّوءِ وَالْفَاحِشَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَاصِي الصَّادِرَةِ مِنْ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ.
{لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أَيْ: لَنَأْمُرَنَّكَ بِعُقُوبَتِهِمْ وَقِتَالِهِمْ، وَلَنُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ إِذَا فَعَلْنَا ذَلِكَ، لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِكَ، وَلَيْسَ لَهُمْ قُوَّةٌ وَلَا امْتِنَاعٌ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} أَيْ: لَا يُجَاوِرُونَكَ فِي الْمَدِينَةِ إِلَّا قَلِيلًا، بِأَنْ تَقْتُلَهُمْ أَوْ تَنْفِيَهُمْ.
وَهَذَا فِيهِ دَلِيلٌ لِنَفْيِ أَهْلِ الشَّرِّ، الَّذِينَ يُتَضَرَّرُ بِإِقَامَتِهِمْ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَحْسَمُ لِلشَّرِّ، وَأَبْعَدُ مِنْهُ، وَيَكُونُونَ {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} أَيْ: مُبْعَدِينَ حَيْثُ وُجِدُوا، لَا يَحْصُلُ لَهُمْ أَمْنٌ، وَلَا يَقَرُّ لَهُمْ قَرَارٌ، يَخْشَوْنَ أَنْ يُقْتَلُوا أَوْ يُحْبَسُوا أَوْ يُعَاقَبُوا» .
«إِنَّ الْأَرَاجِيفَ وَالشَّائِعَاتِ الَّتِي تَنْطَلِقُ مِنْ مَصَادِرَ شَتَّى وَمَنَافِذَ مُتَعَدِّدَةٍ إِنَّمَا تَسْتَهْدِفُ التَّآلُفَ وَالتَّكَاتُفَ، وَتَسْعَى إِلَى إِثَارَةِ النَّعْرَاتِ وَالْأَحْقَادِ، وَنَشْرِ الظُّنُونِ السَّيِّئَةِ، وَتَرْوِيجِ السَّلْبِيَّاتِ، وَتَضْخِيمِ الْأَخْطَاءِ.
الْإِشَاعَاتُ وَالْأَرَاجِيفُ سِلَاحٌ بِيَدِ الْمُغْرِضِينَ وَأَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ وَالْأَعْدَاءِ وَالْعُمَلَاءِ، يَسْلُكُهُ أَصْحَابُهُ؛ لِزَعْزَعَةِ الثَّوَابِتِ، وَهَزِّ الصُّفُوفِ وَخَلْخَلَةِ تَمَاسُكِهَا.
وَالْمُرْجِفُونَ: هُمُ الَّذِينَ يَنْشُرُونَ الشَّائِعَاتِ الْكَاذِبَةَ، أَوْ يُبَالِغُونَ فِي تَعْظِيمِ قُوَّةِ الْأَعْدَاءِ وَقُدُرَاتِهِمْ، وَاسْتِحَالَةِ هَزِيمَتِهِمْ، وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ؛ مِنْ أَجْلِ تَخْذِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَخْوِيفِهِمْ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، وَقَدْ لَعَنَهُمُ اللهُ حَيْثُمَا وُجِدُوا، وَتَوَعَّدَهُمْ بِأَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ مَنْ يَسْتَأْصِلُ شَأْفَتَهُمْ، وَيَقْطَعَ دَابِرَهُمْ.
وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ هَذَا هُوَ دَيْدَنُ الْمُنَافِقِينَ فِي الْمُوَاجَهَاتِ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَتَوَعَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ، وَحَذَّرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ السَّمَاعِ لَهُمْ، وَتَصْدِيقِهِمْ، وَإِشَاعَةِ تَخْوِيفَاتِهِمْ وَأَرَاجِيفِهِمْ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60-61].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا- كَاشِفًا حَقِيقَةَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، وَمُبَيِّنًا أَثَرَهُمْ فِي الْإِرْجَافِ وَالتَّخْوِيفِ، وَالتَّعْوِيقِ وَالتَّخْذِيلِ، وَنَشْرِ الْفِتْنَةِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْوَاحِدِ: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 18].
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47].
فَبَيَّنَ أَنَّ وُجُودَهُمْ فِي صَفِّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَزِيدُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَّا شَرًّا وَفَسَادًا، وَضَعْفًا وَهَوانًا، وَفِتْنَةً وَفُرْقَةً، وَيَعْظُمُ الْبَلَاءُ حِينَ يَكُونُ فِي الْمُسْلِمِينَ جَهَلَةٌ سُذَّجٌ، يَسْمَعُونَ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الْمَفْتُونِينَ، فَيَتَأَثَّرُونَ بِإشَاعَاتِهِمْ، وَيَسْتَجِيبُونَ لِتَخْوِيفَاتِهِمْ، وَيُصْبِحُونَ أَبْوَاقًا لَهُمْ، وَبَبَّغَاوَاتٍ يُرَدِّدُونَ أَرَاجِيفَهُمْ، وَيَنْشُرُونَ فِتَنَهُمْ، لِهَذَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ}.
فَيَتَوَلَّدُ مِنْ سَعْيِ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ، وَقَبُولِ هَؤُلَاءِ السَّاذَجِينَ مِنَ الشَّرِّ وَالْبَلَاءِ، وَتَوْهِينِ عَزَائِمِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِرْعَابِهِمْ مَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْبَلَاءِ عَلَى أُمَّتِهِمْ، وَأَكْبَرِ الْمَدَدِ لِأَعْدَائِهِمْ».
((خُطُورَةُ الْكَذِبَةِ تَبْلُغُ الْآفَاقَ))
إِنَّ مِنْ أَدَلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى قِيمَةِ الْكَلِمَةِ فِي الْإِسْلَامِ؛ ذَلِكَ الْجُزءُ مِنْ حَدِيثِ الْمَنَامِ الطَّوِيلِ, الَّذِي بَيَّنَ فِيهِ جِبْرِيلُ لِلنَّبيِّ ﷺ جَزَاءَ الرَّجُلِ يَكذِبُ الْكِذبَةَ فَتَطِيرُ كُلَّ مَطَارٍ، وَتَسِيرُ كُلَّ مَسَارٍ, وَيَظُنُّ الْمِسكِينُ أَنَّهُ بِمَنأَى مِنْ عَذَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, وَأَنَّ الْكَلِمَةَ لَا قِيمَةَ لهَا وَلَا وَزَنَ, وَهِيَ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الذِّنُوبِ وَالْآثَامِ.
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((صَحِيحِهِ)) عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ, فَقَالَ: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟))
قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ، قَصَّهَا، فَيَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَسَأَلَنَا يَوْمًا, فَقَالَ: ((هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا؟))
قُلْنَا: لَا.
قَالَ: ((لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي، فَأَخَذَا بِيَدِي فَأَخْرَجَانِي إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ -وَالْكَلُّوبُ: الْحَدِيدَةُ الَّتِي يُنْشَلُ بِهَا اللَّحْمُ وَيُعَلَّقُ- يُدْخِلُه فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُه بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ, وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ.. )).
ثُمَّ تَعَدَّدَتِ الْمَرَائِي، وَجَاءَ التَّأوِيلُ.
قَالَ ﷺ: ((قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ، قَالَا: نَعَمْ، أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذِبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ, فَيُصْنَعُ بِهِ مَا رَأيتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
((رَجُلٌ جَالِسٌ وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ يُدْخِلُه فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُه بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ, وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ)).
هَذَا جَزَاءُ الْكَذَّابِ، يُحَدِّثُ بِالْكَذِبَةِ فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ, فَيُصْنَعُ بِهِ مَا رَأَيْتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، يَعنِى: هَذَا هُوَ عَذَابُهُ فِي الْبَرزَخِ.
فَانْظُر إِلَى هَذَا الْعَذَابِ -هُدِيتَ-, كَيْفَ تَنَاوَلَ مِنَ الْكَذَّابِ آلَةَ كَذِبِه وَمَوْضِعَ إِفْكِهِ؟!! وَكَيْفَ يُشَقُّ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ, ثُمَّ يُثَنَّى بِالْآخَرِ، فَيَلْتَئِمُ الْأَوَّلُ, فَيُعَادُ عَلَيْهِ بِالشَّقِّ كَمَا صُنِعَ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهَكَذَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ!!
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ : ((فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ, وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ, وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ, وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ, وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ, ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ, فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ, ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ في الْمَرَّةَ الْأُولَى..)).
وَفِي تَأوِيلِهَا: ((أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ, وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ, وَعَيْنُهُ إِلَى قَفَاهُ, فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ فَيَكْذِبُ الْكَذِبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ)).
هَذَا جَزَاءُ مَنْ كَذَبَ الْكَذِبَةَ تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ، هَذَا جَزَاءُ مَا أَتَى, وَكِفَاءُ مَا صَنَعَ, فَمَنْ لَا يَقْدُرُ الْكَلِمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْرَهَا؟!!
وَمَنْ لَا يَعْرِفُ لِلْكَلِمَةِ بَعْدَ ذَلِكَ شَأْنَهَا؟!!
«وَأَكْثَرُ الَّذِينَ يَتَعَامَلُونَ مَعَ الشَّبَكَةِ الْعَنْكَبُوتِيَّةِ هُمْ دَاخِلُونَ -إِنْ شَاءَ اللهُ- فِي هَذَا الْوَعِيدِ إِلَّا أَنْ يَتُوبُوا إِلَى اللهِ تَعَالَى.
وَأَكْثَرُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ، بَلْ جُلُّهُمْ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا--؛ لِأَنَّهُ يَنْدُرُ أَنْ تَجِدَ رَجُلًا صَادِقًا يَتَعَامَلُ مَعَ شَبَكَةِ الْمَعْلُومَاتِ تَعَامُلًا يُرْضِي اللهَ تَعَالَى، لَا تَنْزَلِقُ قَدَمُهُ، وَلَا يَزِلُّ بَصَرُهُ وَلَا سَمْعُهُ، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ» .
((أَخْطَرُ الشَّائِعَاتِ فِي تَارِيخِ الْمُسْلِمِينَ وَآثَارُهَا))
عِبَادَ اللهِ! مَنْ نَظَرَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ خَاصَّةً, وَفِي التَّارِيخِ عَامَّةً؛ يَعْلَمُ يَقِينًا مَا لِلشَّائِعَاتِ مِنْ خَطَرٍ عَظِيمٍ، وَأَثَرٍ بَلِيغٍ، فَالشَّائِعَاتُ تُعْتَبَرُ مِنْ أَخْطَرِ الْأَسْلِحَةِ الْفَتَّاكَةِ وَالْمُدَمِّرَةِ لِلْمُجْتَمَعَاتِ وَالْأَشْخَاصِ.
وَكَمْ أَقْلَقَتِ الْإِشَاعَةُ مِنْ أَبْرِيَاءَ, وَحَطَّمَتْ عُظَمَاءَ، وَهَزَمَتْ مِنْ جُيُوشٍ، وَهَدَمَتْ مِنْ وَشَائِجَ، وَتَسَبَّبَتْ فِي جَرَائِمَ, وَفَكَّكَتْ مِنْ عَلَاقَاتٍ وَصَدَاقَاتٍ، وَأَخَّرَتْ مِنْ سَيْرِ أَقْوَامٍ!!
لِخَطَرِهَا وَجَدْنَا الدُّوَلَ تَهْتَمُّ بِهَا، وَالْحُكَّامَ يَرْقُبُونَهَا، مُعْتَبِرينَ إِيَّاهَا مِقْيَاسَ مَشَاعِرِ الشَّعْبِ نَحْوَ الْإِدَارَةِ صُعُودًا وَهُبُوطًا، وَبَانِينَ عَلَيْهَا تَوقُّعَاتِهِمْ لِأَحْدَاثٍ مَا, سَوَاءٌ عَلَى الْمُسْتَوَى الْمَحَلِّيِّ أَوِ الْمُسْتَوَى الْخَارِجِيِّ.
وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((كَفَى بِالْمَرْءِ إِثمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((مُقَدِّمَةِ الصَّحِيحِ)) .
وَفِي رِوَايَةٍ: ((كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ)).
وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: «اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ يَسْلَمُ رَجُلٌ حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ)) .
وَأَثَرُ الشَّائِعَاتِ سَيِّئٌ جِدُّ سَيِّئٍ, وَيَنْتُجُ عَنْهَا غَالِبًا آثَارٌ أُخْرَى أَسْوَءُ مِنْهَا، وَفِي تَارِيخِ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الشَّائِعَاتِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي كَانَتْ نَتَائِجُهَا سَيِّئَةً فِي ظَاهِرِهَا قِصَصٌ كَثِيرَةٌ؛ مِنْهَا:
*الشَّائِعَةُ الَّتِي انْتَشَرَتْ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيشٍ أَسْلَمُوا، وَذَلِكَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ الْأُولَى إِلَى الْحَبَشَةِ، فَكَانَ مِنْ نَتِيجَتِهَا أَنْ رَجَعَ عَدَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَكَّةَ، وَقَبْلَ دُخُولِهِمْ عَلِمُوا أَنَّ الْخَبَرَ كَذِبٌ.
فَدَخَلَ مِنْهُمْ مَنَ دَخَلَ، وَعَادَ إِلَى الْحَبَشَةِ مَنْ عَادَ، فَأَمَّا الَّذِينَ دَخَلُوا فَأَصَابَ بَعضَهُمْ مِنْ عَذَابِ قُرَيْشٍ مَا كَانَ هُوَ فَارًّا مِنْهُ، فَللهِ الْأَمْرُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
*وَفِي مَعْرَكَةِ أُحُدٍ، عِنْدَمَا أَشَاعَ الْكَافِرُونَ أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ قُتِلَ، فَتَّ ذَلِكَ فِي عَضُدِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ أَلْقَى السِّلَاحَ، وَتَرَكَ الْقِتَالَ وَاسْتَحْسَرَ.
*وَأَدَّتِ الشَّائِعَاتُ الْكَاذِبَةُ ضِدَّ الْخَلِيفَةِ الرَّاشِدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى تَجَمُّعِ أَخْلَاطٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَدَهْمَاءِ النَّاسِ وَجَهَلَتِهِمْ, وَأَصْبَحَتْ لَهُمْ شَوْكَةٌ، وَقُتِلَ عَلَى إِثْرِهَا خَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ حِصَارِهِ فِي بَيتِهِ، وَقَطْعِ الْمَاءِ عَنْهُ.
بَلْ كَانَتْ مِنْ آثَارِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ:
*أَنْ قَامَتْ حُرُوبٌ بَيْنَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ؛ كَمَعْرَكَةِ (الْجَمَلِ) وَ(صِفِّينَ)، وَخَرَجَتْ عَلَى إِثْرِهَا الْخَوارِجُ، وَتَزَنْدَقَتِ الشِّيعَةُ، وَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا ظُهُورُ الْمُرْجِئَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ الْأُولَى، ثُمَّ انْتَشَرَتِ الْبِدَعُ بِكَثْرَةٍ، وَظَهَرَتْ فِتَنٌ وَبِدَعٌ وَقَلَاقِلُ كَثِيرَةٌ, مَا تَزَالُ الْأُمَّةُ الْمُسْلِمَةُ تُعَانِي مِنْ آثَارِهَا وَنَتَائِجِهَا إِلَى الْيَوْمِ.
((حَادِثَةُ الْإِفْكِ أَخْطَرُ شَائِعَةٍ فِي تَارِيخِ الْإِسْلَامِ))
فِي تَارِيخِ المُسلِمِينَ, بَلْ وَفِي سِيرَةِ النَّبيِّ الكَرِيمِ ﷺ حَادِثَةٌ عَظِيمَةٌ لهَا ثِقَلُهَا الكَبِير, وَآثَارُهَا الحَمِيدَةُ فِي نَتَائجِهَا، وَهِيَ حَادِثَةُ الإِفْك.
وَلَسْنَا مُبَالِغِينَ حِينَ نَقُولُ إِنَّ مَا وَاجَهَهُ الرَّسُولُ ﷺ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ، هُوَ حَدَثُ الْأَحْدَاثِ فِي تَارِيخِهِ ﷺ, فَلَمْ يُمْكَرْ بِالْمُسْلِمِينَ مَكْرٌ أَشَدُّ مِنْ تِلْكَ الْوَاقِعَةِ، وَهِيَ مُجَرَّدُ فِرْيَةٍ وَإِشَاعَةٍ مُخْتَلَقَةٍ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى كَذِبَهَا، لَكِنَّهَا لَوْلَا عِنَايَةُ اللهِ كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى أَنْ تَعْصِفَ بِالْأَخْضَرِ وَالْيَابِسِ، وَلَا تُبْقِي عَلَى نَفْسٍ مُسْتَقِرَّةٍ مُطْمَئِنَّةٍ.
