تاريخ النشر الجمعة,04 رمضان 1439 / 18 مايو 2018

تفريغ خطبة جُمْلَةٌ مِنْ حِكَمِ وَفَوَائِدِ الصِّيَامِ


((جُمْلَةٌ مِنْ حِكَمِ وَفَوَائِدِ الصِّيَامِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مِنْ خَصَائِصِ شَهْرِ رَمَضَانَ))

فَرَمَضَانُ هُوَ الشَّهْرُ الَّذِي خَصَّهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهِ؛ بَلْ كَمَا ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: فَإِنَّ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَكَذَلِكَ الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ؛ كُلُّهَا نَزَلَتْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.

فَهَذَا الشَّهْرُ خَصَّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِنُزُولِ الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ فِيهِ؛ هِدَايَةً لِلنَّاسِ، وَفُرْقَانًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَنِبْرَاسًا يُنِيرُ دَيَاجِيرَ ظُلْمَةِ الْمَرْءِ فِي سَعْيِهِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنَ الْآلَامِ وَالْأَحْزَانِ، وَبِكُلِّ مَا فِيهَا مِنَ الْهُمُومِ وَالْغُمُومِ وَالْأَنْكَادِ، وَبِكُلِّ مَا فِيهَا مِنَ الْمَخَاطِرِ وَالْمَكَائِدِ -مِنْ مَكَائِدِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ وَالْكُفَّارِ وَالْمُجْرِمِينَ، وَكُلِّ صَادٍّ عَنْ سَبِيلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-.

فَهَذَا الشَّهْرُ خَصَّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِخَصَائِصَ بَاهِرَةٍ، وَأَنْزَلَ فِيهِ الْآيَاتِ الْمُبْهِرَةَ، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَهُوَ الصِّيَامُ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «بُنِيَ الْإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ».

((حِكَمُ وَفَوَائِدُ الصِّيَامِ))

عِبَادَ اللهِ! الْحِكْمَةُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الصِّيَامِ أَنَّ:

*فِيهِ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ، وَتَطْهِيرًا وَتَنْقِيَةً لَهَا مِنَ الْأَخْلَاطِ الرَّدِيئَةِ وَالْأَخْلَاقِ الرَّذِيلَةِ.

*وَالصِّيَامُ يُضَيِّقُ مَجَارِي الشَّيْطَانِ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ، وَكَذَلِكَ الشَّيْطَانُ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ, فَإِذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ؛ انْبَسَطَتْ نَفْسُهُ لِلشَّهَوَاتِ, وَضَعُفَتْ إِرَادَتُهَا, وَقَلَّتْ رَغْبَتُهَا فِي الْعِبَادَاتِ، وَالصَّوْمُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ.

*وَفِي الصَّوْمِ تَزْهِيدٌ فِي الدُّنْيَا وَشَهَوَاتِهَا، وَتَرْغِيبٌ فِي الْآخِرَةِ.

*وَفِي الصِّيَامِ بَاعِثٌ عَلَى الْعَطْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَإِحْسَاسٌ بِآلَامِهِمْ؛ لِمَا يَذُوقُهُ الصَّائِمُ مِنْ أَلَمِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ.

*وَالصَّوْمُ يُعَوِّدُ الْأُمَّةَ النِّظَامَ وَالِاتِّحَادَ، وَحُبَّ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةَ، وَيَكُونُ فِي الْمُؤْمِنِينَ عَاطِفَةَ الرَّحْمَةِ، وَخُلُقَ الْإِحْسَانِ، كَمَا يَصُونُ الْمُجْتَمَعَ مِنَ الشُّرُورِ وَالْمَفَاسِدِ.

وَالصِّيَامُ فِيهِ حِكَمٌ كَثِيرَةٌ -أَيْضًا-:

مِنْهَا: رِيَاضَةُ النَّفْسِ عَلَى حَبْسِهَا عَنْ شَهَوَاتِهَا وَمَحْبُوبَاتِهَا.

وَمِنْهَا: أَنَّ تَرْكَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ تَعَبُّدًا للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- يُورِثُ الْإِنْسَانَ زِيَادَةً فِي إِيمَانِهِ، وَقُوَّةً فِي تَوَقِّيهِ لِلْمُحَرَّمَاتِ، وَزِيَادَةً فِي ثَبَاتِهِ عَلَى امْتِنَاعِهِ عَنِ الشَّهَوَاتِ الَّتِي لَا يُبِيحُهَا لَهُ الشَّرْعُ فِي وَقْتِ الصِّيَامِ، فَيَتَدَرَّبُ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْهَا فِي غَيْرِ وَقْتِ الصِّيَامِ إِذَا كَانَتْ فِي غَيْرِ الْحَلَالِ الَّذِي أَحَلَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

مِنْ حِكَمِ الصِّيَامِ: أَنَّ التَّقْلِيلَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ يُمَرِّنُ الْإِنْسَانَ عَلَى مُرَاقَبَةِ رَبِّهِ، وَعَلَى الْخَوْفِ مِنْهُ، وَإِجْلَالِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.

