مِنْ أَهَمِّ دُرُوسِ الْهِجْرَةِ: الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ وَالصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ


 ((مِنْ أَهَمِّ دُرُوسِ الْهِجْرَةِ:

الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ وَالصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ))

أَذِنَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلنَّبِيِّ بِالْهِجْرَةِ، وَكَانَتْ جَوْدَةُ الْإِعْدَادِ وَدِقَّةُ الِاسْتِعْدَادِ ظَاهِرَةً جَلِيَّةً، وَلَا نَقُولُ إِنَّ الرَّسُولَ كَانَ يَسْتَعِدُّ لِهَذَا الْحَدَثِ الْعَظِيمِ اسْتِعْدَادَ بَشَرٍ، وَلَكِنَّمَا هُوَ اسْتِعْدَادُ بَشَرٍ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ مُؤَيَّدًا بِالْوَحْيِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَبِخَاصَّةٍ فِي أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَوَاقِفِ الْعَظِيمَةِ الْفَارِقَةِ، حَتَّى أَنَّ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَمْ يَدَعْ مُحَمَّدًا فِي مَعْرِضِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ إِلَّا وَقَدْ دَلَّنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِذِكْرِ الْمِنَّةِ عَلَيْهِ: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التَّوْبَة: 40].

إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ مُؤَيَّدًا بِالْوَحْيِ ، وَلَكِنَّ دِقَّةَ الْإِعْدَادِ وَسَلَامَةَ الِاسْتِعْدَادِ مِنَ الرَّسُولِ تَدُلُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وُجُوبِ الْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ دَائِمًا وَأَبَدًا، وَانْظُرْ فِيمَا كَانَ مِنْ تَفْصِيلِ أَمْرِ ذَلِكَ، فَإِنَّ الرَّسُولَ لَمَّا أَذِنَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ بِالْهِجْرَةِ وَحَدَّدَ لَهُ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُهَاجِرُ إِلَيْهِ ، قَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْ هِجْرَتِهِ كُلَّ أَصْحَابِهِ وَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ الَّتِي وَقَعَتْ مِنْهُ إِلَّا أَبُو بَكْرٍ  وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- وَإِلَّا مَنْ فُتِنَ فِي دِينِهِ مِمَّنْ حَجَزَتْهُ قُرَيْشٌ، وَحَالَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُرُوجِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَرَسُولِهِ الْكَرِيمِ .

وَهَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ الْكَرِيمِ هُوَ عَيْنُ التَّضْحِيَةِ وَعَيْنُ الْبَذْلِ وَعَيْنُ الْفِدَاءِ، لَمْ يَخْرُجْ رَسُولُ اللَّهِ عِنْدَمَا أُذِنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ أَوَّلَ مَنْ خَرَجَ، بَلْ تَخَلَّفَ فِي مَكَّةَ وَقَدَّمَ الْأَصْحَابَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَهَاجَرُوا جَمِيعًا إِلَّا مَنْ قَضَى اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِفِتْنَتِهِ فَثَبَتَ أَوِ انْحَرَفَ عَنِ الْمَنْهَجِ السَّوِيِّ -نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلَامَةَ وَالْعَافِيَةَ-.

وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي: فَإِنَّ الرَّسُولَ اخْتَارَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ صَاحِبًا وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَكَانَ يَسْتَأْذِنُ النَّبِيَّ فِي أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ : «يَا أَبَا بَكْرٍ عَلَى رِسْلِكَ، لَعَلَّ اللَّهَ يَجْعَلُ لَكَ صَاحِبًا», فَكَانَ يَقُولُ: الصُّحْبَةَ الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! يَرْجُو أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ النَّبِيِّ فِي هِجْرَتِهِ ، وَابْتَاعَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رَاحِلَتَيْنِ، فَعَلَفَهُمَا وَرَقَ السَّمُرِ، ثُمَّ إِنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي مَكَانٍ حَدَّدَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ سَوَاءً حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِنَبِيِّهِ بِالْخُرُوجِ مُهَاجِرًا إِلَى مُهَاجَرِهِ ().

وَأَمَّا أَمْرُ نَبِيِّنَا فِي لَيْلَةِ هِجْرَتِهِ؛ فَأْمْرٌ مُؤَيَّدٌ بِالْوَحْيِ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ:

