تفريغ خطبة السير إلى الله والدار الآخرة

السير إلى الله والدار الآخرة

تفريغ خطبة السير إلى الله والدار الآخرة

الجمعة 25 من ذي الحجة 1436هـ الموافق 9-10-2015م

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-. أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ. أَمَّا بَعْدُ:

فقد قالَ الشاعرُ القديمُ:

كـفى بـكَ داءً أنْ ترَى الموْتَ شافِيَا ** وَحَــسْـبُ الـمَـنَـايَا أنْ يـكُـنَّ أمـانِـيَا

حَـبَبْتُكَ قَـلْبي قَـبلَ حُـبِّكَ مَـن نـأى ** وَقــد كــانَ غَــدَّارًا فـكُـنْ أنـتَ وَافِـيَا

وَأعْــلَـمُ أنَّ الـبَـيـنَ يُـشـكيكَ بَـعْـدَهُ ** فَـلَـسْتَ فُــؤادي إنْ رَأيْـتُـكَ شَـاكِيَا

فـــإنّ دُمُـــوعَ الـعَـيـنِ غُـــدْرٌ بِـرَبِّـهَا ** إذا كُــــنَّ إثْــــرَ الــغَـادِرِيـن جَــوَارِيَـا

إذا الجُودُ لم يُرْزَقْ خَلاصًا من الأذَى ** فَـلا الـحَمدُ مـكسوبًا وَلا المالُ باقِيَا

وَلـلنَّفْسِ أخْـلاقٌ تَـدُلُّ عـلى الفَتى ** أكــانَ سَـخـاءً مــا أتَـى أمْ تَـسَاخِيَا

أقِـــلَّ اشـتِـياقًا أيّـهَـا الـقَـلْبُ رُبَّـمَـا ** رَأيْـتُكَ تُـصْفي الـوُدَّ مَن ليسَ صافيَا

خُـلِقْتُ ألُـوفًا لَوْ رَجعتُ إلى الصِّبَى ** لَـفارَقتُ شَـيبي مُـوجَعَ القلبِ باكِيَا

وقال العلامة الأستاذ/ محمود شاكر -رحمه الله تعالي- في قصيدته [انتظري بُغْضِي] من ديوان [البَغضَاء]

حَــبَـبْـتُـكِ، والأوْهَـــــام فِــكْــرِي وحُــجَّـتـي ** تُـؤَلِّبُ بَـعْضيِ - فـي هـواك - عـلى بـعضي

إذا مــــا نـقـضْـتُ الـــرأيَ بــالـرأيِ، رَدَّنِـــي ** - إلــي خَـطـراتِ الـوهمِ - مـَضٌّ عـلى مَـضِّ

أُصــــارعُ أهــــوالًا مــــن الـغـيـظِ والــرِّضَـى ** ومـــا يـتـولَّـى الـغـيظَ فَــوق الــذي يُـرْضـي

عــجــبـتُ لـــمَــنْ راضَ الــنِّـسَـاءَ ورُضْــنَــه ** ويـقـضـينَ مـــن إيــلامِـهِ دون مـــا يَـقـضي

ويَــرْمِــيـنـه بــالــسَّـهـم لـــيـــس بــضــائِـرِ ** ويَـرْمـي بـمـا يَـحْمي الـجفونَ عـن الـغُمضِ

فــكــيـف بـــــه وقـــــد ذَلَّ وَهُـــــو مُـــكَــرَّمُ ** وأغـضَـى ولــو قَـدْ نـاصبَ الـليث لـم يُـغْضِ!

كــفــى بـــك ذُلًا أن تـبـيـتَ عــلـى جَـــوَى ** وتُـصبِحَ فـي ذكـرى، وتَـمْسِي عـلى رَمْـضِ

كـــأنــك لـــــم تُــخْــلَـقْ لِــدُنْــيـا تَـجُـوبُـهـا ** ومــا أضـيَـق الـدُّنـيا مــن الـحَـدَقِ الـمُـرْضِ!

فَــهُــنَّ الـلـواتِـي زدْنَ فـــي الـعـيـشِ لـــذَّةً ** فـأقْـصَـيْـنَ لــــذَّاتٍ مـــن الــفـرَح الـمَـحْـض

شـكـكْـتُ، وقـــد تُـنْـجِي مــن الـشَّـرِّ ريـبـةٌ ** وتُـــبـــدِل مُـــسْــوَدَّ الــحــظـوظِ بــمُـبْـيَـضِّ

لــقـد كــنـتُ أمــضـي طـائـعـًا غـيـر جـامِـحٍ ** وأرضَــى بـإطـراقي عـلـى الـرَّيْبِ أو غَـضي

ويـفـضَـحُـني فــيــك اقـتـحـامـي وغَـيـرتـي ** وطـرفـي ومــا جَــسَّ الأطـبـاءُ مــن نـبـضي

ويـــأكُـــلُ قــلــبـي مـــــا أُكـــتِّــمُ راضـــيــًا ** فـمـا بـكـتِ الـعينُ الـشبابَ الـذي يـمضي!

وأنـــتِ! لـَعَـمْـرِي فـــي ســـرورٍ وغـبـطةٍ ** يَـسُـرُّكِ بـسـطي فــي الـحوادث أو قـبضي

أَأُنــثــى وَ وَحـْـــشٌ؟ جـــلَّ خــالـقُ خـلـقـه! ** وسـبحان كـاسي الـوَحْشِ مـن رونـقٍ غَض!

وأعـــجـــبُ مـــنـــه لَـــذَّتـــي ومَــسَــرَّتـي ** عـلى حـين نَهشي في المخالبِ أو نفضي

فـيـا سُـوءَ مـا أبـقيْتِ فـي الـدَّم مـن لَـظىً ** وفـي الـفكر مـن كَـلْمٍ وفي القلب من عَضِّ

أخـافـك فــي ســري وجـهـري، ومـشـهدي ** لــديــك وغَــيْـبـي، خـــوفَ أَرقَـــطَ مُـنْـقَـضِّ

لــقـد كـنـتِ أحـلامـي - إذا الـلـيل ضَـمَّـني ** وكــنـتِ إذا مــا الـفـجر أيـقـظني - روضــي

يـنـاجـيـكِ طــيــرٌ فــــي الــضـلـوعِ بـلـَحْـنِـهِ ** لقد عاش في سحرٍ، وقد عشتِ في خفض

وكـــنـــتِ عـــلـــى ورد الــخـمـائـل زيـــنــةً ** وكـــان بـَشـيـرَ الـفـجر فــي الـفـَنَنِ الـغـض

فـأصـبـحتِ لا خــيـرًا فـيُـرْجـى، ولا لـقـىً ** فـيُـلقى، ولـسـتِ مــن سـمائي ولا أَرْضِـي

تـصـاَمـمْت عـــن قـلـبي ورُمــتِ مـسـاءتي ** وتـنـتـظـرين الــحُــب! انـتـظـري بـغـضـي!!

