تاريخ النشر الخميس,01 شوال 1439 / 14 يونيو 2018

تفريغ خطبة الْعِبَادَةُ لَا تَنْقَطِعُ بَعْدَ رَمَضَانَ!!


((الْعِبَادَةُ لَا تَنْقَطِعُ بَعْدَ رَمَضَانَ!!))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((الْقُلُوبُ مَحَلُّ نَظَرِ الْخَالِقِ إِلَيْهَا))

فَاللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَا يَنْظُرُ إِلَى الصُّوَرِ وَالْأَجْسَامِ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، فَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)): عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ».

وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ -أَيْضًا-: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ، وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ», وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى صَدْرِهِ.

فَالْقَلْبُ مَحَلُّ نَظَرِ الْخَالِقِ إِلَيْهِ، فَإِنْ كَانَ مُصَحَّحًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، خَالِصًا؛ فَذَلِكَ هُوَ الْقَلْبُ السَّعِيدُ حَقًّا، وَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَلْبُ مُصَحِّحًا، عَلَى اللهِ مُقْبِلًا، وَعَنِ الدُّنْيَا مُدْبِرًا، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْقَلْبُ سَلِيمًا؛ فَأَبْعَدُ الْقُلُوبِ عَنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْقَلْبُ الْقَاسِي.

((مِنَّةُ اللهِ عَلَيْنَا بِوَسَائِلِ تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ شَرَعَ لَنَا مَا يُزَكِّي نُفُوسَنَا، وَدَلَّنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى أَنَّ تَزْكِيَةَ النُّفُوسِ وَطَهَارَتَهَا إِنَّمَا هِيَ بِالْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَبِمَعْرِفَتِهِ، وَبِطَاعَةِ نَبِيِّهِ ﷺ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ لِلتَّزْكِيَةِ وَالتَّطْهِيرِ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَسَائِلَ مُحَدَّدَةً، مَنْ أَخْطَأَ الطَّرِيقَ إِلَيْهَا، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِهَا؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُزَكَّى قَلْبُهُ، وَلَا أَنْ تَتَطَهَّرَ رُوحُهُ.

كَمَا جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْأَبْدَانِ وَالْأَجْسَامِ أَغْذِيَةً تَنْمُو عَلَيْهَا، وَتَقْوَى بِهَا، وَتَسْتَمِرُّ الْحَيَاةُ لَهَا بِقَدَرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِأَسْبَابِهَا؛ فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ لِلْجَسَدِ وَلِلْبَدَنِ غِذَاءً مِنَ اللُّحُومِ، وَالْحُبُوبِ، وَالْفَوَاكِهِ، وَمَا أَشْبَهَ.

فَلَوْ أَنَّ إِنْسَانًا أَرَادَ أَنْ يُبْقِيَ جَسَدَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَظَلَّ فِي الْحَيَاةِ قَائِمًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْخُذَ بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ؛ هَلَكَ جَسَدُهُ -وَلَا مَحَالَةَ-.

فَلْو أَنَّ إِنْسَانًا تَرَكَ مَا جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ غِذَاءً لِجَسَدِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَى التُّرَابِ، وَالرِّيشِ، وَالْحَطَبِ يُرِيدُ أَنْ يُغَذِّيَ بَدَنَهُ بِذَلِكَ؛ فَإِنَّ بَدَنَهُ يَهْلِكُ عَلَيْهِ -وَلَا مَحَالَةَ-.

وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْقُلُوبِ مِنْ مَوَادِّ التَّغْذِيَةِ مَا تَتَطَهَّرُ بِهِ، وَتَحْيَا عَلَيْهِ، وَتَتَزَكَّى بِسَبَبِهِ، وَذَلِكَ كِتَابُ اللهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ﷺ.

