الْخُلُقُ الْكَــرِيمُ لِلنَّبِيِّ ﷺ وَشَفَقَتُهُ بِالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْمَرْضَى


((الْخُلُقُ الْكَــرِيمُ لِلنَّبِيِّ ﷺ

وَشَفَقَتُهُ بِالنِّسَاءِ وَالْعَبِيدِ وَالْمَرْضَى))

عِبَادَ اللهِ! نَبِيُّكُمْ ﷺ عِنْدَمَا رَجَعَ وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَرَجَعَ يَقُولُ:  «زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي»، قَالَ: «إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَنِي شَيْءٌ».

قَالَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «لَا وَاللهِ، لَا يُصِيبُكَ شَرٌّ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الكَلَّ، وَتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا».

كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْضِي حَاجَاتِ الْخَلْقِ، وَذَلِكَ حِينَ حَطَمَهُ النَّاسُ، تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((بَذَلَ نَفْسَهُ، وَلَمْ يَبْخَلْ بِشَيْءٍ -حَاشَاهُ- ﷺ )).

كَانَ نَبِيُّنَا الْأَمِينُ ﷺ فِي حَاجَةِ الْمَرْأَةِ الْمِسْكِينَةِ وَالضَّعِيفِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْكَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْحَسِيرِ، كَانَ فِي حَاجَةِ الْفُقَرَاءِ وَالْمُعْوزِينَ، كَانَ فِي حَاجَةِ الثَّكَالَى وَالْأَرَامَلِ وَالْمَسَاكِينَ، يَبْذُلُ نَفْسَهُ، وَتَأْخُذُ الْجَارِيَةُ بِكُمِّهِ بِيَدِهِ، تَسِيرُ مَعَهُ فِي أَيِّ طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شَاءَتْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهَا ﷺ.

فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، فَقَالَ: ((اجْلِسِي فِي أَيِّ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ شِئْتِ، أَجْلِسْ إِلَيْكِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، بِهِ، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.

وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً.

فَقَالَ: ((يَا أُمَّ فُلَانٍ، انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ، حَتَّى أَقْضِيَ حَاجَتَكِ)).

فَخَلَا مَعَهَا فِي بَعْضِ الطُّرُقِ، حَتَّى فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا.

هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى رَحْمَةِ النَّبِيِّ ﷺ بِالنِّسَاءِ بِوَجْهٍ عَامٍّ، أَوْ بِكِبَارِ السِّنِّ، أَوْ بِضِعَافِ الْعُقُولِ، سَوَاءٌ كَانَ الضَّعْفُ الْعَقْلِيُّ نَتيِجَةً لِلشَّيْخُوخَةِ، أَوْ كَانَ مِنْ نَقْصٍ فِي الْخِلْقَةِ.

وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((اجْلِسِي فِي أَيِّ طُرُقِ الْمَدِينَةِ شِئْتِ أَجْلِسْ إِلَيْكِ)). فَهَذَا لَا يَدُلُّ فَقَطْ عَلَى تَوَاضُعِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى شَفَقَةِ قَلْبِهِ ﷺ.

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يَخْلُو الْأَجْنَبِيُّ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، بَلْ إِذَا عَرَضَتْ لَهَا حَاجَةٌ يَجْلِسُ مَعَهَا بِمَوْضِعٍ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، لِكَوْنِهِ بِطَرِيقِ الْمَارَّةِ؛ لِذَلِكَ قَالَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: ((انْظُرِي أَيَّ السِّكَكِ شِئْتِ، حَتَّى أَقْضِيَ حَاجَتَكِ))، فَيَجْلِسُ مَعَهَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَالْمَارَّةُ يَمُرُّونَ وَإِنْ كَانُوا بِغَيْرِ مَقْرَبَةٍ، وَلَكِنْ هَذَا أَنْفَى لِلتُّهَمَةِ، فَيُعَلِّمُنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ.

*النَّبِيُّ ﷺ يَعُودُ الْمَرْضَى، وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ، وَيَقْضِي حَاجَاتِ الْعَبِيدِ:

*كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعُودُ الْمَرْضَى:

كَانَ مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ ﷺ عِيَادَةُ مِنْ مَرِضَ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: ((مَرِضْتُ فَأَتَانِي النَّبِيُّ ﷺ يَعُودُنِي، وَأَبُو بَكْرٍ، وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَوَجَدَانِي أُغْمِيَ عَلَيَّ،  فَتَوَضَّأَ النَّبِيُّ ﷺ ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ)).

وَعَادَ النَّبِيُّ ﷺ غُلَامًا يَهُودِيًّا كَانَ يَخْدُمُهُ كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ))، وَعَادَ عَمَّهُ أَبَا طَالِبٍ، وَهُوَ مُشْرِكٌ كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))، وَعَرَضَ عَلَيْهِمَا -يَعْنِي عَلَى الْيَهُودِيِّ وَعَلَى أَبِي طَالِبٍ- عَرَضَ عَلَيْهِمَا الْإِسْلَامَ، فَأَسْلَمَ الْيَهُودِيُّ وَلَمْ يُسْلِمْ عَمُّهُ.

وَكَانَ يَمْسَحُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى الْمَرِيضِ، وَيَقُولُ: ((اللَّهُمَّ ربَّ النَّاسِ، أَذْهِب الْبَأسَ، واشْفِهِ أَنْتَ الشَّافي، لا شِفَاءَ إِلاَّ شِفَاؤُكَ، شِفاءً لا يُغَادِرُ سقَماً)). أَخْرَجَاهُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)).

