مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ قَبْلَ الْعَمَلِ وَبَعْدَ الْعَمَلِ


((مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ قَبْلَ الْعَمَلِ وَبَعْدَ الْعَمَلِ))

عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مُحَاسَبَةَ النَّفْسِ وَاجِبَةٌ، يَجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تُحَاسِبَ نَفْسَكَ.

وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ نَوْعَانِ: نَوْعٌ قَبْلَ الْعَمَلِ، وَنَوْعٌ بَعْدَ الْعَمَلِ.

 *مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ قَبْلَ الْعَمَلِ:

فَأَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ: فَهُوَ أَنْ يَقِفَ عِنْدَ أَوَّلِ هَمِّهِ وَإِرَادَتِهِ، وَلَا يُبَادِرَ بِالْعَمَلِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُ رُجْحَانُهُ عَلَى تَرْكِهِ.

قَالَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((رَحِمَ اللهُ عَبْدًا وَقَفَ عِنْدَ هَمِّهِ، فَإِنْ كَانَ للهِ؛ مَضَى، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ؛ تَأَخَّرَ)).

وَشَرَحَ هَذَا بَعْضُهُمْ، فَقَالَ: ((إِذَا تَحَرَّكَتِ النَّفْسُ لِعَمَلٍ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَهَمَّ بِهِ الْعَبْدُ، وَقَفَ أَوَّلًا وَنَظَرَ، هَلْ ذَلِكَ الْعَمَلُ مَقْدُورٌ لَهُ أَوْ غَيْرُ مَقْدُورٍ وَلَا مُسْتَطَاعٍ؟

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا، لَمْ يُقْدَمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَقْدُورًا، وَقَفَ وَقَفْةً أُخْرَى وَنَظَرَ، هَلْ فِعْلُهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ تَرْكِهِ، أَوْ تَرْكُهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ فِعْلِهِ؟

فَإِنْ كَانَ الثَّانِي تَرَكَهُ وَلَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، وَقَفَ وَقْفَةً ثَالِثَةً وَنَظَرَ، هَلْ الْبَاعِثُ عَلَيْهِ إِرَادَةُ وَجْهِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَثَوَابِهِ، أَوْ إِرَادَةُ الْجَاهِ وَالثَّنَاءِ وَالْمَالِ مِنَ الْمَخْلُوقِ؟

فَإِنْ كَانَ الثَّانِي؛ لَمْ يُقْدِمْ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَفْضَى بِهِ إِلَى مَطْلُوبِهِ؛ لِئَلَّا يَعْتَادَ عَلَى الشِّرْكِ؛ وَلِئَلَّا يُعَوِّدَ النَّفْسَ عَلَيْهِ؛ وَحَتَّى لَا يَخِفَّ عَلَى نَفْسِهِ الْعَمَلُ لِغَيْرِ اللهِ.

 فَبَقَدْرِ مَا يَخِفُّ عَلَيْهَا ذَلِكَ، يَثْقُلُ عَلَيْهَا الْعَمَلُ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

بِقَدْرِ مَا يَخِفُّ عَلَى النَّفْسِ الْعَمَلُ لِغَيْرِ اللهِ، مِنْ إِرَادَةِ الثَّنَاءِ وَالْجَاهِ وَالْحَظِّ عِنْدَ غَيْرِ اللهِ، بِقَدْرِ مَا يَثْقُلُ عَلَيْهَا الْعَمَلُ للهِ، حَتَّى يَصِيرَ أَثْقَلَ شَيْءٍ عَلَيْهَا.

وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ، وَقَفَ وَقْفَةً أُخْرَى، وَنَظَرَ هَلْ هُوَ مُعَانٌ عَلَيْهِ، وَلَهُ أَعْوَانٌ يُسَاعِدُونَهُ وَيَنْصُرُونَهُ إِذَا كَانَ الْعَمَلُ مُحْتَاجًا إِلَى ذَلِكَ أَمْ لَا؟

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَعْوَانٌ أَمْسَكَ عَنْهُ، كَمَا أَمْسَكَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْجِهَادِ بِمَكَّةَ، كَمَا أَمْسَكَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْقِتَالِ بِمَكَّةَ ، حَتَّى صَارَ لَهُ شَوْكَةٌ وَأَنْصَارٌ، وَإِنْ وَجَدَهُ مُعَانًا عَلَيْهِ، فَلْيُقْدِمْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْصُورٌ، وَلَا يَفُوتُ النَّجَاحُ إِلَّا مِنْ فَوَاتِ خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ، وَإِلَّا فَمَعَ اجْتِمَاعِهَا، لَا يَفُوتُهُ النَّجَاحُ)).

