تفريغ مقطع : بدع شهر رجب

((بدع شهر رجب))

وقد كانوا في الجاهليةِ يُعظِّمون رَجَبًا ويذبحونَ في العشرِ الأوَّلِ منه ذبيحةً يُقال لها ((العَتِيرَة)) أو ((الرَّجَبيَّة))، وفَعَلَ ذلك بعضُ أهلِ الإسلام، ونهاهُم عنه النبيُّ -عليه الصلاة وأزكي السلام، صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاةً وسلامًا دائمين متلازمين إلى يوم الدين-، قال: ((لا فَرَعَ ولا عَتيرة)).
فأما العَتيرةُ: فهي الذبيحةُ التي تُذبحُ في رَجَب.
وأما الفَرَعُ: فما يجعلونهُ من نَتَاجِ الإبلِ وما يكونُ عِنْدَهُم مِن أنعامِهم لأصنامِهم، فنهى عن ذلك نبيُّنا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

والعبادات توقيفية: فلا يجوزُ أن يُذبحَ إلَّا على قانونِ الشرع، كما أنَّ اللهَ -جلَّ وعلا- نهانا عن الأكلِ مما لم يُذكر اسمُ اللهِ عليه؛ لأنَّ الذبحَ إنما يكون باسمِ الله؛ لأنه لو لم يأذن لنا ربُّنا -تبارك وتعالى- بذبحِ ذَبائحِنا؛ ما كان لنا أنْ نذبحها، ولِمَ نُعَذِّبُها، ولِمَ نَعتدي عليها؟

لكنْ أحلَّ اللهُ -ربُّ العالمين- ذلك لنا، وأَقْدَرَنا عليه، فنَفعلُهُ باسمِ الله، فإذا لم يُذكر اسمُ اللهِ -تبارك وتعالى- على الذبيحةِ لا يُؤكل منها، فكذلك لا يُذبحُ إلا على قانونِ الشرع، ومَهما ابتدعَ الإنسانُ لنفسهِ بنفسهِ ذبائحَ يذبحُها وقرابينَ يُقَرِّبُها فإنه يكونُ مسيئًا، وقد يكونُ مشركًا إذا قَصَدَ بذلك غَيْرَ وجهِ اللهِ -جلَّ وعلا-.
فالذبحُ لغيرِ اللهِ -ربِّ العالمين- شِركٌ به يُخْرِجُ من المِلَّة.

وأما إذا ما أرادَ أنْ يَذبحَ في رَجَب تَـنَسُّكًا وتَقَرُّبًا؛ فقد أساءَ ولم يُحْسِن، أما الذَّبْحُ الذي لا يكونُ عبادةً مقصودةً -أي يقصدُ العبدُ الإتيانَ بها في رَجَب تَقَرُّبًا بالذبحِ في رَجَب للهِ -جلَّ وعلا- فهذا لا شيء فيه، إذا فَعَلَهُ لا لذلك؛ فلا شيءَ عليه ولا تثريب، والذي نَهَى عنه الرسولُ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: أنْ يُقصدَ الزمانَ بالذَّبحِ فيه تَقَرُّبًا للهِ -ربِّ العالمين- باعتقادِ أنَّ ذلكَ مِن القُرُبَاتِ لَدُن ربِّنا العزيز الرحيم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: ((لا فَرَعَ ولا عَتيرة)). والحديث في ((الصحيحين)).
والَمنْهِيُّ عنه ((عتيرةُ رَجَب))؛ لا الذبحُ فيه بإطلاق، فليَذْبَح في رَجَب مَنْ شاءَ الذبحَ لا عتيرةً ولا تَقَرُّبًا بالذبحِ فيه للهِ -تبارك وتعالى-، وإنما يذبحُ اتفاقًا بقَدَرِ اللهِ -ربِّ العالمين- إكرامًا لضَيْفٍ أو بَيْعًا لِلَحْمٍ أو إدراكًا لِمَا هُنالك مِن الأنعامِ قبل أنْ يموتَ حَتْفَ أنفهِ، إلى غيرِ ذلك مِن تلك الأمور.

