تفريغ مقطع : ((قَصَصُ وَرَعِ الصَّالِحِينَ)) : العلامة محمد بن سعيد رسلان

((قَصَصُ وَرَعِ الصَّالِحِينَ))

وَمِنْ هَذَا الْبَابِ -أَيْضًا-: كَرَاهَةُ أَنْ يَشْهَرَ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ وَالزُّهْدِ وَالدِّينِ، أَوْ بِإِظْهَارِ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْكَرَامَاتِ؛ لِيُزَارَ، وَتُلْتَمَسَ بَرَكَتُهُ وَدُعَاؤُهُ، وَتُقَبَّلَ يَدُهُ، وَهُوَ مُحِبٌّ لِذَلِكَ، وَيُقِيمُ عَلَيْهِ، وَيَفْرَحُ بِهِ، وَيَسْعَى فِي أَسْبَابِهِ، وَمِنْ هُنَا كَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ  يَكْرَهُونَ الشُّهْرَةَ غَايَةَ الْكَرَاهَةِ، مِنْهُمْ: أَيُّوبُ، وَالنَّخَعِيُّ، وَسُفْيَانُ، وَأَحْمَدُ، وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الرَّبَّانِيِّينَ، وَكَذَلِكَ الْفُضَيْلُ، وَدَاوُدُ الطَّائِيُّ، وَغَيْرُهُمَا مِنَ الزُّهَّادِ وَالْعَارِفِينَ، وَكَانُوا يَذُمُّونَ أَنْفُسَهُمْ غَايَةَ الذَّمِّ، وَيَسْتُرُونَ أَعْمَالَهُمْ غَايَةَ السَّتْرِ.

دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى دَاوُدَ الطَّائِيِّ، فَسَأَلَهُ: ((مَا جَاءَ بِكَ؟)).

قَالَ: ((جِئْتُ لِأَزُورَكَ)).

فَقَالَ: ((أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَصَبْتَ خَيْرًا حَيْثُ زُرْتَ فِي اللهِ، وَلَكِنْ أَنَا أَنْظُرُ مَاذَا لَقِيتُ غَدًا إِذَا قِيلَ لِي: مَنْ أَنْتَ حَتَّى تُزَارَ؟!! مِنَ الزُّهَّادِ أَنْتَ؟!! لَا وَاللهِ، مِنَ الْعُبَّادِ أَنْتَ؟!! لَا وَاللهِ، مِنَ الصَّالِحِينَ أَنْتَ؟! لَا وَاللهِ))، وَعَدَّدَ خِصَالَ الْخَيْرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، ثُمَّ جَعَلَ يُوَبِّخُ نَفْسَهُ وَيَقُولُ: ((يَا دَاوُدُ! كُنْتَ فِي الشَّبِيبَةِ فَاسِقًا، فَلَمَّا شِبْتَ صِرْتَ مُرَائِيًا!!))، وَالْمُرَائِي شَرٌّ مِنَ الْفَاسِقِ!!

فَتَأَمَّلْ فِي حَمْلِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِذَاتِهِ، وَتَأَمَّلْ حَيَاطَتَهُ لِأَحْوَالِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ.

كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ يَقُولُ: ((لَوْ أَنَّ لِلذُّنُوبِ رَائِحَةً مَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يُجَالِسَنِي))؛ لِأَنَّ رَائِحَةَ الذُّنُوبِ لَوْ كَانَتْ لَنْ تَكُونَ إِلَّا نَتِنَةً، فَلَمَّا كَانَتْ ذُنُوبُهُ عِنْدَ نَفْسِهِ كَثِيرَةً جِدًّا؛ يَقُولُ: ((لَوْ أَنَّ لِلذُّنُوبِ رَائِحَةً مَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يُجَالِسَنِي)).

وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وَهُوَ يَقْرَأُ فِي الْمُصَحْفِ غَطَّاهُ, وَكَانَ أُوَيْسٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الزُّهَّادِ إِذَا عُرِفُوا فِي مَكَانٍ ارْتَحَلُوا عَنْهُ, بَلْ إِنَّ أُوَيْسًا -وَهُوَ خَيْرُ التَّابِعِينَ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ- لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ إِنَّهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ ذَاهِبًا فِي أَزْوَادِ أَهْلِ الْيَمَنِ إِلَى الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَلَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَانَ النَّبِىُّ ﷺ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُ وَعَنْ حَالِهِ, ((يَأْتِيكُمْ رَجُلٌ مِنَ الْيَمَنِ -ثُمَّ ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ- مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، كَانَ بِهِ بَرَصٌ فَدَعَا اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يُبْرِأَهُ مِنْهُ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ))؛ فَكَانَ, وَكَأَنَّهُ طَلَبَ مِنَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُبْقِيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ حَتَّى يَتَذَكَّرَ نِعْمَةَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْعَافِيَةِ, وَلَا يَنْسَى الْمِنَّةَ.