مُلَخَّصُ ذَلِكَ: هَذِهِ أَرْبَعَةُ مَقَامَاتٍ يَحْتَاجُ إِلَى مُحَاسَبَةِ نَفْسِهِ عَلَيْهَا قَبْلَ الْعَمَلِ.

فَاحْفَظْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ عَزِيزٌ، وَقَلَّ الْإِخْفَاقُ، بَلْ انْتَفَى مَعَ الْإِتْيَانِ بِتِلْكَ الْمَقَامَاتِ، فَمَا كُلُّ مَا يُرِيدُ الْعَبْدُ فِعْلُهُ يَكُونُ مَقْدُورًا لَهُ، وَلَا كُلُّ مَا يَكُونُ مَقْدُورًا لَهُ، يَكُونُ فِعْلُهُ خَيْرًا لَهُ مِنْ تَرْكِهِ، وَلَا كُلُّ مَا يَكُونُ فِعْلُهُ خَيْرًا مِنْ تَرْكِهِ؛ يَفْعَلُهُ للهِ، وَلَا كُلُّ مَا يَفْعَلُهُ للهِ؛ يَكُونُ مُعَانًا عَلَيْهِ.

 فَإِذَا حَاسَبَ نَفْسَهَ عَلَى ذَلِكَ، تَبَيَّنَ لَهُ مَا يُقْدِمُ عَلَيْهِ، وَمَا يُحْجِمُ عَنْهُ.

فَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ مِنْ نَوْعَيْ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ، وَهُوَ مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ قَبْلَ الْعَمَلِ.

النَّوْعُ الثَّانِي: مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ بَعْدَ الْعَمَلِ:

 وَمُحَاسَبَةُ النَّفْسِ بَعْدَ الْعَمَلِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

 أَحَدُهَا: مُحَاسَبَتُهَا عَلَى طَاعَةٍ قَصَّرَتْ فِيهَا مِنْ حَقِّ اللهِ تَعَالَى، فَلَمْ تُوقِعْهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْبَغِي.

وَحَقُّ اللهِ فِي الطَّاعَةِ سِتَّةُ أُمُورٍ:

وَهِيَ الْإِخْلَاصُ فِي الْعَمَلِ، وَالنَّصِيحَةُ للهِ فِيهِ، وَمُتَابَعَةُ الرَّسُولِ ﷺ فِيهِ، وَشُهُودُ مَشْهَدِ الْإِحْسَانِ فِيهِ، وَشُهُودُ مِنَّةِ اللهِ عَلَيْهِ، وَشُهُودُ تَقْصِيرِهِ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَيُحَاسِبُ نَفْسَهُ، هَلْ وَفَّى هَذِهِ الْمَقَامَاتِ حَقَّهَا؟ وَهَلْ أَتَى بِهَا فِي هَذِهِ الطَّاعَةِ؟

الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ كَانَ تَرْكُهُ خَيْرًا لَهُ مِنْ فِعْلِهِ.

الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُحَاسِبَ نَفْسَهُ عَلَى أَمْرٍ مُبَاحٍ، أَوْ مُعْتَادٍ، لِمَ فَعَلَهُ؟ وَهَلْ أَرَادَ بِهِ اللهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، فَيَكُونَ رَابِحًا، أَوْ أَرَادَ بِهِ الدُّنْيَا وَعَاجِلَهَا، فَيَخْسِرَ ذَلِكَ الرِّبْحَ، وَيَفُوتَهُ الظَّفَرُ بِهِ؟

فَيُحَاسِبُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ قَبْلَ الْعَمَلِ، وَيُحَاسِبُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ بَعْدَ الْعَمَلِ، الْمُنَافِقُ يَمْضِي قُدُمًا هَكَذَا، لَا حَسِيبَ وَلَا رَقِيبَ، وَلَا يَتَوَقَّفُ مُتَمَهِّلًا، مُتَأَنِّيًا، مُتَفَكِّرًا؛ لِيُفَتِّشَ فِي قَلْبِهِ، وَلِيُنَقِّبَ فِي ضَمِيرِهِ، وَلِيَنْظُرَ فِي دَوَافِعِهِ، حَتَّى يُحَرِّرَ مُحَقِّقًا نِيَّتَهُ، يَمْضِي قُدُمًا وَلَا يَلْوِي عَلَى شَيْءٍ، وَلَا يَلْتَفِتُ إِلَى أَمْرٍ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَتَوَقَّى.

*حَاسِبْ نَفْسَكَ وَتَعَلَّمِ الْحِكْمَةَ مِنَ الضَّرِيرِ!!