وأمَّا أنَّ يَقصدَ رَجَبًا بالذبحِ فيه وأنْ يجعلَ ذلك في العَشرِْ الأوَّلِ خاصةً كَفِعْلِ أهلِ الجاهلية؛ فهذا ما نهى عنه الرسولُ -صلى الله عليه وسلم-.

*فلم يَصِحَّ فيه تخصيصُ الذبحِ فيه بشيءٍ قَط.

*ولم يَصِحَّ في فضلِ صومِ رَجَب بخصوصهِ شيءٌ عن النبيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم- ولا عن أصحابهِ.
وما ذكروا من فضلِ الصيامِ فيه وما ذكروا من فضلِ صيامهِ؛ فأحاديثٌ موضوعةٌ مكذوبةٌ على رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم- وأُخَرُ ضَعيفات، ولم يَصِحَّ أنه كان يَسْرُدُ الثلاثةَ الأشهر -أعني شعبانَ مع رَجَب ورَمَضَانَ- صيامًا؛ لم يَفعل ذلك رسولُ الله -صلى عليه وسلم-، والعَوَّامُ يَخصُّونَ رَجَبًا بالصومِ، والعَوَّامُ يَسْرُدُونَ الأشهرَ الثلاثةِ سَرْدًا بصومٍ، وكلُّ ذلك لم يفعلهُ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابُهُ، ولو كان خَيْرًا لسبقونَا إليه -صلى الله وسلم وبارك عليه- و-رضي اللهُ عن أصحابهِ أجمعين-.

*فليسَ للصومِ فيه من فَضْلٍ زائد، والعَوَّامُ يَحسَبُونَ ذلك سُنَّةً وليس بِسُنَّةٍ، بل إنَّ تخصيصَهُ بالصيامِ بِدعة.

وقد صَحَّ أنَّ عُمرَ -رضي الله عنه- كان يضربُ أيديَ النَّاسِ في رَجَب ليضعوا أيديَهم في الطعامِ في رَجَب، ويقول: ((لا تُشَبِّهُوهُ بِرَمضان)).
فكان يضربُ أيدي الناسِ ليضعوا أيديَهم في طعامِهم ويقول: ((لا تُشَبِّهُوهُ بِرَمضان)) -رضي الله عنه-.

*وأما إنَّ صامَ بعضَهُ وأفطرَ بعضَهُ؛ فلا كراهةَ في ذلك.
ولا ينبغي تخصيصَ الأوقاتِ بعباداتٍ لم يَخُصَّهَا الشرعُ به، بل جميعُ أفعالِ البِرِّ مُرْسَلَةٌ في جميعِ الأزمانِ؛ ليس لبعضِها على بعضٍ فَضْل إلا ما فَضَّلَ الشرع، كما قرَّرَ العلماءُ ومنهم ابن أبي شامة -رَحِمَهم اللهُ جميعًا-؛ أعني علماءُنا مِن أهلِ السُّنَّةِ على مِنهاجِ النبوة -رَحِمَهم اللهُ ورضي عنهم-.

فليس لنا أن نبتدعَ تحديدًا بوقتٍ ولا تخصيصًا بأمر، وإنما الزمانُ والمكانُ والجِنسُ والسَّببُ والكَمُّ والكَيْفُ، كلُّ ذلك محكومٌ بالشرعِ مِن أجلِ تحقيقِ الاتِّبَاعِ للنبيِّ -صلى الله عليه وآله وسلم-، فمَنْ خالفَ في واحدٍ من ذلك؛ فقد ابتدعَ في دينِ اللهِ -ربِّ العالمين- ما لم يأذن به اللهُ وما لم يَشْرَعُهُ على لسانِ رسولهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-.

*و((صلاةُ الرَّغائبِ)) مُبْتَدَعةٌ مَصنوعة:

وهي التي تكونُ في ليلةِ أوَّلِ جُمُعَةٍ مِن شهرِ رَجَب.

