تفريغ مقطع : طَرَفٌ مِن سِيرَةِ الإِمَامِ العَظِيمِ إِمَامِ الدُّنْيَا فِي الحَدِيثِ –البُخَارِي المُظْلُوم-

((طَرَفٌ مِن سِيرَةِ الإِمَامِ العَظِيمِ إِمَامِ الدُّنْيَا فِي الحَدِيثِ البُخَارِي المُظْلُوم-))

كثير من الناس الذين يبحثونَ في الماسونية، ويقولون إنَّ الماسونية تضربُ بجذورِها في التاريخِ الإنساني، وأنَّ الذي أنشأها أولَ مَرَّة هو الشيطانُ بإغوائِهِ لآدم، ثم كانت الماسونيةُ في كلِّ عَصْرٍ إلى هذا العصر، وهي تَتَطَوَّرُ في الدعوةِ وكذلك في تحريرِ أصولِهَا، فالماسونيةُ قديمةٌ.

ويبدو أنَّ الحداديةَ قديمةٌ أيضًا في الأُمَّةِ الإسلاميَّةِ، فهؤلاء الحداديةُ كانوا يَرْمُونَ الحَسَنَ البصري بأنه قَدَرِيٌّ كما رَمَوْا الإمامَ عبد الله بن المبارك بأنه مُرجئ، وكما رَمَوا الإمامَ البخاريَّ رحمهُ اللهُ تعالى- بأنه يقولُ باللفْظِ، وأنه يقولُ بِخَلْقِ القرآنِ، حتى ضَاقَت عليه الأرضُ بما رَحُبَت، وَدَعَا قَبْلَ مَوْتِهِ بثلاثينَ ليلةٍ: ((اللهم إنَّ الأرضَ قد ضَاقَت عليَّ بِمَا رَحُبَت فاقبضني إليك))، وأَصْعَدَ إلى الشمال، حتى كان في (خرتنك) وهي قريةٌ في (سَمَرْقَند)، فمات هنالك رحمه الله- في ليلة عيد الفطر رحمه الله رحمة واسعة-.

فمازال التضييقُ على البخاريِّ وهو إمامُ الدنيا في الحديث، وأميرُ المؤمنين في السُّنةِ والحديثِ، ومع ذَلِكَ فَمَا زَالَ هؤلاء المبتدعة يُضيِّقونَ عليه حتى كان مِن أمرِهِ ما كان، ودعا اللهَ تبارك وتعالى-: ((اللهم إنَّ الأرضَ قد ضاقت عليَّ بما رحُبَت فاقبضني إليك))، فاستجابَ اللهُ دعاءَهُ، فَقَبَضَهُ إليه بعد ثلاثين ليلة، وَمَاتَ وَحِيدًا فَرِيدًا غريبًا رحمهُ اللهُ تعالى- في قريةِ (خرتنك)، ومازال قبرُهُ هنالك وهو معروف-، وهنالك بجوارِ هذا القبرِ فالقبرُ في حديقةٍ غَنَّاء- مسجدٌ ليس بقريبٍ منه، ولم يُبْن عليه، ولكنْ هنالك مسجدٌ بالقربِ من ذلك القبرِ في تلك القريةِ.

فهذا الأمرُ قديمٌ كما تَرَى، فَمَنْ أَصَابَهُ مِن ذلك شيءٌ مِن أولئك المُبتدعةِ مِن الحداديةِ والحزبيينَ وغَيْرِهِم؛ فعليه أنْ يَلْجَأَ إلى اللهِ تبارك وتعالى-، وعليه ألَّا يُبالي، فإنَّ هذا الأمرَ تَحْمِلُ عليه أمورًا كثيرةً، حتى إنَّ ما يأخذُ النَّفسَ البشريةَ قد يؤدي أحيانًا إلى نوعٍ من هذا، هذا محمد بن يحيى الذُّهْلي رحمهُ الله- وهو شيخُ الإمامِ البخاري وشيخُ الإمامِ مسلم، والإمامُ البخاري لمَّا أنْ عزمَ على الذهابِ إلى البلدةِ التي كان فيها الذُّهلي، قَالَ الذُّهليُّ: إنَّ مُحَمَّدًا سَوْفَ يَقْدُمُ في الصَّبَاحِ، فَمَن أَرَادَ أنْ يَلْقَاهُ معي في ظاهرِ البلدةِ فَلْيَفْعَل، فَخَرَجَت البلدةُ كلُّهَا معه مِن أجل لقاءِ محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله-، وهو شيخُهُ، وكان البخاريُّ يُجِلُّهُ.