وَلَقَدْ مَكَثَ مُجتَمَعُ الْمَدِينَةِ النَّبَوِيَّةِ بِأَكْمَلِهِ شَهْرًا كَامِلًا وَهُوَ يَصْطَلِي نَارَ تِلْكَ الْفِرْيَةِ، وَيَتَعَذَّبُ ضَمِيرُهُ, وَتَعْصِرُهُ الْإِشَاعَةُ الْهَوْجَاءُ وَالْفِرْيَةُ الصَّلْعَاءُ، حَتَّى نَزَلَ الْوَحْيُ؛ لِيَضَعَ حَدًّا لِتِلْكَ الْمَأْسَاةِ الْمُفْظِعَةِ, وَلِيَكُونَ دَرْسًا تَرْبَوِيًّا رَائِعًا لِلْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ، وَلِكُلِّ مُجْتَمَعٍ مُسْلِمٍ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} ]النور: 11[.
وَلِلْإِشَاعَةِ قُدْرَةٌ عَلَى تَفْتِيتِ الصَّفِّ الْوَاحِدِ وَتَمْزِيقِهِ، وَتَفْتِيتِ الرَّأْيِ الْوَاحِدِ وَبَعْثَرَتِهِ وَتَوزِيعِهِ؛ فَالنَّاسُ أَمَامَهَا بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ، وَمُتَرَدِّدٍ وَمُتَبَلْبِلٍ، فَغَدَا بِهَا الْمُجْتَمَعُ الْوَاحِدُ وَالْفِئَةُ الْوَاحِدَةُ فِئَاتٍ مُتَعَدِّدَةً.
لَقَدْ ذَكَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي أَوَائِلِ ((سُورَةِ النُّورِ)) آيَاتٍ فِي تَعْظِيمِ الرَّمْيِ بِالزِّنَا عُمُومًا, وَصَارَ ذَلِكَ كَأنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلْقِصَّةِ الَّتِي وَقَعَتْ عَلَى أَشْرَفِ النِّسَاءِ أُمِّنَا أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-؟
وَهَذِهِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ الْمَشْهُورَةِ الثَّابِتَةِ فِي الصِّحَاحِ وَالْمَسَانِيدِ وَالسُّنَنِ.
وَحَاصِلُهَا أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ وَمَعَهُ زَوْجُهُ عَائِشَةُ الصِّدِّيقَةُ بِنْتُ الصِّدِّيقِ، فَانْقَطَعَ عِقْدُهَا، فَانَحْبَسَتْ فِي طَلَبِهِ وَرَحَلُوا، وَقَدْ رَحَّلُوا جَمَلَهَا وَهَوْدَجَهَا، وَلَمْ يَفْقِدُوهَا؛ لِخِفَّةِ جِسْمِهَا حِينَئِذٍ، ثُمَّ اسْتَقَلَّ الْجَيْشُ رَاحِلًا، وَجَاءَتْ مَكَانَهُمْ، وَعَلِمَتْ أَنَّهُمْ إِذَا فَقَدُوهَا رَجَعُوا إِلَيْهَا, فَاسْتَمَرُّوا فِي مَسِيرِهِمْ.
وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعْطَّلِ السُّلَمِيُّ, وَهُوَ مِنْ أَفَاضِلِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ، قَدْ عَرَّسَ فِي أُخْرَيَاتِ الْقَوْمِ وَنَامَ، فَرَأَى عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- فَعَرَفَهَا، فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَرَكِبَتْهَا مِنْ دُونِ أَنْ يُكَلِّمَهَا أَوْ تُكَلِّمَهُ، ثُمَّ جَاءَ يَقُودُ بِهَا بَعْدَ مَا نَزَلَ الْجَيْشُ فِي الظَّهِيرَةِ.
فَلَمَّا رَأَى بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ -الَّذِينَ فِي صُحْبَةِ الْأَمِينِ ﷺ فِي ذَلِكَ السَّفَرِ- مَجِيءَ صَفوَانَ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ، أَشَاعَ مَا أَشَاعَ، وَوَشِيَ الْحَدِيثَ، وَتَلَقَّفَتْهُ الْأَلْسُنُ، حَتَّى اغْتَرَّ بِذَلِكَ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ، وَصَارُوا يَتَنَاقَلُونَ هَذَا الْكَلَامَ.
وَانْحَبَسَ الْوَحْيُ مُدَّةً طَوِيلَةً عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ, وَبَلَغَ الْخَبَرُ عَائشَةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ، فَحَزِنَتْ حُزْنًا شَدِيدًا، فَأَنْزَلَ اللهُ بَرَاءَتَهَا فِي هَذِهِ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ ((سُورَةِ النُّورِ))، وَوَعَظَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَعْظَمَ ذَلِكَ، وَوَصَّاهُمْ بِالْوَصَايَا النَّافِعَةِ.
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ} أَيْ: بِالْكَذِبِ الشَّنِيعِ، وَهُوَ رَمْيُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ.
{عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} أَيْ: جَمَاعَةٌ مُنْتَسِبُونَ إِلَيْكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ، مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُ الصَّادِقُ فِي إِيمَانِهِ، لَكِنَّهُ اغْتَرَّ بِتَروِيجِ الْمُنَافِقِينَ, وَمِنْهُمُ الْمُنَافِقُ.
{لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُم}: لِمَا تَضَمَّنَ ذَلِكَ تَبْرِئَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ وَنَزَاهَتَهَا، وَالتَّنْوِيهَ بِذِكْرِهَا، حَتَّى تَنَاوَلَ عُمُومَ الْمَدحِ سَائِرَ زَوْجَاتِ النَّبِيِّ ﷺ، وَلِمَا تَضَمَّنَ مِنْ بَيَانِ الْآيَاتِ الْمُضْطَرِ إِلَيْهَا الْعِبَادُ، الَّتِي مَا زَالَ الْعَمَلُ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَكُلُّ هَذَا خَيْرٌ عَظِيمٌ، لَوْلَا مَقَالَةُ أَهْلِ الْإِفْكِ لَمْ يَحصُلْ ذَلِكَ.
وَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَمْرًا جَعَلَ لَهُ سَبَبًا، وَلِذَلِكَ جَعَلَ الْخِطَابَ عَامًّا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّ قَدْحَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ كَقَدْحٍ فِي أَنْفُسِهِمْ.
فَفِيهِ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، وَاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى مَصَالِحِهِمْ، كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ.
وَالْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَكَمَا أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَقْدَحَ أَحَدٌ فِي عِرْضِهِ، فَلْيَكْرَهْ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَقْدَحَ فِي أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، الَّذِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ، وَمَا لَم يَصِل الْعَبْدُ إِلَى هَذِهِ الْحَالِ، فَإنَّهُ مِنْ نَقْصِ إِيمَانِهِ وَعَدَمِ نُصْحِهِ.
{لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ}: وَهَذَا وَعِيدٌ لِلَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ، وَأَنَّهُمْ سَيُعَاقَبُونَ عَلَى مَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ، وَقَدْ حَدَّ النَّبِيُّ ﷺ مِنْهُمْ جَمَاعَةً -أَيْ: أَقَامَ عَلَيْهِمْ حَدَّ الْقَذْفِ-.
{وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} أَيْ: مُعْظَمَ الْإِفْكِ، وَهُوَ الْمُنَافِقُ الْخَبِيثُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ -لَعَنَهُ اللهُ-، {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: أَلَا وَهُوَ الْخُلودُ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ.
ثُمَّ أَرْشَدَ اللهُ عِبَادَهُ عِنْدَ سَمَاعِ مِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ، فَقَالَ: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} أَيْ: ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ بَعضُهُمْ بِبَعْضٍ خَيْرًا، وَهُوَ السَّلَامَةُ مِمَّا رُمُوْا بِهِ، وَأَنَّ مَا مَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ الْمَعْلُومِ يَدْفَعُ مَا قِيلَ فِيهِمْ مِنَ الْإِفْكِ الْبَاطِلِ.
{وَقَالُوا} بِسَبَبِ ذَلِكَ الظَّنِّ: {سُبْحَانَكَ} أَيْ: تَنْزِيهًا لَكَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَعَنْ أَنْ تَبتَلِيَ أَصْفِيَاءَكَ وَأَوْلِيَاءَكَ بِالْأُمُورِ الشَّنِيعَةِ.
{هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} أَيْ: هَذَا كَذِبٌ وَبَهْتٌ مِنْ أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ وَأَبْيَنِهَا، فَهَذَا مِنَ الظَّنِّ الْوَاجِبِ حِينَ سَمَاعِ الْمُؤْمِنِ عَنْ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ، وَأَنْ يُبَرِّءَهُ بِلِسَانِهِ، وَيُكَذِّبَ الْقَائِلَ فِيمَا افْتَرَاهُ.
{لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أَيْ: هَلَّا جَاءَ الرَّامُونَ عَلَى مَا رَمَوْا بِهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ -أَيْ: عُدُولٍ مَرْضِيِّينَ-.
{فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وَإِنْ كَانُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَدْ تَيَقَّنُوا ذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِي حُكْمِ اللهِ؛ لِأَنَّهُ حَرَّمَ عَلَيْهِمُ التَّكَلُّمَ بِذَلِكَ مِنْ دُونِ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ: { فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}، وَلَمْ يَقُلْ: ((فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ)).
وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ تَعْظِيمِ حُرْمَةِ عِرْضِ الْمُسْلِمِ، بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى رَمْيِهِ مِنْ دُونِ نِصَابِ الشَّهَادَةِ بِالصِّدْقِ.
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} بِحَيْثُ شَمِلَكُمْ إِحْسَانُهُ فِيهِمَا، فِي أَمْرِ دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ، {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَفَضْتُمْ} أَيْ: خُضْتُمْ {فِيهِ}: مِنْ شَأْنِ الْإِفْكِ {عَذَابٌ عَظِيمٌ}؛ لِاسْتِحْقَاقِكُمْ ذِلِكَ بِمَا قُلْتُمْ، وَلَكِنْ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتِه أَنْ شَرَعَ لَكُمُ التَّوْبَةَ، وَجَعَلَ الْعُقُوبَةَ مَطْهَرَةً لِلذُّنُوبِ.
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} أَيْ: تَلْقَّفُونَهُ وَيُلْقِيهِ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَتَسْتَوْشُونَ حَدِيثَهُ وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ.
{وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}: وَالْأَمْرَانِ مَحْظُورَانِ؛ التَّكَلُّمُ بِالْبَاطِلِ, وَالْقَوْلُ بِلَا عِلْمٍ.
{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا}: فَذَلِكَ الَّذِي جَعَلَ بَعضَكُمْ يُقْدِمُ عَلَيْهِ, ثُمَّ تَابُوا مِنْهُ -يَعْنِي: مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنًا- وَقَدْ تَطَهَّرُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}: وَهَذَا فِيهِ الزَّجْرُ الْبَلِيغُ عَنْ تَعَاطِي بَعْضِ الذِّنُوبِ عَلَى وَجْهِ التَّهَاوُنِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهَا.
فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يُفِيدُهُ حُسْبَانُهُ شَيْئًا، وَلَا يُخَفِّفُ مِنْ عُقُوبَتِهِ الذَّنْبَ، بَلْ يُضَاعِفُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ الْعُقُوبَةَ؛ لِاسْتِخْفَافِهِ بِمَا أَمَر اللهُ رَبُّ الْعَالمِينَ بِأَلَّا يَقْرَبَ, فَيَسْهُلُ عَلَيْهِ عِنْدَ الِاسْتِخْفَافِ أَنْ يَقَعَ فِي الذَّنْبِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.
وَالْإِنْسَانُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَخَافَ؛ لِأَنَّهُ بِنَظَرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, يَرَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَيُبْصِرُهُ، عَلَيْهِ أَنْ يَخَافَ أَنْ يَسْخَطَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ إِذْ يَرَاهُ عَلَى مَعْصِيَتِه, فَيُسْقِطُهُ مِنْ نَظَرِهِ، فَلَا يَعْتَبِرُهُ أَبَدَ الْآبِدِينَ.
{ولَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} أَيْ: وَهَلَّا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ أَيُّهَا المُؤمِنونَ، أَيْ: سَمِعْتُمْ كَلَامَ أَهْلِ الْإِفْكِ وَالْبَاطِلِ، {قُلْتُمْ} مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ، مُعْظِمِينَ لِأَمْرِهِ.
{مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} أَيْ: مَا يَنْبَغِي لَنَا وَمَا يَلِيقُ بِنَا الْكَلَامُ بِهَذَا الْإِفْكِ الْمُبِينِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَمْنَعُهُ إِيمَانُهُ مِنَ ارْتِكَابِ الْقَبَائحِ.
{هَذَا بُهْتَانٌ} أَيْ: كَذِبٌ {عَظِيمٌ}.
{يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ} أَيْ: لِنَظِيرِهِ، مِنْ رَمْيِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْفُجُورِ، فَاللهُ يَعِظُكُمْ وَيَنْصَحُكُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَنِعْمَ الْمَوَاعِظُ وَالنَّصَائِحُ مِنْ رَبِّنَا, فَيَجِبُ عَلَيْنَا مُقَابَلَتُهَا بِالْقَبُولِ وَالْإِذْعَانِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالشُّكْرِ لَهُ، عَلَى مَا بَيَّنَ لَنَا.
{إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}: دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْإِيمَانَ الصَّادِقَ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنَ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ.
{وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ} الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى بَيَانِ الْأَحْكَامِ، وَالْوَعْظِ وَالزَّجْرِ، وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ، يُوضِّحُهَا لَكُمْ تَوْضِيحًا جَلِيًّا.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أَيْ: كَامِلُ الْعِلْمِ عَامُّ الْحِكْمَةِ، فَمِنْ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، أَنْ عَلَّمَكُمْ مِنْ عِلْمِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ رَاجِعًا لمَصَالِحِكُمْ فِي كُلِّ وَقْتٍ.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} أَيْ: الْأُمُورُ الشَّنِيعَةُ الْمُسْتَقْبَحَةُ, فَيُحِبُّونَ أَنْ تَشْتَهِرَ الْفَاحِشَةُ {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مُوجِعٌ لِلْقَلْبِ وَالْبَدَنِ, وَذلِكَ لِغِشِّهِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ, وَمَحَبَّةِ الشَّرِّ لَهُمْ, وَجَرَاءَتِه عَلَى أَعْرَاضِهِمْ.
فَإِذَا كَانَ هَذَا الْوَعِيدُ لِمُجَرَّدِ مَحَبَّةِ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ, وَاسْتِحْلَاءِ ذَلِكَ بِالْقَلْبِ, فَكَيْفَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ؛ مِنْ إِظْهَارِهِ وَنَقْلِهِ وَالْجِدِّ فِي إِفْشَائِهِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ؟!!
وَسَوَاءٌ كَانَتِ الْفَاحِشَةُ صَادِرةً أَوْ غَيْرَ صَادِرَةٍ, وَكلُّ هَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ, وَصِيَانَةِ أَعْرَاضِهِمْ، كَمَا صَانَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ, وَأَمَرَهُمْ بِمَا يَقْتَضِي الْمُصَافَاةَ, وَأَنْ يُحِبَّ أَحَدُهُمْ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ, وَيَكْرَهَ لَهُ مَا يَكْرَهُهُ لِنَفْسِهِ.
{وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}: فَلِذَلِكَ عَلَّمَكُمْ، وَبَيَّنَ لَكُمْ مَا تَجْهَلُونَهُ.
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}: قَد أحَاطَ بِكُمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، {وَرَحْمَتُهُ} عَلَيْكُمْ، {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} لَمَا بَيَّنَ لَكُمْ هَذِهِ الْأَحْكَامَ وَالْمَواعِظَ، وَالْحِكَمَ الْجَلِيلَةَ, وَلَمَا أَمْهَلَ مَنْ خَالَفَ أَمْرَهُ, وَلَكِنَّ فَضْلَهُ وَرَحْمَتَهُ, وَأَنَّ ذَلِكَ وَصْفُهُ اللَّازِمُ أَثَّرَ لَكُمْ مِنَ الْخَيْرِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْأُخْرَوِيِّ مَا لَنْ تُحْصُوهُ أَوْ تَعُدُّوهُ.
