تاريخ النشر الخميس,17 رمضان 1439 / 31 مايو 2018

تفريغ خطبة فَضَائِلُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ


((فَضَائِلُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ))

إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

«مِنْ خَصَائِصِ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَفَضَائِلِهَا»

فَعَشْرُ رَمَضَانَ الْأَخِيرَةُ فِيهَا الْخَيْرَاتُ، وَفِيهَا الْأُجُورُ الْكَثِيرَةُ، وَفِيهَا الْفَضَائِلُ الْمَشْهُورَةُ، وَالْخَصَائِصُ الْعَظِيمَةُ.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ﷺ مُسَافِرًا فِي جِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللهِ لِغَزْوٍ، لِالْتِمَاسِ مَرْضَاةِ اللهِ.

فَالِاعْتِكَافُ سُنَّةٌ مِنَ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ، دَلَّ عَلَيْهَا كِتَابُ رَبِّنَا، وَسُنَّةُ نَبِيِّنَا، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ.

وَالْمَقْصِدُ الْأَجَلُّ: تَفْرِيغُ الْقَلْبِ لِلْعُكُوفِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ؛ لِالْتِمَاسِ الْأَجْرِ بِتَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَبِالْبُعْدِ عَنِ الدُّنْيَا بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ مَآسِيهَا وَمَبَاهِرِهَا، بِكُلِّ مَا يَشْغَلُ الْقَلْبَ عَنِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَصِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ وَطَلَبِ الْآخِرَةِ.

وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَهِي خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.

عَشْرُ رَمَضَانَ الْأَخِيرَةُ فِيهَا الْخَيْرَاتُ وَالْأُجُورُ الْكَثِيرَةُ، وَفِيهَا الْفَضَائِلُ الْمَشْهُورَةُ، وَالْخَصَائِصُ الْعَظِيمَةُ، وَمِنْهَا:

*أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهَا، وَهَذَا شَامِلٌ لِلْاجْتِهَادِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ؛ مِنْ صَلَاةٍ، وَتِلَاوَةٍ، وَذِكْرٍ، وَصَدَقَةٍ، وَغَيْرِهَا.

*وَمِنْ خَصَائِصِ الْعَشْرِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي الْعَشْرِ لِلصَّلَاةِ.

«أَيقَظَ أَهْلَهُ...أَحْيَا لَيْلَهُ»: كَأَنَّ اللَّيْلَ كَانَ مَوَاتًا؛ بَلْ كَانَ؛ إِذْ لَا يُذْكَرُ فِيهِ اللهُ، فَإِذَا عُبِدَ فِيهِ اللهُ حَيِيَ.

«أَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ»: لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ؛ حِرْصًا عَلَى اغْتِنَامِ هَذِهِ اللَّيَالِي الْمُبَارَكَةِ؛ لِأَنَّهَا فُرْصَةُ الْعُمُرِ، وَغَنِيمَةٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ.

*وَمِنْ خَصَائِصِ الْعَشْرِ: الِاعْتِكَافُ فِيهَا، وَالِاعْتِكَافُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.

وَقَدِ اعْتَكَفَ النَّبِيُّ ﷺ، وَاعْتَكَفَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَبَعْدَهُ؛ فَاعْتَكَفُوا مَعَهُ، وَاعْتَكَفُوا بَعْدَهُ ﷺ، وَرَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» بِسَنَدِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «اعْتَكَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ العَشْرَ الْأَوسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، يَلتَمِسُ لَيلَةَ القَدْرِ قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ -أَيْ: قَبْلَ أَنْ تُظْهَرَ لَهُ-.

فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ -أَيْ: فِي عَامِ-، يَلتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ، فَلَمَّا انْقَضَيْنَ -يَعْنِي: الْعَشْرَ الْأَوسَطَ- أَمَرَ بِالبِنَاءِ فَقُوِّضَ -أَيْ: أُزِيلَ، يَعْنِي: الْخِبَاءَ الَّذِي كَانَ يَعْتَكِفُ فِيهِ ﷺ يُضْرَبُ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ-، فَلَمَّا انْقَضَيْنَ؛ أَمَرَ بِالبِنَاءِ فَقُوِّضَ-أَيْ: أُزِيلَ-.

