تفريغ مقطع : رسالة أب لابنه الصغير!

وهذه رسالة كتبها أبٌ لابنه على إِثْرِ قسوةٍ بدرت منه وعَنْفٍ ظهرَ عليه على الأبِ لا على الطفل-.
كتب: يا بُنَيَّ، أَكتبُ هذا وأنت راقدٌ أمامي على فِراشِك، سَادِرٌ في نومِك، وقد توسدْتَّ كفَّكَ الصغير، وانعقدَت خُصلات شَعْرك الذهبيِّ فوق جبهتك الغَضَّة.
فمنذ لحظات خَلَت، كنتُ جالسًا إلى مكتبي أطالعُ الكتاب وإذا بفَيْضٍ غامرٍ مِن الندمِ يَطْغَى عليَّ، فما تمالكتُ إلَّا أنْ تسللتُ إلى مَخدعِك ووَخْزُ الضميرِ يُصْليني نارًا.
وإليك الأسبابَ يا بُنَيَّ التي أشاعت الندمَ في نَفْسِي:
أَتَذْكُرُ صباح اليوم؟ 
لقد عنَّفتُك وأنت ترتدي ثيابك تأهُّبًا للذهابِ إلى المدرسة، لأنك عَزَفْتَ عن غَسْلِ يديك، واستعضتَّ عن ذلك بمَسْحِهما بالمِنشفة.ولُمْتُك لأنك لم تُنَظِّف حِذاءك كما ينبغي، وصِحْتُ بك مُغضبًا؛ لأنك نثرتَ بعض الأدوات عَفْوًا على الأرض!
وعلى مائدةِ الإفطار، أحصيتُ لك الأخطاءَ واحدةً واحدة: فقد أَرَقْتَ حِسَاءَكَ، والتهمتَ طَعَامَك، وأَسْنَدتَّ مِرْفَقيْك إلى حَافَةِ المائدة، وَوَضَعْتَ نصيبًا مِن الزُّبْدِ على خُبزك أكثرَ مما يقتضيه الذَّوق!
وعندما وَلَّيتَ وَجْهَكَ شَطْرَ مدرستك، واتخذتُ أنا الطريق إلى محطةِ القطار، التفتَّ إليَّ ولوَّحْتَ لي بيدك الصغيرة، وهتفت: ((مع السلامةِ يا أبي))؛ وقَطَّبْتُ لك جَبيني ولم أُجبك، ثم أعدتُّ الكَرَّة في المَسَاء ، ففيما كنت أعبرُ الطريق؛ لَمَحتُك جاثيًا على رُكبتيك تلعب، وقد بَدَت على جوربيك ثقوب، فأذللتُكَ أمام أقرانِك، إذ سَيَّرتُك أمامي إلى المنزلِ مُغْضَبًا باكيا، إنَّ الجوارب يا بُني غاليةُ الثمن ولو كنتَ أنت الذي تشتريها لتوفرتَ على العنايةِ بها و الحرصِ عليها.
أفتتصورُ هذا يحدثُ مِن أَب؟!
ثم أَتَذَكَّرُ بعد ذلك، وأنا أطالع في غرفتي، كيف جئتَ تَجُرُّ قدميك متخاذلًا، وفي عينيك عتابٌ صامت، فلمَّا نَحيَّتُ الكتاب عني وقد ضاقَ صدري لقَطْعِك عليَّ حَبْلَ خَلْوتي، وقفتَ بالبابِ مُترددًا، فصِحْتُ بك أسألُك: ماذا تريد؟!
لم تقُل شيئًا، ولكنَّك يا بُنَيَّ اندفعتَ إليَّ، وطوَّقْتَ عُنقي بذِراعيك وقبَّلتَنِي، وشددتَ ذراعيك الصغيرتين حولي في عاطفةٍ أودعها اللهُ قلبَك الطاهر مزدهرة، لم يَقو حتى الإهمالُ على أنْ يذوي بها.
ثم انطلقتَ مُهرولًا، تصعد الدَّرَجَ إلى غرفتك.
يا بُنَيَّ، لقد حدثَ بعد ذلك ببُرْهَةٍ وجيزةٍ، أنْ انزلقَ الكتابُ مِن بين أَصَابعِي، وَعَصَفَ بنَفْسِي أَلَمٌ عَات.
يا الله! إلى أين كانت العادةُ تسيرُ بي؟! عادةُ التفتيشِ عن الأخطاء! عادةُ اللومِ والتأنيب؟! أكانَ ذلك جَزاؤك مِنِّي على أنَّكَ مَا زِلْتَ طِفْلًا؟!
كلَّا، لم يكُن مَرَدُّ الأمرِ أني لا أُحبك، بل كان مَرَدُّهُ أني طالبتُك بالكثير، برَغْمِ طفولِتك! كنتُ أقيسُك بمقياسِ سِنِّي وخِبْرَتِي وتجاربِي.
ولكنَّك كنتَ في قرارةِ نَفْسِك تعفو وتُغْضِي، وكان قلبُك الصغير كبيرًا كِبَرَ الفَجْرِ الوَضَّاءِ في الأُفُقِ الفَسيح.
فقد بَدَا لي هذا في جلاء مِن العاطفةِ المهمة التي حَدَت بِكَ إلى أنْ تندفعَ إليَّ مع قسوتي عليك وتُقَبِّلنِي قُبْلَةَ المساء.
لا شيء يَهُمُّ الليلة يا بُنَيَّ! لقد أتيتُ إلى مَخْدَعِك في الظلام، وجَثَوْتُ أَمَامَك موصومًا بالعار، وإنه لتَفكيرٌ ضعيف.
أعرفُ أنَّك لن تفهمَ مِمَّا أقولُ شيئًا لو قُلْتُهُ لك في يَقَظتِك، لكنِّي مِن الغَدِ سأكونُ أَبًا حَقًّا، سأكونُ زميلًا وصديقًا، سأَتألمُ عندما تتألم، وسأضحكُ عندما تضحك، وسَأَعضُّ لساني إذا اندفَعَت إليك كلمةٌ مِن كلماتِ اللومِ والعِتابِ، وسَأَرُدِّدُ على الدوامِ -كما لو كنتُ أراجعُ محفوظي-: إنْ هو إلَّا طِفْل.
لشَدَّ ما يَحُزُّ في نَفْسِي أنني نظرتُ إليكَ كرَجُل، إلَّا أنني وأنا أَتَأملُك الآن مُنْكَمِشًا في مَهْدِك؛ أَرَى أنَّكَ مَا زِلْتَ طِفْلًا وبالأمسِ القريبِ كُنْتَ بين ذراعيِّ أُمِّك يستندُ رَأْسُك الصغير إلى كَتِفِهَا.
وقد حَمَّلْتُكَ فوقَ طاقتِك!

التعليقات


مقاطع قد تعجبك


  • شارك