تفريغ مقطع : عدة الشهور عند الله وعبث الجاهليين بالتقويم

((عدة الشهور عند الله وعبث الجاهليين بالتقويم))

جعلَ اللهُ ربُّ العالمين- الأشهرَ الحُرُم مختصةً في تلك الأشهرِ العِدَّةِ التي ذَكَرَها اللهُ ربُّ العالمين- في محكم التنزيل، فأما عِدَّةُ الشهور التي ذكرَ الله ربُّ العالمين- في محكم التنزيل؛ فتبدأُ بشهرِ الله تبارك وتعالى- ((المُحَرَّم))، ويجمعُ على محارمَ ومحاريم، ثم يأتي مِن بعد المُحَرَّمِ ((صفَر)) ويُجمعُ على أصفار، ثم يأتي ((ربيعٌ الأوَّل)) ويُجمعُ على أرْبِعَاءَ وأرْبِعَة، ثم يأتي ((الثاني))، ثم يأتي ((جُمَادَى الأول)) و((جُمَادَى الثاني))، ويُمكن أن تُؤنَّثَ وتُذَكَّرَ؛ فيُقال: جُمادى الأولى وجُمادى الأول وتُجمعُ على جُماديات، ثم يأتي من بعد ذلك ((رَجَب)) ويُجمعُ على رُجُبٍ وأرجبةٍ وأرجاب -في رجب الأرجابِ أو صَفَرٍ كما قال أبو تمام في قصيدته التي ألقى بين يدي المعتصم في سالف الدهر-، ثم يأتي من بعد: رجب شهرِ اللهِ تبارك وتعالى- الحرام الذي نصَّ النبيُّ صلى الله عليه وسلم- على منقعه في الحديث الذي كان في حجة الوداع في يوم مِنَى؛ فقال: ((ورَجب الذي بين جُمادى وشعبان رجب مُضر-))؛ لأن ((ربيعةَ)) كانت تذهب إلى أن المُحَرِّمَ ليس رجبًا وإنما هو رمضان، فكانت تُطلِق التحريم على رمضان مع إطلاق اللفظِ عليه رَجبًا، فكانوا يسمون رمضانَ رَجبًا، وأما ((مُضَر))فكانت على أصلِ ما كان عليه إبراهيمُ عليه السلام-، فكانت تُحَرِّمُ رجبًا رجب مُضَر-، الذي بين جُمادى وشعبان؛ ولذلك رفع النبيُّ صلى الله عليه وسلم- عواملَ الإشكال وأزالَ الإلباس، فنَصَّ عليه نصًّا صريحًا، قال: ((ورجبُ مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان))، ((شعبان)): الذي يُجمعُ على شعابين وشعبانات، و((رمضانُ)) الذي يُجمعُ على أَرْمِضَةٍ ورمضانات، ثم يأتي من بعد ذلك ((شوال)) ويُجمعُ على شواويل، ثم يأتي من بعد شوال ((ذو القِعدة)) و((ذو الحِجة)) من بعد ذلك ويُجمع كلُّ ذي ((ذو)) بجمعِ ((ذو)) وإبقاءُ مع بعدها على أصله؛ فهي: ذوات القِعدةِ وذواتِ الحِجة.

ثم يأتي أمرٌ بيَّنَهُ اللهُ ربُّ العالمين- في الآية التي تَلَت: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37].

و النَّسِيءُ: من الإنساء وهو التأخير، وإنما هو فعيلٌ على مفعولٍ في أصلِ خِلقتهِ، إلا أنه نُقِلَ من منسوءٍ إلى نسيء للخفةِ في النطق، كما نُقِلَ قتيل من مقتولٍ إلى قتيلٍ للخفةِ في النطق أيضًا، وإنما كان النسيءُ نسيئًا؛ لأنَّ اللهَ ربَّ العالمين- لَمَّا حرَّم الأشهرَ الثلاثةَ سَرْدًا؛ عزَّ على العربِ وشقَّ عليهم أن يَكفُّوا عن المناجذةِ والمناحرة والقتالِ فيما بينهم ثلاثةَ أشهرٍ مُتتابعات.

