تاريخ النشر الخميس,01 صفر 1440 / 11 أكتوبر 2018

تفريغ خطبة التَّرْهِيبُ مِنَ الْعُقُوقِ وَعَوَاقِبِهِ


((التَّرْهِيبُ مِنَ الْعُقُوقِ وَعَوَاقِبِهِ))

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

((مِنْ أَيْنَ نُؤْتَى؟!!))

فَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ فِي حَسَنَاتِهِ وَفَضَائِلِهِ وَفَوَاضِلِهِ، كَالْحِصْنِ بِأَسْوَارِهِ وَتَحْصِينَاتِهِ وَمَوَانِعِهِ.

وَمَثَلُ الْمُؤْمِنِ فِي ذُنُوبِهِ وَرَذَائِلِهِ وَانْكِسَارَاتِ نَفْسِهِ أَمَامَ شَهَوَاتِهِ وَمَلَذَّاتِهِ، كَالْحِصْنِ بِنِقَاطِ ضَعْفِهِ وَمَوَانِعِ دَفْعِهِ وَمَوَاطِنِ الْقُصُورِ فِيهِ.

لَا يُؤْتَى الْإِنْسَانُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الذَّنْبِ، وَلَا يُؤْتَى الْإِنْسَانُ إِلَّا مِنْ قِبَلِ الْمَعْصِيَةِ.

وَقَدْ كَانَ السَّابِقُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي غَايَةِ الْعَمَلِ مَعَ غَايَةِ الْخَوْفِ، وَنَحْنُ فِي غَايَةِ التَّقْصِيرِ بَلْ فِي غَايَةِ التَّفْرِيطِ مَعَ غَايَةِ الْأَمْنِ.. فَشَتَّانَ!!

كَانَ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ فِي غَايَةٍ مِنَ الْعَمَلِ إِتْقَانًا وَإِحْسَانًا، وَأَدَاءً وَبَيَانًا مَعَ غَايَةِ الْخَوْفِ، مَعَ غَايَةِ الْإِشْفَاقِ كَمَا وَصَفَ رَبُّكَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ الْإِحْسَانَ مِنْ خَلْقِهِ بِقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60].

فَلَمَّا قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- مَا قَالَتْ، قَالَ: ((لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ! إِنَّمَا هُوَ الرَّجُلُ يَتَصَدَّقُ وَيَفْعَلُ الْخَيْرَ وَيَخْشَى أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُ)) .

كَمْ مِنْ رِزْقٍ هُوَ لِلْعَبْدِ مِنَ السَّمَاءِ نَازِلٌ، وَكَمْ مِنْ ذَنْبٍ هُوَ إِلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- صَاعِدٌ!!

اللَّهُمَّ تُبْ عَلَيْنَا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].

يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ الطُّيُورَ لَتَمُوتُ فِي أَكْنَانِهَا -إِنَّ الطُّيُورَ لَتَمُوتُ فِي أَعْشَاشِهَا- بِظُلْمِ الظَّالِمِ)) .

وَيَقُولُ مُجَاهِدٌ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ السَّنَةَ إِذَا مَا اشْتَدَّتْ -يَعْنِي إِذَا مَا الْقَحْطُ اشْتَدَّ بِالْأَرْضِ- وَإِذَا مَا مُنِعَ الْقَطْرُ -أَيْ مَا مُنِعَ مَاءُ السَّمَاءِ بِمَطَرِهَا- فَعِنْدَئِذٍ تَلْعَنُ دَوَابُّ الْأَرْضِ ابْنَ آدَمَ، تَقُولُ: اللَّهُمَّ الْعَنِ ابْنَ آدَمَ فَإِنَّهُ بِمَعْصِيَتِهِ كَانَ مَا كَانَ)) .

لَا يَحْدُثُ لِلْعَبْدِ عَلَى مُسْتَوَاهُ الْفَرْدِيِّ.. عَلَى مُسْتَوَاهُ الشَّخْصِيِّ مِنْ أَمْرٍ يَسُوؤُهُ وَلَا حَدَثٍ يُكْرِبُهُ إِلَّا بِذَنْبٍ أَحْدَثَهُ، وَلَا يَحْدُثُ لِلْأُمَّةِ فِي مَجْمُوعِهَا وَلَا لِلْمَحَلَّةِ وَلَا لِلْبَلْدَةِ فِي ذَاتِهَا مِنْ أَمْرٍ تَكْرَهُهُ إِلَّا بِذَنْبٍ أَحْدَثَتْهُ وَخَطِيئَةٍ وَقَعَتْ فِيهَا.

لَمَّا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ فيِ الْمَدِينَةِ -مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ- عَلَى عَهْدِ عُمَرَ فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَخَطَبَ النَّاسَ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ! مَا أَسْرَعَ مَا أَحْدَثْتُمْ، لَئِنْ عَادَتْ لَا أُسَاكِنُكُمْ فِيهَا»، -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- .