فَكَمَا أَنَّ الْبَدَنَ لَا يَحْيَا إِلَّا عَلَى أَسْبَابِ الْغِذَاءِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ، فَكَذَلِكَ الْقَلْبُ.. لَا يَحْيَا الْقَلْبُ إِلَّا إِذَا أَخَذَ بِمَادَّةِ التَّغْذِيَةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ، جَعَلَهَا مَادَّةَ الْحَيَاةِ فِيهِ، وَجَعَلَهَا سَبَبَ الْحَيَاةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تَحْتَوِيهِ، وَذَلِكَ كِتَابُ اللهِ، وَسُنَّةُ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُرِيدُ الْعَمَلَ الْخَالِصَ لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ.

وَاللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- جَعَلَ الْوَسَائِلَ الَّتِي تَتَزَكَّى بِهَا الْقُلُوبُ حَتَّى تَصِيرَ قُلُوبًا سَلِيمَةً لَا غِلْظَةَ فِيهَا، وَلَا قَسَاوَةَ تَعْتَرِيهَا، وَإِنَّمَا تَرِقُّ مَعَ الْمَوْعِظَةِ، وَإِنَّمَا تَخْشَعُ عِنْدَ ذِكْرِ آيَاتِ اللهِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مُتَفَاعِلَةً مَعَ كَلَامِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنَا ذَلِكَ فِيمَا شَرَعَ لَنَا مِنَ الشَّرَائِعِ، وَمَا دَلَّنَا عَلَيْهِ مِنَ السُّبُلِ، وَمَا هَدَانَا إِلَيْهِ مِنَ الطُّرُقِ الَّتِي وَضَّحَهَا كِتَابُهُ، وَفَصَّلَتْهَا سُنَّةُ نَبِيِّهِ ﷺ.

((اجْتِمَاعُ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَاتِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ))

*أُمَّهَاتُ الْعِبَادَاتِ أَعْظَمُ وَسَائِلِ تَزْكِيَةِ النُّفُوسِ وَتَطْهِيرِهَا:

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَاتِ مَجْمُوعَةً.

*فَهَذَا الصِّيَامُ تَتَزَكَّى بِهِ الْأَرْوَاحُ، وَتَطْمَئِنُّ بِهِ النُّفُوسُ، وَيَقُومُ بِهِ الْمَرْءُ عَلَى الْجَادَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ مِنْ غَيْرِ مَا زَيْغٍ وَلَا انْحِرَافٍ.

فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ الصِّيَامَ لَا عِدْلَ لَهُ، فَقَدْ سَأَلَهُ أَبُو أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ أَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ.

قَالَ: ((عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ)), وَفِي رِوَايَةٍ: ((فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ)).

فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ الصِّيَامَ سَبَبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، إِذَا أَتَى بِهِ الْعَبْدُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يُرِيدُهُ الرَّبُّ -جَلَّ وَعَلَا-.

وَهَذَا نَبِيُّكُمْ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بَاعَدَ اللَّهُ -بِذَلِكَ الْيَوْمِ- وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا)).

وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ جَعَلَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقًا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)).

فعَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ يَدُلُّنَا عَلَى مَا دَلَّنَا عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، فَهَذِهِ مِنْ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ الَّتِي فَرَضَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَجَعَلَهُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَفْرُوضًا عَلَيْنَا صِيَامُهُ؛ لِتَنَزُّلِ الْقُرْآنِ الْعَرَبِيِّ الْعَظِيمِ فِيهِ.

فَإِنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ إِنَّمَا شَرُفَ، وَفُرِضَ صِيَامُهُ؛ لِأَجْلِ إِنْزَالِ رَبِّنَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ فِيهِ، فَهَذِهِ الْعِلَّةُ هِيَ الَّتِي قَضَتْ بِأَنْ نَصُومَهُ -نَصُومَ أَيَّامَهُ، وَنَقُومَ لَيَالَيهُ- كَمَا أَرْشَدَنَا إِلَى ذَلِكَ نَبِيُّنَا ﷺ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ.

جَمَعَ هَذَا الشَّهْرُ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ، فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ فَرَضَ عَلَيْنَا صَدَقَةَ الْفِطْرِ، فَدَخَلَتِ الزَّكَاةُ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ أَعْظَمَ دُخُولٍ وَأَكْرَمَهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ، وَحُرٍّ وَعَبْدٍ، وَذَكَرٍ وَأُنْثَى.

