سُورَةُ الطَّارِقِ.. تَأَمُّلَاتٌ وَوَقَفَاتٌ وَدُرُوسٌ

سُورَةُ الطَّارِقِ.. تَأَمُّلَاتٌ وَوَقَفَاتٌ وَدُرُوسٌ

((آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.. تَأَمُّلَاتٌ وَوَقَفَاتٌ وَدُرُوسٌ))

((1))

((سُورَةُ الطَّارِقِ.. تَأَمُّلَاتٌ وَوَقَفَاتٌ وَدُرُوسٌ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَالْعَمَلُ بِهِ))

((فَلَا يَكْفِي مِنَّا أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ وَأَنْ نَتْلُوهُ وَنُكْثِرَ مِنْ تِلَاوَتِهِ، لَا يَكْفِي هَذَا، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهِ وَأَسْرَارِهِ وَمَا عَرَّفَنَا بِهِ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَمَا قَصَّهُ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَمَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ وَالْمُجْرِمِينَ، وَمَا أَكْرَمَ اللهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ الطَّائِعِينَ.

وَكَذَلِكَ نَتَدَبَّرُ أَخْبَارَهُ عَنِ الْيَوْمِ الْآخِرِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِسَابِ، وَمَا فِيهِ مِنْ وَزْنِ الْأَعْمَالِ، وَمَا فِيهِ مِنْ تَطَايُرِ الصُّحُفِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَهْوَالِ الْعَظِيمَةِ، وَكَذَلِكَ نَتَدَبَّرُ مَا يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَمَا يَكُونُ فِي الْقَبْرِ، وَلَقَدْ ذَكَرَ لَنَا الْقُرْآنُ هَذَا مُفَصَّلًا، وَهُوَ أَمْرٌ مُسْتَقْبَل نَحْنُ قَادِمُونَ عَلَيْهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ نَسْتَعِدَّ لَهُ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَنَتَجَنَّبَ الْأَعْمَالَ الْمُحَرَّمَةَ.

وَكَذَلِكَ نَتَفَكَّرُ فِي أَحْكَامِهِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَقَدْ بَيَّنَ مَا يَحِلُّ لَنَا وَيَحْرُمُ عَلَيْنَا، وَمَا يَنْبَغِي لَنَا وَمَا لَا يَنْبَغِي لَنَا مِنَ الْأَفْعَالِ وَالصِّفَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ.

قَالَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

فَبَيَّنَ اللهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْهَدَفَ مِنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ أَنْ نَتَدَبَّرَ آيَاتِهِ؛ بِمَعْنَى: أَنْ نَتَفَكَّرَ فِي مَعَانِيهَا وَمَدْلُولَاتِهَا وَأَسْرَارِهَا وَأَخْبَارِهَا؛ حَتَّى نَسْتَفِيدَ مِنْهَا الْهِدَايَةَ، وَنَسْتَفِيدَ مِنْهَا خَشْيَةَ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- وَعِبَادَتَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَنَعْرِفَ مَا نَأْتِي وَمَا نَتْرُكُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا يَتِمُّ هَذَا وَلَا يَحْصُلُ إِلَّا بِتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ.

وَوَصَفَ اللهُ -تَعَالَى- الْقُرْآنَ بِأَنَّهُ مُبَارَكٌ؛ فَفِيهِ الْبَرَكَةُ بِكُلِّ مَعَانِيهَا، فَمَنْ يَتَدَبَّرُهُ يَحْصُلُ عَلَى هَذِهِ الْبَرَكَةِ، وَمَنْ تَعَلَّمَهُ يَحْصُلُ عَلَى هَذِهِ الْبَرَكَةِ، وَمَنْ قَرَأَهُ وَتَلَاهُ يَحْصُلُ عَلَى هَذِهِ الْبَرَكَةِ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ حَصَلَ عَلَى الْبَرَكَةِ، وَكُلَّمَا قَرُبْتَ مِنْهُ حَصَلْتَ عَلَى هَذِهِ الْبَرَكَةِ.

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

فَاللهُ يَسْتَنْكِرُ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَعْرَضُوا عَنْ كِتَابِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَأَنَّهُ قَدْ سَبَّبَ لَهُمْ هَذَا الْإِعْرَاضُ الْحَيْرَةَ وَالضَّلَالَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ تَدَبَّرُوا كِتَابَ اللهِ وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ وَتَأَمَّلُوا فِيهِ؛ لَحَصَلَتْ لَهُمُ الْهِدَايَةَ، وَلَانْتَقَلُوا مِنْ حَالَةِ الشَّقَاءِ إِلَى حَالَةِ السَّعَادَةِ.

وَلَوْ تَدَبَّرُوهُ لَعَرَفُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَنَاقَضُ، بَلْ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْحُسْنِ وَالْبَلَاغَةِ وَالصِّدْقِ وَالْإِعْجَازِ.

قَالَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزمر: 23]؛ أَيْ: يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْحُسْنِ وَالْإِتْقَانِ وَالصِّدْقِ.

فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ بِتَدَبُّرٍ وَتَمَعُّنٍ وَحُضُورِ قَلْبٍ وَتَفَكُّرٍ فِي مَعَانِيهِ فَإِنَّهُ يُزِيلُ عَنْكَ أَوْهَامًا كَثِيرَةً وَوَسَاوِسَ عَظِيمَةً، وَيَبْعَثُ فِي قَلْبِكَ الطُّمَأْنِينَةَ، وَيُقَوِّي فِيكَ الْإِيمَانَ.

قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2-4].

فَتِلَاوَةُ الْقُرْآنِ مَعَ تَدَبُّرِهِ وَالتَّفَكُّرِ فِيهِ تَزِيدُ فِي إِيمَانِ الْعَبْدِ، قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124].

وَكُلَّمَا أَكْثَرَ الْإِنْسَانُ مِنْ تَدَبُّرِ هَذَا الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَزِيدُ إِيمَانُهُ، وَيَزِيدُ يَقِينُهُ، وَيَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ، وَيَزِيدُ عِلْمُهُ وَفِقْهُهُ، فَإِنَّهُ لَا يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ.

وَقَالَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ وَالزَّائِغِينَ: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ۙ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ (25) ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} [محمد: 22-26].

وَلَوْ أَنَّهُمْ تَدَبَّرُوا الْقُرْآنَ لَزَالَتْ عَنْهُمْ كُلُّ هَذِهِ الْأَمْرَاضِ وَهَذِهِ الْعَوَارِضُ الْقَبِيحَةُ، وَلَوَصَلُوا أَرْحَامَهُمْ، وَوَصَلُوا مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، وَلَأَطَاعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا أَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ وَلَمْ يَتَدَبَّرُوهُ ابْتُلُوا بِهَذِهِ الْمَصَائِبِ؛ فَابْتُلُوا بِالْقَطِيعَةِ، وَحَقَّتْ عَلَيْهِمُ اللَّعْنَةُ، وَوَقَعُوا فِي الرِّدَّةِ، كُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ لَمْ يَتَدَبَّرُوا الْقُرْآنَ.

وَأُغْلِقَتْ قُلُوبُهُمْ عَنِ الْفَهْمِ: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}.

فَالْإِنْسَانُ إِذَا أَعْرَضَ عَنِ الْقُرْآنِ فَإِنَّ قَلْبَهُ يَقْسُو وَيَمْرَضُ، وَفِي النِّهَايَةِ يَقْفِلُ فَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْهُدَى وَلَا النُّورُ؛ عُقُوبَةً لَهُ -وَالْعِيَاذُ بِاللهِ-، كُلُّ هَذَا بِسَبَبِ عَدَمِ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ.

وَلِهَذَا يَقُولُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-:

فَتَدَبَّرِ الْقُرْآنَ إِنْ رُمْتَ الْهُدَى    =   فَالْعِلْمُ تَحْتَ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ

وَلَا يَكْفِي مِنَّا أَنْ نَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَأَنْ نَتْلُوَ الْقُرْآنَ، وَأَنْ نَتَدَبَّرَ الْقُرْآنَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنَ الْأَمْرِ الرَّابِعِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِهِ؛ بِمَعْنَى: أَنْ نُحِلَّ حَلَالَهُ وَنُحَرِّمَ حَرَامَهُ، وَنَتَقَيَّدَ بِأَوَامِرِهِ وَنَتَجَنَّبَ مَا نَهَانَا عَنْهُ.

وَهَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ، وَتَعَلُّمُهُ وَتِلَاوَتُهُ وَتَدَبُّرُهُ كُلُّهُ وَسِيلَةٌ إِلَى الْعَمَلِ.

أَمَّا إِذَا اقْتَصَرْنَا عَلَى التِّلَاوَةِ وَالتَّدَبُّرِ وَتَرَكْنَا الْعَمَلَ فَإِنَّنَا وَقَفْنَا فِي أَوَّلِ الطَّرِيقِ وَلَمْ نَحْصُلْ عَلَى شَيْءٍ، وَصَارَ تَعَبُنَا لَا فَائِدَةَ مِنْهُ؛ لِأَنَّنَا أَتْعَبَنَا أَنْفُسَنَا فِي السَّبَبِ وَتَرَكْنَا الثَّمَرَةَ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ هِيَ الْعَمَلُ بِالْقُرْآنِ.

قَالَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ ۚ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29-30].

فَهَذِهِ الْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى التِّلَاوَةِ، بَلْ أَقَامُوا الصَّلَاةَ بَعْدَ أَنْ قَامُوا بِتِلَاوَةِ كِتَابِ اللهِ، وَكَذَلِكَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ؛ بِإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالصَّدَقَاتِ، وَالْإِحْسَانِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ، وَهَذِهِ هِيَ ثَمَرَةُ التِّلَاوَةِ وَهِيَ الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ؛ لِأَنَّكَ إِذَا عَمِلْتَ بِهِ صَارَ حُجَّةً لَكَ عِنْدَ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَإِذَا عَطَّلْتَ الْعَمَلَ بِهِ صَارَ حُجَّةً عَلَيْكَ.

قَالَ ﷺ: ((وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)).

يَسْأَلُكَ اللهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ} [المؤمنون: 105].

{قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} [المؤمنون: 66].

فَاللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ لِلْكَفَرَةِ وَأَصْحَابِ النَّارِ: أَلَسْتُ قَدْ بَيَّنْتُ لَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ هَذَا الْمَصِيرَ وَهَذِهِ الْعَاقِبَةَ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَتَجَنَّبُوهَا، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ تَعْمَلُوا الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ الَّتِي تُنْقِذُكُمْ مِنْهَا.

فَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى تَعَلُّمِ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ فَهَذَا أَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَى نَفْسِهِ، وَلِهَذَا يَقُولُ بَعْضُ السَّلَفِ: ((رُبَّ قَارِئٍ لِلْقُرْآنِ وَالْقُرْآنُ يَلْعَنُهُ)).

 قَالُوا: ((وَكَيْفَ ذَلِكَ؟)).

قَالَ: ((يَقْرَأُ قَوْلَ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}، وَهُوَ يَكْذِبُ، وَيَقْرَأُ قَوْلَ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، وَهُوَ يَظْلِمُ!)) )).

 ((تَدَبُّرُ الْقُرْآن مِفْتَاحُ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ))

لَقَدْ أَمَرَ اللهُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ بِتَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الْإِعْرَاضِ عَنْهُ، وَعَنْ تَفَهُّمِ مَعَانِيهِ الْمُحْكَمَةِ وَأَلْفَاظِهِ الْبَلِيغَةِ، وَمُخْبِرًا لَهُمْ أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ وَلَا اضْطِرَابَ، وَلَا تَضَادَّ وَلَا تَعَارُضَ; لِأَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، فَهُوَ حَقٌّ مِنْ حَقٍّ.

 قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

((يَأْمُرُ -تَعَالَى- بِتَدَبُّرِ كِتَابِهِ، وَهُوَ التَّأَمُّلُ فِي مَعَانِيهِ، وَتَحْدِيقُ الْفِكْرِ فِيهِ، وَفِي مَبَادِئِهِ وَعَوَاقِبِهِ، وَلَوَازِمِ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ فِي تَدَبُّرِ كِتَابِ اللَّهِ مِفْتَاحًا لِلْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَبِهِ يُسْتَنْتَجُ كُلُّ خَيْرٍ وَتُسْتَخْرَجُ مِنْهُ جَمِيعُ الْعُلُومِ، وَبِهِ يَزْدَادُ الْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ وَتَرْسَخُ شَجَرَتُهُ، فَإِنَّهُ يُعَرِّفُ بِالرَّبِّ الْمَعْبُودِ، وَمَا لَهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَمَا يُنَزَّهُ عَنْهُ مِنْ سِمَاتِ النَّقْصِ، وَيُعَرِّفُ الطَّرِيقَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَيْهِ وَصِفَةَ أَهْلِهَا، وَمَا لَهُمْ عِنْدَ الْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَيُعَرِّفُ الْعَدُوَّ الَّذِي هُوَ الْعَدُوُّ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالطَّرِيقَ الْمُوَصِّلَةَ إِلَى الْعَذَابِ، وَصِفَةَ أَهْلِهَا، وَمَا لَهُمْ عِنْدَ وُجُودِ أَسْبَابِ الْعِقَابِ.

وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَأَمُّلًا فِيهِ ازْدَادَ عِلْمًا وَعَمَلًا وَبَصِيرَةً، لِذَلِكَ أَمَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ وَحَثَّ عَلَيْهِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}[ص: 29]، وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24].

وَمِنْ فَوَائِدِ التَّدَبُّرِ لِكِتَابِ اللَّهِ: أَنَّهُ بِذَلِكَ يَصِلُ الْعَبْدُ إِلَى دَرَجَةِ الْيَقِينِ وَالْعِلْمِ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، لِأَنَّهُ يَرَاهُ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَيُوَافِقُ بَعْضُهُ بَعْضًا، فَتَرَى الْحِكَمَ وَالْقِصَّةَ وَالْإِخْبَارَاتِ تُعَادُ فِي الْقُرْآنِ فِي عِدَّةِ مَوَاضِعَ، كُلُّهَا مُتَوَافِقَةٌ مُتَصَادِقَةٌ، لَا يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَبِذَلِكَ يُعْلَمُ كَمَالُ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ مَنْ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِجَمِيعِ الْأُمُورِ، فَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} أَيْ: فَلَمَّا كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ اخْتِلَافٌ أَصْلًا)).

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29].

(({كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} فِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، وَعِلْمٌ غَزِيرٌ، فِيهِ كُلُّ هُدًى مِنْ ضَلَالَةٍ، وَشِفَاءٍ مِنْ دَاءٍ، وَنُورٍ يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي الظُّلُمَاتِ، وَكُلُّ حُكْمٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُكَلَّفُونَ، وَفِيهِ مِنَ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ عَلَى كُلِّ مَطْلُوبٍ مَا كَانَ بِهِ أَجَلُّ كِتَابٍ طَرَقَ الْعَالَمَ مُنْذُ أَنْشَأَهُ اللَّهُ.

{لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} أَيْ: هَذِهِ الْحِكْمَةَ مِنْ إِنْزَالِهِ؛ لِيَتَدَبَّرَ النَّاسُ آيَاتِهِ، فَيَسْتَخْرِجُوا عِلْمَهَا وَيَتَأَمَّلُوا أَسْرَارَهَا وَحِكَمَهَا، فَإِنَّهُ بِالتَّدَبُّرِ فِيهِ وَالتَّأَمُّلِ لِمَعَانِيهِ وَإِعَادَةِ الْفِكْرِ فِيهَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ تُدْرِكُ بِرْكَتَهُ وَخَيْرَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الْحَثِّ عَلَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَأَنَّ الْقِرَاءَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى التَّدَبُّرِ أَفْضَلُ مِنْ سُرْعَةِ التِّلَاوَةِ الَّتِي لَا يَحْصُلُ بِهَا هَذَا الْمَقْصُودُ.

{وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} أَيْ: أُولُو الْعُقُولِ الصَّحِيحَةِ، يَتَذَكَّرُونَ بِتَدَبُّرِهِمْ لَهَا كُلَّ عِلْمٍ وَمَطْلُوبٍ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ بِحَسَبِ لُبِّ الْإِنْسَانِ وَعَقْلِهِ يَحْصُلُ لَهُ التَّذَكُّرُ وَالِانْتِفَاعُ بِهَذَا الْكِتَابِ)).

((بَيْنَ يَدَيْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الطَّارِقِ))

((سُورَةُ الطَّارِقِ)) مَكِّيَّةٌ، وَآيَاتُهَا سَبْعَ عَشْرَةَ آيَةٍ.

هَذِهِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ تُعَالِجُ بَعْضَ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعَقِيدَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَمِحْوَرُ السُّورَةِ يَدُورُ حَوْلَ الْإِيمَانِ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ، وَقَدْ أَقَامَتِ الْبُرْهَانَ السَّاطِعَ وَالدَّلِيلَ الْقَاطِعَ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ؛ فَإِنَّ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنَ الْعَدَمِ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.

-ابْتَدَأَتِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ بِالْقَسَمِ بِالسَّمَاءِ ذَاتِ الْكَوَاكِبِ السَّاطِعَةِ، الَّتِي تَطْلُعُ لَيْلًا لِتُضِيءَ لِلنَّاسِ سُبُلَهُمْ؛ لِيَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، أَقْسَمَ -تَعَالَى- عَلَى أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ قَدْ وُكِّلَ بِهِ مَنْ يَحْرُسُهُ وَيَتَعَهَّدُ أَمْرَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْأَبْرَارِ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:  1-4] الْآيَاتِ.