ثُمَّ أُبِينَتْ لَهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَأَمَرَ بِالبِنَاءِ -أَيْ: الْخِبَاءِ- فَأُعِيدَ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَىَ النَّاسِ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ إِنَّهَا كَانَتْ أُبِينَتْ لِيَ لَيْلَةُ القَدْرِ، وَإِنِّي خَرَجْتُ لَأُخْبِرَكُمْ بِهَا، فَجَاءَ رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ -أَيْ: كُلٌّ يَدَّعِي أَنَّ الْحَقَّ لَهُ-».

وَفِي رِوَايَةٍ: «يَتَلَاحَيَانِ»: كُلٌّ قَدْ أَمْسَكَ بِلِحْيَةِ صَاحِبِهِ.

وَفِي رِوَايَةٍ: «يَسْتَبَّانِ».

«مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَنُسِّيتُهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالخَامِسَةِ».

«فَجَاءَ رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ مَعَهُمَا الشَّيطَانُ؛ فَنُسِّيتُهَا، أو فَأُنْسِيتُها».

أَيْ: نُسِّيَ تَحْدِيدَ عِلْمِهَا بِقَطْعٍ وَيَقِينٍ، لَا أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.

وَهَذَا مِنْ شُؤْمِ الْخِصَامِ وَالْخِلَافِ وَالْجِدَالِ: «فَجَاءَ رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ...يَسْتَبَّانِ... يَتَلَاحَيَانِ، مَعَهُمَا الشَّيطَانُ؛ فَأُنْسِيتُها».

فَكَمْ مِنَ الْخَيْرِ يُرْفعُ لِوُقُوعِ الْخِصَامِ وَالْخِلَافِ وَالْجِدَالِ، وَالْمُنَاقَرَةِ كَمُنَاقَرَةِ الدُّيُوكِ؟!!

قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالخَامِسَةِ».

بَيَّنَ أَبُو سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ التَّاسِعَةَ هِيَ: الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ، وَالسَّابِعَةُ هِيَ: الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ، وَالْخَامِسَةُ هِيَ: السَّادِسَةُ وَالعِشْرُونَ.

فَفَهِمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَدْ تَكُونُ فِي الْأَشْفَاعِ كَمَا تَكُونُ فِي الْأَوْتَارِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-.

«فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى»، إِذَا كَانَ الشَّهْرُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ.

وَإِذَا كَانَ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ؛ فَيَصْدُقُ أَنْ تَكُونَ فِي الْأَوْتَارِ، كَمَا يَصْدُقُ أَنْ تَكُونَ فِي الْأَشْفَاعِ.

وَعَلَيْهِ؛ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُصِيبَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ كُلِّهَا مِنْ غَيْرِ مَا تَمْيِيزٍ، وَإِنْ خَصَّ الْأَوْتَارَ بِمَزِيدِ عِنَايَةٍ فَلَا بَأْسَ؛ لِدَلَالَةِ النُّصُوصِ عَلَى ذَلِكَ.

((فَضَائِلُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ))

فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ الَّتِي شَرَّفَهَا اللهُ تَعَالَى عَلَى غَيْرِهَا، وَمَنَّ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ بِهَا، وَأَنْعَمَ عَلَيْهَا بِجَزِيلِ خَيْرِهَا، وَأَشَادَ اللهُ تَعَالَى بِفَضْلِهَا؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿إِنَّا أَنْزَلنَاهُ فِي لَيلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: 3-4].

مِنْ بَرَكَةِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ: أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْمُبَارَكَ أُنْزِلَ فِيهَا، وَقَدْ وَصَفَهَا اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ مِنْ أَوَامِرِ اللهِ الْمُحْكَمَةِ الْعَظِيمَةِ الْمُتْقَنَةِ، الَّتِي لَيْسَ فِيهَا خَلَلٌ وَلَا نَقْصٌ وَلَا بَاطِلٌ ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾ [الأنعام: 96].