فَدَلَّ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ نَبِيَّهُ ﷺ عَلَى شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ الْحَنِيفِ، وَبَلَّغَنَا النَّبِيُّ ذَلِكَ ﷺ.

فَصَدَقَةُ الْفِطْرِ زَكَاةٌ تُؤَدَّى فِي هَذَا الْأَوَانِ الْكَرِيمِ، مُرْتَبِطَةً بِهَذَا الصِّيَامِ الْعَظِيمِ؛ تَطْهِيرًا لِلْقُلُوبِ مِنْ بُخْلِهَا، وَتَطْهِيرًا لِلْأَنْفُسِ مِنْ شُحِّهَا، وَمُوَاسَاةً بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِكَيْ لَا يَبْقَى فِي يَوْمِ الْعِيدِ -فِي يَوْمِ الْفَرَحِ بِنِعْمَةِ اللهِ- مُحْتَاجٌ يَتَكَفَّفُ، أَوْ جَائِعٌ يَتَلَوَّى، أَوْ مِسْكِينٌ يَظَلُّ عَامَّةَ نَهَارِهِ يَنْظُرُ إِلَى أَشْيَاءِ غَيْرِهِ، وَلَا يَجِدُ مَا يَمُونُ بِهِ نَفْسَهُ.

فَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ التَّزْكِيَةِ وَالتَّطْهِيرِ لِلْقُلُوبِ مِنْ بُخْلِهَا، وَمِنْ شُحِّهَا، فَتُنْفِقُ مَا أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ أَنْ يُنْفَقَ، كَمَا بَلَّغَنَاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ؛ بِأَنْ يُؤَدَّى الصَّاعُ عَنْ كُلِّ نَفْسٍ.

وَهَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ.

ثُمَّ تَأَمَّلْ فِي حَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَإِنَّهُ يَقُولُ: ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).

وَقَالَ ﷺ: ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).

وَهَذَا أَدْخَلَ الْإِيمَانَ بِأُصُولِهِ، وَأَدْخَلَ الشَّهَادَتَيْنِ بِهَذَا الْقِيَامِ الْعَظِيمِ مِنَ الْمُسْلِمِ لَهُمَا بِالْأَدَاءِ الْعَمَلِيِّ، إِيمَانًا بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي فَرَضَ صِيَامَهُ، ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).

صَامَهُ إِيمَانًا بِالَّذِي فَرَضَهُ، وَتَسْلِيمًا لِلَّذِي أَوْجَبَهُ، وَاتِّبَاعًا لِلَّذِي بَلَّغَهُ ﷺ، فَدَخَلَتْ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ)) مِنْ أَوْسَعِ الْأَبْوَابِ فِي هَذَا الْعَمَلِ، فِي هَذَا الشَّهْرِ، فَدَخَلَ الرُّكْنُ الْأَوَّلُ.

وَدَخَلَتِ الصَّلَاةُ، ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).

فَأَدْخَلَ الدِّينُ الْعَظِيمُ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الْكَرِيمِ.

وَالزَّكَاةُ -زَكَاةُ الْفِطْرِ-.

وَالصِّيَامُ قَدْ وَجَبَ فِي الشَّهْرِ.

وَيَبْقَى الْحَجُّ فَمَا شَأْنُهُ، يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ لِامْرَأَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ -يُقَالُ لَهَا أُمُّ سِنَان-، وَقَدْ رَآهَا ﷺ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ: ((مَا لَكِ يَا أُمَّ فُلَانَةٍ، لَمْ تَحُجِّي مَعَنَا هَذَا الْعَامَ؟)).

فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ أَبَا بَنِيهَا لَهُ نَاضِحَانِ، فَسَافَرَ حَاجًّا مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَابْنُهُ عَلَى بَعِيرٍ، وَبَقِيَ نَاضِحٌ -أَيْ: بَقِيَ بَعِيرٌ يَسْتَقُونَ عَلَيْهِ الْمَاءَ مِنَ الْآبَارِ-.

فَدَلَّتْ عَلَى عُذْرِهَا فِي تَخَلُّفِهَا عَنْ شُهُودِ الْحَجِّ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ.

فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَإِذَا كَانَ رَمَضَانُ فَاعْتَمِرِي فِيهِ؛ فَإِنَّ عُمْرَةً فِي رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي)) ﷺ.

فَانْظُرْ كَيْفَ جَمَعَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ فِي هَذَا الزَّمَانِ الشَّرِيفِ!!

وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْغَنِيُّ عَنَّا، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْمُتَفَضِّلُ عَلَيْنَا، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الَّذِي يُطْعِمُنَا -يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ؛ فَهُوَ الْغَنِيُّ الصَّمَدُ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ، وَإِنَّمَا الْخَلْقُ كُلُّهُمْ فِي حَاجَةٍ إِلَى مَوْلَاهُمْ، وَفِي حَاجَةٍ إِلَى سَيِّدِهِمْ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ دَلَّنَا عَلَى وَسَائِلِ التَّزْكِيَةِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ بِالصِّيَامِ، وَالْقِيَامِ، وَبِالْعُمْرَةِ، وَبِالصَّدَقَةِ، وَبِالْجُهُودِ، وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ؛ لِأَنَّهُ ﷺ كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ فِي رَمَضَانَ أَجْوَدَ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ، تَأْتِي بِالْخَيْرِ ، وَيَسُوقُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهَا لِلنَّاسِ الرِّزْقَ غَيْثًا يَنْبُتُ بِهِ الزَّرْعُ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَأْكُلُوا، وَأَنْ يَشْرَبُوا، وَتَقْوَى أَبْدَانُهُمْ عَلَى الْحَيَاةِ.

النَّبِيُّ ﷺ دَلَّنَا عَلَى وَسَائِلِ تَزْكِيَةِ الْقُلُوبِ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ أُمَّهَاتِنَا، وَأَرْحَمُ بِنَا مِنْ أَرْوَاحِنَا وَقُلُوبِنَا وَأَنْفُسِنَا الَّتِي هِيَ بَيْنَ جَوَانِبِنَا، اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.. مِنْ كُلِّ أَحَدٍ.

((الْعِبَادَةُ لَا تَنْقَطِعُ إِلَّا بِالْمَوْتِ!!))

إِنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ يَعْبُدُ رَبَّهُ إِلَى آخِرِ نَفَسٍ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ ((مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ مِنَ الدُّنْيَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ)).

إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ -إِلَى الْغَرْغَرَةِ- عِبَادَةٌ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}؛ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْمَوْتُ.

فَالْعِبَادَةُ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا..

وَالْعَبْدُ الصَّالِحُ، الْحَاذِقُ الْكَيِّسُ، الْعَارِفُ بِصَالِحِهِ، الشَّحِيحُ عَلَى آخِرَتِهِ يَعْلَمُ ذَلِكَ وَيَأْتِي بِهِ، وَيَلْبَسُ لِكُلِّ حَالٍ لَبُوسَهَا!!

نَعَمْ؛ لِأَنَّ لِلْمَرَضِ عُبُودِيَّةً، وَلِأَنَّ لِلصِّحَّةِ عُبُودِيَّةً، وَلِأَنَّ لِلْفَرَحِ عُبُودِيَّةً، وَلِأَنَّ لِلْمَوْتِ عُبُودِيَّةً.

*الصَّوْمُ لَا يَنْقَضِي بِانْقِضَاءِ رَمَضَانَ!!

إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ يُعَلِّمُنَا بِصِيَامِهِ كَيْفَ نَفْزَعُ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِحِرْمَانِ النَّفْسِ مِنْ بَعْضِ مَا تُحِبُّ؛ حَتَّى نُحِسَّ بِالمَحْرُومِ حَقًّا وَصِدْقًا.

وَهَذَا مُمْتَدٌّ فِي سَائِرِ الْعَامِ، وَأَوَّلُ ذَلِكَ: مَا يَكُونُ بِعَقِبِ عِيْدِ الْفِطْرِ

فَدَلَّنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى أَنَّ: ((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ فَهَوَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ)) ؛ يَعْنِي  كِصِيَامِ الْعَامِ.