*وَكَانَ رَسُولُنَا الْكَرِيمُ ﷺ يَشْهَدُ الْجَنَائِزَ:

فَفِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) -أَيْضًا-، عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كُنَّا فِي جِنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، وَهُوَ مَدْفَنُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَأَتَانَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَعَدَ، وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مَخْصَرَةٌ -وَهِيَ عَصَا لَطِيفَةٌ، أَوْ عُكَّازٌ-، فَنَكَسَ -أَيْ: فَخَفَضَ رَأْسَهُ وَطَأْطَأَهُ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى هَيْئَةِ الْمَهْمُومِ- وَجَعَلَ يَنْكُتُ -أَيْ: يَخُطُّ خَطًّا يَسِيرًا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ بِمَخْصَرَتِهِ-، ثُمَّ قَالَ: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ)).

*وَكَانَ ﷺ يَقْضِي حَاجَةَ الْعَبِيدِ:

مِنْ تَوَاضُعِ النَّبِيِّ ﷺ لِلْعَبِيدِ، مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: ((كَانَتِ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ تَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ)).

*النَّبِيُّ ﷺ يَرْكَبُ الْحِمَارَ، وَيُرْدِفُ خَلْفَهُ:

فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى إِكَافٍ عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ وَرَاءَهُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَأَبُو دَاوُدَ.

*كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُجِيبُ الدَّاعِي، وَلَوْ دُعِيَ إِلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ:

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: ((كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُدْعَى إِلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ، وَالإِهَالَةِ السَّنِخَةِ، فَيُجِيبُ)). وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((مُخْتَصَرِ الشَّمَائِلِ)).

الْإِهَالَةُ (بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ)؛ الدُّهْنُ يُؤْتَدَمُ بِهِ.

وَالسَّنِخَةُ (بِكَسْرِ النُّونِ)؛ أَيْ: مُتَغَيِّرَةُ الرَّائِحَةِ لِطُولِ الْمُكْثِ.

وَيُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ جَوَازُ أَكْلِ الْمُنْتِنِ مِنْ لَحْمٍ وَغَيْرِهِ حَيْثُ لَا ضَرَرَ.

فَكَانَ إِذَا دُعِيَ إِلَى ذَلِكَ أَجَابَ ﷺ.

وَعَنْهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلتُ، وَلوْ دُعِيتُ عَلَيْهِ لأَجَبْتُ)).

الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي ((الْجَامِعِ))، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ: ((لَوْ دُعيِتُ إِلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ)).

الْكُرَاعُ (بِضَمِّ أَوَّلِهِ) مِنَ الْإِنْسَانِ: مَا دُونَ الرُّكْبَةِ إِلَى الْكَعْبِ، وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ: مُسْتَدَقُّ السَّاقِ الْعَارِي مِنَ اللَّحْمِ. فَهَذَا هُوَ الْكُرَاعُ.

قَالَ الْمُبَارَكْفُورِيُّ فِي ((التُّحْفَةِ)): ((وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى حُسْنِ خُلُقِهِ ﷺ وَتَوَاضُعِهِ، وَجَبْرِهِ لِقُلُوبِ النَّاسِ، وَعَلَى قَبُولِ الْهَدِيَّةِ، وَإِجَابَةِ مَنْ يَدْعُو الرَّجُلَ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَلَوْ عَلِمَ أَنَّ الَّذِي يَدْعُوهُ إِلَيْهِ شَيْءٌ قَلِيلٌ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((وَلَوْ دُعِيتُ عَلَيْهِ))؛ أَيْ: عَلَى الْكُرَاعِ ((لَأَجَبْتُ)) )).

إِذَا أَدْمَنْتَ الْبَحْثَ فِي أَحْوَالِ النَّبِيِّ ﷺ وَشَمَائِلِهِ، وَأَدْمَنْتَ النَّظَرَ فِي سِيرَتِهِ وَسُنَّتِهِ، وَجَدْتَ الْعَجَبَ الْعُجَابَ، قَدْ كَمَّلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لَهُ خَلْقَهُ، وَكَمَّلَ لَهُ خُلُقَهُ ﷺ.

وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.

 

المصدر: الْخُلُقُ الْكَرِيمُ لِلنَّبِيِّ ﷺ مَعَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي عِبَادَةِ الصَّوْمِ
  تَفَاعُلُ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ الْقُرْآنِ الكريم
  الدَّعْوَةُ إِلَى اللهِ مِنْ أَهَمِّ عَوَامِلِ الْقُوَّةِ فِي بِنَاءِ الدُّوَلِ
  ضَرُورَةُ مُرَاقَبَةِ السِّرِّ وَرِعَايَةِ الضَّمِيرِ
  رِعَايَةُ النَّبِيِّ ﷺ لِلْيَتِيمِ وَالْكَسِيرِ وَالضَّعِيفِ
  صُوَرٌ مِنْ بِرِّ النَّبِيِّ​ﷺ​بِنِسَائِهِ
  ذِكْرُ اللهِ هُوَ رُوحُ الْعِبَادَةِ فِي الْإِسْلَامِ
  جُمْلَةٌ جَامِعَةٌ مِنْ سُبُلِ تَحْقِيقِ خَيْرِيَّةِ الْأُمَّةِ
  رِسَالَةٌ إِلَى كُلِّ مُحِبٍّ لِوَطَنِهِ
  حَالُ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِهِ
  حُبُّ الوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ مِنْ تَقْوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
  حَثُّ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الزَّوَاجِ فِي سُنَّتِهِ الْمُطَهَّرَةِ
  عَقِيدَةُ الْيَهُودِ التَّوْرَاتِيَّةُ الْقَتْلُ وَالذَّبْحُ
  هَلِ الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ أَمِ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ؟
  الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ مِنَّةُ اللهِ عَلَى كُلِّ الْبَشَرِيَّةِ
  • شارك