مِنْ الْحِكَمِ: أَنْ يَتَمَرَّنَ عَلَى تَرْكِ الشَّهَوَاتِ مَعَ وُجُودِهَا وَحَاجَتِهِ إِلَيْهِ؛ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

وَهَذَا لَهُ أَثَرٌ فِي قُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَقَدْ أَشَارَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَى ذَلِكَ عِنْدَمَا ذَكَرَ الصِّيَامَ، قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.

إِذَا ذَاقَ الْإِنْسَانُ مَرَارَةَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ؛ فَكَّرَ فِي الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يَأْكُلُونَ وَمَا يَشْرَبُونَ، فَيَحْمَلُهُ ذَلِكَ عَلَى  الْعَطْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ وَالْفُقَرَاءِ وَعَلَى مُوَاسَاتِهِمْ.

فِي الصَّوْمِ مِنَ الْحِكَمِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَقَدْ فَرَضَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ فِي كُلِّ مِلَّةٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

فَرَضَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ عَظِيمَةٌ يَتَجَلَّى فِيهَا صِدْقُ مَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَتَعْظِيمِهِ لَهُ، وَالْتِمَاسِهِ لِرِضْوَانِهِ مِمَّا يَتَحَمَّلُهُ مِنْ صَبْرٍ عَلَى أَلَمِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ، وَكَبْحِ جِمَاحِ الشَّهْوَةِ؛ تَقْدِيمًا لِمَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ عَلَى مَا تَشْتَهِيهِ نَفْسُهُ وَتَهْوَاهُ، مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَمْرِينِ النَّفْسِ عَلَى الصَّبْرِ وَقُوَّةِ الْعَزِيمَةِ فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى، وَمَا فِيهِ مِنْ تَذْكِيرِ الْعَبْدِ لِمَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ؛ فَإِنَّ الْأَشْيَاءَ إِنَّمَا تَتَبَيَّنُ بِأَضْدَادِهَا.

وَحِكَمُ الصَّوْمِ وَأَسْرَارُهُ لَيْسَ فِي مَقْدُورِ عَبْدٍ أَنْ يُحْصِيَهَا، وَإِنَّمَا يَكْفِي الْإِنْسَانَ أَنْ يَقِفَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ لِيَزْدَادَ إِيمَانًا وَيَقِينًا وَخُضُوعًا وَتَسْلِيمًا، وَيَكْفِي أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا ذَكَرَ الصَّوْمَ، قَالَ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وَإِذَا تَحَصَّلَ الْإِنْسَانُ عَلَى التَّقْوَى فَهِيَ أَعْظَمُ مَقْصُودٍ، وَهِيَ وَصِيَّةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ.

وَالصِّيَامُ يَصِلُ الْإِنْسَانُ بِهِ إِلَى تَقْوَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ وَخُضُوعٌ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يُقْبِلُ بِهِ الْإِنْسَانُ عَلَى رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَاضِعًا لَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، حِينَمَا يَقِفُ فِي وَجْهِ سُلْطَانِ الشَّهْوَةِ، وَيَذِلُّ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَاضِعًا جَائِعًا ظَمْآنَ، مُمْسِكًا عَنِ الشَّهْوَةِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ فِي نَهَارِ الصِّيَامِ، فَيَسْتَكِينُ لِرَبِّهِ وَيَلِينُ لِخَالِقِهِ، وَيُنْكِرُ فِي نَفْسِهِ الْكِبْرَ وَالْعَظَمَةَ، وَيَذِلُّ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

اجْتِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى عِبَادَةٍ وَاحِدَةٍ، فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَصَبْرِهِمْ جَمِيعًا، قَوِيُّهُمْ وَضَعِيفُهُمْ، شَرِيفُهُمْ وَوَضِيعُهُمْ، غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ، عَلَى مُعَانَاةِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ وَعَلَى تَحَمُّلِهَا، يُسَبِّبُ رَبْطَ قُلُوبِهِمْ، وَتَآلُفَ الْأَرْوَاحِ، وَجَمْعَ كَلِمَةِ الْمُسْلِمِينَ.