وَهَذَا مِنْ فِقْهِهِ وَمِنْ فِقْهِ الصَّحَابَةِ مِمَّا عَلَّمَهُمْ إِيَّاهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

نَعَمْ، لَوْلَا أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- يَمُنُّ عَلَيْنَا بِرَحَمَاتِهِ لَأَنْزَلَ بِالْخَلْقِ مَا أَنْزَلَ، وَلَوَقَعَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ شُكُولًا وَأَصْنَافًا، وَلَكِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

إِذَنْ؛ يَنْبَغِي عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُفَتِّشَ فِي ذَاتِهِ، وَأَنْ يَبْحَثَ فِي قَرَارَةِ قَلْبِهِ وَصَحِيفَةِ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ مُسِيئًا مِنْ حَيْثُ هُوَ ظَانٌّ أَنَّهُ مُحْسِنٌ، وَلَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أُتِيَ مِنْ قِبَلِ شَيْءٍ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، بَلْ رُبَّمَا عَدَّهُ فِي حَسَنَاتِهِ وَهُوَ لَا يُعَوِّلُ عَلَيْهِ، وُهُوَ مَكْتُوبٌ فِي صَحِيفَةِ سَيِّئَاتِهِ، {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ۚ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف: 53].

 ((التَّرْهِيبُ مِنَ الْعُقُوقِ))

عَبْدَ اللهِ! خُذْ إلِيْكَ حَدَثًا وَاحِدًا: عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا.. عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ!

عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ»؟ ثَلَاثًا.

قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ.

قَالَ: «الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ -وَجَلَسَ، وَكَانَ مُتَّكِئًا- أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ».

مَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْتُ: لَيْتَهُ سَكَتَ. هَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِمَا».

«الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ»: أَنْ يَتَّخِذَ مَعَ اللهِ -تَعَالَى- مَعْبُودًا يُقَدِّمُ لَهُ شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ.

«الزُّورُ»: الْكَذِبُ، وَالْبَاطِلُ، وَالتُّهْمَةُ.

وَشَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ أَشْنَعِ الْكَذِبِ؛ لِمَا فِيهَا مِنَ الظُّلْمِ.

الْكَبَائِرُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ ذَكَرَ الْعُلَمَاءُ ضَابِطَ الْكَبِيرَةِ؛ فَقَالُوا: هِيَ الذَّنْبُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حَدٌّ فِي الدُّنْيَا وَعُقُوبَةٌ فِي الْآخِرَةِ، أَوِ الذَّنْبُ الَّذِي يُخْتَمُ بِلَعْنَةٍ أَوْ غَضَبٍ؛ فَعَلَى هَذَا.. الْكَبَائِرُ لَيْسَتْ مَحْصُورَةً فِي السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ أَوِ التِّسْعِ الْمُوبِقَاتِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: التَّرْهِيبُ الشَّدِيدُ مِنْ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَقَوْلِ الزُّورِ، وَبَيَانُ أَنَّ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ مِنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ.

وَالْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ مَلْعُونٌ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ فَعَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: سُئِلَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: هَلْ خَصَّكُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِشَيْءٍ لَمْ يَخُصَّ بِهِ النَّاسَ كَافَّةً؟

قَالَ: «مَا خَصَّنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِشَيْءٍ لَمْ يَخُصَّ بِهِ النَّاسَ، إِلَّا مَا فِي قِرَابِ سَيْفِي».

ثُمَّ أَخْرَجَ صَحِيفَةً، فَإِذَا فِيهَا مَكْتُوبٌ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، لَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا». الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».

وَاللَّعْنُ -عِبَادَ اللهِ-: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ عَلَى سَبِيلِ السُّخْطِ.

وَاللَّعْنُ مِنَ اللهِ: الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ.

وَاللَّعْنُ مِنَ النَّاسِ: السَّبُّ وَالدُّعَاءُ.

«هَلْ خَصَّكُمُ النَّبِيُّ ﷺ بِشَيْءٍ»؛ أَيْ: مِنْ آيَةٍ أَوْ سُنَّةٍ.

«إِلَّا مَا فِي قِرَابِ سَيْفِي»؛ الْقِرَابُ: وِعَاءٌ مِنَ الْجِلْدِ يُدْخَلُ فِيهِ السَّيْفُ.

«ثُمَّ أَخْرَجَ صَحِيفَةً»؛ أَيْ: كِتَابًا.

«لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللهِ»؛ الذَّبْحُ لِغَيْرِ اللهِ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- مِنَ الشِّرْكِ الْأَكْبَرِ.

«لَعَنَ اللَّهُ مَنْ سَرَقَ مَنَارَ الْأَرْضِ»: «سَرَقَ»؛ أَيْ: غَيَّرَ، وَكَذَلِكَ هِيَ بِالتَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ، «مَنَارَ»: جَمْعُ «مَنَارَةٍ»؛ وَهِيَ: عَلَامَةُ الْأَرْضِ الَّتِي تَتَمَيَّزُ بِهَا حُدُودُهَا.

«لَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ» لَعْنًا صَرِيحًا أَوْ لَعْنًا غَيْرَ مُبَاشِرٍ، سَوَاءٌ لَعَنَهُمَا هُوَ بِلِسَانِهِ أَوْ كَانَ سَبَبًا فِي لَعْنِهِمَا مِنْ غَيْرِهِ.

«لَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا»؛ أَيْ: جَانِيًا أَوْ مُبْتَدِعًا، فَالْمُحْدِثُ: مَنْ يَأْتِي بِفَسَادٍ فِي الْأَرْضِ.

إِنَّ مِنْ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ تَعْرِيضَهُمَا لِلسَّبِّ وَالْإِهَانَةِ مِنَ الْغَيْرِ.

فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ يَشْتُمَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ».

فَقَالُوا: كَيْفَ يَشْتُمُ؟

قَالَ: «يَشْتُمُ الرَّجُلَ، فَيَشْتُمُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».

قَالُوا: «كَيْفَ يَشْتُمُ»؟ الطَّبْعُ السَّلِيمُ يُنْكِرُ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُ، فَاسْتَبْعَدَ السَّائِلُ ذَلِكَ لِنَقَاءِ فِطْرَتِهِ، وَاسْتَبْعَدَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ يَشْتُمُ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ التَّسَبُّبَ فِي الشَّتْمِ كَالتَّعَاطِي بِنَفْسِهِ إِذَا كَانَ سَبَبًا لِشَتْمِهِمَا، فَكَأَنَّهُ شَتَمَهُمَا.

قَالَ: «يَشْتُمُ الرَّجُلَ»: «الرَّجُلَ» مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، فَيَشْتُمُ ذَلِكَ الْمَسْبُوبُ أَبَا السَّابِّ وَأُمَّهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا: «يَشْتُمُ الرَّجُلُ» أَحَدًا، وَ:«يَشْتُمُ الرَّجُلَ، فَيَشْتُمُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ».

لَا شَكَّ أَنَّ شَتْمَ الرَّجُلِ لِوَالِدَيْهِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ كَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ.

وَلَمَّا كَانَ مِنَ النَّادِرِ أَنْ يُوَاجِهَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ بِالشَّتْمِ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ نَوْعًا آخَرَ يَقَعُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَهُوَ شَتْمُ النَّاسِ؛ أَيْ: شَتْمُ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، فَيَرُدُّونَ عَلَى الشَّتْمِ بِمِثْلِهِ.

فَمَنْ شَتَمَ أَبَا الرَّجُلِ أَوْ أُمَّهُ بِاللَّعْنِ أَوِ الْكَلَامِ الْقَبِيحِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ الْآخَرُ بِمِثْلِ مَا قَالَ؛ فَالْبَادِئُ شَتَمَ وَالِدَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الشَّتْمُ حَصَلَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ هُوَ السَّبَبُ، لِذَا وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يُرَاقِبَ لِسَانَهُ، وَأَنْ يَحْفَظَهُ مِنَ السَّبِّ وَالشَّتْمِ لِلْآخَرِينَ؛ فَيُقَابِلُوهُ بِمِثْلِ مَا قَالَ، فَيَتَعَدَّى إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَإِلَى الْأُسْرَةِ وَإِلَى الْقَبِيلَةِ وَمَا شَاكَلَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ وَاقِعٌ فِي الْمُجْتَمَعَاتِ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: تَحْرِيمُ شَتْمِ الْوَالِدَيْنِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْعُقُوقِ، فَمِنَ الْعُقُوقِ سَبُّهُمَا مُبَاشَرَةً، أَوْ تَعْرِيضُهَمَا لِلسَّبِّ وَلِلْإِهَانَةِ مِنْ قِبَلِ الْآخَرِينَ لَهُمَا، فَتَعْرِيضُ الْأَبَوَيْنِ لِلسَّبِّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ.

 ((الْبِرُّ الْحَقُّ بِالْأَبَوَيْنِ))

عَبْدَ اللهِ! تَحْسَبُ الْبِرَّ أَنْ تُطِيعَ فِيمَا تُحِبُّ؟!!

كَلَّا وَحَاشَا! بَلِ الْبِرُّ أَنْ تُطِيعَ فِيمَا تَكْرَهُ.. لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُطِيعَ فِيمَا تُحِبُّ؛ لِأَنَّكَ إِنْ أَطَعْتَ فِيمَا تُحِبُّ فَهَذَا هَوَى النَّفْسِ يَحْمِلُكَ، فَهَذَا حُبُّ مَا تَفْعَلُ هُوَ الَّذِي يَؤُزُّكَ عَلَى أَنْ تَفْعَلَ مَا تَفْعَلُ وَأَنْ تَدَعَ مَا تَدَعُ.

لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تَأْتِيَ بِالْأَمْرِ الَّذِي تُحِبُّ حَتَّى تَصِيرَ بِذَلِكَ الْأَمْرِ بَارًّا، حَاشَا وَكَلَّا، بَلْ إِنَّ الْبِرَّ أَنْ تُطِيعَ فِيمَا تَكْرَهُ، وَلَقْد تُبْتَلَى بِأَبَوَيْنِ عَصَبِيَّيْنِ لَا يَكَادَانِ يَسْتَقِرَّانِ عَلَى حَالٍ أَبَدًا، وَأَنْتَ كَالْحَبْلِ الْمَشْدُودِ بَيْنَ قِمَّتَيْنِ، أَوْ كَالسَّائِرِ عَلَى ذَلِكَ الْحَبْلِ يَخْشَى الْهَاوِيَةَ الَّتِي فَغَرَتْ فَاهَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ بَلْ تَحْتَ جَسَدِهِ بِأَمْثَالِ أَنْيَابِ التَّنَانِينِ، وَإِنَّ فِيهَا لَلَظًى مُسْتَعِرًا لَا يَخْبُو أُوَارُهُ لَحْظَةً مِنْ زَمَانٍ!!

قَدْ تُبْتَلَى بِذَلِكَ.. وَهُوَ ابْتِلَاءٌ! وَهَلْ هُنَاكَ ابْتِلَاءٌ هُوَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُولَدَ الرَّجُلُ مِنْ أَبَوَيْنِ كَافِرَيْنِ؟!!

حَتَّى لَوْ كَانَ هُوَ ابْتِلَاءً وَللهِ فِيهِ طَاعَةٌ، وَعَلَى الْمَرْءِ فِيهِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ.

وَيَنْبَغِي عَلَى الْعَبْدِ إِذَا وُلِدَ لِأَبَوَيْنِ مُشْرِكَيْنِ، بَلْ تَعَدَّى طَوْرَيْهِمَا وَجَاهَدَاهُ عَلَى أَنْ يُشْرِكَ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَعَ هَذَا يَقُولُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15].

وَإِنِ اشْتَدَّا عَلَيْكَ بِالطَّلَبِ -أَيُّهَا الِابْنُ الْمُؤْمِنُ- مُكْرِهَيْنِ لَكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي شِرْكًا مَا، لَا تَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ؛ فَلَا تَسْتَجِبْ لَهُمَا فِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ.

وَوَافِقْهُمَا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا مُصَاحَبَةً حَسَنَةً، وَقَدِّمْ لَهُمَا مَعْرُوفًا؛ كَمَالٍ، وَتَكْرِيمٍ، وَخِدْمَةٍ.

وَاتَّبِعْ فِي مَسِيرَتِكَ فِي حَيَاتِكَ سَبِيلَ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ رَجَعُوا إِلَيَّ بِالْإِيمَانِ، وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَالتَّوْبَةِ مِنَ الذُّنُوبِ، ثُمَّ إِلَيَّ بَعْدَ رِحْلَةِ الِامْتِحَانِ فِي الدُّنْيَا، وَبَعْدَ مَوْتِكُمْ- إِلَيَّ رُجُوعُكُمْ، وَمَكَانُ رُجُوعِكُمْ، وَزَمَانُهُ، فَأُخْبِرُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَهُ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ؛ لِأُجَازِيَكُمْ عَلَيْهِ.

لَقَدْ جَاءَ الْأَمْرُ بِالصُّحْبَةِ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ الْكُفْرِ.

وَالْأَبَوَانِ إِذَا لَمْ يَكُونَا كَافِرَيْنِ -فَكُلُّ ذَنْبٍ دُونَ الْكُفْرِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَكُلُّ ذَنْبٍ كَانَ كُفْرًا فَهُوَ أَعْظَمُ شَيْءٍ وَأَكْبَرُهُ- فَإِذَا لَمْ يَكُنِ الْأَبَوَانِ كَافِرَيْنِ، وَرُبَّمَا لَمْ يَكُونَا عَاصِيَيْنِ، وَلَكِنْ غَايَةَ مَا هُنَالِكَ أَنَّهُمَا رُبُّمَا كَانَا مُتَسَلِّطَيْنِ -وَالْأُبُوَّةُ وَالْأُمُومَةُ سُلْطَةٌ مُتَسَلِّطَةٌ جَبَّارَةٌ قَدْ يُسَاءُ اسْتِغَلَالُهَا فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَحَايِينِ، وَعَلَى قَدْرِ التَّحَمُّلِ وَالْمَشَقَّةِ تَكُونُ الْمَثُوبَةُ وَالْأَجْرُ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَاللهُ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْبَرُّ الْكَرِيمُ الْجَوَادُ.

قَدْ يُبْتَلَى الْمَرْءُ بِأَبَوَيْنِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ، وَهُوَ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَكِنْ مَا عَلَى الْمَرْءِ إِلَّا أَنْ يُطِيعَ.

وَهَذَا رَجُلٌ يَأْتِي إِلَى وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ يَقُولُ: أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ، فَقَالَ: ((إِنَّ أَبِي لَمْ يَزَلْ بِي حَتَّى تَزَوَّجْتُ، وَإِنَّهُ الْآنَ يَأْمُرُنِي بِطَلَاقِهَا، قَالَ: مَا أَنَا بِالَّذِي آمُرُكَ أَنْ تَعُقَّ وَالِدَكَ، وَلَا أَنَا بِالَّذِي آمُرُكَ أَنْ تُطَلِّقَ امْرَأَتَكَ، غَيْرَ أَنَّكَ إِنْ شِئْتَ حَدَّثْتُكَ مَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «الْوَالِدُ أَوْسَطُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَحَافِظْ عَلَى ذَلِكَ إِنْ شِئْتَ أَوْ دَعْ» .