﴿إِنَّا أَنْزَلنَاهُ فِي لَيلَةِ القَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيلَةُ القَدْرِ * لَيلَةُ القَدْرِ خَيرٌ مِنْ أَلفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ المَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾ [القدر:  1-5].

الْقَدْرُ: بِمَعْنَى الشَّرَفِ وَالتَّعْظِيمِ، أَوْ بِمَعْنَى التَّقْدِيرِ وَالْقَضَاءِ.

﴿لَيلَةُ القَدْرِ خَيرٌ مِنْ أَلفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: 3]، يَعْنِي: فِي الْفَضْلِ وَالشَّرَفِ، وَكَثْرَةِ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ؛ لِذَا مَنْ قَامَهَا إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.

وَفِي سُورَةِ الْقَدْرِ مِنْ فَضَائِلِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ:

*أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ فِيهَا الْقُرْآنَ الْمَجِيدَ، الَّذِي بِهِ هِدَايَةُ الْبَشَرِ، وَسَعَادَتُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

*وَهِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، كَمَا قَضَى بِذَلِكَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-.

*وَالْمَلَائِكَةُ تَتَنَزَّلُ فِيهَا، وَهُمْ لَا يَتَنَزَّلُونَ إِلَّا بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ؛ حَتَّى تَضِيقَ بِهْم الْأَرْضُ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَعْنَى الْقَدْرِ.

الْقَدْرُ: الشَّرَفُ.

وَالْقَدْرُ: الضِّيقُ.

*وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهَا فِي سُورَةِ الْقَدْرِ: أَنَّهَا سَلَامٌ؛ ﴿سَلَامٌ هِيَ﴾.

﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ﴾؛ لِكَثْرَةِ السَّلَامَةِ فِيهَا مِنَ الْعَذَابِ؛ لِمَا يَقُومُ بِهِ الْعَبْدُ مِنْ طَاعَةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

*وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَظِيمِ قَدْرِهَا، وَرِفْعَةِ شَأْنِها، وَجَلِيلِ قَدْرِهَا: أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ فِيهَا سُورَةً بِرَأْسِهَا؛ تُتْلَى، يُتَعَبَّدُ للهِ بِتِلَاوَتِهَا إِلَى أَنْ يَرْفَعَ اللهُ الْكِتَابَ الْمَجِيدَ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مِنَ الصُّدُورِ وَالسُّطُورِ.

وَلَا تَخْتَصُّ لَيْلَةُ الْقَدْرِ بِلَيْلَةٍ مُعيَّنَةٍ فِي جَمِيعِ الْأَعْوَامِ، بَلْ تَنْتَقِلُ، فَتَكُونُ فِي عَامٍ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مَثَلًا، وَفِي عَامٍ لَيْلَةَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَهَكَذَا...تَبَعًا لِمَشِيئَةِ اللهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ.

وَدَلِيلُ ذَلِكَ: قَوْلُه ﷺ: «الْتَمِسُوهَا فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَى، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَى، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَى».

قَالَ الْحَافِظُ فِي «الفَتْحِ»: «الْأَرْجَحُ: أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ، وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ».

فَالْأَرْجَحُ عَلَى حَسَبِ دَلَالَاتِ النُّصُوصِ: أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَنَّهَا فِي أَوْتَارِ الْعَشْرِ، وَأَنَّهَا تَنْتَقِلُ؛ فَلَيْسَتْ فِي لَيْلَةٍ بِعَيْنِهَا، تَكُونُ ثَابِتَةً فِي كُلِّ عَامٍ؛ وَلَكِنَّهَا تَنْتَقِلُ كَمَا هُوَ الْأَرْجَحُ.

