مِنْ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ: قِرَاءَةُ وَتَدَبُّرُ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلُ بِهِ


((مِنْ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ:

قِرَاءَةُ وَتَدَبُّرُ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلُ بِهِ))

إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ الْعِزَّةِ فِي الدُّنْيَا، وَالْعِتْقِ مِنَ النَّارِ وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ: قِرَاءَةَ وَتَدَبُّرَ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلَ بِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]: وَإِنَّهُ لَفَخَارٌ وَشَرَفٌ، وَسُؤْدَدٌ وَعِزَّةٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَنْزَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ هِدَايَةً وَنُورًا.

إِنَّ الْمُتَدَبِّرَ لَا يَزَالُ يَسْتَفِيدُ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ وَمَعَارِفِهِ مَا يَزْدَادُ بِهِ إِيمَانًا، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2].

وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].

وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مُقَوِّيَاتِ الْإِيمَانِ، وَيُقَوِّيهِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ؛ فَالْمُؤْمِنُ بِمُجَرَّدِ مَا يَتْلُو آيَاتِ اللهِ، وَيَعْرِفُ مَا رُكِّبَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَخْبَارِ الصَّادِقَةِ، وَالْأَحْكَامِ الْحَسَنَةِ، يَحْصُلُ لَهُ مِنْ أُمُورِ الْإِيمَانِ خَيْرٌ كَبِيرٌ، فَكَيْفَ إِذَا أَحْسَنَ تَأَمُّلَهُ، وَفَهِمَ مَقَاصِدَهُ وَأَسْرَارَهُ؟!!

النَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ فِي هَذَا الشَّهْرِ، وَكَانَ ﷺ يُدَارِسُهُ جِبْرِيلُ الْقُرْآنَ، فَكَانَ ﷺ فِي مُدَارَسَةِ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ، فَهَذَا مِنْ سُنَّتِهِ ﷺ.

فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُدَارِسُهُ جِبْرِيلُ الْقُرْآنَ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ، وَشَهْرُ رَمَضَانَ إِنَّمَا فَرَضَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ الصِّيَامَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ نَزَّلَ فِيهِ الْقُرْآنُ.

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].

فَجَعَلَ شُهُودَ الشَّهْرِ بِصِيَامِهِ مُرَتَّبًا، وَعِلَّةً لِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِيهِ {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].

فَجَعَلَ الصِّيَامَ مُنَزَّلًا عَلَى تَنَزُّلِ الْقُرْآنِ فِي شَهْرِ الْقُرْآنِ شَهْرِ الصِّيَامِ، فَالْقُرْآنُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ النَّصِيبُ الْأَوْفَى فِي رَمَضَانَ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ -كَمَا نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-- كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ، وَقِيلَ: فِي رَكْعَةٍ.

وَكَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ سِتِّينَ مَرَّةً، كَمَا نُقِلَ عَنِ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- ، وَعَنِ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ- ، فَكَانَ يَخْتِمُ فِي النَّهَارِ خَتْمَةً، وَفِي اللَّيْلِ خَتْمَةً، فَيَخْتِمُ فِي رَمَضَانَ سِتِّينَ خَتْمَةً.

وَهُنَالِكَ أَعْدَادٌ ذُكِرَتْ هِيَ أَعْلَى مِنْ هَذَا الْمَذْكُورِ، حَتَّى وَصَلَ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ إِلَىَ ثَمَانِ خَتْمَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ فِي ((التِّبْيَانِ)) .

يَأْتِي الْحَدِيثُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ لَمْ يَفْقَهْهُ)) .

هَذَا كَلَامُ الرَّسُولِ ﷺ، فَإِذَا خَتَمَ الرَّجُلُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ هَلْ يَكُونُ مُخَالِفًا؟

اخْتِيَارُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَاخْتِيَارُ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا، إِلَّا إِذَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَاوَمَةِ، أَمَّا فِي الْأَزْمَانِ الْفَاضِلَةِ كَرَمَضَانَ، فَلَا يُعَدُّ مُخَالِفًا لِسُنَّةِ النَّبِيِّ الْعَدْنَانِ ﷺ، فَلَوْ خَتَمَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ لَا يَكُونُ مُخَالِفًا، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمُخَالَفَةُ إِذَا وَقَعَتْ دِيمَةً، وَوَقَعَتْ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَاوَمَةِ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ -رَحْمَةُ اللهِ عَلَى عُلَمَائِنَا أَجْمَعِينَ-.

وَكَذَلِكَ إِذَا خَتَمَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ فِي الْأَمْكِنَةِ الشَّرِيفَةِ الطَّاهِرَةِ، كَمَنْ كَانَ مِنَ الْآفَاقِيِّينَ، يَنْزِلُ مَكَّةَ -مَثَلًا- وَهُوَ عَلَى نِيَّةِ السَّفَرِ لَا عَلَى نِيَّةِ الْإِقَامَةِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَكْثَرَ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ مُخَالِفًا إِذَا خَتَمَ فِي أَقَلَّ مِمَّا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ ﷺ.