وهذه النَفْثَاتُ من هؤلاء الشعراء أمرٌ يعبرون به عن حالةٍ من حالات النفس، تمامًا كحالات النفس الضاغطة التي تُسحق فيها النفس سحقًا, فلا هي بالحية ولا هي بالميتة.

وهذه نُظُرُ الحرب الكونية الثالثة, يلوح وَميضُها ويخفي في أرض سوريا، ومعركةٌ أخري في كل أرضٍ إسلاميةٍ, ينتفض لها أقوامٌ لا يراعون المصلحة العليا للدين, ولا للأرض, ولا للعِرض فإلى الله المشتكى.

تُسحَق النفوس سحقًا، وتُمرَضُ الأفهام إِمراضًا، والناس يسيرون كأنهم يسيرون نائمين لا ينتبهون ولا يستيقظون, وإلى الله المشتكى, وهو حسبنا ونعم الوكيل.

إذا سـاءَ فِـعْلُ الـمرْءِ سـاءَتْ ظُـنُونُهُ ** وَصَـــدَقَ مَـــا يَـعـتَـادُهُ مـِـن تَـوَهُّـمِ

وَعَــــادَى مُـحِـبِّـيـهِ بــقَـوْلِ عُــداتِـهِ ** وَأصْـبَحَ فـي لَـيلٍ مـنَ الشَّكِّ مُظلِمِ

أُصَادِقُ نَفسَ المرْءِ مِن قبلِ جِسمِهِ ** وَأعْــرِفُـهَـا فــــي فِــعْـلِـهِ وَالـتَّـكَـلُّمِ

وَأحْـلُمُ عَـنْ خِـلِّي وَأعْـلَمُ أنّهُ ** مَتَى أَجــزِهِ حِـلْـمًا عـلـى الـجَـهْلِ يَـنـدَمِ

وَمَـــا كُـــلُّ هَـــاوٍ لـلـجَميلِ بـفـاعِلٍ ** وَلا كُـــــلُّ فَـــعّــالٍ لَـــــهُ بِــمُـتَـمِّـمِ

وَلَكِن عَدِّي عَنْ هَذَا.

يا مَن عزم السفر إلى الله والدار الآخرة, قد رُفِعَ لك عَلَمٌ فشمر إليه, فقد أَمْكَن التشمير، واجعل سَيرك بين مُطالَعة مِنَّتِهِ, ومشاهدة عيب النفس, والعمل والتقصير، فما أبقى مشهد النعمة, والذنب للعارف من حَسَنَةٍ يقول: هذه مُنجِيَتي من عذاب السعير، ما المُعَوَّلُ إلا على عفوه ومغفرته فكل أحدٍ إليهما فقير، أبوء لك بنعمتك علي, وأبوء بذنبي, فاغفر لي, أنا المُذنِب المُسَيْكِينُ وأنت الرحيم الغفور.

ما تساوى أعمالك لو سَلِمَت مما يبطلها أدنى نعمةٍ من نعمه عليك، وأنت مُرتَهنٌ بشكرها من حين أَرسَل بها إليك، فهل رعيتها باللهِ حَق رعايتها وهى في تَصرِيفِكَ وطَوْعَ يديك؟!

فتعلَّق بحبل الرجاء، وادخل نفسك من باب التوبة والعمل الصالح إنه غفورٌ شكور.

نَهَجَ للعبد طريق النجاة وفتح له أبوابَها، وعَرَّفه طرق تحصيل السعادة وأعطاهُ أسبابَها، وحذَّره من وَبَالِ معصيته وأشهده على نفسه وعلى غيره شُؤمَها وعِقابَها، وقال: إنْ أَطَعتَ فَبفَضلِي وأنا أشكر، وإن عصيت فبقضَائي وأنا أغفر، إن ربنا لغفورٌ شكور.

وأزاح عن العبدِ العِلَل، وأمره أن يستعيذ به مِن العجزِ والكسل، ووَعدَه أن يشكر له القليل من العمل، ويغفر له الكثير من الزَّلَلِ، إن ربنا لغفورٌ شكور.

أعطاهُ ما يشكر عليه, ثم يشكرُه على إحسانه إلى نفسه لا على إحسانه إليه، ووعده على إحسانه لنفسه أن يحسن جزاءه ويقربه لديه، وأن يغفر له خطاياه إذا تاب منها ولا يفضحه بين يديه، إن ربنا لغفورٌ شكور.

وَثِقَتْ بعفوه هفواتُ المذنبين فوسِعتها، وعكفت بكرمه آمالُ المحسنين فما قطع طَمعَها، وخرقت السبع الطباق دعوات التائبين والسائلين فسمِعها، ووسِع الخلائق عفُوه ومغفرتُه ورزقُه, فما مِن دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها, إن ربنا لغفورٌ شكور.

يَجُود على عبيده بالنوالِ قبل السؤال، ويُعطى سائله ومؤمله فوق ما تعلقت به منهم الآمال، ويغفر لمن تاب إليه, ولو بلغت ذنوبه عدد الأمواج والحصى والتراب والرمال، إن ربنا لغفورٌ شكور.

أَرحَمُ بعباده من الوالدة بولدها، وأَفرَحُ بتوبة العائد التائب مِن الفاقد لراحلته؛ عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكةِ إذا وجدها، وأَشكَرُ للقليل من جميع خلقه, فمن تقرب إليه بمثقال ذرة من الخير شكرها وحَمِدَهَا؛ إن ربنا لغفورٌ شكور.

تَعَرَّفَ إلى عباده بأسمائه وأوصافه، وتحَبَّبَ إليهم بحلمه وآلائه، ولم تمنعه معاصيهم بأن جاد عليهم بآلائِه، وَوَعَدَ مَن تاب إليه وأحسن طاعته بمغفرةِ ذنوبه يوم لقائِه، إن ربنا لغفورٌ شكور.

السعادة كلها في طاعته، والأرباح كلها في معاملته، والمِحَنُ والبَلَايَا كلها في معصيته ومخالفته، فليس للعبدِ أنفع من شكرهِ وتوبته، إن ربنا لغفورٌ شكور.

أفاض على خلقه النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضَمَّنَ الكتاب الذى كتبه إنَّ رحمته تغلب غضبه، إن ربنا لغفورٌ شكور.

يُطَاع فيُشْكَرُ؛ وطاعته من توفيقه وفضله، ويُعصَى فيَحْلُمُ؛ ومعصية العبد من ظلمه وجهله، ويتوب إليه فاعل القبيح فيغفر له, حتى كأنه لم يكن قَطُّ من أهله، إن ربنا لغفورٌ شكور.

الحسنة عنده بعشرة أمثالها أو يضاعفها بلا عددٍ ولا حسبان، والسيئة عنده بواحدةٍ ومصيرها إلى العفو والغفران، وباب التوبةِ مفتوح لديه منذ خلق السماوات والأرض إلى آخرِ الزمان، إن ربنا لغفورٌ شكور.