لَا تَظُنَّنَّ أَنَّ الْبِرَّ هُوَ الطَّاعَةُ فِيمَا تُحِبُّ؛ بَلْ إِنَّ الْبِرَّ كُلَّ الْبِرِّ الطَّاعَةُ فِيمَا تَكْرَهُ، وَلَقَدْ تُؤْتَى مِنْ قِبَلِ هَذَا الْمَأْتَى وَأَنْتَ لَا تَشْعُرُ وَلَا تَدْرِي، إِذَا مَا أَمَرَا فَسَمْعًا وَطَاعَةً، وَإِذَا مَا أَصْدَرَا قَرَارًا مِنَ الْقَرَارَاتِ -طَالَمَا أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي دِينٍ، وَلَا يَطْعَنُ فِي عَقِيدَةٍ، وَلَا يَجْرَحُ فِي الْإِسْلَامِ- فَسَمْعًا وَطَاعَةً.

((مَلْعُونٌ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، مَلْعُونٌ مَنْ عَقَّ أَبَوَيْهِ)).

((مَلْعُونٌ)): مَطْرُودٌ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَانْظُرْ إِلَى الْمَطْرُودِ خَارِجَ أَسْوَارِ الرَّحْمَةِ، خَارِجَ أَسْوَارِ الرَّحْمَةِ لَا تُدْرِكُهُ وَلَا تَنْزِلُ عَلَيْهِ!!

انْظُرْ إِلَيْهِ مَا يَصْنَعُ هَذَا الْمَلْعُونُ؟!!

أَلَا إِنَّ الذُّنُوبَ بِآثَارِهَا، وَإِنَّ الْآثَامَ بِنَتَائِجِهَا.. فَاعِلَةٌ فِي الْجَسَدِ الْحَيِّ، فَاعِلَةٌ فِي الرُّوحِ الْحَيَّةِ، فَاعِلَةٌ فِي دُنْيَا اللهِ أَفْرَادًا وَمُجْتَمَعًا، وَأُمَمًا وَعَالَمًا؛ وَالْعَالَمُ مُطْبِقٌ عَلَى الْمَعْصِيَةِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي.

فَاللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا بِرَحْمَتِكَ، وَأَنْتَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

 ((التَّرْهِيبُ مِنْ عُقُوبَاتِ الْعُقُوقِ))

إِنَّ الْعَاقَّ لِوَالِدَيْهِ تُعَجَّلُ لَهُ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا، وَمِنْ أَكْبَرِ أَبْوَابِ قَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ قَطِيعَةُ الْوَالِدَيْنِ وَعُقُوقُهُمَا؛ فَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجَّلَ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ، مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ». هَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

قَالَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ»؛ أَيْ: أَحْرَى وَأَوْلَى، «أَنْ يُعَجَّلَ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ»؛ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، «مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ»؛ أَيْ: يُؤَجَّلُ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، «مِنَ الْبَغْيِ»: الظُّلْمِ، أَوْ هُوَ: الْخُرُوجُ عَلَى السُّلْطَانِ، أَوِ: الْكِبْرُ؛ وَيَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَالْبَغْيُ: التَّعَدِّي، وَكُلُّ مُجَاوَزَةٍ أَوْ إِفْرَاطٍ عَلَى الْمِقْدَارِ الذَّي هُوَ حَدُّ الشَّيْءِ، كُلُّ ذَلِكَ بَغْيٌ فَاحْذَرْهُ، فَإِنَّهُ تُعَجَّلُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يُدَّخَرُ لِصَاحِبِهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: إِثْبَاتُ تَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ لِلْبَاغِينَ وَالْقَاطِعِينَ أَرْحَامَهُمْ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يُؤَجَّلُ لَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ.

ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ «الصَّحِيحِ» -الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ»-: «لَيْسَ شَيْءٌ أُطِيعَ اللهُ فِيهِ أَعْجَلَ ثَوَابًا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَعْجَلَ عِقَابًا مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَالْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ» جَمْعُ بَلْقَعٍ أَوْ بَلْقَعَةٍ؛ وَهِيَ: الْأَرْضُ الْقَفْرُ الَّتِي لَا شَيْءَ فِيهَا.

وَعَلَى الْعَاقِّ لِوَالِدَيْهِ أَنْ يَخَافَ مِنْ دَعْوَةٍ مُسْتَجَابَةٍ مِنْ وَالِدَيْهِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَهُنَّ، لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ». وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «الصَّحِيحَةِ».

«لَا شَكَّ فِيهِنَّ»؛ أَيْ: فِي اسْتِجَابَتِهِنَّ؛ لِالْتِجَاءِ أَصْحَابِهِنَّ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- بِصِدْقِ الطَّلَبِ وَرِقَّةِ الْقَلْبِ وَانْكِسَارِ الْخَاطِرِ.

فِي أَكْثَرِ الطُّرُقِ: «دَعْوَةُ الْوَالِدِ»؛ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ، وَلَمْ تُذْكَرِ الْوَالِدَةُ وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي مَعْنَى اللَّفْظِ الْوَاحِدِ.

«دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ» الَّذِي يُظْلَمُ فِي مَالِهِ أَوْ فِي دَمِهِ أَوْ فِي عِرْضِهِ، فَدَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَدُعَاؤُهُ مُسْتَجَابٌ؛ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ»؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ؛ فَمَنِ انْتَهَكَ وَاحِدَةً مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ فَقَدْ بَغَى وَاعْتَدَى، وَاسْتَحَقَّ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِ الْمَظْلُومُ، وَإِذَا دَعَا الْمَظْلُومُ نَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، فَاسْتَجَابَ دُعَاءَهُ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ.

وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ فِي سَفَرِ الطَّاعَةِ أَوِ الْمُبَاحِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ فِيهِ عَنَاءٌ وَتَعَبٌ وَمَشَقَّةٌ، فَإِذَا كَانَ فِي طَاعَةٍ كَالْجِهَادِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَالْكَدِّ عَلَى الْعَائِلَةِ وَعَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ وَالْقَاصِرِ، كُلُّ هَذَا يُعْتَبَرُ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَصِيَانَةً لِلنَّفْسِ -أَيْضًا- عَنِ السُّؤَالِ، مَنْ دَعَا وَهُوَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ اسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ.

وَيُشْتَرَطُ فِي الدُّعَاءِ أَلَّا يَسْتَعْجِلَ الْإِجَابَةَ، وَلَا يَقْنَطَ، وَلَا يَنْقَطِعَ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ؛ يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي!»، وَمَا لَمْ يَدْعُ بِقَطِيعَةِ رَحِمٍ أَيْضًا.

وَأَمَّا سَفَرُ الْمَعَاصِي فَإِنَّهُ لَا تُسْتَبَاحُ بِهِ الرُّخَصُ، وَلَا يُعْطَى صَاحِبُهُ مَا يُعْطَى الْمُسَافِرُ سَفَرَ طَاعَةٍ أَوْ سَفَرًا مُبَاحًا.

وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ أَوِ الْوَالِدَةِ عَلَى الْوَلَدِ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَهِيَ الثَّالِثَةُ، يُسْتَجَابُ لِوَالِدِهِ إِذَا دَعَا عَلَيْهِ وَلِوَالِدَتِهِ إِذَا دَعَتْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ إِنْ حَصَلَ الدُّعَاءُ مِنْهُمَا بِحَقٍّ بِسَبَبِ الْإِسَاءَةِ إِليْهِمَا؛ كَالْعُقُوقِ، وَعَدَمِ الْبِرِّ، فَالدَّعْوَةُ -دَعْوَةُ الْوَالِدِ وَالْوَالِدَةِ عَلَى الْوَلَدِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى- مُسْتَجَابَةٌ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّقُوا هَذِهِ الثَّلَاثَ الْخِصَالَ؛ الظُّلْمَ لِلْغَيْرِ فِي مَالٍ أَوْ دَمٍ أَوْ عِرْضٍ، وَكَذَلِكَ الْعُقُوقُ الَّذِي بِالْعُقُوبَاتِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ.

إِنَّ أَهَمَّ حُقُوقِ الْعِبَادِ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ، فَهُمَا يَسْتَحِقَّانِ التَّوَاضُعَ مِنَ الْوَلَدِ، وَيَسْتَحِقَّانِ تَوْقِيرَهُمَا وَالتَّلَطُّفَ بِهِمَا، بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ؛ حَتَّى يَدْعُوَا لِأَوْلَادِهِمَا دُعَاءً حَسَنًا مُسْتَجَابًا عِنْدَ اللهِ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ)) .

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ، وَالدَّيُّوثُ. وَثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمُدْمِنُ عَلَى الْخَمْرِ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى)).

وَيَقُولُ: ((لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَمَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ الْعَاقَّ لِوَالِدَيْهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مُنْتَقِصَ مَنَارَ الْأَرْضِ)) .

((لَا تُشْرِكْ بِاللهِ وَإِنْ قُطِّعْتَ أَوْ حُرِّقْتَ، وَلَا تَعُقَّ وَالِدَيْكَ وَإِنْ هُمَا أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ)) .

إِذَنْ؛ يَجْعَلُهُ النَّبِيُّ ﷺ قِيمَةً بِذَاتِهَا لَا تَتَجَزَّأُ أَبَدًا، إِنَّمَا نُؤْتَى مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الذُّنُوبِ الْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ)) .

((حَقُّ الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ تَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-

وَذُلُّ الْعَاقِّ لِوَالِدَيْهِ))

قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23].

{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].

فَمَا يَأْتِي أَمْرٌ بِالتَّوْحِيدِ إِلَّا وَيَعْقُبُهُ أَمْرٌ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْأَبَوَيْنِ، وَمَا يَأْتِي أَمْرٌ بِعَدَمِ الشِّرْكِ وَبِالتَّنَصُّلِ مِنْهُ إِلَّا وَيَعْقُبُهُ أَمْرٌ بِالتَّنَصُّلِ مِنَ الْعُقُوقِ وَبِالْبُعْدِ عَنْهُ، لِمَ؟!!