وَلَمَّا نَهَى عَنْ هَذَا الذَّنْبِ بِخُصُوصِهِ, نَهَى عَنِ الذِّنُوبِ عُمُومًا فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أَيْ: طُرُقَهُ وَوَسَاوِسَهُ.
وَخُطُوَاتُ الشَّيْطَانِ يَدْخُلُ فِيهَا سَائِرُ الْمَعَاصِي الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ وَالْبَدَنِ.
وَمِنْ حِكْمَتِه تَعَالَى أَنْ بَيَّنَ الْحُكْمَ، وَهُوَ النَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ، وَالْحِكْمَةُ وَهِيَ بَيَانُ مَا فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ الْمُقْتَضِي وَالدَّاعِي لِتَرْكِهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ} أيْ: الشَّيْطَانُ {يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} أَيْ: مَا تَسْتَفْحِشُهُ الْعُقُولُ وَالشَّرَائِعُ مِنَ الذُّنُوبِ الْعَظِيمَةِ, مَعَ مَيْلِ بَعْضِ النُّفُوسِ إِلَيْهِ, {وَالْمُنْكَرِ} وَهُوَ: مَا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ وَلَا تَعْرِفُهُ.
فَالْمَعَاصِي الَّتِي هِيَ خُطُوَاتُ الشَّيْطَانِ لَا تَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ؛ فَنَهَى اللهُ عَنْهَا الْعِبَادَ؛ نِعْمَةً مِنْهُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَشْكُرُوهُ وَيَذْكُرُوهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صِيَانَةٌ لَهُمْ عَنِ التَّدَنُّسِ بِالرَّذَائِلِ وَالْقَبَائِحِ, فَمِنْ إِحْسَانِهِ عَلَيْهِمْ أَنْ نَهَاهُمْ عَنْهَا كَمَا نَهَاهُمْ عَنْ أَكْلِ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ وَنَحْوِهَا.
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} أَيْ: مَا تَطَهَّرَ مِنَ اتِّبَاعِ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَسْعَى هُوَ وَجُنْدُهُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَيْهَا وَتَحْسِينِهَا, وَالنَّفْسُ مَيَّالَةٌ إِلَى السُّوءِ، أَمَّارَةٌ بِهِ.
وَالنَّقْصُ مُسْتَوْلٍ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ، وَالْإِيمَانُ غَيْرُ قَوِيٍّ، فَلَوْ خُلِّيَ وَهَذِهِ الدَّوَاعِيَ مَا زَكَا أَحَدٌ بِالتَّطَهُّرِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالسَّيِّئَاتِ وَالنَّمَاءِ بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ، فَإِنَّ الزَّكَاءَ يَتَضَمَّنُ الطَّهَارَةَ وَالنَّمَاءَ، وَلَكِنَّ فَضْلَهُ وَرَحْمَتَهُ أَوْجَبَا أَنْ يَتَزَكَّى مِنْكُمْ مَنْ تَزَكَّى.
وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ ﷺ: ((اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلِهَذَا قَالَ: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} مَنْ يَعْلَمُ مِنْهُ أَنْ يَتَزَكَّى بِالتَّزْكِيَةِ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
{وَلا يَأْتَلِ} أَيْ: لَا يَحْلِفْ {أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا}.
كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْخَائِضِينَ فِي الْإِفْكِ (مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ)، وَهُوَ قَرِيبٌ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَانَ مِسْطَحٌ فَقِيرًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَحَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ الَّذِي قَالَ.
فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، يَنْهَاهُ عَنْ هَذَا الْحَلِفِ الْمُتَضَمِّنِ لِقَطْعِ النَّفَقَةِ عَنْهُ، وَيَحُثُّهُ عَلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، وَيَعِدُهُ بِمَغْفِرَةِ اللَّهِ إِنْ غَفَرَ لَهُ، فَقَالَ: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
إِذَا عَامَلْتُمْ عَبِيدَهُ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ، عَامَلَكُمْ بِذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ-: ((بَلَى، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي))، فَرَجَّعَ النَّفَقَةَ إِلَى مِسْطَحٍ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى النَّفَقَةِ عَلَى الْقَرِيبِ، وَأَنَّهُ لَا تُتْرَكُ النَّفَقَةُ وَالْإِحْسَانُ بِمَعْصِيَةِ الْإِنْسَانِ، وَالْحَثُّ عَلَى الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ وَلَوْ جَرَى مِنْهُ مَا جَرَى مِنْ أَهْلِ الْجَرَائِمِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ عَلَى رَمْيِ الْمُحْصَنَاتِ، فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} أَيِ: الْعَفَائِفَ عَنِ الْفُجُورِ، {الْغَافِلاتِ}: اللَّاتِي لَمْ يَخْطُرْ ذَلِكَ بِقُلُوبِهِنَّ، {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}: وَاللَّعْنَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى ذَنْبٍ كَبِيرٍ، وَأَكَّدَ اللَّعْنَةَ بِأَنَّهَا مُتَوَاصِلَةٌ عَلَيْهِمْ فِي الدَّارَيْنِ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: وَهَذَا زِيَادَةٌ عَلَى اللَّعْنَةِ، أَبْعَدَهُمْ عَنْ رَحْمَتِهِ، وَأَحَلَّ بِهِمْ شَدِيدَ نِقْمَتِهِ، وَذَلِكَ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
{يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}: فَكُلُّ جَارِحَةٍ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ بِمَا عَمِلَتْهُ، يُنْطِقُهَا الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَا يُمْكِنُهُ الْإِنْكَارَ، وَلَقَدْ عَدَلَ فِي الْعِبَادِ مَنْ جَعَلَ شُهُودَهُمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} أَيْ: جَزَاءَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ الْجَزَاءَ الْحَقَّ، الَّذِي بِالْعَدْلِ وَالْقِسْطِ، يَجِدُونَ جَزَاءَهَا مُوَفَّرًا، لَمْ يَفْقِدُوا مِنْهَا شَيْئًا، {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
وَيَعْلَمُونَ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ الْعَظِيمِ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ، فَيَعْلَمُونَ انْحِصَارَ الْحَقِّ الْمُبِينِ فِي رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَأَوْصَافُهُ الْعَظِيمَةُ حَقٌّ، وَأَفْعَالُهُ هِيَ الْحَقُّ، وَعِبَادَتُهُ هِيَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُهُ حَقٌّ، وَوَعْدُهُ وَوَعِيدُهُ حَقٌّ، وَحُكْمُهُ الدِّينِيُّ وَالْجَزَائِيُّ حُقٌّ، وَرُسُلُهُ حَقٌّ، فَلَا ثَمَّ حَقٌّ إِلَّا فِي اللَّهِ وَمَا مِنَ اللَّهِ.
{الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} أَيْ: كُلُّ خَبِيثٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْكَلِمَاتِ وَالْأَفْعَالِ مُنَاسِبٌ لِلْخَبِيثِ، وَمُوَافِقٌ لَهُ، وَمُقْتَرِنٌ بِهِ، وَمُشَاكِلٌ لَهُ، وَكُلُّ طَيِّبٍ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْكَلِمَاتِ وَالْأَفْعَالِ مُنَاسِبٌ لِلطَّيِّبِ، وَمُوَافِقٌ لَهُ، وَمُقْتَرِنٌ بِهِ، وَمُشَاكِلٌ لَهُ.
فَهَذِهِ كَلِمَةٌ عَامَّةٌ، وَحَصْرٌ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ، مِنْ أَعْظَمِ مُفْرَدَاتِهِ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ -خُصُوصًا أُولِي الْعَزْمِ مِنْهُمْ، خُصُوصًا سَيِّدَهُمْ مُحَمَّدًا ﷺ، الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الطَّيِّبِينَ مِنَ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ- لَا يُنَاسِبُهُمْ -يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ- إِلَّا كُلُّ طَيِّبٍ مِنَ النِّسَاءِ.
فَالْقَدْحُ فِي عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بِهَذَا الْأَمْرِ قَدْحٌ فِي النَّبِيِّ ﷺ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْإِفْكِ مِنْ قَصْدِ الْمُنَافِقِينَ، فَمُجَرَّدُ كَوْنِهَا زَوْجَةً لِلرَّسُولِ ﷺ يُعْلَمُ أَنَّهَا لَا تَكُونُ إِلَّا طَيِّبَةً طَاهِرَةً مِنْ هَذَا الْأَمْرِ الْقَبِيحِ، فَكَيْفَ وَهِيَ هِيَ؟!! صَدِّيقَةُ النِّسَاءِ، وَأَفْضَلُهُنَّ، وَأَعْلَمُهُنَّ، وَأَطْيَبُهُنَّ، حَبِيبَةُ رَسُولِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الَّتِي لَمْ يَنْزِلِ الْوَحْيُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي لِحَافِ زَوْجَةٍ مِنْ زَوْجَاتِهِ سِوَاهَا -رَضِيَ اللهُ عَلَيْهَا وَعَلَيْهِنَّ- كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
ثُمَّ صَرَّحَ بِذَلِكَ، بِحَيْثُ لَا يُبْقِي لِمُبْطِلٍ مَقَالًا، وَلَا لِشَكٍّ وَشُبْهَةٍ مَجَالًا، فَقَالَ: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ}: وَالْإِشَارَةُ إِلَى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أَصْلًا، وَلِلْمُؤْمِنَاتِ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ تَبَعًا لَهَا، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} تَسْتَغْرِقُ الذُّنُوبَ، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فِي الْجَنَّةِ، صَادِرٌ عَنِ الرَّبِّ الْكَرِيمِ.
((خُطُورَةُ الشَّائِعَاتِ عَلَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ))
إِنَّ الشَّائِعَاتِ تُخِلُّ بِالْأَمْنِ، وَتَجْلِبُ الْوَهَنَ، وَتُحَقِّقُ مُرَادَ الْأَعْدَاءِ فِي تَرْكِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَاسْتِضْعَافِهِمْ، وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ وَتَيْئِيسِهِمْ وَقَتْلِ رُوحِ الْمُقَاوَمَةِ فِي نُفُوسِهِمْ.
*دَوْرُ الشَّائِعَاتِ الرَّئِيسُ فِي الْحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ؛ لِهَدْمِ الْمُجْتَمَعَاتِ:
تُعَدُّ الْإِشَاعَاتُ مِنْ أَهَمِّ أَسَالِيبِ وَوَسَائِلِ الْحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ بِفَاعِلِيَّةٍ وَقْتَ الْحَرْبِ وَكَذَلِكَ وَقْتَ السِّلْمِ فِيمَا يُعْرَفُ بِالْحَرْبِ الْبَارِدَةِ، وَتَتَمَيَّزُ بِشِدَّةِ تَأْثِيرِهَا عَلَى عَوَاطِفِ الْجَمَاهِيرِ، وَقُدْرَتِهَا الْكَبِيرَةِ عَلَى الِانْتِشَارِ، وَفَاعِلِيَّتِهَا الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَبْدَأُ مِنْ وُصُولِهَا إِلَى الْمَكَانِ الْمُوَجَّهَةِ إِلَيْهِ.
وَتَخْتَلِفُ الْإِشَاعَاتُ عَنِ الْأَسَالِيبِ الْأُخْرَى فِي أَنَّ الْوَسِيلَةَ الَّتِي تَحْمِلُهَا وَتَنْقُلُهَا وَتَزِيدُ مِنْ حِدَّتِهَا هِيَ الْمُجْتَمَعُ الْمُسْتَهْدَفُ نَفْسُهُ، فَمَا أَنْ تَصِلَ الْإِشَاعَةُ إِلَى بَعْضِ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْتَهْدَفِ حَتَّى يَقُومَ بِرِوَايَتِهَا وَتَرْويجِهَا إِلَى كُلِّ مَنْ يَعْرِفُ.
بَلْ لَا يَقْتَصِرُ الْأَمْرُ عِنْدَ حَدِّ الرِّوَايَةِ أَوِ النَّقْلِ فَقَطْ، يَتَعَدَّى الْأَمْرُ إِلَى أَنَّ الشَّخْصَ الَّذِي يَنْقُلُ الْإِشَاعَةَ غَالِبًا مَا يُضِيفُ إِلَيْهَا وَيُبَالِغُ فِيهَا.
وَرُبَّمَا اخْتَلَقَ أَجْزَاءً كَثِيرَةً مِنْ تَفَاصِيلِهَا، مِمَّا يَجْعَلُ الْفَائِدَةُ مِنَ الْإِشَاعَةِ أَعْظَمَ وَأَقْوَى مِنْ أَيِّ وَسِيلَةٍ بِالنِّسْبَةِ لِمُوَجِّهِ الْإِشَاعَةِ؛ لِأَنَّ الْجُمْهُورَ الْمُسْتَهْدَفَ قَدْ حَمَلَ عِبْءَ نَقْلِ الْإِشَاعَةِ إِلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، مِمَّا سَاعَدَ عَلَى سُرْعَةِ نَقْلِها.
وَكَذَلِكَ سَاعَدَ عَلَى زِيَادَةِ فَعَالِيَّاتِهَا وَتَأْثِيرَاتِهَا؛ لِأَنَّ الْفَرْدَ سَمِعَ هَذِهِ الْإِشَاعَةَ مِنْ صَدِيقِهِ، مِنْ حَمِيمِهِ، مِنْ دَاخِلِ مُجْتَمَعِهِ، وَهَذَا عَكْسُ الْإِشَاعَاتِ الَّتِي تُذَاعُ أَوْ تُنْشَرُ فِي إِذَاعَاتِ وَصُحُفِ الْعَدُوِّ؛ لِأَنَّ الْوَسَائِلَ الْمَكْشُوفَةَ مِنْ جَانِبِ الْعَدُوِّ غَالِبًا مَا تَكُونُ مَحَلَّ شَكٍّ وَرِيبَةٍ مِنْ قِبَلِ الْجُمْهُورِ الْمُسْتَهْدَفِ.
مِنْ هَذَا الْمُنْطَلَقِ تَتَّضِحُ لَنَا الْعَلَاقَةُ الْوَطيِدَةُ بَيْنَ الْإِشَاعَةِ وَالْحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ، وَهِيَ عَلَاقَةُ الْجُزْءِ بِالْكُلِّ، فَالْإِشَاعَةُ بِمَثَابَةِ الْجُزْءِ، وَالْحَرْبُ النَّفْسِيَّةُ بِمَثَابَةِ الْكُلِّ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْمُخْتَصُّونَ وَالْبَاحِثُونَ فِي هَذَا الْمَجَالِ عَلَى أَنَّ الْإِشَاعَةَ تُعَدُّ أَحَدَ أَسَالِيبِ الْحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي جَمِيعِ كُتُبِ الْحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ أَنَّ الْإِشَاعَةَ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِهَا أَوْ هِيَ وَسِيلَةٌ مِنْ أَقْوَى وَسَائِلِهَا، مَثَلُهَا فِي ذَلِكَ مَثَلُ الدَّعَايَةِ وَغَسْلِ الدِّمَاغِ أَوْ افْتِعَالِ الْفِتَنِ وَالْأَزْمَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسَالِيبِ الْكَثِيرَةِ.
وَتَلْعَبُ الْإِشَاعَةُ دَوْرًا خَطِيرًا فِي الْحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ، وَهِيَ وَسِيلَةُ الْبَلْبَلَةِ فِي الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ، وَالْبَلْبَلَةُ الْفِكْرِيَّةُ وَالنَّفْسِيَّةُ مِفْتَاحٌ لِتَغْيِيرِ الِاتِّجَاهَاتِ وَاللَّعِبِ بِالْعُقُولِ، ثُمَّ السَّيْطَرَةِ، وَالتَّحْوِيرِ الْفِكْرِيِّ، وَغَسِيلِ الْأَدْمِغَةِ.
وَالْإِشَاعَةُ سِلَاحٌ فَعَّالٌ بِيَدِ الْمُحْتَرِفِينَ مِنْ رِجَالِ الْحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ، يُسْتَعْمَلُ لِلسَّيْطَرَةِ عَلَى الِاتِّجَاهَاتِ الشَّعْبِيَّةِ، وَزَعْزَعَةِ الْوِحْدَةِ الْفِكْرِيَّةِ وَالِانْتِمَاءِ وَالتَّمَاسُكِ الِاجْتِمَاعِيِّ.