ثُمَّ وَضَّحَ ذَلِكَ ﷺ -فِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ الصَّحِيحِ- فَقَالَ: ((الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَشَهْرٌ بِعَشْرَةِ أَشْهُرٍ، وَسِتَّةُ أَيَّامٍ بِشَهْرَيْنِ، فَهَذَا تَمَامُ السَّنَةِ)).

وَأَرْشَدَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ فِعْلِ الصِّيَامِ فِي الْقَلْبِ تَزْكِيَةً وَتَطْهِيرًا؛ فَقَالَ ﷺ: ((صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ، وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يُذْهِبْنَ وَحَرَ الصَّدْرِ)) ؛ أَيْ غِشَّهُ، وَحِقْدَهُ، وَوَسَاوِسَهُ، وَسُوءَهُ.

صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ؛ مَضْمُومًا إِلَيْهِ أَنْ يَصُومَ الْمُسْلِمُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ: الثَّالِثَ عَشَرَ، وَالرَّابِعَ عَشَرَ، وَالْخَامِسَ عَشَرَ، وَهِيَ الْقَمَرِيَّةُ مِنَ الشَّهْرِ الْعَرَبِيِّ الْهِجْرِيِّ، مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَذْهَبَ اللهُ عَنْهُ وَسَاوِسَ قَلْبِهِ، وَشُكُوكَ فُؤَادِهِ، وَطَهَّرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ صَدْرَهُ مِنَ الْغِشِّ، وَالْحِقْدِ، وَالْغِلِّ، وَالْحَسَدِ.

فَانْظُرْ كَيْفَ تَتَزَكَّى الْقُلُوبُ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ الَّذِي دَلَّنَا عَلَيْهِ رَبُّنَا الْكَرِيمُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا الْأَمِينِ ﷺ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ عَمَلُهُ دِيمَةً، كَانَ عَمَلُهُ دَائِمًا لَا يَنْقَطِعُ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ.

فَلْتَكُنْ مُوَاظِبًا عَلَى فِعْلِ الخَيْرِ وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا، وَلَكِنْ دَاوِمْ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّكَ إِنْ دَاوَمْتَ عَلَيْهِ؛ كَانَ سَجِيَّةً وَعَادَةً، فَلَا تَكَادُ النَّفْسُ تَنْقَطِعُ عَنْهُ بَعْدُ حَنِينًا إِلَيْهِ، وَإِقْبَالًا عَلَيْهِ، وَأَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلى آله وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((قِيَامُ اللَّيْلِ مُمْتَدٌّ طُوَالَ الْعَامِ))

فَالنَّبِيُّ ﷺ يَعْبُدُ رَبَّهُ؛ لِأَنَّ عِبَادَةَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي يَنْبَغِي أَلَّا يُفَرِّطَ فِيهَا الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ إِنْ فَرَّطَ فِيهَا لَا يَكُونُ إِنْسَانًا، إِنَّمَا خَلَقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ لِعِبَادَتِهِ.

فَكَانَ ﷺ يَقُومُ اللَّيْلَ حَتَّى تَتَفَطَّرَ -أَيْ: تَتَشَقَّقَ- حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ.

فَيُقَالُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ! تَفْعَلُ هَذَا وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟!!

قَالَ: ((أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا)) ﷺ.

إِذَا انْقَضَى رَمَضَانُ، وَذَهَبَ الْقِيَامُ فِي الْمَسَاجِدِ مَعَ الْإِمَامِ، فَهَلِ انْقَضَى قِيَامُ اللَّيْلِ؟!!

النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَدَعُ قِيَامَ اللَّيْلِ، لَا فِي الْحَلِّ وَلَا فِي التِّرْحَالِ، بَلْ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَهُوَ مُسَافِرٌ عَلَى دَابَّتِهِ ﷺ، يَتَوَجَّهُ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيَأْتِي بِالتَّحْرِيمَةِ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ أَنَّى تَوَجَّهَتْ بِهِ رَكَائِبُهُ -وَلَوْ كَانَ مُسْتَدْبِرًا لِلْقِبْلَةِ عَلَى حَسَبِ السَّفَرِ الْقَاصِدِ الَّذِي يَبْتَغِيهِ-.