((وَقَدْ أَخْفَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَن الْعِبَادِ تَحْدِيدَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ بِقَطْعٍ؛ رَحْمَةً بِهِمْ؛ لِيَكُثْرَ عَمَلُهُم فِي طَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي الْفَاضِلَةِ، بِالذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ، وَبِالدُّعَاءِ وَالْإِخْبَاتِ، وَبِالبُكَاءِ وَالْإِنَابَةِ؛ لِيَزْدَادُوا مِنَ اللهِ قُرْبًا، وَلِيَكْثُرَ لَهُمْ مِنَ اللهِ الثَّوَابُ، وَلِيُعْلَمَ مَنْ كَانَ جَادًّا فِي طَلَبِهَا، حَرِيصًا عَلَيْهَا مِمَّنْ كَانَ كَسْلَانَ مُتَهَاوِنًا)).

وَذَلِكَ لِيَحْرِصَ النَّاسُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَبَذْلِ النُّفُوسِ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَتَفْرِيغِ الْأَوْقَاتِ لِعِبَادَةِ اللهِ؛ فَأَخْفَى اللهُ -رَبُّ الْعَالَمِينَ- لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ.

((دُعَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ))

عِبَادَ اللهِ! يُسْأَلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَفِي كُلِّ حِينٍ الْعَفْوَ وَالْمُعَافَاةَ.

يَسْأَلُ الْعَبْدُ رَبَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ الْعَفْوَ وَالْمُعَافَاةَ؛ قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي ((السُّنَنِ))-: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافْقَتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؛ مَا أَقُولُ فِيهَا؟

قَالَ: «قُولِي: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي».

هُوَ الْعَفُوُّ، وَهُوَ يُحِبُّ الْعَفْوَ؛ فَيُحِبُّ أَنْ يَعْفُو عَنْ عِبَادِهِ، وَيُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَعْفُوَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَإِذَا عَفَا بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ؛ عَامَلَهُم بِعَفْوِهِ، وَعَفْوُهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ.

فَاحْرِصْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ عَلَى التَّصْفِيَةِ وَالتَّزْكِيَةِ، عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، وَخَلِّفْ دُنْيَاكَ وَرَاءَكَ، وَأَقْبِلْ صَحِيحًا؛ حَتَّى تَصِيرَ مُعَافَى.

اللهم إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنَّا.

 ((لَا تُضَيِّعُوا الْأَوْقَاتَ الْفَاضِلَةَ!))

عِبَادَ اللهِ! مِنَ الْخُسْرَانِ الْعَظِيمِ وَالْحِرْمَانِ الْكَبِيرِ: أَنْ يُمْضِيَ الْمُسْلِمُونَ هَذِهِ الْأَوْقَاتَ الثَّمِينَةَ فِي اللَّهْوِ البَاطِلِ، وَالْعَبَثِ الْفَاجِرِ، وَاللَّغْوِ الزَّائِلِ، وَهَذَا مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ بِهِمْ، وَمِنْ مَكْرِهِ بِهِمْ، وَصَدِّهِ إِيَّاهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَمِنْ إِغْوَائِهِ لَهُمْ، وَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- لِلشَّيْطَانِ اللَّعِينِ: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عليهمْ سُلطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ﴾ [الحجر: 42].

فَمَنْ تَبِعَ الْغَاوِي؛ فَهُوَ غَاوٍ، مَنِ اتَّبَعَ الْغَوِيَّ؛ فَهُوَ غَوِيٌّ، وَمَنِ اتَّبَعَ الشَّيْطَانَ فَهُوَ مِنَ الْغَاوِينَ، كَمَا قَالَ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

فَمِنَ الْخُسْرَانِ الْمُبِينِ، مِنَ الْخَسَارَةِ الْفَادِحَةِ: أَنْ تُمَضَّى الْأَوْقَاتُ فِي لَيَالِ الْعَشْرِ فِي اللَّهْوِ البَاطِلِ.

وَقَدْ تَكَالبَ الْمُنْحَرِفُونَ وَالْمُنْحَرِفَاتُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَخَادِعِهِمْ؛ لِيَشْغَلُوهُمْ عَنِ الْعِبَادَةِ وَالتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ، وَلِيُغْرُوهُم بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ إِلَى كُلِّ مَا حَرَّمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- مِمَّا هُوَ فُسُوقٌ مَحْضٌ، وَزَيفٌ صِرْفٌ، وَمَعْصِيَةٌ بَحْتٌ.