وَلَهَا دَوْرٌ كَبِيرٌ فِي دَعْمِ اتِّجَاهَاتِ الْجَبْهَةِ الدَّاخِلِيَّةِ الْمُعَادِيَةِ؛ لِبَثِّ رُوحِ الْفُرْقَةِ، وَلِبَثِّ الْيَأْسِ بَيْنَ صُفُوفِ وَأَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، وَكَذَلِكَ فِي بَثِّ رُوحِ الِانْتِقَامِ لِنَشْرِ جَوٍّ مِنَ الشَّكِّ بَيْنَ الْقَادَةِ وَالشَّعْبِ، وَبَيْنَ الضُّبَّاطِ وَالْجُنُودِ، وَبَيْنَ الْأَصْدِقَاءِ وَالْحُلَفَاءِ.
وَلَقَدْ كَانَ الْأَلْمَانُ سَادَةَ الْمَوْقِفِ فِي الْحَرْبِ الْعَالَمِيَّةِ الثَّانِيَةِ فِي اسْتِخْدَامِ الْإِشَاعَاتِ فِي الْحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ؛ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ حَمَلَاتِ الْإِشَاعَةِ مِنْ أَقْوَى الْحَمَلَاتِ تَأْثِيرًا عَلَى الْعَدُوِّ.
فَهِيَ تَصِلُ إِلَى السَّامِعِ دُونَ أَنْ يَبْدُوَ أَنَّهَا دَعَايَةٌ مُعَادِيَةٌ؛ لِأَنَّهُ يَسْمَعُهَا مِنْ أَخِيهِ أَوْ صَدِيقِهِ أَوْ زَمِيلِهِ فِي الْعَمَلِ، فَهُوَ يَسْمَعُهَا مِنْ دَاخِلِ مُجْتَمَعِهِ، وَكَانَتْ أَيَّةُ أَخْبَارٍ تُذَاعُ عَلَى الْمَوْجَةِ الْقَصِيرَةِ فِي أَلْمَانِيَا أَوْ أَيَّةُ قِصَّةٍ يَنْشُرُهَا عَمِيلٌ أَلْمَانِيٌّ فِي صَحِيفَةٍ بِبَلْدَةٍ مُحَايِدَةٍ سَرْعَانَ مَا تَبْدُو وَكَأَنَّهَا صَادِرَةٌ مِنَ الْعَدُوِّ، إِذْ يَضِيعُ أَصْلُهَا الْأَلْمَانِيُّ تَمَامًا فِي عَمَلِيَّةِ تَدَاوُلِهَا.
وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ السَّامِعَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُطَالِبَ بِالدِّلِيلِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَعْرِضُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ لَا يَزْعُمُ أَنَّ لَدَيْهِ أَيَّ دَلِيلٍ، بَلْ يُوَضِّحُ مُنْذُ الْبِدَايَةِ أَنَّ مَا يَقُولُهُ مَا هُوَ إِلَّا مَجُرَّدَ كَلَامٍ سَمِعَهُ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا»، يَقُولُ: زَعَمُوا كَذَا وَكَذَا، يَقُولُونَ: كَذَا وَكَذَا، إِنَّهُمْ يُرَوِّجُونَ كَذَا وَكَذَا، مَنْ هَؤُلَاءِ؟!!
لَا يَدْرِي عَنْهُمْ شَيْئًا!!
الْحَقِيقَةُ أَنَّ السَّامِعَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُطَالَبَ بِالدَّلِيلِ وَلَا أَنْ يُطَالِبَ بِهِ، لِأَنَّ الَّذِي يَعْرِضُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَخْبَارِ لَا يَزْعُمُ أَنَّ لَدَيْهِ أَيَّ دَلِيلٍ، بَلْ يُوَضِّحُ مُنْذُ الْبِدَايَةِ أَنَّ مَا يَقُولُهُ مَا هُوَ إِلَّا مَجُرَّدُ كَلَامٍ سَمِعَهُ، وَعَلَى هَذَا الْأَسَاسِ يُكَرِّرُهُ وَيُعِيدُ تَكْرَارَهُ.
إِنَّ التَّصْدِيقَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَاتِ أَسْهَلُ مِنَ الْكَذِبِ، لَاسِيَّمَا إِذَا كَانَ الْأَمَلُ أَوِ الْخَوْفُ يُعَضِّدُ الْإِشَاعَةَ.
*أَسَالِيبُ مُهِمَّةٌ لِلْإِشَاعَاتِ فِي الْحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ:
وَهُنَاكَ بَعْضُ الْأَسَالِيبِ الْمُهِمَّةِ الَّتِي تَقُومُ الْإِشَاعَاتُ مِنْ خِلَالِهَا بِدَوْرٍ فَاعِلٍ فِي الْحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ.
مِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الْأَسَالِيبِ:
*الِاسْتِخْدَامُ بِقَصْدِ التَّفْتِيتِ: يُمْكِنُ أَنْ يُقْصَدُ بِالتَّفْتِيتِ؛ الرُّوحَ الْمَعْنَوِيَّةَ أَوْ تَفْتِيتَ الصُّفُوفِ، وَزَرْعَ الْفِتْنَةِ وَالْفُرْقَةِ بَيْنَهَا، وَبِهَذِهِ الْوَسِيلَةِ تَقُومُ الْإِشَاعَةُ بِدَوْرِهَا فِي تَدْمِيرِ الْقُوَى الْمَعْنَوِيَّةِ وَتَفْتِيتِهَا.
*وَمِنَ الْأَسَالِيبِ اسْتِخْدَامُ الْإِشَاعَةِ كَسِتَارَةِ دُخَانٍ -أَيْ لِلْخِدَاعِ-:
وَهَذَا الْأُسْلُوبُ يَعْتَمِدُ عَلَى حَقِيقَةِ أَنَّ الْإِشَاعَاتِ يُمْكِنُ أَنْ تُخْفِيَ الْحَقِيقَةَ، فَيَقُومُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ بِالسَّمَاحِ بِتَسَرُّبِ بَعْضِ الْمَعْلُومَاتِ، بِذَلِكَ يَصْعُبُ عَلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ مَعْرِفَةُ الْأَسْرَارِ الْحَقِيقِيَّةِ مِنَ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ.
وَلَقْدْ كَانَ الْأَلْمَانُ سَادَةً فِي هَذَا الْأُسْلُوبِ، فَقَدْ كَانُوا يُطْلِقُونَ الْكَثِيرَ مِنَ الْأَنْبَاءِ الْمُتَنَاقِضَةِ مِنْ دَاخِلِ أَلْمَانْيَا إِلَى الْبِلَادِ الَّتِي يُرِيدُونَ أَنْ يُحْدِثُوا فِيهَا اضْطِرَابًا وَفَوْضَى بَيْنَ النَّاسِ.
*وَمِنَ الْأَسَالِيبِ: الْحَطُّ مِنْ شَأْنِ مَصَادِرِ الْأَنْبَاءِ: وَيَقُومُ هَذَا الْأُسْلُوبُ عَلَى أَسَاسِ خِدَاعِ الْخَصْمِ بِالْإِيحَاءِ إِلَيْهِ بِبَعْضِ الْأَخْبَارِ وَالْمَعْلُومَاتِ الْخَاطِئَةِ، وَمَا أَنْ يُذِيعَ الْخَصْمُ هَذِهِ الْأَخْبَارَ وَالْمَعْلُومَاتِ حَتَّى يَتِمَّ تَوْضِيحُ الْأَمْرِ لِلرَّأْيِ الْعَامِّ؛ حَتَّى تُصْبِحَ لَدَيْهِمْ قَنَاعَةٌ بِكَذِبِ مَصَادِرِ أَنْبَاءِ الْعَدُوِّ.
وَمِنَ الْأَمْثِلَةِ عَلَى ذَلِكَ: فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِلْحَرْبِ الْعَالَمِيَّةِ الثَّانِيَةِ، حَاوَلَ الْبِرِيطَانِيُّونَ أَنْ يُدَمِّرُوا مَحَطَّةَ السِّكَكِ الْحَدِيدِيَّةِ الرَّئِيسَةِ فِي بِرْلِين عِدَّةَ مَرَّاتٍ، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَنْجَحُوا فِي مُحَاوَلَاتِهِمْ تِلْكَ.
وَقَامَ الْأَلْمَانُ بِنَشْرِ تَقَارِيرَ غَيْرِ مُؤَكَّدَةٍ تُوحِي بِأَنَّ الْإِنْجِلِيزَ قَدْ نَجَحُوا فِي مُحَاوَلَاتِهِمْ، عِنْدَمَا وَصَلَتْ هَذِهِ الْإِشَاعَاتُ إِلَى بِرِيطَانِيَا، اعْتَبَرَهَا الْإِنْجِلِيزُ تَأْكِيدًا وَإِثْبَاتًا لِنَجَاحِ مُحَاوَلَاتِهِمْ، وَسَرْعَانَ مَا أَذَاعُوا الْخَبَرَ بِطَرِيقَةٍ رَسْمِيًّةٍ.
حِينَئِذٍ أَخَذَتْ وَزَارَةُ الدَّعَايَةِ الْأَلْمَانِيَّةِ بَعْضَ الصَّحَفِيِّينَ الْأَمْرِيكِيِّينَ إِلَى الْمَحَطَّةِ الرَّئِيسَةِ؛ لِإثْبَاتِ كَذِبِ الْإِذَاعَةِ الْبِرِيطَانِيَّةِ، وَبِذَلِكَ اسْتَطَاعَ الْأَلْمَانُ أَنْ يَحُطُّوا مِنْ شَأْنِ الْإِذَاعَةِ الْبِرِيطَانِيَّةِ عَلَى أَسَاسِ أَنَّ أَنْبَاءَهَا كَاذِبَةً.
*وَمِنَ الْأَسَالِيبِ: اسْتِخْدَامُ الْإِشَاعَةِ كَطُعْمٍ يُقْصَدُ بِهِ إِيضَاحُ الْحَقِيقَةِ:
وَخَيْرُ مِثْالٍ لِذَلِكَ مَا قَامَ بِهِ الْيَابَانِيُّونَ فِي الْحَرْبِ الْعَالَمِيَّةِ الثَّانِيَةِ، إِذْ رَوَّجُوا إِشَاعَاتٍ مُبَالَغًا فِيهَا عَنْ خَسَائِرِ الْأَمْرِيكِيِّينَ فِي الِاشْتِبَاكَاتِ الْبَحَرِيَّةِ.
كَانُوا يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ مَا صَنَعُوا، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ خَسَائِرِ الْأَمْرِيكِيِّينَ، وَكَانَ الْيَابَانِيُّونَ يَهْدِفُونَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ أَنْ يُثِيرُوا الْأَمْرِيكِيِّينَ، فَيَقُومُوا بِدَوْرِهِمْ بِنَشْرِ حَقِيقَةِ خَسَائِرِهِمْ.
وَبِالْفِعْلِ نَجَحَتْ هَذِهِ الْوَسِيلَةُ؛ إِذْ أَنَّ انْتِشَارَ هَذِهِ الْإِشَاعَاتِ أَثَّرَ تَأْثِيرًا بَالِغًا فِي مَعْنَوِيَّاتِ الشَّعْبِ الْأَمْرِيكِيِّ، مِمَّا جَعَلَ الْحُكُومَةَ الْأَمْرِيكِيَّةَ تُسْرِعُ فِي إِذَاعَةِ الْحَقَائِقِ عَنِ الْخَسَائِرِ؛ رَغْبَةً مِنْهَا فِي دَعْمِ الرُّوحِ الْمَعْنَوِيَّةِ، وَبِذَلِكَ اسْتَطَاعَ الْيَابَانِيُّونَ أَنْ يَعْرِفُوا الْحَقَائِقَ الَّتِي تَهُمُّهُمْ.
«وَتَقُومُ الْإِشَاعَةُ فِي الْحُرُوبِ عَلَى اسْتِرَاتِيجِيَّةٍ وَتِكْتِيكٍ مُعَيَّنَيْنِ، لَيْسَتْ عَمَلًا ارْتِجَالِيًّا وَلَا عَمَلًا فَوْضَوِيًّا يَقُومُ بِهِ فَرْدٌ هَاوٍ أَوْ جَمَاعَةٌ؛ لِتَحْقِيقِ مَقَاصِدَ قَرِيبَةٍ أَوْ بَعِيدَةٍ.
الْإِشَاعَةُ حَرْبٌ مُنَظَّمَةٌ مِنْ أَجْلِ تَفْكِيكِ الرَّوَابِطِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْوَاحِدِ، وَإِشَاعَةِ الْبَلْبَلَةِ، وَبَثِّ رُوحِ الْفُرْقَةِ وَالِانْقِسَامِ فِي الْمُجْتَمَعِ الْوَاحِدِ» .
*الْإِشَاعَةُ مِنْ أَخْطَرِ الْأَسْلِحَةِ الْمُدَمِّرَةِ لِلْأَشْخَاصِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ:
«إِذَنْ؛ الْإِشَاعَةُ مِنْ أَخْطَرِ الْأَسْلِحَةِ الْفَتَّاكَةِ وَالْمُدَمِّرَةِ لِلْأَشْخَاصِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ، وَلَقَدْ لَجَأَ إِلَيْهَا الْأَعْدَاءُ كَوِسيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِ الْهَدْمِ وَالتَّدْمِيرِ لِلْمُجْتَمَعِ الْإِسْلَامِيِّ.
فَكَمْ أَقْلَقَتِ الْإِشَاعَةُ مِنْ أَبْرِيَاءَ، وَحَطَّمَتْ مِنْ عُظَمَاءَ، وَقَطَّعَتْ مِنْ وَشَائِجَ، وَتَسَبَّبَتْ فِي جَرَائِمَ، وَفَكَّكَتْ مِنْ عَلَاقَاتٍ وَصَدَاقَاتٍ، وَكَمْ هَزَمَتْ مِنْ جُيُوشٍ.
وَالْمِثَالُ عَلَى ذَلِكَ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ ﷺ، أَعْنِي حَادِثَةَ الْإِفْكِ، وَهَذَا الْحَادِثُ يُعْتَبَرُ حَدَثَ الْأَحْدَاثِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، لَمْ يُمْكَرْ بِالْمُسْلِمِينَ مَكْرٌ أَشَدَّ مِنْ تِلْكَ الْوَقْعَةِ، وَهِيَ مَجُرَّدُ فِرْيَةٍ وَإِشَاعَةٍ مُخْتَلَقَةٍ، بَيَّنَ اللهُ كَذِبَها فِي قُرْآنٍ يُتْلَى إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَلِلْإِشَاعَةِ قُدْرَةٌ عَلَى تَفْتِيتِ الصَّفِّ الْوَاحِدِ وَالرَّأْيِ الْوَاحِدِ وَتَوْزِيعِهِ وَبَعْثَرَتِهِ، فَالنَّاسُ أَمَامَ الْإِشَاعَةِ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ، وَمُتَرَدِّدٍ وَمُتَبَلْبِلٍ، وَمُتَنَاقِضٍ يَنْظُرُ إِلَى هَذِهِ الْأَخْبَار أَمَامَ نَاظِرَيْهِ وَسَمْعِهِ؛ فَيَجِدُ هَذَا يَنْفِي، وَذَاكَ يُثْبِتُ، وَذَاكَ يُشَكِّكُ، وَيَجِدُ آخِرَ يُؤَكِّدُ!!
فَكَمْ مِنْ حَيٍّ قَدْ قِيلَ إِنَّهُ مَيِّتٌ، وَكَمْ مِنْ مَيِّتٍ زَعَمُوا حَيَاتَهُ!!
وَكَمْ مِنْ ضَالٍّ شَاعَ أَمْرُهُ بِأَنَّهُ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَأَصْحَابِ الْكَرَامَاتِ، وَكَمْ مِنْ رَجُلٍ صَالِحٍ شَاعَ أَمْرُهُ أَنَّهُ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَفَعَلَ الْأَفَاعِيلَ!!
وَكَمْ مِنْ بَرِيءٍ قَدِ اتُّهِمَ، وَكَمْ مِنْ مُتَّهَمٍ حَوْلَهُ قَرَائِنُ كَثِيرَةٌ تَدُلُّ عَلَى جَرِيمَتِهِ؛ تَأْتِي الْإِشَاعَةُ فَتُبَرِّئُهُ حَتَّى يَصِيرَ كَالشَّمْسِ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ!!
يَخْتَلِطُ الْحَابلُ بِالنَّابِلِ، وَالصَّحِيحُ بِالْمَرِيضِ، وَالسَّلِيمُ بِالْعَلِيلِ، وَالْأَحْمَرُ بِالْأَسْوَدِ!!» .
