تفريغ مقطع : ولكننا من جهلنا قل ذكرنا

مَنْزلةٌ شريفةٌ, حاجةُ  الإنسانِ إليها، بَلْ ضرورتُهُ إليها فوقَ كلِّ حَاجةٍ, فَذِكْرُ اللهِ هو عِمَارَةُ الأوقاتِ, وبِهِ تزولُ الهُمُومُ والغُمُومُ والكُدُورَات، وبه تَحْصُلُ الأفراحُ والمَسَرَّات, وهو عِمَارَةُ القلوبِ المُقْفِرَات, كَمَا أنه غِرَاسُ الجَنَّاتِ, وهو مُوصِلٌ لأَعْلَى المَقَامَات، وفيه مِن الفوائدِ مَا لا يُحْصَى, ومِن الفَضَائِلِ ما لا يُعَدُّ ولا يُسْتَقْصَى.

قالَ اللهُ جَلَّ وَعَلَا-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الأحزاب 41-42].

وقال النبيُّ ﷺ لعبدِ اللهِ بِن بُسْرٍ رضي الله عنه- لمَّا قال: إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كَثُرَت عليَّ؛ فأوصني.

قال: «لا يزالُ لِسَانَكَ رَطْبًا مِن ذِكْرِ اللهِ».

أخرجهُ أحمد والترمذيُّ وابن حبان وابن أبي شيبة وإسنادهُ حسن.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم-: «سَبَقَ المُفرِّدُونَ».

قالوا: وما المُفرِّدُونَ؟

قال: «الذَّاكِرُونَ الله كثيرًا والذَّاكِرَات».

رواهُ مسلم.

والمُفَرِّدُونَ: المُنقطِعُونَ عن الناسِ بذِكْرِ ربِّ النَّاسِ.

فَكُن ذَاكرًا للهِ في كُلِّ حَالةٍ         ***          فليسَ لِذِكْرِ اللهِ وقتٌ مُقيَّدُ

فَذِكْرُ إلهِ العرشِ سِرًّا ومُعْلَنًا        ***          يُزيلُ الشَّقَا والهَمَّ عَنْكَ ويَطْرُدُ

ويَجْلِبُ للخيراتِ دُنيا وآجِلًا       ***           وإنْ يَأْتِكَ الوَسْوَاسُ يومًا يُشَرِّدُ

فَقَد أخبرَ المُخْتَارُ يَوْمًا لِصَحْبِهِ   ***           بأنَّ كثيرَ الذِّكْرِ في السَّبْقِ مُفْرِدُ

وَوَصَّى مُعَاذًا يستعينُ إِلَهَهُ            ***           على ذِكْرِهِ والشُّكْر بالحُسْنِ يَعْبُدُ

وَأَوْصَى لِشَخْصٍ قَد أَتَى لنصيحةٍ  ***           وقد كانَ في حمْلِ الشرائعِ يُجْهَدُ

بأنْ لم يِزلْ رَطْبًا لِسَانَكَ هذه       ***           تُعينُ على كلِّ الأمورِ وتُسْــعِدُ

وأخبرَ أنَّ الذِّكْرَ غَرْسٌ لأَهْلِهِ      ***            بِجَنَّاتِ عَدْنٍ والمساكنُ تُمْهَدُ

وأخبرَ أنَّ اللهَ يَذْكُرُ عبدَهُ           ***           ومَعَهُ على كلِّ الأمورِ يُسَــدِّدُ

وأخبرَ أنَّ الذِّكْرَ يَبْقَى بِجَنْبِهِ        ***            وينقطعُ التكليفُ حين يُخلَّدُ

ولو لم يَكُن في ذِكْرِهِ غيرَ أنهُ     ***           طريقٌ إلى حُبِّ الإلِهِ ومُرشِدُ

ويَنْهَى الفَتَى عن غِيبةٍ ونميمةٍ   ***           وعن كلِّ قولٍ للديانةِ يُفْسِدُ

لكانَ لنَا حَظٌّ عَظيمٌ وَرَغْبَةٌ        ***           بِكَثْرَةِ ذِكْرِ اللهِ نِعْمَ المُوَحَّدُ

ولكنَّنَا مِن جَهْلِنَا قَلَّ ذِكْرُنَا       ***           كَمَا قَلَّ مِنَّا للإلهِ التَّعَبُّـــدُ

وذكر الله نورٌ للذَّاكِرِ, في قلبِهِ وفي قوله وفي قبرِهِ ويوم حَشرِهِ.