لِأَنَّ الْأَبَوَيْنِ هُمَا السَّبَبُ الظَّاهِرُ لِوُجُودِكَ، فَإِذَا جَحَدْتَ السَّبَبَ الظَّاهِرَ الَّذِي تَعْلَمُهُ لِوُجُودِكَ كُنْتَ لِلسَّبَبِ الَّذِي لَمْ تَرَهُ عَيْنُكَ أَشَدَّ جَحْدًا وَأَعْظَمَ نُكْرًا!!

إِذَا كُنْتَ تَجْحَدُ مَنْ جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ سَبَبًا فِي وُجُودِكَ أَبًا وَأُمًّا وَهُمَا ظَاهِرَانِ تَحْتَ عَيْنَيْكَ وَأَنْتَ تَرَاهُمَا حَقِيقَةً تَرُوحُ وَتَجِيءُ بَيْنَ يَدَيْكَ، إِذَا كُنْتَ لِلسَّبَبِ الظَّاهِرِ فِي وُجُودِكَ جَاحِدًا فَأَنْتَ لِلسَّبَبِ الَّذِي لَمْ تَرَهُ -وَهُوَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- غَيْبٌ لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ- أَنْتَ لِلسَّبَبِ الَّذِي لَمْ تَرَهُ تَكُونُ عِنْدَئِذٍ أَشَدَّ جَحْدًا وَأَعَظْمَ نُكْرًا.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا بِرَّ وَالِدِينَا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ فِيمَا تُحِبُّ، بَلْ إِنَّ الْبِرَّ كُلَّ الْبِرِّ فِيمَا تَكْرَهُ، وَأَنْ تَحْمِلَ النَّفْسَ عَلَى مَا تَكْرَهُ، وَأَلَّا تُقَدِّمَ عَلَى الْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ وَالْحَدَبِ عَلَيْهِمَا، أَلَّا تُقَدِّمَ عَلَى ذَلِكَ امْرَأَةً وَلَا وَلَدًا، وَلَا مَالًا وَلَا ضِيَاعًا وَلَا عَمَلًا؛ فَكُلُّ ذَلِكَ لَا قِيمَةَ، تَحْتَ مَوَاطِئِ الْأَقْدَامِ إِنْ تَعَارَضَ مَعَ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ، كُلُّ ذَلِكَ لَا قِيمَةَ لَهُ إِنْ تَعَارَضَ مَعَ الْأَصْلِ الْكَبِيرِ الْأَعْظَمِ.

لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ؛ لَا زَوْجَةٌ وَلَا وَلَدٌ وَلَا شَيْءٌ يُمْلَكُ مِنْ مَالٍ وَلَا ضِيَاعٍ وَلَا رِيَاشٍ، لَا يُقَدَّمُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى بِرِّهِمَا وَمَحَبَّتِهِمَا وَإِنْ كَانَا مَا كَانَا، فَمَا يَأْتِي مِنَ الْقَذَرِ مِنْهُمَا فِي حَالِ كِبَرِهِمَا وَضَعْفِ تَمْيِيزِهِمَا قَدْ جَاءَ مِنْكَ فِي حَالِ حَدَاثَتِكَ مَعَ شَبَابِهِمَا أَضْعَافَ أَضْعَافِ أَضْعَافِهِ.

لَا يَأْنَفَانِ أَنْ يُمِيطَا عَنْكَ ذَلِكُمُ الْأَذَى وُهُمَا يَأْكُلَانِ بِيُمْنَاهُمَا وَيُمِيطَا عَنْكَ الْأَذَى -رُبَّمَا- بِأَيْسَارِهِمَا، وَتَزْكُمُ الْأُنُوفَ مَا تَزْكُمُهَا مِنْ تِلْكَ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ مِمَّا يَتَأَتَّى مِنَ الْأَبْنَاءِ صِغَارًا، لَا يَتَقَزَّزَانِ وَلَا يَتَفَزَّزَانِ وَلَا يَتَأَزَّمَانِ وَلَا يَتَلَاوَمَانِ وَلَا شَيْءَ، بَلْ إِنَّمَا هُوَ الضَّحِكُ الْعَابِسُ وَالْعُبُوسُ، لَا بَلِ هُوَ الْعُبُوسُ الضَّاحِكُ وَالضَّحِكُ الْعَابِسُ وَشَيْءٌ يَمُرُّ كَسَحَابَةِ الصَّيْفِ، ثُمَّ إِقْبَالٌ بِمَحَبَّةٍ وَوُدٍّ بِتَقْبِيلٍ، يَا اللهُ! مَا أَجْمَلَ الْأُبُوَّةَ! وَيَا اللهُ مَا أَحْلَى الْأُمُومَةَ!

وَيِا لَحَسْرَةِ الَّذِي انْقَضَتْ عَنْهُ وَمَضَتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفِيءَ إِلَى ظِلَالِهَا كَمَا قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: «رَغِمَ أَنْفُهُ، رَغِمَ أَنْفُهُ، رَغِمَ أَنْفُهُ».