بابُه الكريم مناخُ الآمالِ ومَحَطُّ الأوزار، وسماءُ عطاياه لا تقلع عن الغيث بل هي مِدْرَار، ويمينه مَلْأَى لا تغيضها نفقةٌ سَحَّاءُ الليل والنهار، إن ربنا لغفورٌ شكور.

لا يَلقَّى وصايَاه إلا الصابرون، ولا يفوز بعطايَاه إلا الشاكرون، ولا يَهلِك عليه إلا الهالكون، ولا يشقى بعذابه إلا المتمردون، إن ربنا لغفورٌ شكور.

فإياك أيها المتمرد أن يأخذك على غِرَّةٍ فإنه غيور، وإذا أقمت على المعصية وهو يَمُدُّكَ بنعمته فاحذر!، فاحذر! فإنه لم يهملك لكنه صبور، وبُشْرَاك أيها التائب بمغفرته ورحمته إنه غفورٌ شكور.

مَن عَلِمَ أنَّ الربَّ شكور تنوع في معاملته، ومَن علم أنه واسع المغفرة تعلق بأذيالِ مغفرته، ومَن علم أن رحمته سبقت غضبه لم ييأس مِن رحمته، إن ربنا لغفورٌ شكور.

مَن تعلق بصفةٍ من صفاته أخذته بيده حتى تُدخِله عليه، ومَن سار إليه بأسمائه الحسنى وَصَلَ إليه، ومَن أحبه أحب أسمائه وصفاتِه وكانت آثَرَ شيءٍ لديه، حياة القلوب في معرفته ومحبته، وكمال الجوارح في التقرب إليه بطاعته, والقيام بخدمته، وكمال الأَلْسِنَةُ بذكره والثناء عليه بأوصاف مَدحه، فأهلُ شكره أهلُ زيادته، وأهلُ ذكره أهلُ مُجَالَسَتِهِ، وأهلُ طاعته أهلُ كرامته، وأهلُ معصيته لا يُقَنِّطَهُم من رحمته، إن تابوا فهو حبيبهم، وإن لم يتوبوا فهو طَبِيبُهُم، يبتليهم بأنواع المصائب ليُكَفِّرَ عنهم الخطايا، ويطهرهم من المعائب، إنه غفورٌ شكور.

وقال الإمام العلامة ابن القيم -رحمه الله تعالي-:

((أَفْضَلُ العِلمِ والعَمَلِ والحالِ: العِلمُ باللهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ، والعملُ بمرْضَاتِهِ، وانجذابُ القلبِ إليهِ بالحُبِّ والخوفِ والرجاءِ، فهذا أشْرَفُ ما في الدُّنيا، وجزَاؤُهُ أشرفُ ما في الآخِرَةِ.

وأجلُّ المقاصدِ معرفةُ اللهِ ومحبَّتُهُ والأُنْسُ بقربِهِ، والشَّوقُ إلى لِقَائِهِ والتَّنَعُّمُ بِذِكْرِهِ، وهذا أجَلُّ سعادةِ الدُّنيا والآخرةِ، وهذا هوَ الغايَةُ التي تُطْلَبُ لِذَاتِها.

وإنَّما يشعرُ العبدُ تمامَ الشُّعورِ بأنَّ ذلكَ عينُ السعادةِ, إذا انكشفَ لهُ الغِطاءُ وفارقَ الدُّنيا ودخلَ الآخرةَ، وإلاَّ فهوَ في الدُّنْيَا -وإنْ شعرَ بذلكَ بعضَ الشعورِ- فليسَ شعورُهُ كاملًا للمعارضاتِ التي عليهِ، والمحنِ التي امْتُحِنَ بها، وإلاَّ فليست السعادةُ في الحقيقةِ سِوَى ذلكَ.

وكلُّ العلومِ والمعارفِ تَبَعٌ لهذهِ المعرفةِ، مُرَادَةٌ لأجْلِها، وتفاوتُ العلومِ في فضلِها بحسَبِ إفضائِها إلى هذهِ المعرفةِ وبُعْدِها، فَكُلُّ علمٍ كانَ أقربَ إفضاءً إلى العلمِ باللهِ وأسمائِهِ وصفاتِهِ فهوَ أعلى مِمَّا دُونَهُ، وكذلكَ حالُ القلبِ؛ فكلُّ حالٍ كانَ أقربَ إلى المقصودِ الذي خُلِقَ لهُ فهوَ أشرفُ مِمَّا دُونَهُ، وكذلكَ الأعمالُ، فكلُّ عملٍ كانَ أقربَ إلى تحصيلِ هذا المقصودِ كانَ أفضلَ منْ غيرِهِ، ولهذا كانت الصَّلاةُ والجهادُ منْ أفضلِ الأعمالِ, وأفْضَلِهَا لقُرْبِ إفضَائِها إلى المقصودِ.

وهكذا يجبُ أنْ يكونَ؛ فإنَّه كلَّ ما كانَ الشيءُ أقربَ إلى الغايَةِ كانَ أفضلَ من البعيدِ عنها، فالعملُ المُعِدُّ للقلبِ المُهَيِّئُ لهُ لِمَعرفةِ اللهِ, وأسمائِهِ, وصفاتِهِ, ومحبَّتِهِ, وخوفِهِ, ورجائِهِ أفضلُ مِمَّا ليسَ كذلكَ.

وإذا اشتركتْ عِدَّةُ أعمالٍ في هذا الإِفْضَاءِ, فأفضلُها أقْرَبُها إلى هذا المُفْضِي، ولهذا اشتركت الطَّاعاتُ في هذا الإفضاءِ, فكانتْ مطلوبةً للَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- واشتركت المعاصي في حَجْبِ القلبِ وَقَطْعِهِ عنْ هذهِ الغايَةِ, فكانتْ مَنْهِيًّا عنها، وتأثيرُ الطاعاتِ والمعاصي بحَسَبِ درجاتِها)).

والعلمُ بأسماءِ اللهِ الحسنى وصفاتِهِ العُلْيَا يُفْضِي إلى المراتبِ العاليَةِ والمعارفِ الجليلَةِ.

في المسندِ مِن حديثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- عن النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ((إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَ خَلْقَهُ فِي ظُلْمَةٍ، وأَلْقَى عَلَيْهِمْ مِنْ نُورِهِ، فَمَنْ أَصَابَهُ مِنْ ذَلِكَ النُورِ اهْتَدَى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ)), فَلِذَلِكَ أَقُولُ: ((جَفَّ الْقَلَمُ عَلَى عِلْمِ اللهِ تَعَالَى)) والحديث أخرجه أيضًا الترمذي والبيهقي وغيرهما وهو حديثٌ صحيح.

