تفريغ مقطع : رَائِعَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ- لفضيلة الشيخ محمد سعيد رسلان حفظه الله ورعاه

((رَائِعَةُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَحِمَهُ اللهُ- ))

عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَمَّا تَوَلَّى الْخِلَافَةَ، وَعُمَرُ قَبْلَ الْخِلَافَةِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً وَاسِعَةً- كَانَ يُؤْتَى لَهُ بِالطِّيبِ مِنَ الْأَقَاصِي، وَكَانَتْ لَهُ مِشْيَةٌ يُقَالُ لَهَا: الْمِشْيَةُ الْعُمَرِيَّةُ، وَكَانَ الشَّبَابُ يُقَلِّدُونَهُ فِيهَا، وَكَانَ إِذَا وَضَعَ طِيبَهُ وَمَسَّ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُعْرَفُ مِنْ غَيْرِ طَرِيقٍ؛ يَعْنِي: أَنْتَ لَا تَكُونُ فِي طَرِيقِهِ وَتَقُولُ: عُمَرُ قَادِمٌ مِنْ طَرِيقٍ مَا، أَوْ أَنَّهُ يَمُرُّ فِي الطَّرِيقِ وَيَمْضِي شَبَحُهُ وَلَا يَبْقَى أَثَرُهُ، وَلَكِنْ إِذَا مَرَرْتَ بَعْدَهُ تَقُولُ: مَرَّ مِنْ هُنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ!!

كَانَ مُنَعَّمًا -رَحِمَهُ اللهُ-؛ لَمَّا أَرَادَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ الْخَيْرَ فَتَوَلَّى الْخِلَافَةَ بِغَيْرِ رَغْبَةٍ مِنْهُ، بَلْ إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَهَا، بَلْ إِنَّهُ فِعْلًا دَفَعَهَا؛ فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ وُلِّيَ قَالَ: ((أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ رَاجِعٌ إِلَيْكُمْ، فَوَلُّوا مَنْ شِئْتُمْ)).

قَالُوا: ((لَا نَبْغِي بِكَ بَدَلًا. رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً)).

كَانَ يَقُولُ: ((إِنَّ لِي نَفْسًا تَوَّاقَةً، مَا وَصَلَتْ إِلَى شَيْءٍ إِلَّا تَاقَتْ إِلَى مَا هُوَ فَوْقَهُ)).

رَجُلٌ يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَلَا يَرْضَى بِالدُّونِ، فَهُوَ يَقُولُ: ((إِنَّ لِي نَفْسًا تَوَّاقَةً، مَا وَصَلَتْ إِلَى مَنْزِلَةٍ مِنَ الْمَنَازِلِ إِلَّا تَاقَتْ إِلَى مَنْزِلَةٍ فَوْقَهَا، وَأَنَا الْآنَ قَدْ آتَانِيَ اللهُ الْخِلَافَةَ، وَلَا شَيْءَ فَوْقَهَا فِي الدُّنْيَا، فَتَاقَتْ نَفْسِي إِلَى الْآخِرَةِ))؛ فَانْخَلَعَ مِنَ الدُّنْيَا وَانْسَلَخَ مِنْهَا مُقْبِلًا عَلَى الْآخِرَةِ -رَحْمَةُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ-.

عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَدَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَزَوْجَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمَلِكِ -بِنْتُ خَلِيفَةٍ، وَزَوْجُ خَلِيفَةٍ، وَأُخْتُ خَلِيفَهٍ-، فَكَانَ بَنَاتُهُ -رَحِمَهُ اللهُ وَرَحِمَهُنَّ- يُفْطِرْنَ فِي الصِّيَامِ عَلَى الْعَدَسِ وَتُقَرْقِرُ بُطُونُهُنَّ، وَرُبَّمَا بَكَى عُمَرُ، مِنْ بَعْدِ النَّعِيمِ الَّذِي كَانَ لَا يُعْهَدُ وَلَا يُوصَفُ، أَرْجَعَ كُلَّ هَذَا إِلَى أَصْلِهِ، وَعَاشَ هَذِهِ الْعِيشَةَ، وَلَهُ قَمِيصٌ وَاحِدٌ، حَتَّى إِنَّهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ دَخَلَ عَلَيْهِ صِهْرُهُ -أَخُو فَاطِمَةَ- فَرَأَى قَمِيصَهُ مُتَّسِخًا، فَخَلَا بِأُخْتِهِ، وَقَالَ لَهَا: إِنَّ النَّاسَ يَأْتُونَ لِزِيَارَةِ وَعِيَادَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، فَلِمَ تَدَعِينَ هَذَا الْقَمِيصَ عَلَيْهِ؟!!