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَهُ أُمٌّ هُوَ بِهَا بَارٌّ, فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ؛ فَلْيَطْلُبْ مِنْهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُ)).

فَلَمَّا جَاءَ؛ كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَاسْتَفْهَمَهُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ الْحَالِ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: مِنْ مُرَادٍ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ؟ كَانَ بِكَ بَرَصٌ، فَبَرِأْتَ مِنْهُ عِنْدَمَا دَعَوْتَ اللهَ إِلَّا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: لَكَ أُمٌّ أَنْتَ بِهَا بَارٌّ؟

قَالَ: نَعَمْ.

قَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي.

فَطَلَبَ عُمَرُ مِنْهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهَ لَهُ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مُصْعِدٌ إِلَى الشَّمَالِ؛ مِنْ أَجْلِ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى عَامِلِهِ، فَأَبَى، وَكَانَ مَا كَانَ مِمَّا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ رَجَبٍ: ((وَكَانَ أُوَيْسٌ وَغَيْرُهُ مِنَ الزُّهَّادِ إِذَا عُرِفُوا فِي مَكَانٍ؛ ارْتَحَلُوا عَنْهُ))، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى الْخُمُولِ، وَهُوَ خَيْرُ التَّابِعِينَ.

قَالَ الْعُلَمَاءُ: عِنْدَنَا إِجْمَاعٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ -رَحِمَهُ اللهُ- هُوَ خَيْرُ التَّابِعِينَ؛ فَكَيْفَ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((خَيْرُ التَّابِعِينَ رَجُلٌ مِنْ مُرَادٍ ثُمَّ مِنْ قَرَنٍ، يُقَالُ لَهُ: أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ))؟!!

فَقَالُوا: هُوَ خَيْرُ التَّابِعِينَ حَالًا، وَأَمَّا سَعِيدٌ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فَكَانَ خَيْرَ التَّابِعِينَ عِلْمًا، حَتَّى كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا رَآهُ يَقُولُ: ((لَوْ رَأَى النَّبِيُّ ﷺ هَذَا لَأَعْجَبَهُ))؛ لِأَنَّهُ كَانَ تَابِعِيًّا، لَمْ يَكُنْ صَحَابِيًّا، فَقَالَ: ((لَوْ رَأَى النَّبِيُّ ﷺ هَذَا -يَعْنِي: سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ- لَأَعْجَبَهُ)).

كَانَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ يَكْرَهُ أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ الدُّعَاءُ، وَيَقُولُ لِمَنْ يَسْأَلُهُ الدُّعَاءَ: أَيُّ شَيْءٍ أَنَا؟!!

وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ (ض2)، وَكَذَلِكَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، وَكَانَ النَّخَعِيُّ يَكْرَهُ أَنْ يُسْأَلَ الدُّعَاءَ!!

وَكَتَبَ رَجُلٌ إِلَى أَحْمَدَ يَسْأَلُهُ الدُّعَاءَ، فَقَالَ أَحْمَدُ: ((إِذَا دَعَوْنَا نَحْنُ لِهَذَا، فَمَنْ يَدْعُو لَنَا؟!!)).

وَعِنْدَمَا جَاءَ الرَّجُلُ وَكَانَتْ أُمُّهُ مُقْعَدَةً مُنْذُ مَا يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ سَنَةً، فَقَالَتْ: ((لَوْ ذَهَبْتَ إِلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ -تَعْنِي: الْإِمَامَ أَحْمَدَ- حَتَّى يَدْعُوَ لِي، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ)).

فَذَهَبَ الرَّجُلُ فَطَرَقَ الْبَابَ، فَقِيلَ: ((مَنْ؟)).

فَقَالَ: ((رَجُلٌ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ وَهِيَ مُقْعَدَةٌ مُنْذُ مَا يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ عَامًا، تَطْلُبُ مِنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ أَنْ يَدْعُوَ لَهَا)).