فهذه الصلاةُ إنما هي حادثةٌ مُتأخرة، والأحاديثُ التي كُذِبَ على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فيها وبشأنِها ليس شيءٌ منها في دواوينِ أهلِ السُّنَّةِ ممن تَقَدَّمَ من أهلِ السُّنةِ المُدَوِّنينَ للسُّنَّةِ -رحمةُ اللهِ عليهم-؛ لأنَّ هذه الأحاديثُ التي كُذِبَ فيها على المُختارِ -صلى الله عليه وسلم- حادثةٌ مُتأخرة.

*وكذلك قَصْدُ زيارةِ القبورِ في أوَّلِ خميسٍ من شهرِ رَجَب وفي أوَّلِ يومٍ منه بَعْدَ صلاةِ الصُّبْحِ: مما يفعلهُ النساءُ مِن فارغاتِ العقولِ والقلوبِ مِن أنوارِ الإيمانِ والاتِّباعِ للرسول، وكذلك يفعلهُ كثيرٌ مِن الرجالِ ويَحسَبونَ ذلك قُرْبَةً عند الكبيرِ المُتعال، وما هي إلا بِدعةٌ ابتدعَها لهم شياطينُهم من شياطينِ الإنسِ والجِنِّ وليس ذلك في شيءٍ من أَثَرٍ يُرْجَعُ إليه، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه.

*ومنه ما يفعلهُ كثيرٌ من المسلمين مما أطبقوا عليه في ((ليلةِ السابعِ والعشرينَ من شهرِ رجب)) يزعمون، بل يعتقدون أنَّ ((الإسراء والمعراج)) قد وقع في تلك الليلة ويجزمون بذلك، ولم يَكُن شيءٌ من ذلك في ذلك، والله المستعان.

وقد أخطأَ من جَزَمَ به كما قرَّرَ علماؤنا عليهم الرحمة، ولكنهم يجعلونه دينًا مُتَّبَعًا وسُنَّةً يَؤمُّونَها يتقربون بها إلى الله بزَعْمِهم، ثم يزرفونَ الدموعَ أو دمعةً أو دمعتين على الأقصى السَّليب، ثم يُنْسَى ذلك من آخرِ الليلِ -واللهُ المستعانُ وإليه المُشتكى-.

ومعلومٌ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-: ما قام المُقتضي لفِعْلِهِ على عهدِهِ وانتفى المانعُ من فِعْلِهِ على عهدهِ ولم يَفْعَلُهُ؛ فَتَرْكُهُ سُنَّة وفِعْلُهُ بِدعة وهي ((السُّنَّة التَّرْكيَّة))، فالنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُتَّبَعُ في فِعْلِهِ وقولهِ، كما يُتَّبَعُ في تَرْكِهِ.

فهنالك ما يقال له: ((السُّنَّة التَّرْكيَّة)): ما قام المُقتضي لفِعْلِهِ وانتفَى المانعُ من فِعْلِهِ ومع ذلك لم يَفْعَلُهُ الرسولُ -صلى الله عليه وسلم-؛ فَفِعْلُهُ بِدعة وَتَرْكُهُ سُنَّة، كما تَرَكَ الأذانَ والإقامةَ وقولِ الصلاةِ جامعة في صلاتي العيدين, وكان ذلك بالمُصَلَّى في مُصَلَّى العيد بظاهرِ مدينةِ الرسولِ -صلى الله عليه وسلم-، وليس لها وقتٌ يُحَدَّدُ تحديدًا كالصلواتِ المكتوبات، فالحاجةُ داعيةٌ والمقتضي قائمٌ، وليس هُنالك من مانعٍ، ومع ذلك تَرَكَ ذلك رسولُ الله، فالتَّرْكُ سُنَّةٌ والفِعْلُ بِدعةٌ والمؤتسِي برسولهِ -صلى الله عليه وسلم- المُوَفَّقُ.

والله المستعان .

التعليقات


مقاطع قد تعجبك


  • شارك