-ثُمَّ سَاقَتِ الْأَدِلَّةُ وَالْبَرَاهِينُ عَلَى قُدْرَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى إِعَادَةِ الْإِنْسَانِ بَعْدَ فَنَائِهِ {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:5-8] الْآيَاتِ.

-ثُمَّ أَخْبَرَتْ عَنْ كَشْفِ الْأَسْرَارِ وَهَتْكِ الْأَسْتَارِ فِي الْآخِرَةِ عَنِ الْبَشَرِ، حَيْثُ لَا مُعِينَ لِلْإِنْسَانِ وَلَا نَصِيرَ {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} [الطارق: 9-10].

-وَخُتِمَتِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ بِالْحَدِيثِ عَنِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، مُعْجِزَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ الْخَالِدَةِ، وَحُجَّتِهِ الْبَالِغَةِ إِلَى النَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَبَيَّنَتْ صِدْقَ هَذَا الْقُرْآنَ، وَأَوْعَدَتِ الْكَفَرَةَ الْمُجْرِمِينَ بِالْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِتَكْذِيبِهِمْ بِالْقُرْآنِ السَّاطِعِ الْمُنِيرِ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 11-17].

((كُلُّ نَفْسٍ عَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ))

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

{وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ}.

يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ}: الْوَاوُ لِلْقَسَمِ، أَقْسَمَ اللهُ -تَعَالَى- بِالسَّمَاءِ؛ وَذَلِكَ لِعِظَمِهَا وَارْتِفَاعِهَا وَسَعَتِهَا وَقُوَّتِهَا، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ: 12] أَيْ: قَوِيَّةً، وَقَالَ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47] أَيْ: بِقُوَّةٍ {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47]، فَأَقْسَمَ اللهُ بِالسَّمَاءِ؛ لِعِظَمِهَا.

{وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ}: أَصْلُ الطَّرْقِ فِي اللُّغَةِ: الدَّقُّ، وَمِنْهُ الْمِطْرَقَةُ; وَلِذَا قَالُوا لِلْآتِي لَيْلًا: طَارِقٌ; لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى طَرْقِ الْبَابِ.

وَفِي الْحَدِيثِ: «أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحِمَنُ».

 فَهُوَ لَفْظٌ عَمَّ فِي كُلِّ مَا يَأْتِي شَيْئُهُ الْمُفَاجِئِ، وَلَكَأَنَّهُ يَأْتِي فِي حَالَةٍ غَيْرِ مُتَوَقَّعَةٍ.

وَلَكِنَّهُ هُنَا خُصَّ بِمَا فُسِّرَ بِهِ بَعْدَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ}.

فَفَسَّرَ الطَّارِقَ بِقَوْلِهِ: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ}

وَسُمِّيَ طَارِقًا، لِأَنَّهُ يَطْرُقُ لَيْلًا.

قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهِ مُفَخِّمًا إِيَّاهُ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} [الطارق: 2].

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((قَالَ سُفْيَانُ: كُلُّ مَا فِي الْقُرْآنِ: «وَمَا أَدْرَاكَ» فَقَدْ أَخْبَرَهُ بِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ قَالَ فِيهِ: «وَمَا يُدْرِيكَ» لَمْ يُخْبِرْهُ بِهِ)).

وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ الْغَالِبُ؛ فَقَدْ جَاءَتْ: «وَمَا أَدْرَاكَ» ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَرَّةً، كُلُّهَا أَخْبَرَهُ بِهَا إِلَّا وَاحِدَةً، وَهِيَ فِي الْحَاقَّةِ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة: 3]، وَمَا عَدَاهَا فَقَدْ أَخْبَرَهُ بِهَا.

{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ أَعْلَمَكَ عَنْ هَذَا الطَّارِقِ؟ وَمَا هُوَ؟ وَمَاذَا يَطْرُقُ؟

فَبَيَّنَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّهُ: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 3]، وَهَلْ هُوَ نَجْمٌ وَاحِدٌ أَمِ الْمُرَادُ جِنْسُ النَّجْمِ؟

الظَّاهِرُ الثَّانِي؛ أَيْ: أَنَّ الْمُرَادَ جِنْسُ النَّجْمِ، وَلَيْسَ نَجْمًا وَاحِدًا مُعَيَّنًا؛ لِأَنَّ كُلَّ نَجْمٍ وَإِنْ دَقَّ فَهُوَ ثَاقِبٌ؛ أَيْ: يَثْقُبُ الظَّلَامَ بِنُورِهِ، أَحْيَانًا يَصِلُ نُورُ الْكَوَاكِبِ إِلَى الْأَرْضِ، وَنَحْنُ شَاهَدْنَا ذَلِكَ، وَيُشَاهِدُهُ أَهْلُ الْبَرِّ الَّذِينَ لَيْسَ عِنْدَهُمْ إِضَاءَةٌ بِالْكَهْرُبَاءِ فَتَجِدُهُمْ يَجِدُونَ نُورَ الْكَوَاكِبِ سَاطِعًا فِي الْأَرْضِ لَا سِيَّمَا الْكَوَاكِبُ الْمُضِيئَةُ الْكَبِيرَةُ.

إِذَنِ؛ الْمُرَادُ كُلُّ النُّجُومِ فَهِيَ ثَاقِبَةٌ تَثْقُبُ الظَّلَامَ بِضِيَائِهَا، وَهِيَ -أَيْضًا- ثَاقِبَةٌ تَثْقُبُ الشَّيَاطِينَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ أَخْبَارَ السَّمَاءِ وَيُلْقُونَهَا إِلَى الْكُهَّانِ، كَمَا قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 18].