ومنزلةُ الذِّكْرِ مِن منازلِ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، وهي منزلةُ السَّالكين إلى اللهِ الكُبْرَى، التي مِنها يتزودونَ وفيها يَتَّجِرُونَ وإليها دائمًا يَتَرَدَّدُونَ، والذِّكْرُ منشورُ الولايةِ الذي مَن أُعْطيَهُ؛ اتصلَ ومَن مُنِعَهُ عُزِلَ، وهو قوتُ قلوبِ السائرين، الذي متى فَارَقَهَا صَارَت الأجسادُ لَهَا قُبُورًا، وعِمَارَةُ ديارِهِم التي إذا تَعَطَلَّت عنه صَارَت بُورًا، وهو سِلاحُهُم الذي يُقَاتِلُونَ به قُطَّاعَ الطريقِ، وماؤُهُم الذي يُطْفِئونَ به التهابَ الطريقِ، ودواءُ أسقامِهِم التي متى فَارَقَهُم انْتَكَسَت مِنهم القلوب، والسببُ الوَاصِلُ والعلاقةُ بينهم وبينَ عَلَّامِ الغيوب.

إذا مَرِضْنَا تَدَاويْنَا بِذِكْرِكِم ونَتْرُكُ الذِّكْرَ أحيانًا فَنَنتَكِسُ.

به يَستدفعونَ الآفات ويستكشفونَ الكُرُبَات، وتَهونُ عليهم به المُصيبات، إذا أَظْلَّهُم البلاءُ فإليه مَلْجؤهُم، وإذا نَزَلَت بهم النوازلُ فإليه مَفْزعهُم، فهو رياضُ جَنَّتِهِم التي فيها يتقلبون، ورءوسُ أموالِ سعادتِهِم التي بها يَتَّجِرُونَ، يَدَعُ القلبَ الحزينَ ضاحكًا مسرورًا، ويُوصِلُ الذَّاكِرَ إلى المذكورِ، بَل يُعيدُ الذَّاكِرَ مذكورًا، وعلى كلِّ جارحةٍ مِن الجوارحِ عبوديةٌ مؤقتة، والذِّكْرُ عبوديةُ القلبِ واللسانِ وهي غيرُ مُؤقتة، بل هم مأمورونَ بِذِكْرِ معبودِهِم ومحبوبِهِم في كلِّ حالٍ؛ قيامًا وقعودًا وعلى جنوبِهِم، فكَمَا أنَّ الجَنَّةَ قِيعَانٌ وهو غِرَاسُهَا، فكذلك القلوبُ بورٌ خرابٌ وهو عمارتُهَا وأساسُهَا.

وهو جِلاءُ القلوبِ وصِقَالُهَا ودواؤُهَا إذا غَشِيَهَا اعتلالُهَا، وكلمَا ازدادَ الذَّاكِرُ في ذِكْرِهِ استغراقًا؛ ازدادَ لمذكورِهِ محبةً إلى لقائِهِ اشتياقًا، وإذا واطئ في ذِكْرِهِ قلبُهُ للسانِهِ؛ نَسِيَ في جَنْبِ ذِكْرِهِ كلَّ شيءٍ وحَفِظَ اللهُ عليه كلَّ شيءٍ وكان له عِوَضًا مِن كلِّ شيء، به يزولُ الوَقَرُ عن الأسماعِ، والبَكَمُ عن الألسنِ، وتنقشعُ الظلمةُ عن الأبصارِ، زَيَّنَ اللهُ بِالذِّكْرِ ألسنةُ الذَّاكرينَ كَمَا زَيَّنَ بالنورِ أبصارَ النَّاظرينَ، فاللسانُ الغافلُ كالعينِ العمياء والأذُنِ الصَّمَّاءِ واليَدِ الشَّلَّاء، والذِّكْرُ بابُ اللهِ الأعظمُ المفتوحُ بينه وبين عبدِهِ ما لم يُغْلِقْهُ العبدُ بِغَفْلتِهِ.

قال الحسنُ البصريُّ -رحمهُ اللهُ-: «تَفَقَّدُوا الحلاوةَ في ثلاثةِ أشياءٍ: في الصَّلاةِ وفي الذِّكْرِ وقراءةِ القرآنِ، فإنَّ وَجَدتُم وإلَّا فَاعْلَمُوا أنَّ البَابَ مُغْلَقٌ».

التعليقات


مقاطع قد تعجبك


  • شارك