قَالَ الإِمَامُ العلامة ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ تعالي وأنزلهُ الفردوسَ الأعلى مِنَ الجنة-:

((هَذا الحديثُ العظيمُ أصلٌ من أصولِ الإيمان, وينفتح به بابٌ عظيم من أبوابِ سير المرءِ بين القضاء والقدر, ومع معرفتهِ لحكمة ذلك كله, وهذا النور الذي ألقاه الله عليهم, هو الذي أحياهم وهداهم, فأصابت الفطرة منه حظها.

ولكن لما لم يستقل بتمامه وكماله أكمله لهم، وأَتَمَّهُ بالروح الذي ألقاه على رُسُلِهِ -عليهم الصلاة والسلام- والنور الذي أوحاهُ إليهم, فأدركَتهُ الفطرة بذلك النور السابق الذي حصل لها يوم إلقاء النور, فانضاف نور الوحيِ والنبوةِ إلى نور الفطرة، نورٌ على نور, فأشرقت منه القلوب, واستنارت به الوجوه, وحَيَّت به الأرواح, وأذعنت به الجوارح للطاعات طوعًا واختيارًا.

فازدادت به القلوب حياةً إلي حياتها, ثم دلها ذلك النور, على نورٍ آخر, هو أعظم منه وأَجَلُّ؛ وهو نور الصفات العليا, الذي يضمحل فيه كل نورٍ سواه, فشاهدته ببصائر الإيمان مشاهدةً نِسْبَتُهَا إلى القلب كنسبةِ المرئيات إلى العين، ذلك لاستيلاءِ اليقين عليها، وانكشافِ حقائق الإيمان لها, حتى كأنها تنظر إلى عرش الرحمن -تبارك وتعالى- بارزًا، وإلى استوائه عليه، كما أخبر به سبحانه وتعالى في كتابه، وكما أخبر به عنه رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يُدَبِّرُ أمرَ الممالكِ، ويَأمُرُ ويَنْهى، ويخلُقُ ويرزُقُ، ويميتُ ويُحْيي، ويَقضِي ويُنفِّذُ، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويقلِّبُ الليلَ والنهارَ، ويُدَاوِلُ الأيامَ بينَ الناسِ، ويُقَلِّبُ الدُّوَلَ، فيذهبُ بدولةٍ، ويأتي بأخرى.

والرسلُ من الملائكةِ -عليهم الصلاةُ والسلامُ- بين صاعدٍ إليه بالأَمرِ، ونازلٍ مِن عندِهِ به، وأَوَامِرُه ومَراسِيمُهُ متعاقبةٌ على تعاقُبِ الأوقاتِ، نافذةٌ بحسبِ إرَادتهِ ومَشِيئتهِ، فما شاءَ كانَ, كَمَا شاءَ في الوقتِ الذي يشاءُ, على الوجهِ الذي يشاءُ، مِن غيرِ زيادةٍ ولا نقصانٍ، ولا تَقَدُّمٍ ولا تأخُّرٍ، وأمرُهُ وسلطانُهُ نافِذٌ في السمواتِ وأقطارِها، وفي الأرضِ وما عليها وما تحتها، وفي البحارِ والجوِّ، وفي سائرِ أجزاءِ العَالَمِ وذرَّاتِهِ، يُقَلِّبها ويُصَرِّفها، ويُحدِثُ فيها ما يشاءُ.

وقد أحاطَ بكلِّ شيءٍ علمًا، وأحصى كلَّ شيءٍ عددًا، ووسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وحكمةً، ووسِعَ سَمْعُهُ الأصوات، فلا تختلفُ عليه ولا تشتبهُ عليه، بل يسمعُ ضجيجَها باختلافِ لُغَاتِها على تَفَنُّنِ حاجاتِها، فلا يَشغَلُهُ سمعٌ عن سمعٍ، ولا تُغلِطُه كثرةُ المسائلِ، ولا يتبَرَّمُ بإلحاحِ المُلِحِّين ذوي الحاجات.

وأحاط بصرُه بجميعِ المرئياتِ، فيرى دبيبَ النملةِ السوداءِ على الصخرةِ الصَّمَّاءِ في الليلةِ الظلماءِ، فالغيبُ عندهُ شَهادةٌ، والسرُّ عنده عَلانيةٌ، يعلمُ السرَّ وأخفى مِنَ السرِّ؛ فالسرُّ: ما انطَوى عليه ضمير العبدِ، وخَطرَ بقلبِهِ، ولم تتحركْ به شفتاه، وأخفى من السرِّ: ما لم يخطرْ بقلبِهِ بَعْدُ، فيَعلَمُ أنه سيخطرُ بقلبِهِ كذا وكذا في وقتِ كذا وكذا.

له الخلقُ والأمرُ، وله الملكُ وله الحمدُ، وله الدُّنيا والآخرةُ، وله النعمةُ، وله الفضلُ، وله الثَّناءُ الحسنُ، وله المُلْكُ كلُّه، وله الحمد كلُّهُ، وبيدهِ الخيرُ كلُّهُ، وإليه يُرجعُ الأمرُ كلُّهُ، شملت قدرتُهُ كلَّ شيءٍ، ووسعتْ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ، ووصلت نعمتُهُ إلى كلِّ حيٍّ, {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}.

يغفرُ ذنبًا، ويفرِّجُ همًّا، ويكشِفُ كربًا، ويجبرُ كَسِيرًا، ويُغني فقيرًا، ويُعَلِّمُ جاهِلًا، ويهدي ضالًّا، ويُرشِدُ حيرانًا، ويغيث لَهْفَانًا، ويَفُكُّ عانيًا، ويُشبِعُ جائِعًا، ويَكْسُو عاريًا، ويشفي مريضًا، ويُعافي مُبْتَلَى، ويقبل تائبًا، ويجزي مُحسِنًا، وينصرُ مظلومًا، ويقصِمُ جبَّارًا، ويُقيلُ عثرَةً، ويسترُ عورةً، ويُؤَمِّن روعةً، ويرفعُ أقوامًا، ويضع آخرين.

لا ينامُ، ولا ينبغي له أن ينامَ، يخفضُ القسطَ ويرفعُهُ، يُرفَع إليه عملُ الليلِ قبلَ عملِ النهارِ، وعملُ النهار قبلَ عملِ الليلِ، حجابُه النورُ، لو كشفَهُ لأحرقتْ سُبُحاتُ وجههِ ما انتهى إليه بصرُه من خلقه.

يمينُه مَلأى، لا تَغِيضُها نفقة، سَحَّاءُ الليلَ والنهارَ، أرأيتم ما أنفقَ مُنذُ خلقَ الخلقَ، فإنه لم يَغِضْ ما في يمينهِ.

قلوبُ العبادِ ونواصيهم بيدهِ، وأَزِمَّةُ الأمورِ معقودةٌ بقضائهِ وقدرِهِ، الأرضُ جميعًا قبضتُهُ يومَ القيامةِ، والسمواتُ مطوياتٌ بيمينهِ، يقبضُ سماوتِه كلِّها بيدِهِ الكريمة، والأرضَ باليدِ الأخرى، ثم يَهُزُّهنَّ، ثم يقولُ: أنا المَلِكُ، أنا المًلِكُ، أنا الذي بَدَأْتُ الدُّنيا ولم تكنْ شيئًا، وأنا الذي أُعيدُها كما بَدَأتُها.

