النِّفَاقُ لُغَةً وَشَرْعًا


((النِّفَاقُ لُغَةً وَشَرْعًا))

لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ مَعْنَى النِّفَاقِ فِي اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ لَهُ صِلَةً وَثِيقَةً بَيْنَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ، وَمَا نُقِلَ مِنْهُ الْمَعْنَى فِي أَصْلِ اللُّغَةِ.

النِّفَاقُ فِي اللُّغَةِ مِنَ (النَّفَقِ): وَهُوَ سَرَبٌ فِي الْأَرْضِ مُشْتَقٌّ يُؤَدِّي إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ .

فِي ((التَّهْذِيبِ))  هُوَ: سَرَبٌ فِي الْأَرْضِ لَهُ مَخْلَصٌ إِلَى مَكَانٍ آخَرَ.

هَذَا هُوَ النَّفَقُ فِي اللُّغَةِ.

«وَ(النُّفَقَةُ) وَ(النَّافِقَاءُ): جُحْرُ الضَّبِّ وَالْيَرْبُوعِ.

وَقِيلَ: وَ(النُّفَقَةُ) وَ(النَّافِقَاءُ): مَوْضِعٌ يُرَقِّقُهُ الْيَرْبُوعُ مِنْ جُحْرِهِ؛ فَإِذَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ الْقَاصِعَاءِ ضَرَبَ النَّافِقَاءَ بِرَأْسِهِ فَخَرَجَ.

وَ(نَفِقَ) الْيَرْبُوعُ، وَ(نَفَقَ) وَ(انْتَفَقَ) وَ(نَفَّقَ): خَرَجَ مِنْهُ» .

فَلَهُ مَدْخَلٌ وَمَخْرَجٌ، وَمَخْرَجُهُ خَفِيٌّ غَامِضٌ، وَالْمَسَارِبُ تَحْتَ الْأَرْضِ غَيْرُ ظَاهِرَةٍ, وَهِيَ مُلْتَوِيَةٌ مُتَشَعِّبَةٌ فِي مَنَاهِجِهَا وَفِي حَقِيقَتِهَا.

«قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : ((سُمِّيَ الْمُنَافِقُ مُنَافِقًا؛ لِلنَّفَقِ وَهُوَ السَّرَبُ فِي الْأَرْضِ)).

وَقِيلَ: إِنَّمَا سُمِّيَ مُنَافِقًا؛ لِأَنَّهُ نَافَقَ كَالْيَرْبُوعِ, وَهُوَ دُخُولُهُ فِي نَافِقَائِهِ, وَمِنْهُ اشْتِقَاقُ الْمُنَافِقِ فِي الدِّينِ.

وَالنِّفَاقُ بِالْكَسْرِ فِعْلُ الْمُنَافِقِ.

 وَالنِّفَاقُ: الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ مِنْ وَجْهٍ، وَالْخُرُوجُ عَنْهُ -يَعْنِي: مِنْ وَجْهٍ آخَرَ-؛ مُشْتَقٌّ مِنْ نَافِقَاءِ الْيَرْبُوعِ.

وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مَعْرُوفًا، يُقَالُ: نَافَقَ يُنَافِقُ مُنَافَقَةً وَنِفَاقًا؛ مَأْخُوذٌ مِنَ النَّافِقَاءِ, لَا مِنَ النَّفَقِ وَهُوَ السَّرَبُ»؛ لِأَنَّ السَّرَبِ رُبَّمَا كَانَ مُبَاشِرًا, وَكَانَ مَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ ظَاهِرًا مَكْشُوفًا, وَلَكِنْ مِنَ النَّافِقَاءِ يَسْتَتِرُ فِيهِ الْمُنَافِقُ كَمَا يَسْتَتِرُ الْيَرْبُوعُ أَوِ الضَّبُّ فِي جُحْرِهِ؛ فَسُمِّيَ النِّفَاقُ نِفَاقًا؛ لِأَنَّ الْمُنَافِقَ يَسْتُرُ كُفْرَهُ؛ فَلَا يُبْدِيهِ وَلَا يُظْهِرُهُ.

شَبَّهَ عُلَمَاءُ اللُّغَةِ أَسَالِيبَ الْمُنَافِقِينَ بِجُحْرِ الضَّبِّ, وَأَرْجَعُوا الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ الَّذِي نُقِلَتْ إِلَيْهِ الْكَلِمَةُ إِلَى الْأَصْلِ اللُّغَوِيِّ.

 فَتَمَامًا كَمَا أَنَّ الضَّبَّ - وَهُوَ حَيَوَانٌ جَبَلِيٌّ مُعَقَّدُ الذَّنَبِ- وَكَمَا أَنَّ الْيَرْبُوعَ يَسْتُرُ نَفْسَهُ فِي جُحْرِهِ بِطَرِيقَةٍ خَفِيَّةٍ, وَبِمَسَارِبَ لَا تُلْحَظُ وَيَظَلُّ مُتَتَبِّعُهُ حَائِرًا فِي أَمْرِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي دَاخِلِهِ وَفِي بَاطِنِهِ عَلَى نَحْوٍ مُعَقَّدٍ مِنَ الْمَسَالِبِ الَّتِي لَا تُلْحَظُ كَمَا أَنَّ الْيَرْبُوعَ كَذَلِكَ فِي نَافِقَائِهِ.

 وَهُوَ يُعِدُّ لِكُلِّ أَمْرٍ مَخْرَجًا كَمَا يَفْعَلُ فِي مَسْأَلَةِ تَرْقِيقِ الْحُفَرِ لِجُحْرِهِ؛ بِحَيْثُ إِنَّهُ إِذَا تُوبِعَ ضَرَبَ الْأَرْضَ بِرَأْسِهِ لَا يَتَكَلَّفُ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا؛ فَإِذَا هُوَ خَارِجٌ, وَإِذَا هُوَ مُنْفَلِتٌ مِنْ كُلِّ أُحْبُولَةٍ وَعِقَالٍ, وَلَا يَكَادُ أَحَدٌ يَتْبَعُهُ بِحَالٍ.