إِنَّ أُسْلُوبَ الْإِشَاعَةِ مِنْ أَخْطَرِ أَسَالِيبِ الْحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ، إِنَّهُ يُثِيرُ الْبَلْبَلَةَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ، وَيُضْعِفُ رُوحَهُمُ الْمَعْنَوِيَّةَ، فَيَنْهَزِمُونَ دَاخِلَ نُفُوسِهِمْ، وَبِذَلِكَ يَنْهَزِمُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، فَهَزِيمَةُ النَّفْسِ هِيَ الْهَزِيمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي يَتْبَعُهَا الِانْهِيَارُ وَالِانْدِحَارُ.
وَكُلُّ خَبَرٍ هَامٍّ يُشَكُّ فِي صِحَّتِهِ، وَيَتَعَذَّرُ التَّحَقُّقُ مِنْ أَصْلِهِ فَهُوَ إِشَاعَةٌ؛ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطَيْنِ الرَّئِيسَيْنِ لَهَا، وَهُمَا: الْغُمُوضُ، وَالْأَهَمِّيَّةُ.
الْقَلَقُ وْالْحُبُّ، وَالْكُرْهُ وَالْحِقْدُ، وَالْخَوْفُ وَالْأَمَلُ، وَالِانْتِقَامُ وَالتَّشَفِّي، كُلُّهَا دَوَافِعُ نَفْسِيَّةٌ إِنْسَانِيَّةٌ يَتِمُّ التَّرْكِيزُ عَلَيْهَا عِنْدَ إِطْلَاقِ الْإِشَاعَاتِ.
فَالْإِنْسَانُ الْقَلِقُ مِنْ فَشَلِهِ مَثَلًا، يَكُونُ أَكْثَرَ مَيْلًا مِنْ غَيْرِهِ لِتَصْدِيقِ خَبَرٍ عَنْ فَشَلِ أَعْدَادٍ كَبِيرَةٍ مِنَ النَّاسِ، ثُمَّ لِنَشْرِ هَذَا الْخَبَرِ، وَالشَّخْصُ الَّذِي يَكْرَهُ آخَرَ أَوْ مَجْمُوعَةً مِنَ النَّاسِ مَثَلًا، يُسَارِعُ إِلَى تَصْدِيقِ أَوْ نَشْرِ أَيِّ خَبَرٍ يُسِيءُ إِلَى ذَلِكَ الشَّخْصِ أَوْ إِلَى تِلْكَ الْمَجْمُوعَةِ.
وَوَضْعُ الْيَدِ عَلَى هَذِهِ الِاتِّجَاهَاتِ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ قَدْ تَوَصَّلَ إِلَيْهَا الْأَعْدَاءُ مَجَّانًا فِي هَذَا الْعَصْرِ، بِطَوَاعِيَةٍ وَأَرْيَحِيَّةٍ مِنَ الْمُجْتَمَعَاتِ نَفْسِهَا، وَهِيَ مُسْتَهْدَفَةٌ فِي وُجُودِهَا، وَذَلِكَ عَنْ طَرِيقِ «مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ»، تُبَثُّ الْأَسْرَارُ، وَتُذَاعُ الْهُمُومُ، وَيَسْرُدُ كُلٌّ مِنْهُمْ مَا لَدَيْهِ، وَيَنْثُرُ مَكْنُونَ صَدْرِهِ!!
وَهُنَالِكَ مَنْ يُرَاقِبُ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَشِيعَ الشَّائِعَاتِ عَلَى قَدْرٍ مُنْضَبِطٍ، مَعَ مَا تُعَانِيهِ الْمُجْتَمَعَاتُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الضُّرُوبِ الَّتِي هِيَ فِي حَقِيقَتِهَا مِنَ الْحَرْبِ النَّفْسِيَّةِ عَلَى الْمُجْتَمَعَاتِ، وَلَكِنَّ النَّاسَ لِلْأَسَفِ يَهْدِمُونَ أَوْطَانَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، وَيُدَمِّرُونَ ذَوَاتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ أَيْضًا، وَإِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
*الْأَهْدَافُ الْخَبِيثَةُ لِلْإِشَاعَاتِ:
*الْمِحْوَرُ الَّذِي تَهْدُفُ إِلَيْهِ الْإِشَاعَةُ: هُوَ إِضْعَافُ الرُّوحِ الْمَعْنَوِيَّةِ لِلْخَصْمِ، تَمْهِيدًا لِانْهِيَارِهَا، وَبِالتَّالِي إِجْبَارُ هَذَا الْخَصْمِ عَلَى الِاسْتِسْلَامِ، وَتَنْفِيذُ الشُّرُوطِ الَّتِي تُمْلَى عَلَيْهِ، وَتَعْرِيضُهُ لِهَزِيمَةِ الِانْكِسَارِ، أَوْ لِلْخَسَارَةِ الْكُبْرَى، وَهَذِهِ الْهَزِيمَةُ هِيَ النَّتِيجَةُ النِّهَائِيَّةُ لِجُمْلَةٍ مِنَ الْأَهْدَافِ تُحَقِّقُهَا الْإِشَاعَةُ فِي صُفُوفِ الْخَصْمِ أَوِ الْعَدُوِّ.
*وَمِنْ هَذِهِ الْأَهْدَافِ: تَفْرِيقُ الصُّفُوفِ، وَتَوْسِيعُ الثَّغَرَاتِ، وَتَبْدِيدُ الْإِمْكَانَاتِ، وَالتَّشْكِيكُ فِي كُلِّ عَمَلٍ أَوْ حَرَكَةٍ يَقُومُ بِهَا الْخَصْمُ، خَاصَّةً فِي عَدَالَةِ الْهَدَفِ الَّذِي يَسْعَى إِلَيْهِ، أَوْ فِي أَهَمِّيَّتِهِ أَوْ دَوَافِعِهِ وَمُبَرِّرَاتِهِ، مَعَ بَثِّ عَوَامِلِ الضَّعْفِ وَالْوَهَنِ، وَفِي طَلِيعَةِ ذَلِكَ زَعْزَعَةُ ثِقَةِ الْخَصْمِ بِنَفْسِهِ، وَبِعَوَامِلِ قُوَّتِهِ وَتَمَاسُكِهِ.
((حَرْبُ الشَّائِعَاتِ ضِدَّ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ))
عِبَادَ اللهِ! فِي هَذَا الْعَصْرِ نَجِدُ لِلشَّائِعَاتِ دَوْرًا كَبِيرًا, بَلِ اسْتُغِلَّتِ الشَّائِعَاتُ ضِدَّ الْمُسْلِمِينَ اسْتِغْلَالًا كَبِيرًا, وَمِثْلُ هَذِهِ الشَّائِعَاتِ تُحْدِثُ فِي الصَّفِّ ثَغَرَاتٍ تُخِلُّ بِهِ, وَأَحْيَانًا تَكُونُ ثَغَرَاتٍ كَبِيرَةً يَصْعُبُ سَدُّهَا, وَخَاصَّةً إِذَا كَانَتْ مَصَادِرُ الشَّائِعَاتِ مِنْ دَاخِلِ الصَّفِّ, مِنْ أُنَاسٍ جَهَلَةٍ, أَوْ لَهُمْ هَوًى خَفِيٌّ, أَوْ لَهُمْ ظَنٌّ مُخْطِئٌ.
وَأَمَّا أَعْدَاءُ الْإِسْلَامِ فَهُمْ يَسْتَخْدِمُونَ الشَّائِعَاتِ ضِدَّ الْمُسْلِمِينَ, وَخَاصَّةً عُلَمَاءَهُمْ، وَقَادَتَهُمْ، وَدُعَاتَهُمْ، وَغَالِبًا مَا يَسْتَخْدِمُونَ فِي شَائِعَاتِهِمْ طَرِيقَيْنِ:
*إِنْشَاءُ وَتَلْفِيقُ الْأَكَاذِيبِ وَالِاتِّهَامَاتِ لِلْعُلمَاءِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ؛ لِزَعْزَعَةِ الثِّقَةِ بِهِمْ، وَلِلِانْصِرَافِ عَنْهُمْ.
*وَتَصَيُّدُ الْأَخْطَاءِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ مَعَ نَشْرِهَا بَيْنَ النَّاسِ، مَعَ إِعْطَائِهَا حَجْمًا أَكْبَرَ، فَيَزِيدُونَ شَائِعَاتٍ مَكْذُوبَةً عَلَى أَمْرٍ صَغِيرٍ، كَالشَّيْطَانِ الَّذِي يُلْقِي عَلَى الْكَاهِنِ كَلِمَةً صَحِيحَةً وَتِسْعًا وَتِسْعِينَ كَذِبَةً!!»
فَشَأنُهُمْ شَأْنُ الشَّيْطَانِ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ!!
وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَثَبَّتَ وَأَنْ يَتَرَوَّى فِي تَلَقِّي الْأَخْبَارِ وَالرِّوَايَةِ وَالْعَمَلِ بِهَا, وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
قَالَ الْعَلَّامَةُ الشِّنْقِيطِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : (( وَقَدْ دَلَّتْ هَذهِ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ عَلَى أَمْرِيْنِ:
الْأَوَّلُ مِنْهُمَا: أَنَّ الْفَاسِقَ إِنْ جَاءَ بِنَبَإٍ مُمْكِنٍ مَعْرِفَةُ حَقِيقَتِهِ، وَهَلْ مَا قَالَهُ فِيهِ الْفَاسِقُ حَقٌّ أَوْ كَذِبٌ فَإِنَّه يَجِبُ فِيهِ التَّثَبُّتُ.
وَالثَّانِي: هُوَ مَا اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِهَا أَهْلُ الْأُصُولِ مِنْ قَبُولِ خَبَرِ الْعَدْلِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} يَدُلُّ بِدَليلِ خِطَابِه -أَعْنِي مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ- أَنَّ الْجَائِيَ بِنَبَإٍ إِنْ كَانَ غَيْرَ فَاسِقٍ بَلْ عَدْلًا لَا يَلْزَمُ التَّبَيُّنُ فِي نَبَئِهِ عَلَى قِرَاءَةِ: {فَتَبَيَّنُوا} وَلَا التَّثَبُّتُ عَلَى قِرَاءَةِ: {فَتَثَبَّتُوا} -قَالَ:- وَهُوَ كَذَلِكَ)).
*الدَّوْرُ الْخَطِيرُ لِلْإِشَاعَاتِ فِي ثَوَرَاتِ الْخَرِيفِ الْعَرَبِيِّ:
إِنَّ مِنَ الْعَوَامِلِ الرَّئِيسِيَّةِ لِحَرْبِ الْمُجْتَمَعَاتِ: السَّيْطَرَةُ عَلَى وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ الَّتِي تَقْدِرُ -بِقُدْرَتِهَا الْمُثِيرَةِ- عَلَى التَّأْثِيرِ عَلَى أَنْ تَنْقُلَ مَوْضُوعًا عَادِيًّا إِلَى مُسْتَوَى أَزْمَةٍ وَطَنِيَّةٍ.
وَيَبْدَأُ هَذَا الْمَسَارُ عَادَةً بِطَرْحِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى السَّاحَةِ الدَّوْلِيَّةِ بِوَاسِطَةِ خُبَرَاءَ مُحْتَرِفِينَ أَوْ صَحَفِيِّينَ مَشْهُورِينَ، ثُمَّ يَتَطَوَّرُ النِّقَاشُ دَرَجَةً دَرَجَةً حَتَّى يُصْبِحَ مُشْكِلَةً طَارِئَةً، سَوَاءٌ كَانَتْ مُشْكِلَةً حَقِيقِيَّةً أَوْ مُفْتَعَلَةً، لِتَنْتَقِلَ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُشْكِلَةُ الطَّارِئَةُ إِلَى أَزْمَةٍ وَطَنِيَّةٍ لَا تَقْبَلُ التَّأْجِيلَ.
وَالتَّهْيِئَةُ لِحَرْبٍ نَفْسِيَّةٍ مُتَطَوِّرَةٍ لِلْغَايَةِ يَكُونُ مِنْ خِلَالِ الْإِعْلَامِ وَالتَّلَاعُبِ النَّفْسِيِّ، وَاسْتِخْدَامِ مَحَطَّاتٍ فَضَائِيَّةٍ تَكْذِبُ وَتَقُومُ بِتَزْوِيرِ الصُّوَرِ وَالْحَقَائِقِ؛ عَنْ طَرِيقِ تَمْوِيلِ الْمَحَطَّاتِ أَوِ الْإِعْلَامِيِّينَ أَوْ أَصْحَابِ الْمَحَطَّاتِ، وَيُسْتَخْدَمُ فِيهَا وَسَائِلُ الْإِعْلَامِ التَّقْلِيدِيَّةِ؛ وَالْجَدِيدَةِ مِنْ مَوَاقِعِ التَّوَاصُلِ الِاجْتِمَاعِيِّ.
*قَنَاةُ الْجَزِيرَةِ وَالْإِخْوَان مِثَالٌ لِتَرْوِيجِ الشَّائِعَاتِ؛ مِنْ أَجْلِ هَدْمِ كُبْرَى الْحَوَاضِرِ الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ:
إِنَّ سَيْطَرَةَ إِسْرَائِيلَ عَلَى وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ الدَّوْلِيَّةِ أَدَاةٌ رَئِيسِيَّةٌ فِي هَذَا الْمَجَالِ تَجْعَلُ مِنْهَا شَرِيكًا مُزْمِنًا فِي كُلِّ الْأَزَمَاتِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْمَنْطِقَةِ.
مِنْ وَسَائِلِ الْمَاسُون: بَثُّ الْأَخْبَارِ الْمُخْتَلَقَةِ، وَالْأَبَاطِيلِ وَالدَّسَائِسِ الْكَاذِبَةِ حَتَّى تُصْبِحَ كَأَنَّهَا حَقَائِقُ؛ لِتَحْوِيلِ عُقُولِ الْجَمَاهِيرِ وَطَمْسِ الْحَقَائِقِ أَمَامَهُمْ.
وَقَنَاةُ الْجَزِيرَةِ الْقَطَرِيَّةِ -مِثَالًا-؛ تَبَعِيَّتُهَا لِلْيَهُودِ، إِنَّمَا هِيَ مُنَظَّمَةٌ يَهُودِيَّةٌ، وَيَقُولُ ضَالٌّ مِنَ الضُّلَّالِ الْكِبَارِ الَّذِينَ ابْتُلِيَتْ بِهِمُ الْأُمَّةُ فِي هَذَا الْعَصْرِ، حَتَّى صَارَ مَعْدُودًا عَلَى كِبَارِ عُلَمَائِهَا وَشُيُوخِهَا، يَقُولُ: إِنَّهُ لَوْلَا مَا قَدَّمَتْهُ (قَنَاةُ الْجَزِيرَةِ) مَا وَقَعَ مَا وَقَعَ فِي مِصْرَ!! نَعَمْ؛ مِنْ ذَلِكَ الشِّعَارُ: (حُرِّيَّةٌ.. دِيمُقْرَاطِيَّةٌ!! مِنْ شِعَارِ الْمَاسُونِ.
لَقَدْ كَانَ النَّاسُ فِي لِيبْيَا طَيِّبِينَ، يَحْيَوْنَ الْحَيَاةَ الْكَرِيمَةَ، فَأَجَّجَتْ قَنَاةُ الْجَزِيرَةِ شُعْلَةَ الثَّوْرَةِ الْمَلْعُونَةِ بِطَرِيقَةٍ شَيْطَانِيَّةٍ:
الْمُذِيعُ فِي حُجْرَةٍ، وَلِيبِيٌّ خَائِنٌ فِي حُجْرَةٍ مُجَاوِرَةٍ يَقُولُ لَهُ:
أَنَا الْآنَ فِي مَيْدَانِ كَذَا بِطَرَابُلْسَ!!
النَّاسُ خَرَجُوا جَمِيعًا إِلَى الشَّوَارِعِ مُحْتَجِّينَ ثَائِرِينَ!!
وَالْأَعْلَامُ تُرَفْرِفُ فِي كُلِّ مَكَانٍ!!
وَأَسْمَعُ دَوِيَّ طَلْقَاتِ الرَّصَاصِ بَلْ دَانَاتِ الْمَدَافِعِ!!
لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَطُّ!!
يَجْلِسُ فِي الْحُجْرَةِ الْمُجَاوِرَةِ!! وَالْآخَرُ يُهَيِّجُ الشَّعْبَ اللِّيبِيَّ الطَّيِّبَ، وَيُحَرِّكُهُ مَعَ إِخْوَانِ الدَّاخِلِ مِنَ الْمُجْرِمِينَ الْخَائِنِينَ، حَتَّى وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، وَارْتَفَعَ الْأَمْنُ، وَحَلَّتِ الْمَخَافَةُ، وَجَاءَ الْعَذَابُ، يَخَافُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ، وَعَلَى أَعْرَاضِهِمْ، وَعَلَى أَموَالِهِمْ.