وَالنَّبِيُّ ﷺ يَمُدُّ فِي هَذَا الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصْلِحُ الْقُلُوبَ مِثْلُ هَذَا الْأَمْرِ، وَلَا يُزَكِّي الْأَرْوَاحَ مِثْلُ هَذَا الْأَمْرِ، بَلْ إِنَّ جِبْرِيلَ يَأْتِي بِذَلِكَ لِلنَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ، فَيَقُولُ لَهُ: ((يَا مُحَمَّدُ! عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ.

وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ -لَا مَحَالَةَ مُفَارِقُهُ؛ لَا خُلُودَ هَا هُنَا، وَلَمْ يَخْلُقْنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الدُّنْيَا لِلْخُلُودِ، وَإِنَّمَا لِلْمَوْتِ-.

وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ -مَهْمَا كَانَ لَذْعُ الْأَلَمِ فِي الْقُلُوبِ لَاذِعًا، وَمَهْمَا كَانَ لَهِيبُ الْفِرَاقِ فِي النُّفُوسِ مُتَأَجِّجًا؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْفِرَاقِ- وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ، وَأَنَّ عِزَّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ)).

((شَرَفُ الْمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ)).

((مَنْ قَامَ فِي اللَّيْلِ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، مَنْ قَامَ فِي اللَّيْلِ بِمِئَةِ آيَة كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، مَنْ قَامَ فِي اللَّيْلِ بِأَلْفِ آيَة كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطِرِينَ))؛ الَّذِينَ تَحَصَّلُوا عَلَى قِنْطَارٍ مِنَ الْأَجْرِ.

قَالَ الْحَافِظُ الْمُنْذِرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مِنْ سُورَةِ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} إِلَى آخِرِ الْقُرْآنِ أَلْفُ آيَةً)).

فَمَنْ قَامَ بِهَذَيْنِ الْجُزْءَيْنِ تَحَصَّلَ عَلَى قِنْطَارٍ مِنَ الْأَجْرِ.

بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يُخْبِرُ دَاعِيًا بِالرَّحْمَةِ لِرَجُلٍ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، ثُمَّ أَيْقَظَ امْرَأَتَهُ، فَإِنْ قَامَتْ تُصَلِّي وَإِلَّا نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ.

قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، ثُمَّ أَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، وَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ، ثُمَّ أَيْقَظَتْ زَوْجَهَا فَصَلَّى، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ».

هَذَا دُعَاءٌ بِالرَّحْمَةِ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، لَا تُرَدُّ لَهُ دَعْوَةٌ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ذَلِكَ.

هَذَا الْأَمْرُ الْعَظِيمُ -الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ- لَا يَنْقَطِعُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ سَاكِنًا غَيْرَ مَرْئِيٍّ، لَا يُرَاءَى بِهِ فِي الْبُيُوتِ فِي أَجْوَافِهَا، فِي جَوْفِ اللَّيْلِ يَتَعَبَّدُ الْمُسْلِمُ لِرَبِّهِ.

وَأَمَّا فِي رَمَضَانَ فَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْجَاهِلُ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ دَرْسًا عَمَلِيًّا، فَكَمَا قَامَ فِي رَمَضَانَ يَقُومُ فِي سَائِرِ الْعَامِ.

((دَوَامُ الْإِقْبَالِ عَلَى كِتَابِ اللهِ))

عِبَادَ اللهِ! الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ أَنْزَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى بَيْتِ الْعِزَّةِ فِي سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ ﷺ فِي ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ عَامًا.

الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ؛ كُلُّ حَرْفٍ يَقْرَأُهُ الْمُسْلِمُ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، ((لَا أَقُولُ {الم} حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلَفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ)).

يُزَكِّي الْقُلُوبَ.. يُطَهِّرُ الْأَرْوَاحَ.. يَتَعَلَّمُ الْعَبْدُ بِتِلَاوَتِهِ دِينَهُ، وَيَعْرِفُ رَبَّهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَإِذَا عَرَفَ رَبَّهُ أَحَبَّهُ وَخَافَهُ، فَلَمْ يَتَوَرَّطْ فِي مَعْصِيَتِهِ، وَاسْتَقَامَ -حِينَئِذٍ- عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.