فَغَضِبَ أَحْمَدُ، وَخَرَجَ صَوْتُهُ، وَانْصَرَفَ الرَّجُلُ، وَخَرَجَ بَعْضُ مَنْ بِالْبَيْتِ فَقَالَ لَهُ: ((لَقَدْ تَرَكْتُهُ يَدْعُو لَهَا))، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أُمِّهِ وَجَدَهَا قَدْ أَطْلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- سَاقَيْهَا، وَاسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ.

وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ رِعَايَةِ هَذَا الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ، بَلْ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَتَقَبَّلُ مِنْ أُولَئِكَ لِهَضْمِهِمْ أَنْفُسَهُمْ، وَعَدَمِ ذَوْقِهِمْ  لِذَوَاتِهِمْ، وَلِمَعْرِفَتِهِمْ بِقَدْرِهِمْ إِزَاءَ قَدْرِ رَبِّهِمْ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

وَتَذْكُرُ الْحِكَايَةَ الَّتِي وَقَعَتْ لِشَيْخِ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- عِنْدَمَا صُرِعَ رَجُلٌ فِي الْمَجْلِسِ، أَوْ صُرِعَ فَحُمِلَ إِلَى الْمَجْلِسِ، كَمَا رَوَى ذَلِكَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- فِي ((الزَّادِ))، فَضَرَبَهُ الشَّيْخُ حَتَّى خَرَجَ الشَّيْطَانُ, فَلَمَّا أَفَاقَ الرَّجُلُ قَالَ: مَا الَّذِى جَاءَ بِي هَاهُنَا؟!!

قَالُوا: كُنْتَ قَدْ صُرِعْتَ, أَوَمَا أَحْسَسْتَ بِضَرْبِ الشَّيْخِ؟

قَالَ: وَعَلَامَ يَضْرِبُنِي الشَّيْخُ؟

لِأَنَّهُ لَمْ يُحِسَّ بِذَلِكَ, كَانَ عِنْدَ ضَرْبِهِ يُكَلِّمُ الْجِنِّيَّ وَهُوَ يَقُولُ لَهُ: اخْرُجْ فَإِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ لَكَ.

قَالَ: أَنَا أُحِبُّهُ.

قَالَ: هُوَ لَا يُحِبُّكَ.

قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أَحُجَّ بِهِ.

قَالَ: لَا يُرِيدُ أَنْ يَحُجَّ مَعَكَ.

قَالَ: إِذَنْ؛ أَخْرُجُ كَرَامَةً لَكَ.

قَالَ: لَا, بَلْ تَخْرُجُ طَاعَةً لِلهِ وَلِرَسُولِ اللهِ.

أَرَادَ الشَّيْطَانُ أَنْ يَنَالَ مِنْهُ شَيْئًا, فَقَالَ: أَخْرُجُ كَرَامَةً لَكَ.

قَالَ: لَا، بَلْ تَخْرُجُ طَاعَةً لِلهِ وَلِرَسُولِهِ ﷺ.

كَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رُبَّمَا حُمِلَ خُفُّهُ إِلَى الْمَصْرُوعِ فَضُرِبَ الْمَصْرُوعُ بِالْخُفِّ فَيُفِيقُ, وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ يَقُولُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((إِذَا دَعَوْنَا نَحْنُ لِهَذَا، فَمَنْ يَدْعُو لَنَا؟!!)).

وُصِفَ بَعْضُ الصَّالِحِينَ اجْتِهَادُهُ -عَلَى الْبَدَلِيَّةِ- فِي الْعِبَادَةِ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ, فَعَزَمَ الْمَلِكُ عَلَى زِيَارَةِ ذَلِكَ الصَّالِحِ، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ, فَجَلَسَ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ يَأْكُلُ, فَوَافَاهُ الْمَلِكُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ, فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ، وَجَعَلَ يَأْكُلُ أَكْلًا كَثِيرًا وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى الْمَلِكِ!

فَقَالَ الْمَلِكُ: ((مَا فِي هَذَا خَيْرٌ، وَرَجَعَ!!)).

فَقَالَ الرَّجُلُ: ((الْحَمْدُ اللهِ الَّذِي رَدَّ هَذَا عَنِّي وَهُوَ لَائِمٌ)).

وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ جِدًّا، وَهَاهُنَا نُكْتَةٌ دَقِيقَةٌ، وَهِيَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَذُمُّ نَفْسَهُ بَيْنَ النَّاسِ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يُرِيَ النَّاسَ أَنَّهُ مُتَوَاضِعٌ عِنْدَ نَفْسِهِ، فَيَرْتَفِعُ بِذَلِكَ عِنْدَهُمْ، وَيَمْدَحُونَهُ بِهِ، وَهَذَا مِنْ دَقَائِقِ أَبْوَابِ الرِّيَاءِ، وَهُوَ التَّوَاضُعُ الْكَاذِبُ مِنْ أَجْلِ الثَّنَاءِ الْأَكْذَبِ، وَقَدْ نَبَّهَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ.

قَالَ مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ: ((كَفَى بِالنَّفْسِ إِطْرَاءً أَنْ تَذُمَّهَا عَلَى الْمَلَأِ كَأَنَّكَ تُرِيدُ بِذَمِّهَا زِينَتَهَا، وَذَلِكَ عِنْدَ اللهِ سَفَهٌ)).

قَالَ الْحَافِظُ الْإِمَامُ ابْنُ رَجَبٍ: ((وَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ حُبَّ الْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ، وَالْحِرْصَ عَلَيْهِمَا، يُفْسِدُ دِينَ الْمَرْءِ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُ إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ، كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ، وَأَصْلُ مَحَبَّةِ الْمَالِ وَالشَّرَفِ حُبُّ الدُّنْيَا، وَأَصْلُ حُبِّ الدُّنْيَا اتِّبَاعُ الْهَوَى)).

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ الصَّالِحِ: ((مَنْ أَسْعَدُ بِالطَّاعَةِ مِنْ مُطِيعٍ؟!! أَلَا وَكُلُّ الْخَيْرِ فِي الطَّاعَةِ، أَلَا وَإِنَّ الْمُطِيعَ لِلهِ مَلِكٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)).

وَقَالَ ذُو النُّونِ: ((مَنْ أَكْرَمُ وَأَعَزُّ مِمَّنِ انْقَطَعَ إِلَى مَنْ مَلَكَ الْأَشْيَاءَ بِيَدِهِ!!)).

دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ عَلَى حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ, وَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْهِ يَسْأَلُهُ, فَقَالَ لَهُ: ((يَا أَبَا سَلَمَةَ! مَا لِي كُلَّمَا نَظَرْتُ إِلَيْكَ ارْتَعَدْتُ فَرَقًا -أَيْ: خَوْفًا- مِنْكَ)).

قَالَ: ((لِأَنَّ الْعَالِمَ إِذَا أَرَادَ بِعِلْمِهِ وَجْهَ اللهِ خَافَهُ كُلُّ شَيْءٍ, وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُكَثِّرَ بِهِ الْكُنُوزَ خَافَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)).

وَمِنْ هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: ((عَلَى قَدْرِ هَيْبَتِكَ لِلهِ يَخَافُكَ الْخَلْقُ, وَعَلَى قَدْرِ مَحَبَّتِكَ لِلهِ يُحِبُّكَ الْخَلْقُ, وَعَلَى قَدْرِ اشْتِغَالِكَ بِاللهِ تَشْتَغِلُ الْخَلْقُ بِأَشْغَالِكَ)).

وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَوْمًا يَمْشِي وَوَرَاءَهُ قَوْمٌ مِنْ كِبَارِ الْمُهَاجِرِينَ, فَالْتَفَتَ فَرَآهُمْ فَخَرُّوا عَلَى رُكَبِهِمْ هَيْبَةً لَهُ، فَبَكَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَالَ: ((اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّى أَخْوَفُ لَكَ مِنْهُمْ لِي, فَاغْفِرْ لِي)).

وَكانَ الْعُمَرِيُّ الزَّاهِدُ قَدْ خَرَجَ إِلَى الْكُوفَةَ إِلَى الرَّشِيدِ؛ لِيَعِظَهُ وَيَنْهَاهُ, فَوَقَعَ الرُّعْبُ فِي عَسْكَرِ الرَّشِيدِ لَمَّا سَمِعُوا بِنُزُولِهِ، حَتَّى لَوْ نَزَلَ بِهِمْ عَدُوٌّ مِائَةُ أَلْفِ نَفْسٍ لَمَا زَادُوا عَلَى ذَلِكَ!!

وَكَانَ الْحَسَنُ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَسْأَلَهُ هَيْبَةً لَهُ, وَكَانَ خَوَاصُّ أَصْحَابِهِ يَجْتَمِعُونَ وَيَطْلُبُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ, فَإِذَا حَضَرُوا مَجْلِسَهُ لَمْ يَجْسُرُوا عَلَى سُؤَالِهِ, حَتَّى رُبَّمَا مَكَثُوا عَلَى ذَلِكَ سَنَةً كَامِلَةً هَيْبَةً لَهُ.

وَكَذَلِكَ كَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يُهَابُ أَنْ يُسْأَلَ, حَتَّى قَالَ فِيهِ الْقَائِلُ:

يَدَعُ الْجَوَابَ وَلَا يُرَاجَعُ هَيْبَةً = وَالسَّائِلُونَ نَوَاكِسُ الْأَذْقَانِ

نُورُ الْوَقَارِ وَعِزُّ سُلْطَانِ التُّقَى     =    فَهُوَ الْمَهِيبُ وَلَيْسَ ذَا سُلْطَانِ

وَكانَ بُدَيْلٌ الْعُقَيْلِيُّ يَقُولُ: ((مَنْ أَرَادَ بِعِلْمِهِ وَجْهَ اللهِ -تَعَالَى-؛ أَقْبَلَ اللهُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ، وَأَقْبَلَ بِقُلُوبِ الْعِبَادِ عَلَيْهِ, وَمَنْ عَمِلَ لِغَيْرِ اللهِ؛ صَرَفَ اللهُ وَجْهَهُ عَنْهُ, وَصَرَفَ قُلُوبَ الْعِبَادِ عَنْهُ)).

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ: ((إِذَا أَقْبَلَ الْعَبْدُ بِقَلْبِهِ عَلَى اللهِ أَقْبَلَ اللهُ عَلَيْهِ بِقُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ)).

وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبَسْطَامِيُّ وَالْعَلَّامَةُ ابْنُ رَجَبٍ يَرْوِي أَحْيَانًا عَنْ مَنْ تَكَلَّمْ فِيهِ عُلَمَاؤُنَا مِنَ السَّلَفِ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ شَيْخُهُ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، بَلْ كَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، فَكَانُوا يَعْرِفُونَ مَا يَصْنَعُونَ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ-، قَالَ: ((طَلَقْتُ الدُّنْيَا ثَلَاثًا الْبَتَّةَ لَا رَجْعَةَ لِي فِيهَا، وَسِرْتُ إِلَى رَبِّي وَحْدِي، وَنَادَيْتُهُ بِالِاسْتِعَانَةِ، إِلَهِي! أَدْعُوكَ دُعَاءَ مَنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ غَيْرُكَ، فَلَمَّا عَرَفَ صِدْقَ الدُّعَاءِ مِنْ قَلْبِي وَالْيَأْسَ مِنْ نَفْسِي؛ كَانَ أَوَّلُ مَنْ وَرَدَ عَلَيَّ مِنْ إِجَابَةِ هَذَا الدُّعَاءِ أَنْ أَنْسَانِي نَفْسِي بِالْكُلِّيَّةِ، وَنَصَبَ الْخَلَائِقَ بَيْنَ يَدَيَّ مَعَ إِعْرَاضِي عَنْهُ، وَكَانَ يُزَارُ مِنَ الْبُلْدَانِ، فَلَمَّا رَأَى ازْدِحَامَ النَّاسِ عَلَيْهِ قَالَ: وَلَيْتَنِي صِرْتُ شِيْئًا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أعد أَصْبَحْتُ لِلْكُلِّ مَوْلَى لِأَنَّنِي لَكَ عَبْدٌ، وَفِي الْفُؤَادِ أُمُورٌ مَا تسطتاه  تعد، لَكِنْ كِتْمَانُ حَالِي حَقٌّ بِي وَأَسَدُّ)).

كَتَبَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ إِلَى مَكْحُولٍ: ((أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنَّكَ أَصَبْتَ بِظَاهِرِ عِلْمِكَ عِنْدَ النَّاسِ شَرَفًا وَمَنْزِلًا، فَاطْلُبْ بِبَاطِنِ عِلْمِكَ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً وَزُلْفَى، وَاعْلَمْ أَنَّ إِحْدَى الْمَنْزِلَتَيْنِ تَمْنَعُ مِنَ الْأُخْرَى)).

التعليقات


مقاطع قد تعجبك


  • شارك