فَخُذْ -عَبْدَ اللهِ- مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ؛ يَعْنِي مَا دُمْتَ صَحِيحًا فَأَنْفِقْ بَعْضَ الْوَقْتِ فِي طَاعَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّكَ لَا تَدْرِي مَتَى يَأْتِي الْمَرَضُ، الْمَرَضُ يَأْتِي فَجَأْةً كَمَا يَأْتِي الْمَوْتُ فَجْأَةً.

وَلَا تَدْرِي لَعَلَّ الْمَرَضَ يَكُونُ سَارِحًا فِي جَسَدِ الْإِنْسَانِ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَدْرِيهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَظْهَرُ إِلَّا فِي حِينٍ يُقَدِّرُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَحِينَئِذٍ يَعْجِزُ الْإِنْسَانُ عَنِ الْعِبَادَةِ، وَيَقُولُ: يَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ، يَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ، وَلَاتَ حِينَ مَنْدَمٍ!!

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((صِدْقُ الْعَزِيمَةِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ))

فَنَبِيُّكُمْ ﷺ يَجِدُ وَيَجْتَهِدُ، وَيَشُدُّ مِئْزَرَهُ رَافِعًا إِيَّاهُ مُشَمِّرًا ﷺ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ كُلِّهَا.

وَيَا للهِ الْعَجَبُ؛ لَوْ كَانَ لِعَبْدٍ عِنْدَ عَبْدٍ حَاجَةٌ مِنْ أَصْحَابِ النُّفُوذِ وَالْجَاهِ؛ لَأَقَامَ عَلَى بَابِهِ لَيْلَةً كَامِلَةً يَنْظُرُ لَا يَطْرِفُ لَهُ جَفْنٌ، وَلَا يَنَامُ لَهُ خَاطِرُ، وَلَا يَتَبَلَّدُ لَهُ حِسٌّ، حَتَّى يَقْضِي لَهُ حَاجَتَهُ؛ لَعَدَّ ذَلِكَ بِجِوَارِ قَضَاءِ حَاجَتِهِ قَلِيلًا!!

فَكَيْفَ لَا يَقِفُ الْإِنْسَانُ بَيْنَ يَدَيْ مَوْلَاهُ لَيْلَةً وَإِنْ طَالَتْ، وَلَا يَطُولُ لَيْلٌ مَعَ مُحِبٍّ أَبَدًا، وَإِنَّمَا يَطُولُ اللَّيْلُ عَلَى غَيْرِ الْمُشْتَاقِ، يَطُولُ اللَّيْلُ عَلَى  الْمَلُولِ، يَطُولُ اللَّيْلُ عَلَى الْمُسْتَهِينِ الْمُسْتَهْتِرِ، وَأَمَّا الْمُحِبُّ فَإِنَّهُ يَخْلُو بِحَبِيبِهِ وَتَنْقَضِي الْأَزْمَانُ كَطَرْفَةِ الْعَيْنِ؛ لَا، بَلْ كَلَمْحَةِ الْبَرْقِ، بَلْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ.

فَيَقُومُ الْعَبْدُ بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِ وَمَوْلَاهُ مُصَلِيًّا مَا شَاءَ اللهُ، وَذَاكِرًا دَاعِيًا، رَاجِيًا مُبْتَهِلًا، مُنِيبًا عَائِدًا، يَضَعُ أَحْوَالَهُ جَمِيعَهَا بِعُجَرِهَا وَبُجَرِهَا، بِكُلِّ مَا كَانَ هُنَالِكَ مِمَّا حَوَتْهُ الصَّحَائِفُ {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]، {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29].