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ؟

قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ -أَوْ أَحَدَهُمَا- فَدَخَلَ النَّارَ». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».

قَالَ ﷺ «رَغِمَ أَنْفُهُ»: «رَغِمَ» أَصْلُهُ: لَصِقَ أَنْفُهُ بِالرَّغَامِ: وَهُوَ تُرَابٌ مُخْتَلِطٌ بَرَمْلٍ، ومَعْنَاهُ: ذَلَّ وَخَزِيَ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ حُصُولِ غَايَةِ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ إِذَا اسْتَعَزَّ شَمَخَ بِأَنْفِهِ، فَإِذَا جُعِلَ أَنْفُهُ بِالرَّغَامِ مُلْتَصِقًا، فَهَذِهِ نِهَايَةُ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ.

سَأَلَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- رَسُولَ اللهِ ﷺ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُمْ مَنْ ذَكَرَ؛ كَيْ لَا يَتَّصِفُوا بِصِفَاتِهِ، وَحَتَّى لَا يَفْعَلُوا فِعْلَهُ، وَلِكَيْ لَا يَتَوَرَّطُوا فِيمَا تَوَرَّطَ فِيهِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَنْ؟ وَهَذَا مِنْ حِرْصِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-عَلَى الْخَيْرِ وَاتِّبَاعِ الْهُدَى وَالسَّدَادِ.

قَالَ ﷺ: «مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبْرِ -أَوْ أَحَدَهُمَا- فَدَخَلَ النَّارَ»: فِي رِوَايَةٍ: «عِنْدَهُ الْكِبَرُ» مَرْفُوعٌ؛ لِأَنَّهُ فَاعِلُ الظَّرْفِ، وَخُصَّ بِهِ لِأَنَّهُ أَحْوَجُ الْأَوْقَاتِ إِلَى حُقُوقِهِمَا؛ لِأَنَّ الْأَبَوَيْنِ إِذَا عَلَتْ بِهِمُ السُّنُونَ فَإِنَّهُمَا يَحْتَاجَانِ إِلَى الْبِرِّ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِمَا إِلَى الْبِرِّ فِي حَالِ صِحَّتِهِمَا وَشَبَابِهِمَا.

«مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبْرِ -أَوْ أَحَدَهُمَا- فَدَخَلَ النَّارَ»: فَدَعَا عَلَيْهِ ﷺ بِالذُّلِّ وَالْهَوَانِ، فَيُصِيبُهُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مُسْتَجَابُ الدَّعْوَةِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: التَّحْذِيرُ مِنْ عُقُوقِهِمَا، وَبَيَانُ عِظَمِ عِقَابِ الْعُقُوقِ.

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ عِنْدَ كِبَرِهِمَا وَضَعْفِهِمَا بِالْخِدْمَةِ أَوِ النَّفَقَةِ سَبَبٌ لِدُخُولِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَصَّرَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ، وَأَرْغَمَ اللهُ -تَعَالَى- أَنْفَهُ وَأَذَلَّهُ وَصَغَّرَهُ.

إِنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، أَنَّ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ -أَوْ أَحَدِهِمَا- مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ النَّارِ.

فَمَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ -أَوْ أَحَدَهُمَا- عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ فَلْيَبْذُلْ جُهْدَهُ فِي بِرِّهِمَا؛ فِي بِرِّ الْوَالِدَةِ وَبِرِّ الْوَالِدِ، بِقَدْرِ مَا يَسْتَطِيعُ، بِلِينِ الْكَلَامِ، وَالتَّعْلِيمِ، وَقَضَاءِ الْحَاجَةِ، وَالْإِنْفَاقِ، وَالْمُوَاسَاةِ عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ بَيَّنَهُ النَّبِيُّ ﷺ لِلْبَارِّ بِوَالِدَيْهِ.

وَكَمَا أَسْلَفْتُ الْعَكْسُ بِالْعَكْسِ؛ فَإِنَّ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ بِالْخُرُوجِ عَنْ طَاعَتِهِمَا وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِهِمَا، هَذَا مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ -وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ-، فَإِذَا دَخَلَ النَّارَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ، فَهُوَ السَّبَبُ فِي ذَلِكَ، بِمَا اقْتَرَفَهُ مِنَ الْعُقُوقِ وَعَدَمِ الْمُبَالَاةِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ.

فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ! أَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ)) ؛ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ.

النَّبِيُّ ﷺ يَأْتِيهِ هَذَا الْأَمْرُ مِنْ عِنْدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: ((اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجْزِيٌّ بِهِ))؛ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ؛ فَإِنْ قَدَّمْتَ حُسْنًا فَالْحُسْنَى هُنَالِكَ، وَإِنْ قَدَّمْتَ السُّوءَ فَالسُّوأَى هُنَالِكَ، وَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وَكَمَا زَرَعْتَ تَحْصُدُ.

اللَّهُمَّ ارْزُقْنَا بِرَّ وَالِدِينَا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

المصدر:التَّرْهِيبُ مِنَ الْعُقُوقِ وَعَوَاقِبِهِ

التعليقات


خطب قد تعجبك


  • شارك