تفريغ مقطع : لا تَعْمَل لتُذكر

((لا تَعْمَل لتُذكر))
فقد ذكرَ الذهبيُّ في السِّير عن سعيد بن عبد العزيز قال: ((من أحسنَ فليَرْجُ الثواب، ومَن أساءَ فلا يستنكرُ الجزاء، ومَن أخذَ عزًّا بغيرِ حقٍّ؛ أورثَهُ اللهُ ذلًّا بحقٍّ، ومَن جمعَ مالًا بظُلم؛ أورثَهُ اللهُ فقْرًا بغيرِ ظُلم)).
من أحسنَ فليَرْجُ الثواب، فليْتَ شِعْري من أحسنَ ممن أساء!
ومن أساءَ؛ فلا يستنكر الجزاء.

إنَّ اللهَ لا ينظر إلى صورِكم وأجسامِكم، ولكن ينظرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم، إنَّ اللهَ لا يريد أشباحًا بين يديه منصوبة، وإنما يريدُ قلوبًا إليه بحقيقةِ التوحيد مَصْبوبة.
فليْتَ شِعري مَن أحسنَ ومَن أساء.

مَن أخذَ عزًّا بغيرِ حق؛ أورثهُ اللهُ ذلًا بحقٍّ، ومَن جمعَ مالًا بظُلم؛ أورثَهُ اللهُ فقرًا بغيرِ ظُلم.
إنَّ الزَّيْفَ لا يروج، وإنَّ البَهرجَ لا حقيقةَ له، والعِبرةُ بالإخلاص، فليْتَ شِعري مَن أخلصَ ممن رَاءَى ونَافق، ليْتَ شِعْرِي مَن استقامَ ممن اعوَّج.

قال بِشر بن الحارث: ((لا تعمل لتُذكر، اكتم الحسنةَ كما تكتمُ السيئة))، لا تعمل لتُذكر، فإنَّ اللهَ أعلم، والله -جلَّ وعلا- مُطلعٌ على خفايا القلوبِ وما في حنايا الصدور، وهو بعدُ يُجازي الخَلْقَ على نياتِهم؛ على إراداتِهم؛ على بواعثِهم؛ على ما أكنَّت نُفوسُهم وأَخْفْت قلوبُهم وطوت صدورهم، وربُّك علَّامُ الغيوب؛ فلا تعمل لتُذكر.

وقال -رحمه الله-: ((قد يكون الرجلُ مرائيًا بعد موتهِ، يُحبُّ أنْ يَكْثُرَ الخَلْقُ في جنازتهِ))، فيكونُ مرائيًا وهو مَيت، إنَّ الرجل يكون مُرائيًا بعد موتهِ، يحبُّ أنْ تكثُرَ الناسُ في جنازتهِ،  إنَّ في النفسِ مسالك ودُروبًا، وهي مُعقَّدَةٌ شائكةٌ، قد لا يستطيعُ المرءُ أنْ يعرفَ حقيقةَ سبلها؛ ولا مضمونَ كينونتها، وإنما هو ماضٍ في طريقهِ، مُلجِّجٌ في سبيلهِ، لم يتوقف مرة ليُنقِّبَ ويُفَتِّشَ، وليبحثَ عن طويَّة نَفْسِهِ وذات قلبه.

إنَّ الرياءَ قد يستشري في النفسِ حتى يخالطَها حياةً وكَوْنًا؛كالكِبْرِ الذي كان في نَفْسِ أبي جهل وهو يُزفِّفُ -وهو يموت-، وابنُ مسعود على صدرهِ، وهو يقول له -بالكبر كله، وقد عاين الآيات وأظهر الله رب العالمين العِبر الباهرات- وهو يقولوقد خالط الكِبْرُ كلَّ ذَرَّة ٍفي جسدهِ: ((لقد ارتقيت مرتقىً صعبًا يا رُويعي الغنم))

قد يكونُ المرءُ مُرائيًا حتى وهو ميت، فكأنَّ رياءه لا يخرج بخروج روحهِ، وإنما هو ممتدٌ بعده، نَبْتَةٌ خبيثةٌ وثمرةٌ مُرَّة.

قد يُرائي المرءُ بعد موته، يحب أنْ يَكْثْرَ الناسُ في جنازتهِ.

قال الفَيْضُ: قال لي الفضيل: ((لو قيل لك يا مُرائي؛ غضب وشقَّ عليك، وعَسَى ما قيل لك حق، تزيَّنْتَ للدنيا وتَصَنعتَ وقصَّرتَ ثيابَك وحسَّنتَ سَمْتَك وكَفَفتَ أذاك؛ حتى يُقال أبو فلان عابد؛ ما أحسنَ سَمْتَه، وما أقْوَمَ دَلَّهُ، فيكرمونكَ ويَنظرونك ويقصدونك ويُهدون إليك، مثل الدرهم الرديء؛ لا يعرفه كلُّ أحد، فإذا قُشِرَ؛ قُشِرَ عن نحاس، إذا زالت قِشرتُه؛ تَبينت حقيقته، وحقيقته زَيْفٌ رديء، ليست لها قيمة، وأما ظاهرهُ فكالقبر؛ ظاهرٌ يَسُرُّ وباطنٌ من دُونه يَضُر)).