قَالَتْ: وَاللهِ مَا لَهُ سِوَاهُ، سَأَنْتَهِزُ فُرْصَةً حَتَّى إِذَا مَا خَلَعَهُ وَيَأْتَزِرُ بِإِزَارٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ فَأَغْسِلُهُ لَهُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.

عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَجَعَ أَوْلَادُهُ إِلَى عَدَمِ الْوِجْدَانِ، لَا يَجِدُونَ شَيْئًا، عَامَّةُ طَعَامِهِمُ الْعَدَسُ، وَيَعِيشُ فِي شَظَفٍ مِنَ الْعَيْشِ -بِاخْتِيَارِهِ-، وَهَذَا هُوَ الزُّهْدُ الْحَقِيقِيُّ؛ لِأَنَّكَ تَجِدُ أَقْوَامًا لَمْ يُؤْتَوْا شَيْئًا مِنَ الْمَالِ، وَلَمْ يَفْتَحْ لَهُمْ مِنْ سُبُلِ الدُّنْيَا سَبِيلٌ، وَيَقُولُ لَكَ: أَنَا زَاهِدٌ!! وَهُوَ مَهْمَا بَلَغَ مِنَ الْمَجْهُودِ وَبَذَلَ مِنَ الْجُهْدِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ عَلَى دَانِقٍ -وَهُوَ جُزْءٌ مِنَ الدِّرْهَمِ-؛ مُقَدَّرٌ عَلَيْهِ، فَيَقُولُ: أَنَا زَاهِدٌ!! لَا، الزَّاهِدُ مَنْ مَلَكَ أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَمْلِكَ ثُمَّ تَرَكَ هَذَا، هَذَا هُوَ الزَّاهِدُ حَقًّا.

فَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَانَ أَمِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَخَزَائِنُ الْأَرْضِ تَحْتَ يَدِهِ فَتَرَكَ هَذَا كُلَّهُ، وَرَدَّ مَا كَانَ عِنْدَهُ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ-.

وَعَاشَتِ امْرَأَتُهُ -رَحِمَهَا اللهُ-، وَعَاشَ أَوْلَادُهُ وَبَنَاتُهُ عِيشَةَ الشَّظَفِ وَهُنَّ فِي أَعْلَى بَيْتٍ فِي الْأُمَّةِ -فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ- بَيْتِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ.

فَلَمَّا كَانَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ دَخَلَ عَلَيْهِ نَاصِحٌ مِنَ النَّاصِحِينَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! اعْهَدْ، أَوْلَادُهُ حَوْلَهُ -وَهُمْ كَثِيرٌ- وَلَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا؛ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اعْهَدْ؛ يَعْنِي: أَوْصِ إِلَى بَنِيكَ، سَتَتْرُكُهُمْ فِي حَالٍ لَا تُحْمَدُ.

فَقَالَ: ((إِنْ يَكُونُوا صَالِحِينَ فَاللهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَإِنْ كَانُوا غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا أُعِينُهُمْ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ)).

تَأَمَّلْ.. يَقُولُ: إِنْ يَكُونُوا صَالِحِينَ فَاللهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، لَنْ يُضَيِّعَهُمْ؛ وَاللهِ لَنْ يُضَيِّعَنَا اللهُ إِذَا أَقْبَلْنَا عَلَيْهِ، إِنَّكَ إِذَا مَا لَجَأْتَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا بِمَنْصِبٍ أَوْ جَاهٍ أَوْ مَالٍ فَكُنْتَ أَسِيرًا عِنْدَهُ أَوْ عَلِمَ اضْطِرَارَكَ إِلَيْهِ فَكَانَ كَرِيمًا، فَإِنَّهُ لَا يُضَيِّعُكَ وَلَا يُضَيِّعُ أَوْلَادَكَ مِنْ بَعْدِكَ، فَكَيْفَ بِاللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟!!

وَاللهِ لَا يُضَيِّعَنَا اللهُ أَبَدًا، وَإِنِّي لَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، لَنْ يُضَيِّعَنَا رَبُّنَا، وَرَجَاؤُنَا فِي اللهِ لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا، يَأْخُذُ عَنَّا أَعْيُنَ النَّاظِرِينَ، وَقُلُوبَ الْحَاسِدِينَ وَالْبَاغِينَ، وَهُوَ تَعَالَى الْبَرُّ الْكَرِيمُ وَالْجَوَادُ الرَّحِيمُ.

إِنْ يَكُونُوا صَالِحِينَ فَاللهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ، وَإِنْ يَكُونُوا غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا أُعِينُهُمْ عَلَى مَعْصِيَةِ اللهِ.

وَمَضَى إِلَى رَبِّهِ رَاشِدًا -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، فَمَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بَعْدُ إِلَّا قَاضِيًا فِي بَلَدٍ أَوْ أَمِيرًا عَلَى نَاحِيَةٍ.

التعليقات


مقاطع قد تعجبك


  • شارك