وَأَمَّا ثَرْوَاتُ الْبِلَادِ؛ فَإِنَّهَا تَخْرُجُ إِلَى الْأَعْدَاءِ، تَخْرُجُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ إِلَى الْأَعْدَاءِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مَعَ تَغْيِيرِ الْعُقُولِ وَالْقُلُوبِ، وَنَسْفِ الْعَقَائِدِ وَالْأَدْيَانِ.
((نَصِيحَةُ مُشْفِقٍ لِمُرَوِّجِي الشَّائِعَاتِ فِي هَذَا الْعَصْرِ))
فِي هَذَا الْعَصْرِ اسْتَشْرَى الْكَذِبُ, وَعَمَّ الْبُهْتَانُ وَالِافْتِرَاءُ وَالِاخْتِلَاقُ, وَإلْصَاقُ التُّهَمِ بِالْأَبْرِيَاءِ, وَالتَّقَوُّلُ عَلَى النَّاسِ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ, وَالْوَسَائِلُ الْحَدِيثَةُ صَارَتْ مَدْعَاةً لِنَشْرِ ذَلِكَ وَإِطَارَتِهِ كُلَّ مَطَارٍ!!
فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ الرَّجُلُ بِكَلِمَةٍ إِلَّا وَتَذِيعُ فِي الْآفَاقِ, وَرُبَّمَا يَكُونُ كَاذِبًا مُختَلِقًا مُفْتَرِيًا بَهَّاتًا, وَرُبَّمَا يُخْتَلَقُ عَلَيْهِ وَيُبْهَتُ, وَيُقَوَّلُ مَا لَمْ يَقُلْ, وَكُلُّ ذَلِكَ وَاقِعٌ!!
فَأُذَكِّرُ هَؤُلَاءِ الْفَسَقَةَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ فِي الَّذِي يَكْذِبُ الْكَذِبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ, أُذَكِّرُهُمْ بِمَا قَالَ مِنَ الْعِقَابِ الْوَاقِعِ عَلَيْهِ, وَالْعَذَابِ الَّذِي يَنَالُهُ فِي الْبَرْزَخِ قَبْلَ الْآخِرَةِ, مُنْذُ أَنْ يَمُوتَ إِلَى أَنْ يُقِيمَ اللهُ تَعَالَى السَّاعَةَ كَمَا فِي ((صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ)) : ((يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ, وَمَنْخِرُهُ إِلَى قَفَاهُ, وَمُوقُهُ إِلَى قَفَاهُ, ثُمَّ يَتَحَوَّلُ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ فَيَصِحُّ هَذَا، فَيَفْعَلُ بِهَذَا مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْأَوَّلِ, ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْأَوَّلِ فَيَصِحُّ الثَّانِي هَكَذَا!!))
قَالَ: ((إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)): هَذَا عَذَابُهُ فِي الْبَرْزَخِ!!
قَالَ: ((الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ يَكْذِبُ الْكَذِبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ)).
مُنْطَبِقٌ تَمَامًا عَلَى أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ.
كَذَبَةٌ.. يُقَوِّلُونَ النَّاسَ مَا لَمْ يَقُولُوهُ, وَيَفْتَرُونَ عَلَيْهِمُ الْأَكَاذِيبَ, وَيَصِمُونَ الْبُرَآءَ بِالْعُيوبِ، وَهِيَ فِيهِمْ, وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ, وَيَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ.
الْبُهْتَانُ وَالْإِفْكُ.. هَذَا الِافْتِرَاءُ وَالْكَذِبُ عَلَى عِبَادِ اللهِ الصَّالِحِينَ؛ الرَّأْسُ فِيهِ وَالْقَائِدُ إِبْلِيسُ اللَّعِينُ وَشِيعَتُهُ مِنَ الْيَهُودِ وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ، فَأَمَّا الْيَهُودُ؛ فَهَذَا مِثَالٌ ظَاهِرٌ.
وَأَمَّا الْمُنَافِقُونَ؛ فَقَدْ مَرَّ مَا قَالُوهُ فِي حَقِّ الْبَرِيئَةِ الطَّاهِرَةِ الْمُطَهَّرَةِ, الَّتِي هِيَ أَطْهَرُ مِنْ مَاءِ الْمُزْنِ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَهَذَا صَنِيعُ الْمُنَافِقِينَ بَيْنَ صُفُوفِ الْمُسْلِمِينَ.
أَمْسِكُوا أَلْسِنَتَكُمْ -يَرحَمُكُمُ اللهُ- إِلَّا عَنْ خَيْرٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّ ذِكْرَ اللهِ دَوَاءٌ، وَأَنَّ ذِكْرَ النَّاسِ دَاءٌ.
اتَّقُوا اللهَ فِي ثَوَانِيكُمْ, وَدَقَائقِكُمْ, وَسَاعَاتِكُمْ, وَأَيَّامِكُمْ.. فِي شُهُورِكُمْ وَأَعوَامِكُمْ.. فِي عُمُرِكُمْ، امْلَؤُوا تِلْكَ الْأَوْقَاتِ بِالطَّاعَةِ.
اتَّقُوا اللهَ.. اتَّقُوا اللهَ فِي بَلَدِكُمْ، فِي مُجْتَمَعِكُمْ، فِي إِسلَامِكُمْ..
اتَّقُوا اللهَ رَبَّ الْعَالمِينَ فِي ذُرِّيَّاتِكُمْ وَأَهْلِيكُمْ -وَفَّقَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ إِلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ-.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((سُبُلُ مُقَاوَمَةِ الشَّائِعَاتِ شَرْعِيًّا وَاجْتِمَاعِيًّا))
إِنَّ الْإِشَاعَةَ سِلَاحٌ يَسْتَخْدِمُهُ الْعَدُوُّ فِي الدَّاخِلِ وَفِي الْخَارِجِ عَلَى السَّوَاءِ، فَمَا هِيَ مُضَادَّاتُهُ؟ وَكَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ تُدْفَعَ شُرُورُهُ؟
إِنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ تَمِيلُ دَوْمًا إِلَى تَنْظِيمِ الْمَعْلُومَاتِ بِطَرِيقَةٍ تُحَقِّقُ أَكْبَرَ قَدْرٍ مِنَ الْوُضُوحِ وَالِانْتِظَامِ وَالْكَمَالِ، وَعِنْدَمَا يَسْمَعُ الْإِنْسَانُ خَبَرًا غَامِضًا يَمِيلُ فَوْرًا إِلَى تَبْسِيطِهِ لِيَكُونَ وَاضِحًا، وَفِي حَالِ عَدَمِ تَوَفُّرِ مَعْلُومَاتٍ كَافِيَةٍ لِذَلِكَ، يَمِيلُ إِلَى سَدِّ هَذِهِ الثُّغْرَةِ وَتَعْوِيضِ هَذَا النَّقْصِ فِي الْمَعْلُومَاتِ.
وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ تَحْصِيلَ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَادِرِ الْمَوْثُوقَةِ؛ يَسْتَعِينُ بِمَصَادِرَ أُخْرَى مِنْ أَوْسَاطِ النَّاسِ وَالْمُجْتَمَعِ، أَوْ مِنْ وَكَالَاتِ الْأَنْبَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ وَغَيْرِهَا؛ مِنْ وَسَائِلِ الْإِعْلَامِ الْمُتَعَدِّدَةِ، وَهَذِهِ الْأَوْسَاطُ كُلُّهَا قَدْ تَكُونُ بُؤَرًا لِبَثِّ الْأَخْبَارِ الْمُلَفَّقَةِ الْكَاذِبَةِ وَتَرْوِيجِ الْإِشَاعَاتِ، مِمَّا يُؤَدِّي إِلَى نَتِيجَتَيْنِ سَيِّئَتَيْنِ هُمَا:
*الْأُولَى: تَصْدِيقُ الْإِشَاعَةِ أَوِ الْخَبَرِ الْكَاذِبِ أَوَّلًا.
*وَالثَّانِيَةُ: الْمُشَارَكَةُ فِي نَشْرِ ذَلِكَ، وَتَوْسِيعُ دَائِرَةِ انْتِشَارِهِ فِي الْمُجْتَمَعِ.
*الْوَسَائِلُ الْعِلْمِيَّةُ وَالِاجْتِمَاعِيَّةُ لِمُعَالَجَةِ الْإِشَاعَةِ:
انْطِلَاقًا مِنَ الْمَفْهُومِ الْعِلْمِيِّ النِّفْسِيِّ الَّذِي مَرَّ، فَإِنَّ مُقَاوَمَةَ الْإِشَاعَةِ تَعْتَمِدُ بِشَكْلٍ رَئِيسٍ عَلَى:
أَوَّلًا: نَشْرُ الْحَقِيقَةِ أَوْ تَصْحِيحُ الْمَعْلُومَاتِ الْمَغْلُوطَةِ بِأُسْلُوبٍ يَتَّسِمُ بِالسُّهُولَةِ وَالْوُضُوحِ مَا أَمْكَنَ ذَلِكَ، وَالِانْتِظَامُ فِي تَزْوِيدِ النَّاسِ بِالْمَعْلُومَاتِ أَوَّلًا بِأَوَّلٍ، مَعَ تَقْدِيمِ الْمَعْلُومَاتِ الْكَامِلَةِ حَوْلَ الْمَوْضُوعِ الَّذِي يَتَّخِذُهُ الْخَصْمُ مَادَّةً لِإِشَاعَتِهِ بَيْنَ النَّاسِ وَالْجَمَاهِيرِ، وَذَلِكَ بِمَا لَا يَتَعَارَضُ مَعَ مَبْدَأِ السِّرِّيَّةِ وَالْكِتْمَانِ وَالْحِفَاظِ عَلَى الْأَمْنِ الْقَوْمِيِّ.
ثَانِيًا: تَحْلِيلُ الْإِشَاعَةِ وَدِرَاسَتُهَا، ثُمَّ السَّعْيُ لِكَسْرِ حَلْقَةِ نَشْرِهَا، مَعَ كَشْفِ مُحَاوَلَاتِ التَّخْذِيلِ فِيهَا، وَتَتَبُّعِ سَيْرِهَا؛ لِلْوُصُولِ إِلَى مُرَوِّجِيهَا، وَكَشْفِ حَقِيقَتِهِمْ وَحَقِيقَةِ مُطْلِقِيهَا الْأَصْلِيِّينَ.
ثَالِثًا: التَّمَاسُكُ عَلَى الصَّعِيدِ الِاجْتِمَاعِيِّ، وَمَا يَنْتُجُ عَنْهُ مِنْ وَعْيٍ وَإِدْرَاكٍ، وَتَرَابُطٍ وَثِقَةٍ مُتَبَادَلَةٍ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْمُجْتَمَعِ، مِمَّا يُؤَدِّي لِرَدِّ كُلِّ إِشَاعَةٍ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ؛ لِوَضْعِ الْحَلِّ الْمُنَاسِبِ لَهَا.
*السُّبُلُ الْقُرْآنِيَّةُ لِعِلَاجِ الْإِشَاعَاتِ:
الَّذِي يَنْبَغِي عَلَى الْمُسْلِمِ عِنْدَ سَمَاعِهِ مِثْلَ هَذِهِ الْإِشَاعَاتِ وَالْأَخْبَارِ:
*أَنْ يُقَدِّمَ حُسْنَ الظَّنِّ بِأَخِيِه الْمُسْلِمِ، وَهُوَ طَلَبُ الدَّلِيلِ الْبَاطِنيِّ الْوُجْدَانِيِّ، وَأَنْ يُنْزِلَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ بِمَنْزِلَتِهِ، وَهَذِهِ هِيَ وِحْدَةُ الصَّفِّ الدَّاخِلِيِّ: {لَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12].
*وَأنْ يَطْلُبَ الدَّلِيلَ الْخَارِجِيَّ الْبُرْهَانيَّ: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13].
*وَأَلَّا يَتَحَدَّثَ بِمَا سَمِعَهُ وَلَا يَنْشُرَهُ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّائِعَاتِ لَمَاتَتْ فِي مَهْدِهَا، وَلَمْ تَجِدْ مَنْ يُحْيِيهَا إِلَّا مِنَ الْمُنَافِقِينَ: {ولَوْلا إذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور: 16].
*وَأَنْ يُرَدَّ الْأَمْرُ إِلَى أُولِي الْأَمْرِ، وَلَا يُشِيعُ النَّاسُ بَيْنَ النَّاسِ الشَّائِعَاتِ، فَهَذِهِ قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ فِي كُلِّ الْأَخْبَارِ الْمُهِمَّةِ، وَالَّتِي لَهَا أَثَرُهَا الْوَاقِعِيُّ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وإذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلًا} [النساء: 83].
فَأَنْكَرَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ خَوْضَهُمْ فِي الْأُمُورِ الْعَامَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْنِ وَالْخَوْفِ، وَإِذَاعَتَهُمْ لِأَخْبَارِهَا قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنُوا حَقِيقَتَهَا، وَيَتَأَمَّلُوا فِي آثَارِهَا وَعَوَاقِبِهَا، ثُمَّ حَثَّهُمْ عَلَى رَدِّ الْأَمْرِ إِلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، فَهُمْ بِحَسَبِ فِقْهِهِمْ بِالشَّرْعِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِالْوَاقِعِ أَقْدَرُ عَلَى إِدْرَاكِ الْحَقَائِقِ، وَالنَّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَمَآلَاتِهَا، وَمَا يَنْبَغِي نَشْرُهُ وَإِعْلَانُهُ، وَمَا يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَنْهُ وَكِتْمَانُهُ.
فَتَأَمَّلْ كَيْفَ تَعَامَلَ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ مَعَ الْإِشَاعَاتِ:
*تَعَامَلَ الْقُرْآنُ مَعَ الْإِشَاعَاتِ بِالرَّدِّ الْحَاسِمِ السَّرِيعِ الَّذِي يُبَيِّنُ الْحَقِيقَةَ بِكُلِّ وُضُوحٍ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38].
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [هود: 13].
*تَعَامَلَ الْقُرْآنُ مَعَ الْإِشَاعَةِ بِتَنْمِيَةِ إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَقْوِيَةِ رَوَابِطِهِمْ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَبِوَضْعِ حَدٍّ فَاصِلٍ وَاضِحٍ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175].
*وَبِالتَّحْذِيرِ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ وَالْأَعْدَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100].
*وَبِالتَّحْذِيرِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَشْبَاهِهِمْ، الَّذِينَ يَسْعَوْنَ دَوْمًا لِبَثِّ الْإِشَاعَاتِ الَّتِي تُفَتِّتُ الصُّفُوفَ، وَتُفَرِّقُ الْمُؤْمِنِينَ، وَتُبْعِدُهُمْ عَنْ هَدَفِهِمْ، وَتَفُتُّ فِي أَعْضَادِهِمْ وَعَزَائِمِهِمْ: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لأنفال: 49].
{لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 47].
*وَبِالتَّحْذِيرِ مِنْ تَرْدِيدِ الْإِشَاعَاتِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ أَوْ وَعْيٍ وَإِحَاطَةٍ بِأَبْعَادِهَا وَأَهْدَافِهَا: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 15-17].
*سُبُلٌ نَبَوِيَّةٌ لِمُقَاوَمَةِ الْإِشَاعَةِ:
كَيْفَ تَعَامَلَ الرَّسُولُ ﷺ مَعَ الْإِشَاعَةِ؟
تَعَامَلَ الرَّسُولُ ﷺ مَعَ الْإِشَاعَةِ بِبَثِّ الثِّقَةِ وَالْأَمَلِ وَالتَّفَاؤُلِ بِنَصْرِ اللهِ وَتَأْيِيدِهِ وَتَسْدِيدِهِ مَهْمَا كَانَتِ الْأَحْوَالُ، كَمَا فَعَلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ رَدًّا عَلَى الشَّائِعَاتِ الْمُرْجِفَةِ الَّتِي كَانَ يُطْلِقُهَا الْمُنَافِقُونَ: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12].
فَقَدْ كَانَ رَدُّ رَسُولِ اللهِ ﷺ عَلَى الْمُرْجِفِينَ بِمُخَاطَبَةِ أَصْحَابِهِ (ض3): «أبشِرُوا بفَتْحِ اللهِ ونَصْرِهِ».
وَعَامَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْإِشَاعَةَ بِاسْتِنْفَارِ الطَّاقَاتِ، وَتَجْمِيعِ الْقُوَى وَالْإِمْكَانَاتِ حَوْلَ هَدَفٍ وَاحِدٍ مُحَدَّدٍ، مَعَ السُّرْعَةِ فِي اتِّخَاذِ الْإِجْرَاءَاتِ بَعْدَ أَيِّ إِشَاعَةٍ، وَقَبْلَ أَنْ تَفْعَلَ فِعْلَهَا الْمُدَمِّرَ فِي الصَّفِّ الْمُسْلِمِ.
فَكَانَ ﷺ يُوَجِّهُ حَالَاتِ الِاسْتِفْزَازِ وَالِاحْتِقَانِ نَحْوَ الْإِيجَابِيَّةِ وَالِاسْتِثْمَارِ الْأَمْثَلِ، قَبْلَ أَنْ تَتَوَجَّهَ بِشَكْلٍ ارْتِجَالِيٍّ عَشْوَائِيٍّ نَحْوَ أَهْدَافٍ أُخْرَى غَيْرِ مَحْسُوبَةِ النَّتَائِجِ؛ كَمَا حَصَلَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَّةِ بَعْدَ أَنْ سَرَتْ إِشَاعَةٌ تُفِيدُ بِأَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ بِمَكَّةَ -قَتَلَتْهُ قُرَيْشٌ-.
فَدَعَا رَسُولُ اللهِ ﷺ إِلَى بَيْعَةِ الرُّضْوَانِ الَّتِي كَانَتْ بَيْعَةً عَلَى الْمَوْتِ، فَوَجَّهَ بِذَلِكَ الطَّاقَاتِ، وَرَفَعَ مِنَ الرُّوحِ الْمَعْنَوِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَاسْتَثْمَرَهَا بِشَكْلٍ مُنَظَّمٍ وَهَادِفٍ.
وَعَامَلَ الشَّائِعَاتِ بِإشْغْالِ النَّاسِ بِأَمْرٍ مُفِيدٍ رَيْثَمَا تَتَهَيَّأُ الْأَحْوَالُ لِوَضْعِ الْحُلُولِ الْمُنَاسَبَةِ لِبَعْضِ الْإِشَاعَاتِ الَّتِي قَدْ تَشْغَلُ الْمُجْتَمَعَ، وَتُحَاوِلُ تَفْتِيتَهُ، كَمَا حَصَلَ بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ عِنْدَمَا أَطْلَقَ زَعِيمُ الْمُنَافِقِينَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبِيِّ بْنِ سَلُولٍ إِشَاعَتَهُ وَفِرْيَتَهُ الَّتِي بَدَأَتْ تَسْرِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إِذْ قَالَ: {لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 8].
فَمَشَى رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالنَّاسِ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى أَمْسَى وَلَيْلَتَهُمْ حَتَّى أَصْبَحَ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ ﷺ؛ لِيَشْغَلَ النَّاسَ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي كَانَ بِالْأَمْسِ -مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبِيِّ-.
تُعَامَلُ الشَّائِعَاتُ بِمَنْعِ إِطْلَاقِهَا أَوِ الْمُشَارَكَةِ فِي نَشْرِهَا حَتَّى لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً؛ دَرْءًا لِخَلْخَلَةِ الْمُجْتَمَعِ وَالصَّفِّ الْمُسْلِمِ أَوِ التَّأْثِيرِ عَلَى الرُّوحِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَمَا حَصَلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ بَعْدَ أَنْ بَلَغَ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ ﷺ.
فَقَالَ -وَائِدًا لِتِلْكَ الشَّائِعَةِ فِي مَهْدِهَا-: «لَا تَفُتُّوا فِي أَعْضَاضِ النَّاسِ»؛ يَعْنِي: لَا تَتَكَلَّمُوا فِي هَذَا.
*وَتُعَامَلُ الشَّائِعَاتُ بِالصَّمْتِ، وَعَدَمِ الْخَوْضِ فِيهَا: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ».
فَالْإِنْسَانُ لَا يَخْسَرُ بِالسُّكُوتِ شَيْئًا، كَمَا يَخْسَرُ حِينَ يَخُوضُ فِيمَا لَا يُحْسِنُهُ أَوْ يَتَدَخَّلُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ.
وَفِي «الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ»: عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «لَا تَكُونُوا عُجُلًا مَذَايِيعَ بُذْرًا، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ بَلَاءً مُبَرِّحًا مُبْلِحًا وَأُمُورًا مُتَمَاحِلَةً رُدُحًا». وَهُوَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ.
((لَا تَكُونُوا عُجُلًا)): جَمْعُ عَجُولٍ، لَا تَكُنْ عَجُولًا، كُنْ حَلِيمًا ذَا أَنَاةٍ، كُنْ وَرِعًا مُتَثَبِّتًا، وَالْعَجَلَةُ دَاءٌ عَظِيمٌ، وَالْمُؤْمِنُ ذُو تَثَبُّتٍ وَأَنَاةٍ.
((لَا تَكُونُوا عُجُلًا مَذَايِيعَ)): مَذَايِيعَ: جَمْعُ مِذْيَاعٍ، وَهُوَ الْمُبَالِغُ فِي نَشْرِ الْأَخْبَارِ، وَهُمُ الَّذِينَ يُشِيعُونَ الْفَاحِشَةَ، وَمَذَايِيعُ: بِنَاءُ مُبَالَغَةٍ، كُلَّمَا سَمِعَ كَلَامًا رَدَّدَهُ وَبَثَّهُ وَأَذَاعَهُ.
((بُذْرًا)): جَمْعُ بَذُورٍ، الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَكْتُمَ سِرَّهُ، يَعْنِي الْمُفْشِينَ لِلْأَسْرَارِ، يُقَالُ: بَذَرْتُ الْكَلَامَ بَيْنَ النَّاسِ، أَيْ: أَفْشَيْتَهُ وَفَرَّقْتَهُ0
((مُبرِّحًا)): مِنَ الْبَرَحِ، وَهُوَ الشِّدَّةُ وَالشَّرُّ، وَالْعَذَابُ الشَّدِيدُ، وَالْمَشَقَّةُ.
((بَلَاءً مُبَرِّحًا)): أَيْ شَدِيدًا بَاقِيًا
((مُبلِحًا)): مِنْ بَلَحَ الرَّجُلُ بُلُوحًا إِذَا أَعْيَاهُ، وَفِي رِوَايَةٍ: ((مُكْلِحًا)): أَيْ يَكْلَحُ النَّاسَ؛ لِشِدَّتِهِ، وَالْكُلُوحُ: الْعُبُوسُ.
((وَأُمُورًا مُتَمَاحِلَةً)): أَيْ فِتَنًا طَوِيلَةَ الْمَدَى، وَالْمُتَمَاحِلُ مِنَ الرِّجَالِ: الطَّوِيلُ
((رُدُحًا)): جَمْعُ رَدَاحٍ، وَهُوَ الْجَمَلُ الْمُثْقَلُ حِمْلًا، يُرِيدُ الْفِتَنَ الثَّقِيلَةَ الْعَظِيمَةَ.
أَيْ: لَا تَسْتَعْجِلُوا فِي إِذَاعَةِ الْأَشْيَاءِ وَالْأَخْبَارِ وَالْفَوَاحِشِ، وَلَا تُفْشُوا الْأَسْرَارَ، فَهُنَاكَ بَلَاءٌ شَدِيدٌ شَاقٌّ يَنْتَظِرُكُمْ، وَفِتَنٌ ثَقِيلَةٌ تَتَرَقَّبُكُمْ، فَلَا تُسْهِمُوا فِي صُنْعِ الْفِتَنِ وَالرَّزَايَا.
فَحَذَارِ أَنْ تَكُونُوا عَيَّابِينَ بِإشَاعَةِ وَإِفْشَاءِ الْأَسْرَارِ؛ لِأَنَّهُ يَصْعُبُ الرُّجُوعُ عَنْهَا، وَلَا تَزْدَادُ الْفِتَنُ بِهَا إِلَّا تَوَقُّدًا وَشِدَّةً.
وَفِي الْأَثَرِ: النَّهْيُ عَنْ إِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ، وَإِفْشَاءِ أَسْرَارِ النَّاسِ، فَإِذَا ذَكَرْتَ عُيُوبَ النَّاسِ وَأَشَعْتَ الْفَاحِشَةَ، وَكُنْتَ عَجُولًا لَا تَتَثَبَّتْ، فَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ وَرَائِكَ بَلَاءً مُبَرِّحًا مُبْلِحًا، وَأُمُورًا مُتَمَاحِلَةً رُدُحًا، وَسَتَأْتِي فِتَنٌ عَظِيمَةٌ ثَقِيلَةٌ -نَسْأَلُ اللهَ الْعَافِيَةَ-.
وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ الْإِنْسَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَثَبَّتَ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ مَا يُقَالُ فِي زَمَانِ الْفِتَنِ لَا أَصْلَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الْمُخْتَلَقَاتِ مِنَ التُّرَّهَاتِ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ مُتَوَقِّيًا، فَلَا يُصَدِّقُ كُلَّ مَا يَسْمَعُ، فَمَا أَكْثَرَ الْكَذِبِ فِي النَّاسِ.
وَمَا أَحْرَى الْمُسْلِمِينَ فِي أَيَّامِ الْفِتَنِ بِالْتِزَامِ هَذَا النَّهْجِ الشَّرِيفِ، الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مِشْكَاةِ النُّبُوَّةِ مُقْتَبِسٌ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَتَثَبَّتَ، وَلَا يَقُولَ وَلَا يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا يَسْمَعُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ».
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «مُقَدِّمَةِ الصَّحِيحِ»، وَأَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ».
«وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُشِيعُونَ كُلَّ مَا يَسْمَعُونَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَيَدُورُونَ بِهِ عَلَى الْمُجْتَمَعَاتِ وَالنَّوَادِي، بَلْ إِنَّهُ لَيْسَ شَرْطًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَاطِلِ قَدْ غُنُوا عَنْ بَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي ذَلِكَ فِي هَذَا الْعَصْرِ؛ لِمَا سَبَقَتِ الشِّقْوَةُ عَلَيْهُمْ.
فَإِنَّ الْوَاحِدَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِي خَلْوَتِهِ مُخَاطِبًا الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَيَنْشُرُ الْأَكَاذِيبَ، وَيُشِيعُ الْفَاحِشَةَ فِي الدُّنْيَا بِأَرْجَائِهَا عَنْ طَرِيقِ الْوَسَائِلِ الْحَدِيثَةِ فِي الْمَعْلُومَاتِ وَالِاتِّصَالَاتِ» .
*سُبُلُ مُعَالَجَةِ الصَّحَابَةِ (ض3) وَالصَّالِحِينَ لِلْإِشَاعَةِ:
الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْأَصْحَابِ وَالْأَخْيَارِ مِنْ بَعْدِهِمْ؛ فَإِنَّهُمْ تَعَامَلُوا مَعَ الْإِشَاعَةِ بِالْإِيمَانِ الْقَوِيِّ الَّذِي لَا يُمْكِنُ زَعْزَعَتُهُ، وَبِأَنَّ الْعَلَاقَةَ مَعَ اللهِ تَفُوقُ كُلَّ عَلَاقَةٍ، وَأَنَّ التَّوَكُّلَ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ هُوَ الْأَصْلُ وَالْأَسَاسُ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173].
{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
وَعَامَلَ الصَّحَابَةُ وَالْأَخْيَارُ مِنْ بَعْدِهِمُ الشَّائِعَاتِ بِالتَّمَاسُكِ وَالتَّلَاحُمِ، وَالثِّقَةِ غَيْرِ الْمَحْدُودَةِ بِإِسْلَامِهِمْ، وَبِإِخْوَانِهِمْ، وَبِقَادَتِهِمْ، وَرُؤَسَائِهِمْ، وَبِالْوَعْيِ التَّامِّ لِلْمُخَطَّطَاتِ -مُخَطَّطَاتِ الْعَدُوِّ وَالْمُرْجِفِينَ-، وَبِمُحَاكَمَةِ الْإِشَاعَاتِ بِمَوْضُوعِيَّةٍ وَعِلْمِيَّةٍ وَمَنْطَقٍ سَلِيمٍ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي ((السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ)) بَعْدَ خَبَرِ الْإِفْكِ أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أُمُّ أَيُّوبَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((يَا أَبَا أَيُّوبَ؛ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا يَقُولُ النَّاسُ فِي عَائِشَةَ؟))
قَالَ: ((بَلَى، وَذَلِكَ الْكَذِبُ، أَكُنْتِ أَنْتِ يَا أُمَّ أَيُّوبَ فَاعِلَةً؟))
قَالَتْ: ((لَا، وَاللهِ، مَا كُنْتُ لِأَفْعَلَ)).
قَالَ: ((فَعَائِشَةُ، وَاللهِ خَيْرٌ مِنْكِ)) .
انْظُرْ كَيْفَ فَنَّدَ هَذِهِ الْفِرْيَةَ بِهَذَا الْمَنْطِقِ السَّدِيدِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
فَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَثَبَّتَ مِنَ الْأَخْبَارِ الشَّائِعَةِ، وَأَلَّا يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ, وَأَنْ يَرُدَّهَا إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَلِهَذَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((كَيْفَ بِكُمْ بِزَمَانٍ يُغَرْبَلُ النَّاسُ فِيهِ غَرْبَلَةً، وَتَبْقَى حُثَالَةٌ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ، -أَيْ: اختَلَطَتْ وَفَسَدَتْ- وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ، فَاخْتَلَفُوا وَكَانُوا هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ)).
قَالُوا: كَيْفَ بِنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ، وَتَدَعُونَ مَا تُنْكِرُونَ)) . أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
فَالْأَخْبَارُ الَّتِي تُنْقَلُ عَبْرَ كَثِيرٍ مِنَ الصُّحُفِ وَالْمَجَلَّاتِ, وَوَسَائلِ الْإِعْلَامِ, وَوَسَائلِ الِاتِّصَالِ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَصَادِرَ لَيْسَتْ مَحَلَّ ثِقَةٍ، وَأَيْضًا غَالِبُ الْكُتَّابِ عِنْدَهُمْ أَفْكَارٌ دَخِيلَةٌ وَاتِّجَاهَاتٌ مُنْحَرِفَةٌ إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
فَالْأَخْطَاءُ الَّتِي يَتَحَدَّثُ بِهَا الثِّقَاتُ عَنْ فُلَانٍ الْمَعْرُوفِ؛ تُقْبَلُ مِنْهُمْ مَا لَمْ تُعَارَضْ بِأَقْوَى مِنْهَا، وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَثْبُتْ ثِقَتُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَمحِيصِ خَبَرِهِ، وَالتَّحَرِّي فِيهِ بِمَا يُؤدِّي إِلَى قَبُولِ خَبَرِهِ أَوْ رَدِّهِ.
وَهَذِهِ الضَّوَابِطُ تَقصِمُ ظُهُورَ الْمُرَوِّجِينَ لِلْفِتَنِ، الْمُذِيعِينَ لِلشَّائِعَاتِ، السَّاعِينَ فِي الْفُرْقَةِ، فَتَسُدُّ عَلَيْهِمُ الطُّرُقَ, وَتُغْلِقُ دُونَهُمُ الْأَبْوَابَ, وَتُفَوِّتُ عَلَيْهِمُ الْفُرَصَ الَّتِي يَنْتَظِرونَهَا, وَالِالْتِزَامُ بِتِلْكَ الضَّوَابِطِ شَاقٌّ جِدًّا إِلَّا عَلَى مَنْ وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى وَثَبَّتَهُ.
والشَّائِعَاتُ إِذَا حُوصِرَتْ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ؛ فَإنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ تُتَفَادَى آثَارُهَا السَّيِّئَةُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَيْهَا, وَلِكِنْ لَيْسَ الْإِشْكَالُ فِي هَذَا, بَلِ الْإِشْكَالُ أَنَّ هُنَاكَ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَقْبَلُونَ أَنْ يَسْتَمِعُوا لِمِثْلِ هَذِهِ الشَّائِعَاتِ.
هَذَا فَضْلًا عَنْ فَرِيقٍ مِنْ أَصْحَابِ الْقُلُوبِ الْمَرِيضَةِ الَّتِي تُحِبُّ الْبَحْثَ وَنَشْرَ مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ, وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَولِهِ: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47]؛ أَيْ: لِلْمُنَافِقِينَ الْمُغْرِضِينَ, هَذَا هُوَ الدَّاءُ الْكَبِيرُ, وَهُوَ أَنْ يَرْضَى فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ الِاسْتِمَاعَ إِلَى مِثْلِ تِلْكَ الشَّائِعَاتِ, وَإِلَى كَلَامِ الْمُنافِقِينَ وَالْمُغْرِضِينَ.