يَثْقُبُ الشَّيْطَانَ -يَخْرِقُهُ- حَتَّى يُحْرِقَهُ، هَذِهِ الشَّيَاطِينُ الَّتِي تَسْتَرِقُ السَّمْعَ تَنْزِلُ بِمَا تَسْمَعُ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْكُهَّانِ، وَالْكُهَّانُ هُمُ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ النَّاسَ بِمَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ سَوَاءٌ كَانَ عَامًّا أَوْ خَاصًّا، فَالْكَاهِنُ يَقُولُ: سَيَحْدُثُ -مَثَلًا- فِي هَذَا الْعَامِ الْمُقْبِلِ كَذَا وَكَذَا مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمَصَائِبِ، أَوْ يَقُولُ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ: يَا فُلَانُ! سَيَنَالُكَ فِي هَذَا الْعَامِ الْمُقْبِلِ كَذَا وَكَذَا.

تَنْزِلُ الشَّيَاطِينُ بِمَا سَمِعَتْ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْكُهَّانِ فَيَأْخُذُ الْكَاهِنُ مَا سَمِعَ ثُمَّ يُضِيفُ إِلَيْهِ كَلِمَاتٍ أُخْرَى، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذِبَةٍ، فَيَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِهَذَا الْخَبَرِ، ثُمَّ إِذَا وَقَعَ شَيْءٌ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ ادَّعَى أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَقَالَ: إِنَّهُ يَعْلَمُ مَا سَيَكُونُ، وَسَلَبَ عُقُولَ النَّاسِ.

وَلَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَنَّ مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ».

أَيُّ إِنْسَانٍ يَأْتِي إِلَى كَاهِنٍ وَيَقُولُ: يَا فُلَانُ! أَخْبِرْنِي كَيْفَ سَيَكُونُ مُسْتَقْبَلِي؟ قَالَ: مُسْتَقَبَلُكَ طَيِّبٌ، أَوْ قَالَ: مُسْتَقْبَلُكَ رَدِيءٌ، فَإِذَا صَدَّقَ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ، لِمَاذَا؟

لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- قَالَ: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65].

فَمَنْ صَدَّقَ أَحَدًا بِعِلْمِ الْغَيْبِ فَقَدْ كَذَّبَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَتَكْذِيبُ جُزْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ أَوْ حَرْفٍ مِنَ الْقُرْآنِ كُفْرٌ وَرِدَّةٌ عَنِ الْإِسْلَامِ.

وَالْمَقْسَمُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}.

{حَافِظٌ}: قِيلَ: حَافِظٌ لِأَعْمَالِهِ يُحْصِيهَا عَلَيْهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.

وَقِيلَ: حَارِسٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}.

 وَالسِّيَاقُ يَشْهَدُ لِلْمَعْنَيَيْنِ مَعًا.

يَحْفَظُ عَلَيْهَا أَعْمَالَهَا الصَّالِحَةَ وَالسَّيِّئَةَ، وَسَتُجَازَى بِعَمَلِهَا الْمَحْفُوظِ عَلَيْهَا.

أو: كُلُّ نَفْسٍ عَلَيْهَا مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ يَحْرُسُهَا مِنَ الْآفَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11].

{إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] أَيْ: مَا كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ، فَكُلُّ نَفْسٍ عَلَيْهَا حَافِظٌ مِنَ اللهِ، قَالَ اللهُ: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} [الأنعام: 61].

قَالَ الْعُلَمَاءُ: انْظُرْ إِلَى فَضْلِ اللهِ، انْظُرْ إِلَى نِعَمِ اللهِ؛ يَحْفَظُ الْإِنْسَانَ حَيًّا وَمَيِّتًا {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} [الأنعام: 61] فِي الْحَيَاةِ، وَبَعْدَ الْمَمَاتِ تَقْبِضُهُ الرُّسُلُ -الْمَلَائِكَةُ الْكِرَامُ-، وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ فِي هَذِهِ النَّفْسِ الَّتِي تَوَفَّوْهَا، بَلْ يَحْفَظُونَهَا أَتَمَّ حِفْظٍ، فَالْإِنْسَانُ مَحْفُوظٌ حَيًّا وَمَيِّتًا: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4].

وَمِنَ الْحَفَظِةِ: الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ، كَمَا فِي سُورَةِ الِانْفِطَارِ: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ۞ كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10-11]، هَؤُلَاءِ الْحَفَظَةُ الْكَاتِبُونَ يَحْفَظُونَ كُلَّ مَا يَصْدُرُ مِنَ الْإِنْسَانِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17] يَعْنِي: عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ} [ق: 18]: كُلُّ قَوْلِ مَا تَلْفِظُهُ إِلَّا عِنْدَكَ رَقِيبٌ عَتِيدٌ، مُرَاقِبٌ حَاضِرٌ، الرَّقِيبُ: هُوَ الْمُرَاقِبُ، وَالْعَتِيدُ: هُوَ الْحَاضِرُ الْمُلَازِمُ، كَمْ تَكَلَّمْتَ مِنْ كَلِمَاتٍ؟

لَا تُحْصَى، الْإِنْسَانُ لَا يُحْصِي مَا تَكَلَّمَ بِهِ، كُلُّ كَلِمَةٍ فَإِنَّهَا مَكْتُوبَةٌ.

وَمَتَى نَطَّلِعُ عَلَى مَا كَتَبَ؟

قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 13-14].

يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَامًّا، أَيَّ قَوْلٍ كَانَ.

((دَعْوَةٌ إِلَى النَّظَرِ فِي أَصْلِ الْخَلْقِ))

{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ}[الطارق: 5]: {فَلْيَنْظُرِ}: لَامُ الْأَمْرِ، أَمَرَ اللهُ أَنْ نَنْظُرَ مِمَّا خُلِقْنَا، وَأَجَابَ: {خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 6-7].

{خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ}: {دَافِقٍ}: مَصْبُوبٌ بِقُوَّةٍ وَشِدَّةٍ، يُقَالُ: دَفَقَ الْمَاءُ دَفْقًا إِذَا انْصَبَّ بِدَفْعٍ وَشِدَّةٍ.