وَأَنْتَ خَبِيرٌ، أَنَّكَ يُمْكِنُ أَنْ تَتَعَلَّمَ الْحِكْمَةَ مِنَ الضَّرِيرِ؛ لِأَنَّ الضَّرِيرَ لَا يَمُدُّ قَدَمَهُ حَتَّى يَضَعَ عَصَاهُ، لَا يَضَعُ قَدَمَهُ حَتَّى يَضَعَ عَصَاهُ، تَعْلَّمِ الْحِكْمَةَ مِنَ الضَّرِيرِ، يَدِبُّ عَلَى عَصَاهُ، وَلَا يَرْفَعُ قَدَمَهُ لِيَضَعَهَا حَتَّى يَضَعَ عَصَاهُ.

تَبَصَّرْ، تَأَنَّى مُتَمَهِّلًا، نَاظِرًا فِي حَالِ قَلْبِكَ وَسَوَاءِ ضَمِيرِكَ، لَا تَكُنْ كَالْهَمَجِ الرَّعَاعِ، فَقَدْ مَاجَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا، تَعْلُو بِهِمْ مَوْجَةٌ وَتَطْفُو بِهِمْ، وَتَنْحَطُّ بِهِمْ أُخْرَى وَتَسْفُلُ بِهِمْ، وَهُمْ لَا يَدْرُونَ لِمَا ارْتَفَعُوا، وَلِمَا انْحَطُّوا، وَإِنَّمَا هُمْ سَائِرُونَ.

*أَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الْعَبْدِ تَرْكُ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ وَالِاسْتِهَانَةِ:

أَضَرُّ شَيْءٍ عَلَيْكَ الِاسْتِهَانَةُ وَالْإِهْمَالُ، وَتَرْكُ الْمُحَاسَبَةِ، وَالِاسْتِرْسَالُ، وَتَسْهِيلُ الْأُمُورِ وَتَمْشِيَتُهَا، هَذَا أَضَرُّ مَا عَلَى النَّفْسِ، فَإِنَّ هَذَا يَؤُولُ بِالْمَرْءِ إِلَى الْهَلَاكِ.

وَهَذِهِ حَالُ أَهْلِ الْغُرُورِ، يُغْمِضُ عَيْنَيْهِ عَنِ الْعَوَاقِبِ، وَيُمَشِّي الْحَالَ، وَيَتَّكِلُ عَلَى الْعَفْوِ، فَيُهْمِلُ مُحَاسَبَةَ نَفْسِهِ، وَالنَّظَرَ فِي عَوَاقِبِهَا، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ؛ سَهُلَ عَلَيْهِ مُوَاقَعَةُ الذُّنُوبِ وَأَنِسَ بِهَا، وَعَسُرُ عَلَيْهِ فِطَامُهَا، وَلَوْ حَضَرَهُ رُشْدُهُ لَعَلِمَ أَنَّ الْحِمْيَةَ أَسْهَلُ مِنَ الْفِطَامِ، وَتَرْكِ الْمَأْلُوفِ وَالْمُعْتَادِ.

 

المصدر: محاسبة النفس

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  الْأَمَلُ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  الصِّفَاتُ الْوَاجِبُ تَوْفُّرِهَا فِي الشَّبَابِ لِبِنَاءِ الْأُمَّةِ
  شُرُوطُ الزَّكَاةِ
  مِنْ أَعْظَمِ سُبُلِ مُوَاجَهَةِ إِدْمَانِ الْمُخَدِّرَاتِ: حُسْنُ التَّرْبِيَةِ وَالتَّأْدِيبِ لِلْأَبْنَاءِ
  مِنْ سُبُلِ الْحِفَاظِ عَلَى الْمِيثَاقِ الْغَلِيظِ: مَعْرِفَةُ حُقُوقِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَمُرَاعَاتُهَا
  اصْدُقُوا! فَالْكَلِمَةُ أَمَانَةٌ
  فَلْنَتَّقِ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا-، وَلْنُحَقِّقْ مَقْصُودَ الصِّيَامِ -التَّقْوَى-
  مَنْزِلَةُ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ وَفَضَائِلُ الشُّهَدَاءِ
  مَنَازِلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
  لِمَنْ تَكُونُ الْبَيْعَةُ وَالسَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ؟
  بَيَانُ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَعْظَمِ الْجِهَادِ
  الدرس السادس والعشرون : «عِيشُوا الوَحْيَ المَعْصُومَ»
  نَمَاذِجُ مِنْ وَرَعِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَالتَّابِعِينَ
  سُبُلُ مُقَاوَمَةِ الشَّائِعَاتِ شَرْعِيًّا وَاجْتِمَاعِيًّا
  رَحْمَةُ الْإِسْلْامِ فِي فُتُوحَاتِهِ وَنَبْذُهُ لِلْعُنْفِ وَالْعُنْصُرِيَّةِ
  • شارك