ألا متى يجدُ المرءُ خلاصَهُ ويستقرُ على قرارهِ، والدنيا عناءٌ وبلاء، والدنيا جِهادٌ وكِفاح، ولو أنَّ الإنسانَ أخلصَ لحظةً، وقَبِلَ اللهُ مِنه؛ لكان مِن السُّعداءِ الناجين، ولكن ما الحيلة والرياءُ يستحوذُ على النَّفسِ ويضربُ فيها بجذورهِ، حتى إنها لا تُقْلَعُ بموتِهِ، حتى إنه ليُرائي بعد موتهِ، فإلى الله المشتكى وهو المُستعان وعليه التُّكلان، ولا حول ولا قوة إلا به.

سَماؤُكِ يا دُنيا خِداعُ سَرابِ

                   وَأَرضُكِ عُمرانٌ وَشيكُ خَرابِ

وَما أَنتِ إِلّا جيفَةٌ طالَ حَولَها

                   قِيامُ ضِباعٍ أَو قُعودُ ذِئابِ

نَعيشُ وَنَمضي في عَذابٍ كَلَذَّةٍ

                   مِنَ العَيْشِ أَو في لَذَّةٍ كَعَذابِ

ذَهَبنا مِنَ الأَحلامِ في كُلِّ مَذهَبٍ

                   فَلَمّا اِنتَهَينا فُسِّرَت بِذَهابِ

وَكُلُّ أَخي عَيشٍ وَإِن طالَ عَيشُهُ

                   تُرابٌ وأيْمُ اللهِ وَاِبنُ تُرابِ

وَكُلُّ أَخي عَيشٍ وَإِن طالَ عَيشُهُ

                   تُرابٌ وأيْمُ اللهِ وَاِبنُ تُرابِ

 

اللهم أَحْسِن ختامنا يا ربَّ العالمين

انقضى شهرُ رمضان، وعَملُ المؤمنِ لا ينقضي بالموت، فقد يمتدُّ بعدَ الموت؛ من عِلمْ نافعٍ، وولدٍ صالح، وصدقةٍ جارية، ودون هذه ينقضي عملُ المؤمن بموتِهِ؛
قال -جلَّ وعلا-: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [سورة الحجر: 99].
واليقين: الموت، فعملُك ديمة، حتى تلقى ربك: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [سورة الحجر: 99].

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].

وقال -صلى الله عليه وسلم-: ((إذا ماتَ العبدُ؛ انقطع عملُهُ)) -فلم يجعل للعملِ غايةً إلا الموت: ((إذا ماتَ العبدُ؛ انقطع عملُهُ))، فعملهُ غايتُهُ الموت، ولم يجعل لانقطاعُ العملِ غايةً دون الموت، فالعمل إلى الممات.

جِدٌ وكَد، وجِهاد وجلاد، وعناءٌ وشقاء؛ لتحصيل الفوز في الآخرة حتى لا تغرُّنا الدنيا ببهرجٍ زائفٍ لا حقيقةَ وراءَه، فإنما هي كالقبر صُنع للدنيا.

صُم عن الدنيا واجعل فطرك الموت، صُم عن الدنيا واجعل فطرك الموت، الدنيا كلُّها شهرُ صيامِ المتقين.

ما انقضى الشهر، الدنيا كلُّها شهر صيام المتقين، يصومون فيه عن الشهوات المُحرَّمات، فإذا جاءهم الموتُ فقد انقضى شهرُ صيامِهم، واستهلُّوا عيدَ فطرِهم، كما قال قائلهم: ((وقد صمتُ عن لذات دَهري كلِّها ويومُ لقاكُم ذاك فِطر صيامي فِطرُ صيامي في يوم لقاكم ويوم لقاكم؛ ذاك فِطرُ صيامي-)).

وأما قبل ذلك فإنما هو الغموض يحف بالمصير والمرء كالخابط في عماية والسائر لا في هداية ولا غواية، وإنما هو سائرٌ إلى ربِّهِ لا يدري حقيقةَ نيتهِ ولا يدري مكنونَ طويتهِ ولا يستطيعُ الجزمَ بأنَّ هذا للهِ حقيقةً، ولِمَ لا يكونُ للنَّفْسِ؟ ولِمَ لا يكونُ للهوى؟

ولِمَ لا يكونُ للدنيا؟
والمرءُ نفْسُهُ غامضة في مسالِكها؛ مُشتبهةٌ عليه، فأنَّى يجدُ موضعَ الأرضِ الصُّلبةِ لقدميه، وإنما هي مزالقُ لمهالِك، والعاصمُ الله -لا إله سواه-.

فاللهم أَحسِن خِتامَنا أجمعين .

التعليقات


مقاطع قد تعجبك


  • شارك