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ لَوْ خَرَجُوا فِي جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ مَا زَادُوهُمْ إِلَّا خَبَالًا، وَلَكَانُوا يَسْعَوْنَ بَيْنَهُمْ مُسْرِعِينَ، يَطْلُبُونَ لَهُمُ الْفِتْنَةَ، وَفِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُمْ، وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ، إِمَّا لِظَنٍّ مُخْطِئٍ، أَوْ لِنَوْعٍ مِنَ الْهَوَى أَوْ لِمَجْمُوعِهِمَا)).
لِذَلكَ فَعَدَمُ سَمَاعِ مَا يَقولُهُ الْكَذَّابُونَ وَالْمُنَافِقُونَ, وَالْمُغتَابُونَ وَالْمُفتَرُونَ, وَأَصْحَابُ الْقُلُوبِ الْمَريضَةِ، وَعَدَمُ الرِّضَا بِذَلِكَ؛ هُوَ مَنْهَجُ السَّلَفِ -رِضْوَانُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ-.
وَالْفِتْنَةُ إِذَا وَقَعَتْ عَجَزَ الْعُقَلَاءُ فِيهَا عَنْ دَفْعِ السُّفَهَاءِ، فَصَارَ الْأَكَابِرُ عَاجِزِينَ عَنْ إِطْفَاءِ الْفِتْنَةِ، وَكَفِّ أَهْلِهَا، وَهَذَا شَأْنُ الْفِتَنِ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {واتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25]، وَإِذَا وَقَعَتِ الْفِتْنَةُ لَمْ يَسْلَمْ مِنَ التَّلَوُّثِ بِهَا إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- )) .
((حُكْمُ الشَّائِعَاتِ فِي الْإِسْلَامِ))
إِنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ حَرَّمَ إِشَاعَةَ أَسْرَارِ الْمُسْلِمِينَ وَأُمُورِهِمُ الدَّاخِلِيَّةِ مِمَّا يَمَسُّ أَمْنَهُمْ وَاسْتِقَرَارَهُمْ؛ حَتَّى لَا يَعْلَمَ الْأَعْدَاءُ مَوَاضِعَ الضَّعْفِ فِيهِمْ، فَيَسْتَغِلُّوهَا, أَوْ قُوَّتَهُمْ فَيَتَحَصَّنُوا مِنْهُمْ.
الْإِسْلَامُ يُحَرِّمُ إِشَاعَةَ مَا يَمَسُّ أَعْرَاضَ النَّاسِ وَأَسْرَارَهُمُ الْخَاصَّةُ.
قَالَ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 19].
هَذَا هُوَ الْحُكْمُ الْأُخْرَوِيُّ.
وَبالنِّسْبَةِ لِلْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الشَّائِعَةِ الْكَاذِبَةِ؛ فَهُوَ حَدُّ الْقَذْفِ إِنْ تَوَفَّرَتْ شُرُوطُهُ، وَإلَّا فَالتَّعْذِيرُ.
قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} [النور:4 ].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِينًا} [الأحزاب: 58].
وَمُطلِقُوا الشَّائِعَاتِ سَمَّاهُمُ الْقُرْآنُ مُرْجِفِينَ, وَالْإِرْجَافُ فِي اللُّغَةِ: الِاضْطِرَابُ الشَّدِيدُ، وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْخَوْضِ فِي الْأَخْبَارِ السَّيِّئَةِ وَذِكْرِ الْفِتَنِ؛ لِأَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْهُ اضْطِرَابٌ بَيْنَ النَّاسِ.
وَالْإِرْجَافُ حَرَامٌ، وَتَرْكُهُ وَاجِبٌ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ، وَفَاعِلُهُ يَسْتَحِقُّ التَّعزِيرُ.
{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَاَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّك بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَك فِيهَا إلا قَلِيلًا مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60-61].
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: «{لَنُغْرِيَنَّك بِهِمْ}: لَنُسَلِّطَنَّكَ عَلَيْهِمْ؛ فَلَتَسْتَأصِلَنَّهُمْ بِالْقَتْلِ».
وَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ ﷺ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْمُنَافِقِينَ يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ؛ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُحَرِّقُوا عَلَيْهِمُ الْبَيْتَ، فَفَعَلَ طَلْحَةُ ذَلِكَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- .
((جُمْلَةٌ مِنْ صِفَاتِ مُرَوِّجِي الشَّائِعَاتِ))
إِنَّ مُرَوِّجَ الشَّائِعَةِ عُضْوٌ فَاسِدٌ، يَسْرِي فَسَادُهُ فِي الْمُجْتَمَعِ سَرَيَانَ النَّارِ فِي الْهَشِيمِ، يَتَلوَّنُ كَالْحِرْبَاءِ، وَيَنْفُثُ سُمُومَهُ كَالْحَيَّةِ الرَّقْطَاءِ، دَيْدَنُهُ الْإِفْسَادُ وَالْهَمْزُ، وَسُلُوكُهُ الشَّرُّ وَاللَّمْزُ، وَعَادَتُهُ الْخُبْثُ وَالْغَمْزُ.
مُرَوِّجُ الشَّائِعَةِ لَئِيمُ الطَّبْعِ، دَنِيءُ الْهِمَّةِ، مَرِيضُ النَّفْسِ، مُنْحَرِفُ التَّفْكِيرِ، صَفِيقُ الْوَجْهِ، عَدِيمُ الْمُرُوءَةِ، ضَعِيفُ الدِّيَانَةِ، يَتَقَاطَرُ خِسَّةً وَدَنَاءَةً، قَدْ تَرَسَّبَ الْغِلُّ فِي أَحْشَائِهِ، فَلَا يَسْتَرِيحُ حَتَّى يُرْغِيَ وَيُزْبِدَ، وَيُفْسِدَ وَيُؤْذِيَ، فَتَّانٌ فَتَّاكٌ، سَاعٍ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ لِلْبِلَادِ وَالْعِبَادِ.
الشَّائِعَاتُ جَرِيمَةٌ ضِدُّ أَمْنِ الْمُجْتَمَعِ، وَصَاحِبُهَا مُجْرِمٌ فِي حَقِّ دِينِهِ وَمُجْتَمَعِهِ وَأُمَّتِهِ، مُثِيرٌ لِلْاضْطِرَابِ وَالْفَوْضَى فِي الْأُمَّةِ، وَقَدْ يَكُونُ شَرًّا مِنْ مُرَوِّجِ الْمُخْدِّرَاتِ، كِلَاهُمَا -أَعْنِي: مُرَوِّجَ الشَّائِعَاتِ وَمُرَوِّجَ الْمُخَدِّرَاتِ- يَسْتَهْدِفُ الْإِنْسَانَ، لَكِنَّ الِاسْتِهْدَافَ الْمَعْنَوِيَّ بِالشَّائِعَاتِ أَخْطَرُ وَأَعْتَى.
وَإِنَّكَ لَتَأْسَفُ أَشَدَّ الْأَسَفِ مِمَّنْ يَتَلَقَّى الشَّائِعَاتِ الْمُغْرِضَةَ عَلَى أَنَّهَا حَقَائِقُ مُسَلَّمَةٌ؛ فَيُلَطِّخُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ مِنَ الشَّائِعَاتِ الْبَاطِلَةِ.
لَقَدْ عَدَّ الْإِسْلَامُ ذَلِكَ سُلُوكًا مَرْذُولًا، مُنَافِيًا لِلْأَخْلَاقِ النَّبِيلَةِ, وَالسَّجَايَا الْكَرِيمَةِ, وَالْمُثُلِ الْعُلْيَا الَّتِي جَاءَ بِهَا وَالَّتِي حَثَّ عَلَيْهَا مِنْ الِاجْتِمَاعِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ وَالْإِخَاءِ، وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّراحُمِ وَالتَّعَاطُفِ وَالصَّفَاءِ، وَهَلِ الشَّائِعَةُ إِلَّا نَسْفٌ لِتِلْكَ الْقِيَمِ وَمِعْوَلُ هَدْمٍ لِهَذِهِ الْمُثُلِ؟!!
مَا اسْتُبِيحَ دَمُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ إِلَّا بِالشَّائِعَاتِ, الَّتِي حَمَلَتِ الْكَذِبَ وَالِافْتِرَاءَ وَالطَّعْنَ عَلَيْهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-, إِلَى أَمْثَالٍ كَثِيرَةٍ تُضَمُّ إِلَى هَذَا الْمَثَل.
((تَحْذِيرُ الْإِسْلَامِ مِنْ وَسَائِلِ الشَّائِعَاتِ كَالْغِيبَةِ وَالْكَذِبِ))
لَقَدْ حَذَّرَ الْإِسْلَامُ مِنَ الْغِيبَةِ وَالْوَقِيعَةِ فِي الْأَعْرَاضِ، وَمِنَ الْكَذِبِ وَالْبُهتَانِ وَالنَّمِيمَةِ، وَهَلِ الشَّائِعَةُ إِلَّا كَذَلِكَ؟!!
وَأَمَرَ الْإِسْلَامُ بِحِفْظِ اللِّسَانِ، وَأَظْهَرَ خُطُورَةَ الْكَلِمَةِ، وَحَرَّمَ الْقَذْفَ وَالْإِفْكَ، وَتَوَعَّدَ مُحِبِّي رَوَاجِ الشَّائِعَاتِ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ، {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور: 19].
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُقَدِّمَ حُسْنَ الظَّنِّ بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ, {لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُواْ هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} [النور: 12].
وَالشَّائِعَاتُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى سُوءِ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12 ].
وَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي «صَحِيحَيْهِمَا» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَرْفَعُهُ: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا».
لَقَدْ حَثَّ الْإِسْلَامُ عَلَى التَّثَبُّتِ وَالتَّبَيُّنِ فِي نَقْلِ الْأَخْبَارِ، وَأَنْ يَطْلُبَ الْمُسْلِمُ الدَّلِيلَ الْبُرهَانِيَّ عَلَى أَيِّ خَبَرٍ يَسمَعُهُ, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
وَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ الْإِنْسَانَ مَسْئُولٌ أَمَامَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-, وَمُحَاسَبٌ عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ وَجَلِيلٍ: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].
نَهَى الْإِسْلَامُ أَتْبَاعَهُ أَنْ يُطْلِقُوا الْكَلَامَ عَلَى عَوَاهِنِهِ، وَيُلْغُوا عُقُولَهُمْ عِنْدَ كُلِّ كَلَامٍ وَشَائِعَةٍ، وَيُجَانِبُوا تَفْكِيرَهُمْ عِنْدَ كُلِّ ذَائِعَةٍ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَنْسَاقُوا وَرَاءَ كُلِّ نَاعِقٍ، نَهَاهُمْ أَنْ يُصَدِّقُوا كُلَّ دَاعٍ مَارِقٍ.
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي عَوَاقِبِ الْإِشَاعَةِ, وَأَنْ يَعُودَ مَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّةً وَمَرَّاتٍ إِلَى آيَةِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6].
كُلُّ خَبَر يَنْشُرُهُ الْإِنْسَانُ مِمَّا يُثِيرُ الْفِتْنَةَ أَوِ الْغَوْغَاءَ, أَوْ يُثِيرُ التَّسَخُّطَ, أَوْ يُسَبِّبُ شَتْمًا أَوْ أَذِيَّةً لِأَيِّ إِنسَانٍ بَغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ, أَوْ يُنَبِّهُ بَعْضَ النَّاسِ عَلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الشَّرِّ كَانُوا عَنْهُ غَافِلِينَ, لَا يَجُوزُ نَشْرُهُ، وَنَاشِرُهُ آثِمٌ, يَحْمِلُ إِثْمَ كُلِّ مَا تَسَبَّبَ بِهِ خَبَرُهُ.
وَاللهُ تَعَالَى ذَمَّ كُلَّ نَاشِرٍ لِلْأَخْبَارِ الَّتِي تُزَعْزِعُ أَمْنَ النَّاسِ, وَتُثِيرُ الْخَوْفَ وَتَدْعُو إِلَى الْفَوْضَى فِي الْمُجْتَمَعِ؛ لِأَنَّ السُّوقَةَ وَعَامَّةَ النَّاسِ لَا يَصْلُحُونَ لِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ, وَلَا لِأُمُورِ السِّيَاسَةِ, وَلَيْسَ لِعَامَّةِ النَّاسِ أَنْ يَلُوكُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِسِيَاسَةِ وُلَاةِ الْأُمُورِ.
السِّيَاسَةُ لَهَا نَاسُهَا, وَلَوْ أَنَّ السِّيَاسَةَ صَارَتْ تُلَاكُ بَيْنَ أَلْسُنِ عَامَّةِ النَّاسِ لَفَسَدَتِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ عَقْلٌ.
الْعَامَّةُ لَيْسُوا كَأُولِي الْأَمْرِ, وَأُولِي الرَّأْيِ وَالْمَشُورَةِ, فَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي السِّيَاسَةِ مِنَ الْمَجَالَاتِ الْعَامَّةِ الَّتِي يَتَكَلَّمُ فِيهَا أَفرَادُ الْمُجْتَمَعِ جَمِيعًا!!
مَنْ أَرَادَ أَنْ تَكُونَ الْعَامَّةُ مُشَارِكَةً لِوُلَاةِ الْأُمُور فِي سِياسَاتِهَا وَفِي رَأْيِهَا وَفِكْرِهَا؛ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا, وَخَرَجَ عَن هَدْيِ الصَّحَابَةِ (ض3).
هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مُذِيعًا, كُلَّمَا سَمِعَ عَنْ خَبَرٍ مِنْ خَوْفٍ أَوْ أَمْنٍ أَذَاعَهُ, بَلْ قَد يَكُونُ مِنَ الْخَيْرِ أَنْ يَكْتُمَ هَذَا الْخَبَرَ الَّذِي حَصَلَ.
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَنَا بِحِفْظِ مَنْطِقِنَا وَبحِفْظِ أَلْسِنَتِنَا؛ لِأَنَّ إِذَاعَةَ الْأَخْبَارِ وَالشَّائِعَاتِ بَيْنَ صُفُوفِ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَعْنِيهِمُ الْخَبَرُ أَوَّلًا, ثُمَّ يُشَارِكُونَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْخُبَرَاءِ كَمَا هُوَ وَاضِحٌ فِي الْمُجْتَمَعِ الْمِصْرِيِّ!!
عِنْدَنَا تِسْعُونَ مِلْيُونًا مِنَ الْمُحَلِّلِينَ الِاسْتِرَاتِيجِيِّينَ, وَالسِّيَاسِيِّينَ, وَالْعَسْكَرِيِّينَ, وَالِاقْتِصَادِيِّينَ, وَالْأَمْنِيِّينَ, وَالِاجْتِمَاعِيِّينَ، كُلُّ مِصْرِيٍّ صَارَ مُحَلِّلًا -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ-!!
أَمْسِكْ لِسَانَكَ..
اتَّقِ اللهَ رَبَّكَ, خَفْ عَلَى بَلَدِكَ..
أَمْسِكُوا أَلْسِنَتَكُمْ يَرْحَمُكُمُ اللهُ..
أَقْبِلُوا عَلَى شَأْنِكُمْ..
ابْذُلُوا الْمَجْهُودَ؛ لِرِفْعَةِ وَطَنِكُمْ، وَالْحِفَاظِ عَلَيْهِ, إِنَّهُ يُغَرَّبُ!!
وَطَنُكُمْ يُغَرَّبُ!! يُقْصَدُ مَحْوُ هُوِيَّتِهِ الْإِسْلَامِيَّةِ, مَحْوُهَا تَمَامًا؛ لِكَيْ يَكُونَ مُجْتَمَعًا جَدِيدًا عَلَى نِظَامٍ جَدِيدٍ، يَتْبَعُ لِلنِّظَامِ الْعَالَمِيِّ الْجَدِيدِ!! أَلَا تَنْتَبِهُونَ؟!!
وَيْحَكُمْ أَلَا تُبْصِرُون؟!!
مَا لَكُمْ تَنْظُرُونَ وَلَا تُبْصِرُونَ؟!!
اتَّقُوا اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُسَلِّمَ مُجْتَمَعَنَا وَجَمِيعَ مُجْتَمَعَاتِ الْمُسْلِمِينَ فِي جَمِيعِ بِقَاعِ الْأَرْضِ، إِنَّهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ علَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِين.
المصدر: خُطُورَةُ الشَّائِعَاتِ