فَلَمَّا أنْ بَدَأَ البخاريُّ رحمهُ اللهُ تعالى- في التحديثِ ظهرَ الخَلَلُ في حَلْقَةِ الذُّهلي، فَرُبَّمَا تَحَرَّكَ في نَفْسِهِ شيئًا، فَتَكَلَّمَ في محمد بن إسماعيل البخاري، حتى إنَّ مُسْلِمًا رحمهُ الله- -والذُّهليُّ شَيْخُهُ والبخاريُّ شَيْخُهُ أيضًا- كانَ قَد كَتَبَ عن الذُّهلي حِمْلَ بعير، فلمَّا كان يومًا في المَجْلِسِ، وكان الذُّهليُّ قد مَنَعَ الناسَ أعني الطلاب- مِن أنْ يَحْضُروا حَلْقَةَ البخاري رحمه الله-، ولم يَنْقَطِع مُسْلِمٌ وإنما كان يذهبُ للبخاريِّ، وكان يُجِلُّهُ كما هو معروف، وكان يقولُ له: دَعْنِي أُقَبِّلُ على قدميْك يا أستاذ الأستاذين ويا طبيب الحديثِ في عِللِهِ، فكان يعرفُ قدرَهُ، فلم ينقطع عنه.

فلمَّا أنْ جاء يومًا، قال الذُّهليُّ لمَّا رآه: مَن كان يحضُرُ لذلك الرجُلِ الذي يقولُ باللفظِ فلا يَحْضرُنَّ مَجْلِسِي، فَقَامَ مسلمٌ غيرَ مُحتشمٍ، فذهبَ وأرسل إليه مسموعاتِهِ منه جميعَهَا، كانت حِملَ بعير، ولم يُحدِّث عنه في ((الصحيح))، فليس في ((صحيحِ مُسْلِمٍ)) عن محمد بن يحيى.

وأمَّا البخاريُّ وهو الذي وقعَ عليه ما وقع من شيخه- فإنه لم يَمْتَنِع عن التحديثِ عنه، فعندَ البخاري مِن روايةِ مُحَمَّد في ((الصحيح)) ما عنده، ولم تَحْمِلهُ الخصومةُ التي كانت مِن شيخِهِ على أن ينفي مسموعاتِهِ منه فرحمهُ الله-، وهذا مِن إنصافِهِ، وكذلك الأئمة.

البخاريُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قال: ((ما اغتبتُ أَحَدًا منذ عَلِمْتُ أنَّ الغِيبَةَ حرام))، وكان في مَجْلِسِهِ يَوْمًا بعضُ إخوانه مِن المُحدِّثين، فحَدَّثَ بحديثٍ أعجبَهُ، فأخذَ يُحَرِّكُ رَأْسَهُ يَمْنَةً ويَسْرَةً مِن الطَّرَبِ لمَّا سَمِعَ الحديثَ، فَتَبَسَّمَ البخاريُّ، وكان الرَّجُلُ أَعْمَى فَلَم يَرَهُ، فقالَ له البخاريُّ بعد حين: يا أبا فلان، اجعلني في حِلٍّ، فقال: رَحِمَكَ اللهُ يا أبا عبد الله، أنت في حِلٍّ، ولكنْ في أيِّ شيءٍ، قال: كنتُ أُحَدِّثُ، فذكرتُ حديثًا فأعجبَكَ، فأخذتَ تُحَرِّكَ رأسَكَ يمنَةً ويَسْرَةً، فتبسَّمْتُ، فاجعلني في حِلٍّ.

كذلك كان الإمام البخاري، فَمَن أَرَادَ أنْ يَكُونَ له في العلمِ شَأْن أو في الديانةِ قَدْر، فَعَلَيْهِ أنْ يُراقبَ ربَّهُ، وأنْ يجتهدَ في أنْ يَضْبِطَ حَيَاتَهُ؛ في لِسَانِهِ، وفي نَظَرِهِ، وفي سَمْعِهِ، وفي قَلْبِهِ، وفي بَطْنِهِ، وفي حَرَكَةِِ حَيَاتِهِ، فإنَّ الإمَامَةَ لا تُنَالُ إلَّا بالصبرِ واليقين، فعلى المرءِ أنْ يجتهدَ في هذا.

التعليقات


مقاطع قد تعجبك


  • شارك