الصِّيَامُ يُورِثُ صِحَّةَ الْبَدَنِ وَعَافِيَتَهُ؛ لِأَنَّهُ كَمَا قَالَ الْحُكَمَاءُ قَدِيمًا: الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ، وَالْحِمْيَةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ، وَلَا بُدَّ لِلْمَعِدَةِ مِنْ رَاحَةٍ بَعْدَ تَعَبِ تَوَالِي الطَّعَامِ عَلَيْهَا، وَاشْتِغْالِهَا بِهِ.

 ((نَصِيحَةٌ غَالِيَةٌ فِي بِدَايَةِ شَهْرِ الصِّيَامِ))

عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْخَيْرِ؛ لِيُؤْتِيَهُ اللهُ الْخَيْرَ، فَأَخْلِصْ نِيَّتَكَ، وَطَهِّرْ طَوِيَّتَكَ، وَقِفْ عَلَى رَأْسِ طَرِيقِكَ مِنَ اللَّحْظَةِ؛ وَقُلْ: يَا نَفْسُ! لَعَلَّكِ لَا يُؤْتِيكِ اللهُ هَذِهِ الْفُرْصَةَ مَرَّةً أُخْرَى!!

خَلِّصِ الْقَلْبَ مِنْ شَهَوَاتِهِ..

وَنَقِّ الرُّوحَ مِنْ أَدْرَانِهَا..

وَطَهِّرِ الْفُؤَادَ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ مِنْ غِلٍّ وَحِقْدٍ، وَغِشٍّ وَحَسَدٍ..

وَأَقِمْ نَفْسَكَ عَلَى الْجَادَّةِ..

وَخُذْ نَفْسَكَ فِي هَذَا الشَّهْرِ بِالْعَزِيمَةِ..

وَاللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُمُ وَالْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَأَنْ يَجْعَلَ هَذَا الشَّهْرَ فَاتِحَةَ خَيْرٍ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ , صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((رَمَضَانُ.. كَيْفَ نَحْيَاهُ؟))

فَشَهْرُ رَمَضَانَ.. كَيْفَ نَحْيَاهُ، وَنُحْيِيهِ؟

إِنَّ العَبْدَ الصَّالِحَ يَسْتقْبِلُهُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَيَدُومُ عَلَيْهَا، وَبِعَزِيمَةٍ صَادِقَةٍ يَدُومُ عَلَيْهَا؛ عَلَى أَنْ يَغْتَنِمَهُ، وَأَلَّا يُضَيِّعَ مِنْهُ شَيْئًا.

وَعَلَى الإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي شَغْلِ الأَوْقَاتِ بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَدُورُ العَامُ دَوْرَتَهُ حَتَّى يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ مِنْ قَابِلٍ، أَمْ يَكُونُ مُغَيَّبًا تَحْتَ طَبَقَاتِ التُّرَابِ؟

إِنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي تُعْمَلُ فِي رَمَضَانَ مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ كَثِيرَةٌ:

1- الصِّيَامُ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ :«مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

الصِّيَامُ صِيَامٌ عَنِ الطَّعَامِ وَعَنِ الحَرَامِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ أَوْلَى: أَنْ يَصُومَ عَنِ الزُّورِ وَالبُهْتَانِ، وَالغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَأَلَّا يَجْعَلَ يَوْمَ صَوْمِهِ وَيَوْمَ فِطْرهِ سَوَاءً، وَأَلَّا يَكُونَ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الجُوعَ وَالعَطَشَ.

فَالصِّيَامُ أَكْبَرُ الأَعْمَالِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.

2- القِيَامُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».

3- الصَّدَقَةُ: مِمَّا هُوَ مِنْ أَعْمَالِ هَذَا الشَّهْرِ، وَمِمَّا يتَأَكَّدُ فِيهِ: الصَّدَقَةُ وَالجُودُ بِالمَوْجُودِ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدَ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ».

رَغَّبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي تَفْطِيرِ الصَّائِمِ، وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ، وَسَقْيِ المَاءِ:

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لا يَنْقُصُ مِنْ أَجْرِ الصَّائِمِ شَيْئًا)).

وَفِي «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: أَيُّ الإِسْلَامِ خَيْرٌ؟

قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ».

وَعَنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟

قَالَ: «إِدْخَالُكَ السُّرُورَ عَلَى مُؤْمِنٍ، أشْبَعْتَهُ مِنْ جُوعٍ، كَسَوْتَهُ مِنْ عُرْيٍ، قَضْيْتَ لَهُ حَاجَةً، أَعَنْتَهُ، فَرَّجْتَ لَهُ كَرْبًا بِإِذْنِ رَبِّهِ». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ في «الْأَوْسَطِ» بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «فِي كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ». رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.

سَقْيُ المَاءِ؛ حَتَّى وَلَوْ لِلكِلَابِ؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَ لِلكَلْبِ الضَّالِّ؛ فِيهِ أَجْرٌ عِنْدَ الكَبِيرِ المُتَعَالِ.