فَإِنَّ الْمُنَافِقَينَ يَلْبِسُونَ لِكُلِّ حَالٍ لَبُوسَهَا, وَهُمْ يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَانًا كَالْيَرْبُوعِ الَّذِي يَكُونُ تَحْتَ الْأَرْضِ يَجِدُ لِنَفْسِهِ مَخْرَجًا فِي كُلِّ حِينٍ وَحَانٍ.

الْمُنَافِقُ كَالضَّبِّ؛ أَلِفَ الْمُرَاوَغَةَ وَالْخِدَاعَ, وَتَمَرَّسَ عَلَى ذَلِكَ تَمَرُّسًا.

 فَالضَّبُّ يَدْخُلُ جُحْرَهُ مِنْ بَابٍ وَاضِحٍ ثُمَّ يَهْرُبُ إِذَا شَعَرَ بِالْخَطَرِ مِنْ بَابٍ خَفِيٍّ آخَرَ تَتَعَذَّرُ رُؤْيَتُهُ, وَتَتَعَذَّرُ تَتَبعًا- مُلَاحَقَتُهُ؛ بِسَبَبِ خَفَاءِ مَخْرَجِهِ.

 الْمُنَافِقُ كَذَلِكَ يَدْخُلُ الْإِسْلَامَ مِنْ بَابٍ ظَاهِرٍ فَيَنْطِقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ, وَيُصَلِّي مَعَ النَّاسِ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ مِنْ بَابٍ آخَرَ مِنَ الصَّعْبِ مُشَاهَدَتُهُ.

قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ : ((أَمْرٌ خَفِيٌّ عَلَى النَّاسِ, وَكَثِيرًا مَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَلَبَّسَ بِهِ؛ فَيَزْعُمُ أَنَّهُ مُصْلِحٌ وَهُوَ مُفْسِدٌ)).

فَالنِّفَاقُ فِي الشَّرْعِ كَمَا قَالَ عُلَمَاءُ التَّوْحِيدِ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: ((الْمُنَافِقُ يُخَالِفُ قَوْلُهُ فِعْلَهُ، وَسِرُّهُ عَلَانِيَتَهُ، وَمَدْخَلُهُ مَخْرَجَهُ، وَمَشْهَدُهُ مَغِيبَهُ)) .

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((النِّفَاقُ: هُوَ إِظْهَارُ الْخَيْرِ وَإِسْرَارُ الشَّرِّ)).

«النِّفَاقُ دَاءٌ عُضَالٌ بَاطِنٌ يَكُونُ الرَّجُلُ مُمْتَلِئًا مِنْهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ» .

فَيَكُونُ الرَّجُلُ مُمْتَلِئًا بِالنِّفَاقِ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ!

 وَهَذَا أَمْرٌ خَطِيرٌ يَتَوَجَّبُ بِسَبَبِهِ أَنْ يَجْتَهِدَ الْإِنْسَانُ فِي مَعْرِفَةِ هَذَا الْأَمْرِ الْخَطِيرِ الَّذِي رُبَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ مُمْتَلِئًا مِنْهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ.

الْمُنَافِقُ يَدْخُلُ الْإِسْلَامَ مِنْ بَابٍ ظَاهِرٍ يَنْطِقُ الشَّهَادَتَيْنِ يُصَلِّي مَعَ النَّاسِ، يَخْرُجُ مِنَ الْإِسْلَامِ مِنْ بَابٍ آخَرَ مِنَ الصَّعْبِ مُشَاهَدَتُهُ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَوْ شَاهَدُوهُ عِنْدَ نَقْضِهِ، وَعِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ الْإِسْلَامِ لَأُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الرِّدَّةِ -هَذَا كَانَ قَدِيمًا-.

الْآنَ النَّاسُ يَدْخُلُونَ وَيَخْرُجُونَ الْإِسْلَامَ وَلَا أَحَدَ يَسْأَلُ أَحَدًا!

 وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ!

 

المصدر: النِّفَاقُ... عَلَامَاتُهُ، وَخُطُورَتُهُ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  تَفَاعُلُ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ الْقُرْآنِ الكريم
  النَّبِيُّ ﷺ وَالصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- الْأُسْوَةُ فِي الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ
  الدُّنْيَا دَارُ بَلَاءٍ وَابْتِلَاءٍ!
  اسْتِقْبَالُ الْعَشْرِ بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ وَالِاتِّبَاعِ
  تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي اجْتِمَاعِ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ
  انْتِصَارَاتُ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْحَاضِ
  فَضَائِلُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ
  الْإِسْلَامُ فِطْرَةُ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا
  مَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ
  الْآمَالُ فِي الْمِنَحِ وَالْعَطَايَا وَسَطُ الْمِحَنِ وَالْبَلَايَا
  تَرْغِيبُ النَّبِيِّ ﷺ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ
  وِقَايَةُ الْأَبْنَاءِ مِنْ مَكْرِ أَصْحَابِ الْأَحْزَابِ وَالْجَمَاعَاتِ
  مِنْ صُوَرِ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِيِّ النَّبِيلِ: زِيَارَةُ الْمَرْضَى، وَمُوَاسَاتُهُمْ
  رَمَضَانُ مَدْرَسَةٌ تُعَلِّمُ الْعَبْدَ وَتُهَذِّبُهُ
  ضَرُورَةُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْحَقِّ وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللهِ
  • شارك