(({ماءٍ دافِقٍ} يَعْنِي: الْمَنِيُّ يَخْرُجُ دَفْقًا مِنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَيَتَوَلَّدُ مِنْهُمَا الْوَلَدُ -بِإِذْنِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ--، وَلِهَذَا قَالَ: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ} يَعْنِي: صُلْبَ الرَّجُلِ وَتَرَائِبَ الْمَرْأَةِ وَهُوَ صَدْرُهَا)).

{الصُّلْبِ}: فَقَارِ الظَّهْرِ، وَيُسَمَّى سِلْسَلَةَ الظَّهْرِ، {وَالتَّرَائِبِ}: عِظَامِ الصَّدْرِ جَمْعُ تَرِيبَةٍ.

وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَنِيَّ الدَّافِقَ، وَهُوَ مَنِيُّ الرَّجُلِ، وَأَنَّ مَحَلَّهُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ مَا بَيْنَ صُلْبِهِ وَتَرَائِبِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا أَوْلَى؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ الْمَاءَ الدَّافِقَ الَّذِي يَحُسُّ بِهِ وَيُشَاهِدُ دَفْقَهُ، هُوَ مَنِيُّ الرَّجُلِ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ التَّرَائِبِ فَإِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ فِي الرَّجُلِ؛ فَإِنَّ التَّرَائِبَ لِلرَّجُلِ بِمَنْزِلَةِ الثَّدْيَيْنِ لِلْأُنْثَى، فَلَوْ أُرِيدَتِ الْأُنْثَى لَقِيلَ: مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالثَّدْيَيْنِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فِي الْآيَاتِ: ((تَنْبِيهٌ لِلْإِنْسَانِ عَلَى ضَعْفِ أَصْلِهِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ، وَإِرْشَادٌ لَهُ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِالْمَعَادِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْبَدَاءَةِ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْإِعَادَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الرُّومِ: ٢٧])).

 ((الْإِيمَانُ بِالْبَعْثِ وَإِظْهَارُ اللهِ مَا فِي الضَّمَائِرِ))

{إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:8 ] {إِنَّهُ} أَيِ: الرَّبُّ -عَزَّ وَجَلَّ- {عَلَى رَجْعِهِ} أَيْ: عَلَى رَجْعِ الْإِنْسَانِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ  {لَقَادِرٌ}؛ لِأَنَّ الْقَادِرَ عَلَى أَوَّلِ الْخَلْقِ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهِ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27].

إِذَنْ؛ {إِنَّهُ}: الضَّمِيرُ يَعُودُ عَلَى اللهِ {عَلَى رَجْعِهِ}: الضَّمِيرُ فِي {رَجْعِهِ} يَعُودُ عَلَى الْإِنْسَانِ؛ أَيْ: إِنَّ اللهَ عَلَى رَجْعِ الْإِنْسَانِ لَقَادِرٌ، وَتَأَمَّلْ قَوْلَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا ۜ ۗ هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 51-52]، فَيُقَالُ لَهُمْ: {هَٰذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 52-53],

سُبْحَانَ اللهِ! صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ يَأْمُرُهُمْ اللهُ بِهَا أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْقُبُورِ أَحْيَاءً، فَيَخْرُجُونَ أَحْيَاءً {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53].

فَالَّذِي أَوْجَدَ الْإِنْسَانَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْمَوْضِعِ الصَّعْبِ قَادِرٌ عَلَى رَجْعِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِعَادَتِهِ لِلْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْجَزَاءِ.

{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}: {السَّرَائِرُ}: هِيَ كُلُّ مَا يُخْفِيهِ الْإِنْسَانُ حَتَّى فِي الْمُعَامَلَاتِ مَعَ النَّاسِ.

{يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} أَيْ: تُخْتَبَرُ سَرَائِرُ الصُّدُورِ، وَيَظْهَرُ مَا كَانَ فِي الْقُلُوبِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ عَلَى صَفَحَاتِ الْوُجُوهِ، قَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]، فَفِي الدُّنْيَا تَنْكَتِمُ كَثِيرٌ مِنَ الْأُمُورِ وَلَا تَظْهَرُ عِيَانًا لِلنَّاسِ، وَأَمَّا يَوْمُ الْقِيَامَةِ فَيَظْهَرُ بِرُّ الْأَبْرَارِ وَفُجُورُ الْفُجَّارِ، وَتَصِيرُ الْأُمُورُ عَلَانِيَةً.

يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ؛ أَيْ: تَظْهَرُ وَتَبْدُو وَيَبْقَى السِّرُّ عَلَانِيَةً وَالْمَكْنُونُ مَشْهُورًا.

وَقَدْ ثَبَتَ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: ((يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ)) )).

السَّرَائِرُ: جَمْعُ سَرِيرَةٍ، وَهُوَ مَا يُكِنُّهُ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ، وَالْإِنْسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْتَبَرُ عَنْ هَذَا، لَا يُخْتَبَرُ عَلَى الظَّاهِرِ، يُخْتَبَرُ عَلَى الْبَاطِنِ، انْتَبِهُوا! فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَسَاسُ وَالْعُمْدَةُ: الْبَاطِنُ السَّرِيرَةُ، وَفِي الدُّنْيَا: الظَّاهِرُ، فَنَحْنُ نَحْكُمُ عَلَى النَّاسِ فِي الدُّنْيَا بِالظَّاهِرِ، وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: { أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات: 10].

{فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ}: {فَما لَهُ} أَيِ: الْإِنْسَانُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {مِنْ قُوَّةٍ} أَيْ: فِي نَفْسِهِ {وَلا ناصِرٍ} أَيْ: مِنْ خَارِجٍ مِنْهُ؛ أَيْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنْقِذَ نَفْسَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ لَهُ أَحَدٌ ذَلِكَ.

لَيْسَ مِنْ قُوَّةٍ فِي نَفْسِهِ لِضَعْفِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}، وَقَوْلُهُ: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أَيْ: مِنَ الضَّعْفِ وَشِدَّةِ الْخَوْفِ,

وَلَا نَاصِرَ لَهُ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا}.

يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَنْتَصِرُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ قُوَّةٌ، وَلَا بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَاصِرٌ، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ إِلَّا الْعَمَلُ الصَّالِحُ، لَا أَبَ وَلَا أُمَّ وَلَا أَخَ وَلَا ابْنَ وَلَا حَارِسَ فِي الدُّنْيَا وَلَا جُنْدِيَّ، وَلَا أَيَّ أَحَدٍ، لَا أَحَدَ يَنْصُرُهُ، لَيْسَ لَهُ قُوَّةٌ بِنَفْسِهِ وَلَا قُوَّةٌ بِغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ مَا لَهُ قُوَّةٌ وَلَا نَاصِرٌ.

 ((الْقَسَمُ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ قَوْلٌ فَصْلٌ))

ثُمَّ قَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق: 11-12]: الْوَاوُ هُنَا لِلْقَسَمِ مِثْلَمَا قَالَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] أَقْسَمَ اللهُ بِالسَّمَاءِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَوَصَفَهَا بِأَنَّهَا ذَاتُ رَجْعٍ أَيْ: ذَاتُ مَطَرٍ؛ لِأَنَّ الْمَطَرَ تَرْجِعُ بِهِ الْأَرْضُ حَيَّةً بَعْدَ مَوْتِهَا، فَالسَّمَاءُ تَنْزِلُ مِنْهَا الْأَمْطَارُ وَتَرْجِعُ بِهِ الْأَرْضُ حَيَّةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَيِّتَةً.

{وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق: 12] أَيْ: صَاحِبَةِ الصَّدْعِ، وَالصَّدْعُ هُوَ التَشَقُّقُ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهَا الْمَطَرُ تَشَقَّقَتْ بِالنَّبَاتِ، مَطَرٌ يَنْزِلُ وَأَرْضٌ تُخْرِجُ؛ تَتَشَقَّقُ.

تَرْجِعُ السَّمَاءُ بِالْمَطَرِ كُلَّ عَامٍ، وَتَنْصَدِعُ الْأَرْضُ لِلنَّبَاتِ، فَيَعِيشُ بِذَلِكَ الْآدَمِيُّونَ وَالْبَهَائِمُ.

وَتَرْجِعُ السَّمَاءُ -أَيْضًا- بِالْأَقْدَارِ وَالشُّؤُونِ الْإِلَهِيَّةِ كُلَّ وَقْتٍ، وَتَنْصَدِعُ الْأَرْضُ عَنِ الْأَمْوَاتِ.

وَالَّذِي يَشْهَدُ لَهُ الْقُرْآنُ: أَنَّ الرَّجْعَ وَالصَّدْعَ مُتَقَابِلَانِ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس: 24-28]. وَاللَّهُ -تَعَالَى- أَعْلَمُ.

{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13]: {إِنَّهُ} أَيِ: الْقُرْآنُ {لَقَوْلٌ فَصْلٌ} أَيْ: حَقٌّ وَصِدْقٌ بَيِّنٌ وَاضِحٌ.

{وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} أَيْ: جَدٌّ لَيْسَ بِالْهَزْلِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الَّذِي يَفْصِلُ بَيْنَ الطَّوَائِفِ وَالْمَقَالَاتِ، وَتَنْفَصِلُ بِهِ الْخُصُومَاتُ.

الْقُرْآنُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، وَبَيْنَ الْمُقَاتِلِينَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْدَائِهِمْ؛ فَإِنَّهُ فَصْلٌ يَفْصِلُ، وَلَيْسَ فِيهِ هَزْلٌ وَلَا فِيهِ تَهَكُّمٌ، وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 14] خِلَافًا لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ قَالُوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 31].

 ((عَاقِبَةُ تَكْذِيبِ وَكَيْدِ الْكَافِرِينَ))

ثُمَّ أَخْبَرَ عَنِ الْكَافِرِينَ بِأَنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ بِهِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِهِ فَقَالَ: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} أَيْ: يَمْكُرُونَ بِالنَّاسِ فِي دَعْوَتِهِمْ إِلَى خِلَافِ الْقُرْآنِ.

ابن كثير

{إِنَّهُمْ} أَيِ: الْمُكَذِّبِينَ لِلرَّسُولِ ﷺ وَلِلْقُرْآنِ {يَكِيدُونَ كَيْدًا}؛ لِيَدْفَعُوا بِكَيْدِهِمِ الْحَقَّ، وَيُؤَيِّدُوا الْبَاطِلَ.

{وَأَكِيدُ كَيْدًا} لِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، وَلِدَفْعِ مَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْبَاطِلِ، وَيُعْلَمَ بِهَذَا مَنِ الْغَالِبُ؛ فَإِنَّ الْآدَمِيَّ أَضْعَفُ وَأَحْقَرُ مِنْ أَنْ يُغَالِبَ الْقَوِيَّ الْعَلِيمَ فِي كَيْدِهِ.

الْكَيْدُ: هُوَ أَنْ يَتَوَصَّلَ الْإِنْسَانُ إِلَى الْإِضْرَارِ بِخَصْمِهِ عَلَى وَجْهٍ خَفِيٍّ، وَمِثْلُهُ الْمَكْرُ وَالْخِدَاعُ، فَكُفَّارُ قُرَيْشٍ كَادُوا كَيْدًا عَظِيمًا لِلرَّسُولِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَمِنْ أَعْظَمِ كَيْدِهِمْ لَهُ مَا ذَكَرَهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30]؛ ثَلَاثَةُ آرَاءٍ: {لِيُثْبِتُوكَ} يَعْنِي: لِيَحْبِسُوكَ حَتَّى تَبْقَى ثَابِتًا فِي الْحَبْسِ لَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَخْرُجَ {أَوْ يَقْتُلُوكَ} أَيِ: الْإِعْدَامُ {أَوْ يُخْرِجُوكَ}، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].