لا يتعاظمه ذنبٌ أن يَغفرَهُ، ولا حاجةٌ يُسأَلُها أن يعطيَها, لو أن أهلَ سماوتِهِ، وأهلَ أرضِهِ، وأولَ خلقِهِ وآخرَهم، وإِنْسَهم وجنَّهم، كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ منهم، ما زاد ذلك في ملكهِ شيئًا.

ولو أنَّ أولَ خلقهِ وآخرَهم، وإِنسَّهم وجِنَّهم، كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ منهم، ما نقصَ ذلك من ملكهِ شيئًا، ولو أن أهلَ سماوتِهِ، وأهل أرضِهِ، وإنسَهم وجِنَّهم، وحيَّهُم وميِّتهم, ورطَبهم ويابِسهم، قاموا في صعيدٍ واحدٍ، فسألوه فأعطى كلًّا منهم ما سألَ، ما نقصَ ذلك مما عِندَهُ مثقالَ ذرةٍ.

ولو أنَّ أشجارَ الأرضِ كلَّها -من حين وُجدتْ إلى أن تنقضيَ الدنيا- أقلامٌ، والبحرَ وراءه سبعةُ أبحرٍ تمدُّه من بعده مِدادٌ، فكُتِبَ بتلك الأقلامِ، وذلك المِدادِ، لفنيت الأقلامُ ونفدَ المدادُ، ولم تنفدْ كلماتُ الخالقِ تباركَ وتعالى.

وكيفَ تَفْنَى كلماتُه جَلَّ جلالُهُ وهي لا بدايةَ لها ولا نهاية؟! والمخلوقُ له بدايةٌ ونهايةٌ، فهو أحقُّ بالفناءِ والنَّفادِ، وكيف يُفنِي المخلوقُ غيرَ المخلوق؟!

هو الأولُ الذي ليسَ قبلهُ شيءٌ، والآخرُ الذي ليسَ بعده شيءٌ، والظاهرُ الذي ليس فوقه شيءٌ، والباطنُ الذي ليس دونه شيءٌ -تباركَ وتعالى-, أحقُّ مَن ذُكِر، وأحقُّ مَن عُبد، وأحقُّ مَن حُمِد، وأولى مَن شُكِر، وأنصَرُ مَن ابتُغِي، وأرأفُ مَن مَلَك، وأجودُ مَن سُئِل، وأعفَى مَن قَدِر، وأكرم مَن قُصِد، وأعدل مَن انتَقَم, حكمُه بعد علمهِ، وعفوهُ بعد قدرتهِ، ومغفرتُه عن عِزَّتهِ، ومَنْعُه عن حِكمتهِ، وموالاتُه عن إحسانهِ ورحمتهِ.

ما لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ واجبٌ ** كَلَّا ولا سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ

إن عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ، أو نُعِّمُوا ** فَبِفَضْلِهِ، وهو الكريمُ الواسِعُ

هو الملكُ الذي لا شريكَ له، والفردُ فلا نِدَّ له، والغنيُّ فلا ظهيرَ له، والصمدُ فلا وَلدَ له، ولا صَاحِبةَ له، والعَليُّ فلا شبيهَ له، ولا سَمِيَّ له، كلُّ شيءٍ هالكٌ إلا وَجهَهُ، وكلُّ مُلْكٍ زائِلٌ إلَّا مُلكَهُ، وكلُّ ظلٍّ قَالِصٌ إلا ظِلُّهُ، وكلُّ فضلٍ منقطعٌ إلا فَضلَه.

لن يُطاعَ إلا بإذنهِ ورحمتهِ، ولن يُعصى إلا بعلمهِ وحكمتهِ، يُطاعُ فيَشكرُ، ويُعصَى فيتجاوزُ ويَغْفِرُ، كلُّ نقمةٍ منه عدلٌ، وكلُّ نعمةٍ منه فضلٌ، أقربُ شهيدٍ، وأدنى حفيظٍ، حالَ دون النفوسِ، وأخذَ بالنواصي، وسجل الآثار، وكتبَ الآجالَ، فالقلوبُ له مُفْضِيَةٌ، والسرُّ عنده علانيةٌ، والغيبُ عندَهُ شهادةٌ، عطاؤه كلامٌ، وعذابهُ كلامٌ، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.

فإذا أشرقت على القلب أنوار هذه الصفات, اضمحل عندها كل نور، ووراء هذا ما لا يخطر بالبال، ولا تناله عبارة)).

فإذا شرح الله صدر عبده بنوره الذي يقذفه في قلبه, أراه في ضَوْءِ ذلك النور؛ حقائق الأسماء والصفات التي تضل فيها معرفة العبد, إذ لا يمكن أن يعرفها العبد على ما هي عليه في نفس الأمر، وأراه في ضوء ذلك النور حقائق الإيمان, وحقائق العبودية, وما يصححها وما يفسدها, وتفاوتت معرفة الأسماء والصفات والإيمان والإخلاص وأحكام العبودية بحسب تفاوتهم في هذا النور.

قال ربنا -جل وعلا-: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}.

وقال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}.

فيكشف لقلب المؤمن في ضوء ذلك النور, عن حقيقة المثل الأعلى مستويًا على عرش الإيمان في قلب العبد المؤمن؛ فيشهد بقلبه ربًّا عظيمًا قاهرًا قادرًا أكبرَ من كل شيء, في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، السماوات السبع قبضةُ إحدى يديه، والأرضون السبع قبضة اليد الأخرى، يمسك السماوات على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، والثرى على أصبع، ثم يَهزُّهن ثم يقول: أنا المَلِك.

فالسماوات السبع في كفِّه كخَردله في كف العبد، يُحيط ولا يُحاطَ به، ويَحصُر خلقه ولا يَحصُرونَه، ويدرِكَهم ولا يدرِكُونَه، لو أن الناس من لدن آدم إلى آخر الخلق قاموا صفًا واحدًا ما أحاطوا به -سبحانه-.

ثم يشهده في علمه فوق كل عليم، وفي قدرته فوق كل قدير، وفي جوده فوق كل جَوَاد، وفي رحمته فوق كل رحيم، وفي جماله فوق كل جميل، حتى لو كان جمالُ الخلائق كلِّهم على شخصٍ واحد منهم, ثم أُعطِيَ الخلق كلهم مثلُ ذلك الجمال, لكانت نِسبَتُهُ إلى جمال الربِّ –سبحانه- دون نِسبَة سراجٍ ضعيفٍ إلى ضوء الشمس.