وَنَبِيُّكُمْ ﷺ كَانَ يَقْرَأُ كِتَابَ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، يُرَتِّلُهُ فِي الصَّلَوَاتِ، يُصَلِّي بِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَيَتَدَارَسُهُ مَعَ إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَتَدَارَسُهُ جِبْرِيلُ مَعَ النَّبِيِّ الْأَمِينِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ.

الْقُرْآنُ يَعْقِدُ الْعَبْدُ بِهِ الصِّلَةَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَهُ عِزًّا، وَذِكْرًا، وَشَرَفًا لِهَذِهِ الْأُمَّةِ.

فَإِذَا أَخَذْتَ بِهِ؛ كَانَ لَكَ شَرَفًا، وَعِزًّا، وَذِكْرًا فِي الْحَيَاةِ، وَكَانَ لَكَ نُورًا فِي الْقَبْرِ، وَمُدَافِعًا عَنْكَ إِذَا مَا هُمَّ بِكَ بِإِنْزَالِ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ، وَيَكُونُ لَكَ عِنْدَ اللهِ شَفِيعًا يَوْمَ الْعَرْضِ عَلَيْهِ، وَيَكُونُ لَكَ نُورًا عَلَى  الصِّرَاطِ تَصِلُ بِهِ إِلَى دَارِ السَّلَامِ.

الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ هُوَ شَرَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَهُوَ ذِكْرُهَا، وَهُوَ عِزَّهُا، فَمَهْمَا تَرَكَتْهُ تَوَرَّطَتْ فِي الْمَذَلَّةِ، وَتَوَرَّطَتْ فِي الِانْحِطَاطِ، وَمَهْمَا أَخَذَتْ بِهِ عَلَتْ، وَسَمَتْ، وَارْتَفَعَتْ، وَدَانَتْ لَهَا الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَدِينُ إِلَّا لِكِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

والْقُرْآنُ الْعَظِيمُ قَدَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ فِي الدُّنْيَا ((إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ)).

يُعِزُّهُمْ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيَرْفَعُهُمْ، وَيُذِلُّ أَقْوَامًا أَعْرَضُوا عَنْهُ وَكَذَّبُوهُ، وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ، وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهِ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((يَؤُمُ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ)).

فَالْقُرْآنُ يُقَدِّمُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا، وَفِي الْقَبْرِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ عِنْدَمَا كَانَ يَدْفِنُ شُهَدَاءَ أُحُدٍ؛ لَمْ تَكُنِ الْأَكْفَانُ الصَّالِحَةُ عَلَى قَدْرِ الشُّهَدَاءِ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَكَانَ رُبَّمَا جَمَعَ الرَّجُلَيْنِ فِي كَفَنٍ وَاحِدٍ ﷺ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْفِنَهُمَا؛ قَالَ: ((أَيُّهُمَا كَانَ أَكْثَرَ قُرْآنًا؟)).

فَيُقَالُ: فُلَانٌ يَا رَسُولَ اللهِ.

فَيُقَدِّمُهُ فِي الْقَبْرِ.

يُقَدِّمُ الْقُرْآنُ النَّاسَ حَتَّى فِي الْقُبُورِ.

وَأَمَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَاجُ الْكَرَامَةِ، وَتَاجُ الْخُلْدِ الَّذِي يَجْعَلُهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلَّذِينَ أَقْبَلُوا عَلَى كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَتَعَلَّمُوهُ وَعَمِلُوا بِهِ، وَهَذَا شَرْطٌ.

وَلَا يَنْقَضِي الْإِقْبَالُ عَلَى كِتَابِ اللهِ بِانْقِضَاءِ رَمَضَانَ، بَلْ لَا تَنْقَضِي الْعِبَادَةُ إِلَّا بِالْمَوْتِ {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحِجْر: 99].

((الْفَرَحُ الْحَقِيقِيُّ بِطَاعَةِ اللهِ وَعِبَادَتِهِ))

قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].