يَحْفِرُ الْمُسْلِمُ بِئْرًا، يَجْعَلُ لِلنَّاسِ صُنْبُورًا فِي سَبِيلٍ، يَبْذُلُ المَاءَ لِابْنِ السَّبِيلِ وَالعَطْشَانِ.

وَتَلَوُّثُ المِيَاهِ شَائِعٌ ذَائِعٌ لَا يَخْفَى، وَتَدِبُّ بِسَبَبِهِ أَمْرَاضٌ تَفْتِكُ بِالأَجْسَادِ وَتَفْرِيهَا فَرْيًا، فَمَنْ شَارَكَ أَوْ صَنَعَ لَهُمْ صَنِيعًا لِيَكُونَ مَاؤُهُ بَعِيدًا عَنْ هَذَا التَّلَوُّثِ؛ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الحَدِيثِ، وَقَدْ أَتَى بِأَعْظَمِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَقَرَّبَ بِهِ عَبْدٌ إِلَى اللهِ.

4- قِرَاءَةُ القُرْآنِ: مِنْ أَعْمَالِ هَذَا الشَّهْرِ: الِاجْتِهَادُ فِي قِرَاءَةِ القُرْآنِ.

كَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيَّ ﷺ القُرْآنَ فِي رَمَضَانَ.

وَكَانَ السَّلَفُ يَتَوَفَّرُونَ عَلَى كِتَابِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ فِي رَمَضَانَ.

5- الجُلُوسُ فِي المَسْجِدِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ: مِمَّا يُؤْتَى بِهِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ العَامِ: الجُلُوسُ فِي المَسْجِدِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ.

أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ -بِحَدِيثٍ حَسَنٍ لِغَيْرِهِ بِشَوَاهِدِهِ- عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ؛ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ».

فَهَذَا فِي كُلِّ الأَيَّامِ؛ فَكَيْفَ فِي رَمَضَانَ؟!!

6- الِاعْتِكَافُ: مِمَّا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ مِنْ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: الِاعْتِكَافُ؛ فَـ «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ العَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ؛ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا».

وَالِاعْتِكَافُ مِنَ العِبَادَاتِ الَّتِي تَجْمَعُ كَثِيرًا مِنَ الطَّاعَاتِ؛ مِنَ التِّلَاوَةِ وَالصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَغَيْرِهَا، وَآكَدُ الِاعْتِكَافِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ؛ تَحَرِّيًا لِلَيْلَةِ القَدْرِ.

وَالاِعتْكِاَفُ هُوَ الخَلْوَةُ المَشْرُوعَةُ، يَفْعَلُهُ المَرْءُ فَيَخْلُو بِنَفْسِهِ بَعِيدًا عَنِ النَّاسِ؛ مِنْ أَهْلٍ وَصَاحِبٍ وَوَلَدٍ، وَيُقْبِلُ عَلَى اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ.

وَالمُعْتَكِفُ يَحْبِسُ نَفْسَهُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ وَذِكْرِهِ، وَيَقْطَعُ نَفْسَهُ عَنْ كُلِّ شَاغِلٍ يَشْغَلُهُ عَنْ رَبِّهِ.

7- العُمْرَةُ: العُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ؛ قَالَ فِيهَا الرَّسُولُ ﷺ: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ كَحَجَّةٍ مَعِي».

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِأُمِّ سِنَانٍ: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي؛ فَإِنَّ عُمْرَةً فِيهِ تَعْدِلُ حَجَّةً -أَوْ قَالَ-: حَجَّةً مَعِي».

العُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ كَحَجَّةٍ فِي الأَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ العَدْنَانِ ﷺ.

 ((رَمَضَانُ مَدْرَسَةٌ لِتَعَلُّمِ الطَّاعَاتِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ عَلَّمَ الْأُمَّةَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كَيْفَ تَكُونُ عَابِدَةً للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَصَارَ الشَّهْرُ مَدْرَسَةً لِتَعَلُّمِ الطَّاعَاتِ، وَالْإِقْبَالِ عَلى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، وَطَاعَةِ النَّبِيِّ ﷺ فِي كُلِّ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ.

جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصِّيَامَ مَدْرَسَةً؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ نَتَعَلَّمَ كَيْفَ نَعْبُدُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَكَيْفَ نُحَصِّلُ التَّقْوَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

 

نَسْأَلُهُ تَعَالَى أَنْ يُعِينَنَا عَلَى صِيَامِ وَقِيَامِ رَمَضَانَ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يُرْضِيهِ، وَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الجَوَادُ الكَرِيمُ، وَالبَرُّ الرَّحِيمُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِين.

التعليقات


خطب قد تعجبك


  • شارك