ولو اجتمعت قُوَى الخلائق على واحدٍ منهم, ثم أُعطِيَ كل منهم مثل تلك القوة, لكانت نسبتها إلى قوته –سبحانه- دون نسبة قوة البَعوضَةِ إلى حملة العرش.

ولو كان جودهم على رَجُلٍ واحدٍ, وكل الخلائق على ذلك الجود, لكانت نسبته إلى جوده –تعالي- دون نسبة قَطْرَةٍ إلى البحرِ.

وكذلك عِلْمُ الخلائق إذا نُسِبَ إلى علمه, كان كنقرةِ عصفورٍ من البحر.

وكذلك سائرُ صفاته :كحياته وسمعه وبصره وإرادته, فلو فُرِضَ البحر المحيطُ بالأرض مِدَادًا, تُحِيطُ به سبعة أبحر, وجميع أشجارِ الأرض شيئًا بعد شيءٍ أقلامًا؛ لَفَنِيَ ذلك المِدَادُ والأقلام, ولا تَفْنَى كلماته ولا تنفد.

فهو أكبر في عِلْمِه مِن كل عَالِمٍ، وفي قدرته من كل قادرٍ، وفي جوده من كل جواد، وفي غناه من كل غني، وفي عُلُوِّهِ من كل عالٍ، وفي رحمته من كل رحيم.

استوى على عرشه واستولى على خلقه، منفردٌ بتدبير مَمْلَكَتِهِ، فَلَا قَبْضَ وَلَا بَسْطَ،ولا إِعطَاءَ ولا مَنْعَ, ولا هُدى ولا ضَلَالَ، ولا سعادةَ ولا شَقَاوَة، ولا موتَ ولا حياة، ولا نفع ولا ضُرَّ إلا بيده، لا مالك غيره ولا مدبر سواه، لا يستقل أحدٌ معه بِمُلْكِ مثقالِ ذرةٍ في السماوات والأرض, ولا له شرِكَة في مُلْكِهَا، ولا يحتاج إلى وزير ولا ظهير ولا معين، ولا يغيب فَيَخْلُفَهُ غيره، ولا يعيَا فيعينه سواه، ولا يتقدم أحدٌ بالشفاعة بين يديه إلا من بعد إذنه لمن شاء وفي من شاء.

فهو أول مشاهد المعرفة، ثم يترقى منه إلى مشهدٍ فوقه لا يتم إلا به وهو مشهد الإِلَهِيَّةِ؛ فيشهده –سبحانه- متجليًا في كماله بأمره ونهيه, ووعده ووعيده, وثوابه وعقابه, وفضله في ثوابه, فيشهد ربًّا قيومًا متكلمًا آمرًا ناهيًا، يُحِبُّ ويُبْغِضُ, ويَرْضَى ويَغْضَب، وقد أرسل رسله وأنزل كتبه وأقام على عِبادِه الحُجَّةِ البالغة، وأتم عليهم نعمته السابغة، يهدى مَن يشاء نعمة منه وفضلًا، ويضل مَن يشاء حكمةً منه وعدلًا، يُنزل إليهم أوامِره، وتعرض عليه أعمالهم، لم يخلقهم عبثًا، ولم يتركهم سُدًى، بل أَمْره جارٍ عليهم في حركاتهم وسكناتهم وظواهرهم وبواطنهم؛ فلله عليهم حُكْمٌ وأمر في كل تحريكةٍ وتسكينةٍ ولحظةٍ ولفظةٍ.

وَينكشف له في هذا النور عدله وحكمته, ورحمته ولطفه, وإحسانه وبِره في شرعه وأحكامِه، وأنها أحكام ربٍّ رحيمٍ محسنٍ لطيفٍ حكيمٍ، قد بهرت حِكمته العقول وأقرت بها الفِطَر، وشهدت لمنزلها بالوحدانية، ولمن جاء بها بالرسالة والنبوة، وينكشف له في ضوء ذلك النور إثبات صفات الكمال، وتنزيهه –سبحانه- عن النقص والمثال، وأن كل كمالٍ في الوجود فمعطيه وخالقُه أحقُّ به وأولى، وكل نقصٍ وعيبٍ فهو –سبحانه- مُنزهٌ متعالٍ عنه.

فينكشف له في ضوء هذا النور, حقائق المعاد واليوم الآخر, وما أخبر به الرسول عنه حتى كأنه يشاهدهُ عِيانًا، وكأنه يخبر عن الله وأسمائه وصفاته، وأمره ونهيه، ووعدِه ووعيدِه، إخبار مَن كأنه قد رأى وعَايَنَ وشاهد ما أخبر به؛ فمَن أراد –سبحانه- هدايته شرح صدره لهذا فاتسع له وانفسح، ومن أراد ضلالته جعل صدره من ذلك في ضيق وحرج لا يجد فيه مسلكًا ولا منفذًا.

فشتان بين قلبٍ يبيت عند ربه, قد قطع في سفرِه إليه بيدَاء الأكوان، وخرق حُجُبَ الطبيعة، ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علم، حتى دخل على ربه في داره، فشاهد عز سلطانه، وعظمة جلاله، وعلو شأنه، وبهاء كماله، وهو مستوٍ على عرشه يدبر أمر عباده، وتصعد إليه شؤون العباد، وتُعرَض عليه حوائجهم وأعمالهم، فيأمر فيها بما يشاء، فينزِل الأمر من عنده نافذًا كما أمر.

فيُشاهِدُ المَلِكَ الحق قيومًا بنفسه، مقيمًا لكل ما سواه، غنيًّا عن كل ما سواه، وكل مَن سواه فقير إليه {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ}.

يغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويفك عانيًا، وينصر ضعيفًا، ويجبر كسيرًا، ويغني فقيرًا، ويُميت ويُّحيي، ويُسعد ويُشقي، ويضل ويهدي، وينعم على قوم، ويَسلبُ نعمته عن آخرين، ويعز أقوامًا، ويذل آخرين، ويرفع أقوامًا، ويضع آخرين.

ويَشهدُه كمَا أخبَر عنه أعْلَمُ الخلق به وأصدقهم في خبره, حيث يقولُ في الحديثِ الصحيحِ ((يمِينُ اللهِ مَلأَى لا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ, سَحَّاءُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ, أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُنْذُ خَلَقَ الخلق؟ فَإِنَّهُ لَمْ يُغض ما فِي يَمِينِهِ، وَبِيَدِهِ الأُخْرَى الميزان يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ))، فيشاهده كذلك يقسم الأرزاق، ويُجزل العطايا، ويمُنُّ بفضله على مَن يشاء من عباده بيمينه، وباليد الأخرى الميزان, يخفض به مَن يشاء، ويرفع به مَن يشاء، عدلًا منه وحكمة، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.