لَا تَجِدُ شَيْئًا قَطُّ قَدْ ذَهَبَ هَبَاءً، وَإِنَّمَا كُلُّ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ مُسْتَطَرٍ، مَسْطُورٍ هُنَالِكَ فِي كِتَابٍ مَرْقُومٍ، ثُمَّ يُعْرِضُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى الْأَبْعَدِينَ مِنَ الْمُسِيئِينَ الْمُجْرِمِينَ.

وَأَمَّا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فَيَتَلَّقَى الْوَاحِدُ مِنْهُمْ كِتَابَهُ يَقُولُ: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)} [الحاقة: 19-20]، وَتَأَمَّلْ فِي هَذَا الْأَدَاءِ بِالْفَرْحَةِ الْغَامِرَةِ الَّتِي تَنْبَعِثُ فِي الْأَجْوَاءِ، وَتَنْبَثِقُ مِنْ ثَنَايَا تَلَافِيفِ نِقَاطِ هَذَا الْحَرْفِ {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ}، صَيْحَةُ الْمُوَفَّقِينَ فِي الْمَوْقِفِ عِنْدَمَا يَبْلُغُ الْعَرَقُ بِالنَّاسِ الْمَبَالِغَ، وَأَمَّا التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الْحَامِدُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ، الْمُقْبِلُونَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ، فَإِنَّهُ لَا يُضَيِّعُهُمْ أَبَدًا.

نَبِيُّكُمْ ﷺ -وَهُوَ مَنْ هُوَ بِلَا ذَنْبٍ ﷺ- إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ ﷺ أَحْيَا لَيْلَهُ كُلَّهُ، فَلَمْ يَطْعَمْ لَهُ جَفْنٌ بِغُمْضٍ، وَإِنَّمَا يُحْيِي اللَّيْلَ كُلَّهُ، لَا يَنَامُ ﷺ، يَخْلِطُ الْعِشْرِينَ بِيَقَظَةٍ وَمَنَامٍ، فَإِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ ظَلَّ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُتَعَبِّدًا، فَيُحْيِي اللَّيْلَ لَا بِصَلَاةٍ فَقَطْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَمَا تَقُولُ عَائِشَةُ وَهُوَ فِي مُسْلِمٍ -عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ-: ((مَا أَحْيَا لَيْلَهُ كُلَّهُ إِلَى الصَّبَاحِ مَرَّةً قَطُّ)). فِي مَعْنَى مَا قَالَتْ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.

وَإِذَنْ؛ هُنَالِكَ مِنْ أَلْوَانِ الْعِبَادَاتِ الْمَنْسِيَّاتِ وَالطَّاعَاتِ الْمَهْجُورَاتِ مَا لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ إِلَّا مَنْ وَفَّقَهُ رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، تَدْرِي لَوْ أَنَّكَ جَلَسْتَ بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِكَ مُتَوَضِّئًا، مُتَعَطِّرًا مُتَطَيِّبًا.

فَقَدْ كَانَ مِنْ هَدْيِهِمْ أَنَّهُمْ يَغْتَسِلُونَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ -بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ-، يَغْتَسِلُونَ، يَتَطَيَّبُونَ، يَتَزَيَّنُونَ، قَادِمِينَ عَلَى الْعِيدِ هَؤلَاءِ؟ بَلْ هُوَ أَرْفَعُ وَأَجَلُّ مِنَ الْعِيدِ.

إِنَّهُ مَوْسِمُ العَطِيَّةِ الَّتِي لَا تُحَدُّ، وَمَوْسِمُ الِاسْتِغَفَارِ الَّذِي لَا يُرَدُّ، إِنَّهُ مَوْسِمُ الْعَطَاءِ بِالْفَيْضِ مِنْ ذِي الْجَلَالِ، وَحِينَئِذٍ يُقْبِلُونَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مُنِيبِينَ.

يَغْتَسِلُونَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، يَلْبَسُونَ أَحْسَنَ الثِّيَابِ، يَتَزَيَّنُونَ، يَتَطَيَّبُونَ، يَتَجَمَّرُونَ، يَتَعَطَّرُونَ، يُقْبِلُونَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِطِيبٍ ظَاهِرٍ عَلَى طِيبٍ بَاطِنٍ، إِذْ يُقْبِلُونَ عَلَى الْقُلُوبِ يُنَقُّونَهَا مِنْ دَغَلِهَا وَحِقْدِهَا، وَيَنْفُونَ عَنْهَا مَا عَلَقَ بِهَا مِنْ قَاذُورَاتِهَا.

أَمَا آنَ لَكَ أَنْ تَعُودَ؟!!

يَا للهِ الْعَجَبُ!! إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَبْسُطُ يَدَهُ إِلَيْكَ، أَفَلَا تَعُودُ؟!!

إِنَّهُ أَرْحَمُ بِكَ مِنْكَ، أَفَلَا تَعُودُ؟!!

إِنَّهُ أَحَنُّ عَلَيْكَ مِنْ أُمِّكَ الَّتِي وَضَعَتْكَ، أَفَلَا تَعُودُ؟!!

إِنَّ الرَّسُولُ ﷺ كَانَ يَسْتَعِدُّ وَيُعِدُّ، يُعِدُّ الْعُدَّةَ لِهَذِهِ اللَّيَالِي الْمُبَارَكَاتِ؛ لِيُدْرِكَ لِيْلَةَ الْقَدْرِ؛ لِأَنَّ مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَهُوَ الْمَحْرُومُ حَقًّا.

وَفِيهَا مِنْ فُيُوضِ الْعَطَاءَاتِ مَا لَا يَدْرِي قَدْرَهُ وَلَا يَعْلَمُهُ إِلَّا رَبُّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ.

فَقَطْ عَلَيْكَ أَنْ تَعْرِضَ نَفْسَكَ عَلَى الطَّبِيبِ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ لِرَجُلٍ: ((مَنْ أَنْتَ؟))

قَالَ: أَنَا طَبِيبُهَا.

قَالَ: ((طَبِيبُهَا اللهُ)). اللهُ الطَّبِيبُ، فَيَأْتِي الْعَبْدُ الْمَكْلُومُ بِحَسْرَةِ الْقَلْبِ، بِحُزْنِ الْفُؤادِ، يَأْتِي الْعَبْدُ الَّذِي لَوَّثَتْ صَفْحَتَهُ هَذِهِ الذُّنُوبُ، وَتَكَاثَرَتْ عَلَيْهِ الْمَعَائِبُ، وَانْدَلَقَتْ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ قَاذُورَاتُ الْعِيُوبِ.

يَأْتِي الْعَبْدُ إِلَى سَيِّدِهِ إِلَى طَبِيبِهِ؛ إِنَّ الْعِلَّةَ قَدْ بَلَغَتْ بِي مَبَالِغَهَا، وَإِنَّ الْمَرَضَ قَدْ أَسْقَمَ فُؤادِي فَأَذَلَّهُ، أَذَلَّهُ لِكُلِّ مَنْ هُوَ ذَلِيلٌ فِي الْأَرْضِ، وَأَنْتَ أَنْتَ الْعَزِيزُ، أَلَا تَنْظُرُ إِلَيَّ نَظْرَةَ الرَّحْمَةِ الَّتِي لَا يَحِلُّ عَلَيَّ بَعْدَهَا سَخَطٌ أَبَدًا، أَلَا تَأْخُذُ بِيَدَيْ وَأَنْتَ أَنْتَ الْكَرِيمُ.

قَدْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَيْكَ فَلَا تَرُدَّنِي خَائِبًا، يَنْطَرِحُ عَلَى الْعَتَبَاتِ، وَاللهِ لَا أَعُودُ؛ حَتَّى تَغْفِرَ لِي، وَتَسْتُرَ الْمَعَائِبَ وَالْعُيُوبَ، وَأَنْتَ أَنْتَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ.

عَرِّضْ نَفْسَكَ لِهَذِهِ النَّفْحَاتِ، فَإِنَّهَا إِنْ ذَهَبَتْ لَا تَعُودُ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

 

التعليقات


خطب قد تعجبك


  • شارك