فما كان من شأنِ رجُلٍ من ((كِنانةَ))، وكانت ((كنانةُ)) ذات دين-قبيلةٌ من قبائلِ العرب تُدْعَى كِنانة، كانت ذات دين-، جاء منها رجلٌ يُقال له ((القَلَمَّس)) فوقف يومً في أيامِ الحجِّ على حمارٍ له، واتجه صوبَ الحجيج، ثم قال: ((إني لا أُجابُ ولا أُعاب، وقد نسئتُ لكم شهرَ اللهِ المُحَرَّم))،فأَخّرَ بذلك الحُرمةَ إلى صَفَر.

وفي قولِ ابن جرير رحمة الله عليه-: أنَّ أمر النسيء الذي صنع هذا الرجل، والذي صنعه من بعده أبنائه وأحفاده، حتى جاء الإسلام على ((جُنادةَ بن عمروٍ)) من أحفاد ((القَلَمَّسِ)) هذا وهو أولُ من نَسَأ الأشهرَ الحُرُم أي أخَّرَها-.

جاء الإسلامُ على هذا الرجُلِ وهو يقف في موسمِ الحج على حمارٍ له؛ يقول: ((أنا أبو ثُمامة وكانت كُنيته- لا أُجاب ولا أُعاب، وقد أخرت لكم، نسأت لكم شهر الله المُحَرَّم إلى صَفَر)).

فيُحِلُّ شهر الله المُحَرَّم، يُحِلُّه للناس في القتال ويُحَرِّمُ بدلًا منه ما بعده: شهرَ صَفر، فيصبح بذلك صفرُ المُحَرَّم، والمُحَرَّمُ حلالًا، فيُحِلُّ ما حرَّمَ الله ويُحَرِّمُ ما أحلَّ اللهُ ربَّ العالمين-.

في قولِ ابن جريرٍ رحمة الله عليه- أنهم كانوا إذا نسئوا الأشهر الحُرُم أو أنسئوها يعني: أخرُّوا الحُرمةَ فيها-، أبقَوا لا على حُرمةِ الأشهرِ عددًا، وإنما غايروا بعد إبقائها عددًا؛ غايروا في عدةِ الأشهرِ نفسِها، فإنَّ الرجل كان يأتي في شهر الله المُحَرَّم أو في موسم الحج؛ فيقول لهم في ذي الحِجة: قد نسأتُ أو أنسأتُ لكم الحُرمةَ من المُحَرَّمِ إلى صَفَر، إذن؛ أصبح ((صَفَرُ المُحَرَّمَ)) وأصبح ((المُحَرَّمُ حلالًا)).

فلذلك يُسمَّى ((المُحرَّمُ)) في لغتهم ((مُحَرَّمٌ الحلال))، و((صَفَر)) يُسمَّى ب((المُحَرَّمِ الحرام))، ثم يأتي ربيعٌ الأول فيسمونه صَفَرًا، ثم تتوالى الأشهرُ بعدُ، فتصبحُ عِدة الأشهر عندهم ثلاثةَ عشرَ شهرًا، لا كما قال اللهُ ربُّ العالمين-، وإنما يواطئون عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ ربُّ العالمين- في الإبقاءِ على عدةِ الأشهرِ الحُرُم دون مواقعِها الزمنيةِ التي بيَّنَها اللهُ ربُّ العالمين-، وفصَّلَها لنا مُحمدٌ صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.

الآن؛ هم يجعلون السَّنَةَ ثلاثةَ عشرَ شهرًا، وتتابعت الأيام؛ فتداخلت الشهور، فأصبحَ ربيعٌ الأول رمضان، وأصبح رمضانٌ رجب، ثم تداخلت الأشهر، فكانوا يحجُّون في غير المواقيتِ بيقين، يحجُّونَ في غيرِ ذي الحِجَّة الذي قصدَهُ اللهُ ربُّ العالمين- بالحجِّ لمَّا جعلَ الأشهرَ الحُرُم بعدةٍ معدودةٍ في أصلِ خِلقةِ السمواتِ والأرض.

 

التعليقات


مقاطع قد تعجبك


  • شارك