فيشهَدُه وَحدَهُ القيومَ بأمر السموات والأرض ومَن فيهن، ليس له بوابٌ فيستأذن، ولا حاجبٌ فيُدخَل عليه، ولا وزيرٌ فيُؤتى، ولا ظَهيرٌ فيستعان به، ولا وَلِيٌّ مِن دونه فيشفع به إليه مَن أراد الوصول إليه، ولا نائبٌ عنه فَيُعَرِّفَهُ حوائج عباده، ولا معينٌ له فيعاوِنَه على قضائها، بل قد أحاط –سبحانه- بها علم، ووسعها قدرةً ورحمة، فلا تزيده كثرت الحاجات إلا جُودًا وكرمًا، ولا يشغَله منها شأنٌ عن شأن، ولا تغلطه كثرت المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين.

لو اجتمع أول خلقه وآخرهم، وإنسهم وجنهم، وقاموا في صعيدٍ واحدٍ ثم سألوه, فأعطى كل منهم مسألته, ما نقص ذلك مما عنده ذرةً واحدةً, إلا كما ينقص المخيط البحر إذا غُمِس فيه، ولو أن أولهم وآخرهم، وإنسهم وجنهم على أتقى قلب رَجُلٍ واحدٍ منهم, ما زاد ذلك في مُلْكِهِ شيئًا، ذلك بأنه الغني الجواد الماجد، فعطاؤه من كلام، وعذابه من كلام، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.

ويَشهَدُهُ كما أخبر عنه أيضًا الصادق المصدوق حيث يقول: ((إِنَّ اللهَ، لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ، مَا أدركه بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)).

وبالجملة فيشهده في كلامه, فقد تجلى -سبحانه وتعالى- لعباده في كلامه، وتراءى لهم فيه، وتعرف إليهم فيه، فبعدًا وتبًا للجاحدين والظالمين، {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} لا إله إلا هو الرحمن الرحيم.

فإذا صار صفات ربه وأسماؤه مشهدًا لقلبه أنسته ذِكرَ غيره، وشغلته عن حب مَن سواه، وحديث دواعي قلبه إلى حبه تعالى بكل جزء من أجزاء قلبه وروحه وجِسمه، فحينئذ يكون الرب –تعالى- سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ويده التي يَبطش بها، ورِجلَه التي يمشي بها، فبه يَسمعُ، وبه يُبصِر، وبه يَبطِش، وبه يَمشي كما أخبر عن نفسه على لسان رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

ومَن غَلُظَ حجابه، وكثُفَ طبعه، وصلُبَ عوده، فهو عن فهم هذا بِمَعْزِل، بل لعله أن يفهم منه ما لا يليق به –تعالى- من حلولٍ أو اتحادٍ، أو يفهم منه غير المراد منه فيُحَرِّفُ معناه ولَفْظَهُ، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}.

إذا سَمِعتَ هذا وعَقَلْتَهُ, عَلِمْتَ يقينًا أننا لسنا نحي الحياة التي ينبغي أن نحيا، كثافةٌ في الطبع، وقساوةٌ في القلب، وغِلظةٌ في النفس، ويُبُوسَةً في اللسان، أهذهِ هي الحياة؟!!

اسأل الله أن يُفهمنا، وأن يُعلمنا، وأن يُبصرنا، إنه هو الجواد الكريم، وَصَلَّى اللـهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ- صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ. أَمَّا بَعْدُ:

فإذا طلعت شمسُ التوحيد، وباشرت جوانبها الأرواحُ، ونورَها البصائر, تجلت بها ظلمات النفس والطبع؛ وتحركت بها الأرواح في طلب مَن ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فسافر القلبُ في بيداءِ الأمر، ونزلَ منازل العبودية منزِلًا منزِلًا، فهو ينتقل مِن عبادةٍ إلى عبادة، مُقِيمٌ على معبودٍ واحدٍ.

فلا تزال شواهد الصفات قائمة بقلبه، توقِظُهُ إذا رقد، وتُذَكِّرُهُ إذا غفل، وتَحْدُو به إذا سار، وتُقيمُهُ إذا قعد، إن قام بقلبه شاهدٌ من الربوبية والقيومية رأى أن الأمرَ كله لله، ليس لأحد معه مِنَ الأمر شيء, {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {2} يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}.

{وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ}.

{قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ  (85)قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)}

وإن قام بقلبه شاهدٌ من الإلهية: رأى في ذلك الشاهد الأمر والنهي, والنُّبُوَّاتِ والكتبَ والشرائعَ، والمحبةَ والرضَى، والكراهةَ والبغضَ، والثوابَ والعقابَ.

وشاهد الأمر نازلًا مِمَّنْ هو مستوٍ على عرشه، وأعمالَ العباد صاعدةً إليه، ومعروضةً عليه، يجزي بالإحسانِ منها في هذه الدار, وفي العُقْبَى نَضْرةً وَسُرُورًا، ويُقْدِّمُ إلى ما لم يكن من أمره وشرعه منها فيجعله هباءً منثورًا.

وإن قام بقلبه شاهدٌ من الرحمة: رأى الوجود كله قائمًا بهذه الصفة، فقد وَسِع من هي صفته كل شيءٍ رحمةً وعِلمًا، وانتهت رحمته إلى حيث انتهى عِلمه، فاستوى على عرشه برحمته، لتسَع كل شيء، كما وَسِعَ عرشه كل شيء.

وإن قام بقلبه شاهدُ العزة والكبرياء والعظمة والجبروت فله شَأنٌ أخر, وهكذا جميع شواهد الصفات.

والْقُرْآن كَلَام الله -جَلَّ وعَلَا- وَقد تجلى فِيهِ لِعِبَادِهِ بصِفَاتِه:

فَتَارَةً يَتَجَلَّى فِي صِفَاتِ الهَيْبَةِ وَالْعَظَمَة والجلال، فتخضع الْأَعْنَاق, وتنكسر النُّفُوس, وتخشع الْأَصْوَات، ويذوبُ الْكبر كَمَا يذوب الْمِلْحُ فِي المَاء.

وَتارَةً يَتَجَلَّى فِي صِفَاتِ الْجمالِ والكمالِ، وَهُوَ كَمَالُ الْأَسْمَاء، وجمالُ الصِّفَات، وجمالُ الْأَفْعَال الدَّال على كَمَال الذَّات؛ فيستنفدُ حبُّه من قلبِ العَبْد قُوَّة الْحبِّ كلهَا، بحَسَبِ مَا عرفه من صِفَاتِ جمالِه ونعوتِ كَمَالِه، فَيُصْبِح فؤادُ عَبدِه فَارغًا إِلَّا مِن محبته، فإذا أراد منه الغيرُ أن يعلق تلك المحبَة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كلَّ الإباء, كما قيل:

يُرَادُ مِنَ القَلْبِ نِسْيَانُكُم ** وَتَأْبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِلِ

فتبقى المحبة له طبعًا لا تَكَلُّفًا.