يَظَلُّ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي فِرَاشِ النَّبِيِّ ، وَقَدْ تَسَجَّى بِبُرْدِهِ الْحَضْرَمِيِّ الْأَخْضَرِ، وَالرَّسُولُ لَيْسَ فِي بَيْتِهِ ، بَلْ ذَهَبَ فِي وَقْتٍ تَخْفُتُ فِيهِ الرِّقَابَةُ وَتَنَامُ فِيهَا أَعْيُنُ الرُّقَبَاءِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ، ذَهَبَ فِي الْهَاجِرَةِ وَكَانَتِ الْهِجْرَةُ فِي آخِرِ شَهْرٍ مِنْ أَشْهُرِ الصَّيْفِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ مِنْ مَبْعَثِ الرَّسُولِ ، فَذَهَبَ فِي وَقْتِ الْقَيْلُولَةِ فِي الْهَاجِرَةِ فِي وَقْتٍ لَوْ وَضَعْتَ فِيهِ لَحْمًا نَيِّئًا عَلَى رِمَالِ الصَّحْرَاءِ الْمُحْرِقَةِ لَأَنْضَجَتْهُ، ذَهَبَ إِلَى بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِي فِيهَا أَبَا بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «مَا أَرَى النَّبِيَّ قَدْ أَتَى فِي هَذَا الْوَقْتِ إِلَّا لِحَدَثٍ حَدَثَ».

فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ أَعْلَمَهُ بِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْهِجْرَةِ قَدْ جَاءَهُ مِنَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الصُّحْبَةَ الصُّحْبَةَ!

قَالَ لَهُ النَّبِيُّ : «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكَ صَاحِبًا يَا أَبَا بَكْرٍ».

وَخَرَجَ الرَّسُولُ فِي وَقْتِ الْهَاجِرَةِ مِنْ خَوْخَةٍ فِي بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ -وَهِيَ كُوَّةٌ نَافِذَةٌ فِي الْجِدَارِ الْخَلْفِيِّ لِبَيْتِ أَبِي بَكْرٍ-، وَإِذَا كَانَتْ هُنَاكَ رِقَابَةٌ مِنَ اسْتِخْبَارَاتِ قُرَيْشٍ تَرْقُبُ مُحَمَّدًا ، وَكَانُوا قَدْ بَيَّتُوا قَتْلَهُ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي هَاجَرَ فِيهَا ، إِذَا كَانَتْ أَعْيُنُ الرُّقَبَاءِ تَرْقُبُهُ؛ فَإِنَّهَا تَتَطَلَّعُ إِلَى بَابِ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَّا الرَّسُولُ فَيَخْرُجُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- مِنْ خَوْخَةٍ فِي الْجِدَارِ الْخَلْفِيِّ لِبَيْتِ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.

وَأَمَّا النَّبِيُّ فَيَسِيرُ صَوْبَ الْجَنُوبِ، مَعَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ طَرِيقَ الشَّمَالِ مُؤَدٍّ إِلَى الْمَدِينَةِ الَّتِي يُهَاجِرُ إِلَيْهَا ، نَزَلَ النَّبِيُّ جَنُوبًا إِلَى جَبَلِ ثَوْرٍ.

وَدَخَلَ الْغَارَ مَعَ صَاحِبِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي غَارِ ثَوْرٍ مَعَ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى رِسْلِكَ حَتَّى أَسْتَبْرِئَ لَكَ الْغَارَ، وَدَخَلَ فَفَتَحَ الْغَارَ، مَزَّقَ رِدَاءَهُ وَجَعَلَهُ فِي الشُّقُوقِ حَذَرًا مِنْ أَنْ يَكُونَ بِهَا شَيْءٌ مِنَ الْهَوَامِّ فَيُؤْذِيَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ، وَدَخَلَ مَعَ النَّبِيِّ .

أَمَّا السَّكِينَةُ فَأَنْزَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى قَلْبِ مُحَمَّدٍ ﷺ فَأَسْلَمَ جَنْبَهُ لِرِمَالِ الْغَارِ وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِ أَبِي بَكْرٍ وَنَامَ ﷺ.

 

المصدر: المصدر : دروس من الهجرة النبوية 

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  أَدِلَّةُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَحُكْمُ مَانِعِهَا
  وَسَائِلُ سَلَامَةِ الْقَلْبِ
  مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي عِبَادَةِ الصَّوْمِ
  اسْتِقْبَالُ الْعَشْرِ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ
  تَرْبِيَةُ الطِّفْلِ عَلَى أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ
  الْهِجْرَةُ هِجْرَتَانِ
  اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ يُؤيِّدُ أَنْبِيَاءَهُ بِالْمُعْجِزَاتِ
  الْعُمُرُ هُوَ رَأْسُ الْمَالِ
  الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ مَعَ النَّاسِ كَافَّةً
  وَسَائِلُ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ السَّعِيدَةِ
  الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ -الزَّوَاجُ- فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  رَحْمَةُ اللهِ بِمَنْ يَقْضِي حَاجَةَ كَلْبٍ؛ فَكَيْفَ بِإِخْوَانِكُمْ؟!!
  الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ مِنْ أَهَمِّ عَوَامِلِ الْقُوَّةِ فِي بِنَاءِ الدُّوَلِ
  مَعْنَى الْكَذِبِ وَأَدِلَّةُ تَحْرِيمِهِ
  نِعْمَةُ الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ
  • شارك