وَإِذَنِ؛ الْمُخَالَفَةُ عِنْدَ الِالْتِزَامِ، بِحَيْثُ يَكُونُ مُخَالِفًا لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ مُدَاوِمًا عَلَى الْمُخَالَفَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ طُرُوءِ الْأَزْمِنَةِ الْفَاضِلَةِ، أَوْ عِنْدَ حُلُولِ الْأَمْكِنَةِ الْفَاضِلَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ فَعَلَ فَلَا تَثْرِيبَ عَلَيْهِ، فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ، فَهَذِهِ سُنَّةُ النَّبِيِّ ﷺ.

كَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيَّ ﷺ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً فِي رَمَضَانَ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ ﷺ، دَارَسَهُ جِبْرِيلُ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْنِ.

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ عِنْدَ التِّلَاوَةِ لِكِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَاضِرَ الْقَلْبِ، وَاعِيَ الْحِسِّ، مُتَيَقِّظَ الضَّمِيرِ، لَا أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ ثُمَّ يَأْتِي بِالْمُخَالَفَاتِ الْجَسِيمَةِ لِدِينِ النَّبِيِّ ﷺ، وَيُحَارِبُ رَبَّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ, وَيَخْرِقُ سِيَاجَ سَنَّةِ سَيِّدِ الْكَائِنَاتِ، هَذَا مَعِيبٌ، وَقَدِيمًا قَالَ الشَّارِحُ فِي ((الْخِزَانَةِ))، وَقَدْ أَوْرَدَ الشَّاهِدَ ثُمَّ عَكَفَ عَلَيْهِ شَرْحًا:

هَذَا سُرَاقَةُ لِلْقُرْآنِ يَدْرُسُهُ  =  وَالْمَرْءُ عِنْدَ الرِّشَا إِنْ يَلْقَهَا ذِيبُ

هَذَا سُرَاقَةُ لِلْقُرْآنِ يَدْرُسُهُ، وَالْمَرْءُ -يَعْنِي سُرَاقَةَ- عِنْدَ الرِّشَا -يَعْنِي: عِنْدَ أَخْذِ الرِّشْوَةِ وَتَعَاطِي الْحَرَامِ- إِنْ يَلْقَهَا - ذِيبُ -أَيْ ذِئْبٌ-.

فَلَا تَكُنْ كَسُرَاقَةَ!

هَذَا سُرَاقَةُ لِلْقُرْآنِ يَدْرُسُهُ = وَالْمَرْءُ عِنْدَ الرِّشَا إِنْ يَلْقَهَا ذِيبُ

وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤَثِّرَ فِيكَ الْقُرْآنُ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُحَصِّلًا لِثَمَرَاتِ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، فَهَذَا أَمْرٌ.

 

المصدر:رَمَضَانُ شَهْرُ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  نَصَائِحُ غَالِيَةٌ فِي نِهَايَةِ عَامٍ هِجْرِيٍّ وَاسْتِقْبَالِ آخَرَ
  عَقِيدَةُ الْيَهُودِ: أَنَّهُمْ شَعْبُ اللهِ الْمُخْتَارُ
  الْحَثُّ عَلَى الْإِيجَابِيَّةِ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ
  «حُكْمُ الاحتفالِ بِالمَوْلِدِ النَّبَوِيِّ» الإمام العلامة المُحدِّثُ: مُقبل بن هادي الوادعي -رحمهُ اللهُ-.
  مَعْرَكَةٌ تَارِيخِيَّةٌ لِلْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ فِي سَيْنَاءَ ضِدَّ الْإِرْهَابِ وَالْخِيَانَةِ
  أَنْوَاعُ النِّفَاقِ
  الْوَسَائِلُ الْمُعِينَةُ عَلَى الصَّبْرِ عِنْدَ الْبَلَاءِ
  مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الزَّوَاجِ الذُّرِّيَّةُ
  الْعِلْمُ الصَّحِيحُ يُورِثُ الْخَشْيَةَ
  تَحْذِيرُ الْإِسْلَامِ مِنْ وَسَائِلِ الشَّائِعَاتِ كَالْغِيبَةِ وَالْكَذِبِ
  عَاقِبَةُ نَقْضِ الْعُقُودِ وَالْعُهُودِ
  سُبُلُ الْحِفَاظِ عَلَى الْمِيثَاقِ الْغَلِيظِ
  الْإِسْلَامُ دِينُ نِظَامٍ وَالْتِزَامٍ
  مَنْزِلَةُ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
  نِعْمَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ
  • شارك