وَإِذا تجلى بِصِفَات الرَّحْمَة وَالْبر واللطف وَالْإِحْسَان، انبعثت قُوَّة الرَّجَاء من العَبْد وانبسط أمله، وَقَويَ طمعه، وَسَار إِلَى ربه, وحادي الرَّجَاء يَحْدُو ركاب سيره، وَكلما قوي الرَّجَاء جَدَّ فِي الْعَمَل، كَمَا أَن الباذر كلما قوي طمعه فِي الْمَغَل، غلَّق أرضه بالبذر، وَإِذا ضعف رجاؤه قصر فِي الْبذر.

وَإِذا تجلى بِصِفَات الْعدْل والانتقام, وَالْغَضَب والسَّخَط والعقوبة، انقمعت النَّفس الأمارة، وَبَطلَت أَو ضعفت قواها من الشَّهْوَة وَالْغَضَب, وَاللَّهْوِ واللعب, والحرص على الْمُحرمَات، وانقبضت أَعِنَّةُ رِعُونَاتِهَا فأحضرت المطية حظها من الخوف والخشية والحذر.

وَإِذا تجلى بِصِفَات الْأَمرِ وَالنَّهْي, والعهد وَالْوَصِيَّة, وإرسال الرُّسُل, وإنزال الْكتب, وشرع الشَّرَائِع، انبعثت مِنْهَا قُوَّة الِامْتِثَال والتنفيذِ لأوامره، والتبليغ لَهَا والتواصي بهَا، وَذكرهَا وتذكرها، والتصديق بالْخبر، والامتثال للطلب، والاجتناب للنَّهْي.

وَإِذا تجلى بِصفات السّمع وَالْبَصَر, انْبَعَثَت من العَبْد قُوَّة الْحيَاء، فيستحي ربه أَن يرَاهُ على مَا يكره، أَو يسمع مِنْهُ مَا يكره، أَو يُخفِي فِي سَرِيرَته مَا يمقته عَلَيْهِ، فَتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشَّرْع، غير مُهْملَة وَلَا مُرْسلَة تَحت حكم الطبيعة والهوى.

وَإِذا تجلى بِصِفَات الْكِفَايَة والحَسْب وَالْقِيَام بمصالح الْعباد وسَوْقِ أَرْزَاقهم إِلَيْهِم، وَدفع المصائب عَنْهُم، وَنَصره لأوليائه، وحمايته لَهُم، ومَعِيَّتِهِ الْخَاصَّة لَهُم, انبعثت من العَبْد قُوَّة التَّوَكُّل عَلَيْهِ والتفويض إِلَيْهِ, وَالرِّضَا بِهِ وبكل مَا يجريه على عَبده، ويقيمه فيه، مِمَّا يرضى بِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ، والتوكل معنًى يلتئم من عِلم العبد بكفاية الله, وحسن اختياره لعبده, وثقته به, ورضاه بما يفعله به ويختاره له.

وَإِذا تجلى بِصِفَات الْعِزِّ والكبرياء، أَعْطَتْ نَفسه المطمئنة مَا وصلت إِلَيْهِ من الذل لعظمته، والانكسار لعِزته، والخضوع لكبريائه، وخشوع الْقلب والجوارح لَهُ؛ فتَعلُوه السكينَة وَالْوَقار فِي قلبه وَلسَانه وجوارحه وسمته، وَيذْهب طيشه وقوته وحدته.

وجماع ذَلِك: أَنه –سُبْحَانَهُ- يتعرف إِلَى العَبْد بِصِفَات إِلَهِيَّتِهِ تارَة، وبصفات رُبُوبِيَّتِهِ تَارَة؛ فَيُوجب لَهُ شُهُود صِفَات الإلهية الْمحبَّة الْخَاصَّة، والشوقَ إِلَى لِقَائِه، والأنسَ والفرحَ بِهِ، وَالسُّرُورَ بخدمته، والمنافسةَ فِي قربه، والتودد إِلَيْهِ بِطَاعَتِهِ، واللهج بِذكرِهِ، والفرار من الْخلق إِلَيْهِ، وَيصير هُوَ وَحدَه هَمَّهُ دون سواهُ.

وَيُوجب لَهُ شُهُود صِفَات الربوبية التَّوَكُّل عَلَيْهِ، والافتقار إِلَيْهِ، والاستعانة بِهِ، والذل والخضوع والانكسار لَهُ.

وَكَمَال ذَلِك أَن يشْهد ربوبيته فِي قَضَائِهِ وَقدَرِه، وَنعمته فِي بلائِه، وعطاءه فِي مَنعه، وبِره ولطفه وإحسانه وَرَحمته فِي قيوميته، وعدله فِي انتقامه، وجُودَه وَكَرمه فِي مغفرته وسِتره وتجاوزه، وَيشْهدُ حكمته وَنعمته فِي أمره وَنَهْيه، وعِزَّهُ فِي رِضَاهُ وغضبه، وحلمَه فِي إمهاله، وَكَرمَه فِي إقباله، وغِناه فِي إعراضه.

وَأَنت إِذا تدبرت الْقُرْآن، وأجَرتَهُ من التحريف وَأَن تقضيَ عَلَيْهِ بآراء الْمُتَكَلِّمين، وأفكار المتكلفين: أَشْهَدَتْكَ آياته مَلِكًا قَيُّومًا فَوق سماوته على عَرْشه، يدبر أَمر عِباده، يَأْمرُ وَيُنْهِي، وَيُرْسل الرُّسُل، وَينزل الْكتب، ويرضى ويغضب، ويُثِيبُ ويُعَاقِب، وَيُعْطِي وَيمْنَع، ويُعِزُّ ويُذِلُّ، ويخفض وَيرْفَع، يرى من فَوق سبعٍ وَيسمع، وَيَعلَمُ السِّرَّ وَالْعَلَانِيَة، فعَّالٌ لما يُرِيد، مَوْصُوفٌ بِكُل كَمَال، مُنَزَّهٌ عَن كل عيب، لَا تتحرك ذرَّةٌ فَمَا فَوْقهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ، وَلَا تسْقط ورقةٌ إِلَّا بِعِلْمِهِ، وَلَا يشفع أحدٌ عِنْده إِلَّا بِإِذْنِهِ، لَيْسَ لِعِبَادِهِ من دونه وَليٌ وَلَا شَفِيع.

فلنُطلق اللعب طلاقًا بائنًا لا رجعة فيه، والمُحَلِّلُ هو التَّيْسُ المُستعار، ولْنُقْبِل على معرفةِ اللهِ بأسمائه وصفاته, فما أعظم ما نحن فيه من الجهل به تعالى، وما أعظمَ غفلتنا عن معاني كتابه، وما أعظم بُعدنا عن مقاصد وحقيقة التوحيد التي جاء بها النبي الرشيد من لدن العزيز الحميد.

فاللهم أيقظنا من رقدتنا، ونبهنا من غفوتنا، وأقمنا من سِنَتِنَا ونومنا يا أرحم الراحمين.

وَصَلَّى الله وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

 

 

التعليقات


خطب مفرغة قد تعجبك


  • شارك