فَالَّذِي أَدَّى الصِّيَامَ عَلَى وَجْهِهِ، وَأَتَى بِالْقِيَامِ عَلَى وَجْهِهِ، وَالْتَمَسَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَأَمْسَكَ لِسَانَهُ عَنِ الْخَنَا، وَأَمْسَكَ لِسَانَهُ عَنِ النَّمِيمَةِ، وَالْغِيبَةِ، وَالنَّهْشِ فِي أَعْرَاضِ الْمُسْلِمِينَ، وَخَرَجَ مِنْ رَمَضَانَ سَالِمًا غَانِمًا؛ فَلْيَفْرَحْ.

وَأَمَّا مَنْ دَخَلَ رَمَضَانَ، وَخَرَجَ مِنْ رَمَضَانَ أَسْوَأَ مِمَّا كَانَ؛ فَهَذَا يَفْرَحُ بِمَاذَا؟!!

لَيْسَ الْفَرَحُ بِالثَّوْبِ الْجَدِيدِ، وَلَا بِاللُّعْبَةِ يَتَنَاقَلُهَا الْأَطْفَالُ فِي أَيْدِيهِمْ هَا هُنَا وَهُنَاكَ، لَيْسَ الْفَرَحُ بِالثَّوْبِ الْجَدِيدِ يَتَعَاجَبُ بِهِ لَابِسُهُ، إِنَّمَا الْفَرَحُ بِفَضْلِ اللهِ، الْفَرَحُ بِرَحْمَةِ اللهِ، الْفَرَحُ إِنَّمَا يَكُونُ عَلَى التَّوْفِيقِ لِطَاعَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}.

فَالْمُسْلِمُ الصَّحِيحُ فَرَحُهُ مَحْكُومٌ بِدِينِ اللهِ، وَحُزْنُهُ وَمُصِيبَتُهُ مَحْكُومَانِ بِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

غِنَاهُ وَفَقْرُهُ، صِحَّتُهُ وَمَرَضُهُ، حَلُّهُ وَسَفَرُهُ.. كُلُّ ذَلِكَ مَحْكُومٌ بِدِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَعَلَيْهِ؛ فَكُنْ رَبَّانِيًّا وَلَا تَكُنْ رَمَضَانِيًّا، كُنْ رَبَّانِيًّا وَلَا تَكُنْ رَمَضَانِيًّا!!

كُنْ رَبَّانِيًّا تُرَاقِبُ رَبَّكَ، وَتَرْعَى سَيِّدَكَ فِيمَا أَوْجَبَهُ عَلَيْكَ، وَفِيمَا نَهَاكَ عَنْهُ، فَتُقْبِلُ عَلَى الْأَوَّلِ وَتُمْسِكُ عَنِ الثَّانِي وَتُبَاعِدُهُ.

كُنْ رَبَّانِيًّا فِي طَاعَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ بِإِخْلَاصِ الْقَلْبِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، بِتَطْهِيرِ الْقَلْبِ مِنْ مَسْمُومِ الْعَادَاتِ، وَسَيِّئِ الصِّفَاتِ؛ مِنَ الْغِلِّ، وَالْحِقْدِ، وَالْحَسَدِ، وَالشَّهْوَةِ الْخَفِيَّةِ، وَالرِّيَاءِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ.

الْتَمِسِ الْإِخْلَاصَ؛ فَإِنَّمَا يَتَعَثَّرُ مَنْ لَمْ يُخْلِصْ، وَالْخَلَاصُ فِي الْإِخْلَاصِ! الْخَلَاصُ فِي الْإِخْلَاصِ! الْخَلَاصُ فِي الْإِخْلَاصِ؛ إِنَّمَا يَتَعَثَّرُ مَنْ لَمْ يُخْلِصْ!!

أَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْمُثْلَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْفَائِزِينَ، وَأَنْ يَرْحَمَ أَمْوَاتَنَا وَأَمْوَاتَ الْمُسْلِمِينَ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلى آله وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.

التعليقات


خطب قد تعجبك


  • شارك