وَهُنَا قَالَ: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 15-16] يَعْنِي: أَنَا أَكِيدُ كَيْدًا، وَتَأَمَّلْ لَمَّا ذَكَرَ كَيْدَهُمْ ذَكَرَهُ بِالْجَمْعِ: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ}، وَلَمَّا ذَكَرَ كَيْدَهُ هُوَ -عَزَّ وَجَلَّ- ذَكَرَهُ بِالْإِفْرَادِ وَلَمْ يَقُلْ: وَنَكِيدُ كَيْدًا، فَكَيْدُ اللهِ -تَعَالَى- وَهُوَ وَاحِدٌ -عَزَّ وَجَلَّ- يَغْلِبُ كَيْدَ جَمِيعِ مَنْ كَادُوا.

وَفِي قَوْلِهِ: {يَكِيدُونَ كَيْدًا} تَعْظِيمٌ لِكَيْدِهِمْ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ بِصِفَةِ النَّكِرَةِ أَيْ: يَكِيدُونَ كَيْدًا عَظِيمًا، {وَأَكِيدُ كَيْدًا} كَذَلِكَ تَعْظِيمُ كَيْدِهِ -سُبْحَانَهُ-؛ يَعْنِي: وَأَكِيدُ كَيْدًا أَعْظَمَ مِنْ كَيْدِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَصَلَ، كَادَ اللهُ لِنَبِيِّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- حَتَّى خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ سَالِمًا وَعَادَ إِلَيْهَا فَاتِحًا بَعْدَ سُنَيِّاتٍ قَلِيلَةٍ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا} نِسْبَةُ هَذَا الْفِعْلِ لَهُ -تَعَالَى- قَالُوا إِنَّهُ: مِنْ بَابِ الْمُقَابَلَةِ كَقَوْلِهِ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ}، وَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}.

وَهُوَ فِي اللُّغَةِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَمَّا سُئِلَ عَنْ أَيِّ الطَّعَامِ يُرِيدُ، وَهُوَ عَارٍ يُرِيدُ كُسْوَةً:

قَالُوا اخْتَرْ طَعَامًا نَجِدْ لَكَ طَبْخَةً      =       قُلْتُ اطْبُخُوا لِي جُبَّةً وَقَمِيصَا

وَقَدِ اتَّفَقَ السَّلَفُ أَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إِلَى اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَى سَبِيلِ الْإِطْلَاقِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَقَّ لَهُ مِنْهُ اسْمٌ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ فِي مُقَابِلِ فِعْلِ الْعِبَادِ; لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ الْمُقَابَلَةِ لَا يَلِيقُ بِاللَّهِ -تَعَالَى-، وَفِي مَعْرِضِ الْمُقَابَلَةِ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْقُدْرَةِ، وَالْكَيْدُ أَصْلُهُ الْمُعَاجَلَةُ لِلشَّيْءِ بِقُوَّةٍ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ} أَيْ: أَنْظِرْهُمْ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} أَيْ: قَلِيلًا وَسَتَرَى مَاذَا أُحِلَّ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ وَالْعُقُوبَةِ وَالْهَلَاكِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لُقْمَانَ: ٢٤].

{فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:17]: مَهِّلْهُمْ يَعْنِي: أَخِّرْهُمْ، انْتَظِرْ فَالْعَذَابُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ.

وَقَوْلُهُ: {أَمْهِلْهُمْ}: تَوْكِيدٌ لِلْأُولَى، لَكِنِ اخْتَلَفَ التَّعْبِيرُ، فَالْمَعْنَى: مَهِّلِ الْكَافِرِينَ {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} أَيْ: قَلِيلًا فَسَوْفَ يَجِدُونَ مَكْرَهُمْ وَكَيْدَهُم، وَهَذَا هُوَ الَّذِي وَقَعَ، أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ الرَّسُولَ ﷺ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرًا خَائِفًا مُخْتَفِيًا، وَبَعْدَ ثَمَانِ سَنَوَاتٍ رَجَعَ ظَافِرًا مَنْصُورًا غَالِبًا، فَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ -وَللهِ الْحَمْدُ- لِلنَّبِيِّ ﷺ، وَهَكَذَا كُلُّ إِنْسَانٍ يَقُومُ بِأَمْرِ اللهِ فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ سَتَكُونُ لَهُ، وَلَكِنْ لِيَنْتَظِرْ حَتَّى يَلْحِقَ بِدَرَجَةِ الصَّابِرِينَ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.

إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ لِلْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ، وَاللَّهِ يَكِيدُ لَهُمْ بِالِاسْتِدْرَاجِ حَتَّى يَأْتِيَ مَوْعِدُ إِهْلَاكِهِمْ، وَقَدْ وَقَعَ تَحْقِيقُهُ فِي بَدْرٍ ; إِذْ خَرَجُوا مُحَادَّةً لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَفِي خُيَلَائِهِمْ وَمُفَاخَرَتِهِمْ، وَكَيْدُ اللَّهِ لَهُمْ: أَنْ قَلَّلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ، حَتَّى طَمِعُوا فِي الْقِتَالِ، وَأَمْطَرَ أَرْضَ الْمَعْرَكَةِ، وَهُمْ فِي أَرْضٍ سَبْخَةٍ، وَالْمُسْلِمُونَ فِي أَرْضٍ رَمْلِيَّةٍ فَكَانَ زَلَقًا عَلَيْهِمْ وَثَبَاتًا لِلْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَنْزَلَ مَلَائِكَتَهُ لِقِتَالِهِمْ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}: هَذَا الْإِمْهَالُ الْمَذْكُورُ هُنَا يُنَافِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} الْآيَةَ.

وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْإِمْهَالَ مَنْسُوخٌ بِآيَاتِ السَّيْفِ.

أَسْأَلُ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا وَإِيَّاكُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرْآنِ الَّذِينَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ، وَيَتَدَبَّرُونَهُ حَقَّ تَدَبُّرِهِ، وَيَعْمَلُونَ بِهِ، وَيُخْلِصُونَ للهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- أَعْمَالَهُمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك