الْمَعْنَى الْحَقُّ لِاسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ


((الْمَعْنَى الْحَقُّ لِاسْتِفْتَاءِ الْقَلْبِ))

قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَدِيثِ وَابِصَةَ وَأَبِي ثَعْلَبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ» يَعْنِي: أَنَّ مَا حَاكَ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ فَهُوَ إِثْمٌ، وَإِنْ أَفْتَاهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِثْمٍ؛ فَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ ثَانِيَةٌ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مُسْتَنْكَرًا عِنْدَ فَاعِلِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَقَدْ جَعَلَهُ أَيْضًا إِثْمًا.

وَهَذَا إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ صَاحِبُهُ مِمَّنْ شُرِحَ صَدْرُهُ بِالْإِيمَانِ، وَكَانَ الْمُفْتِي يُفْتِي لَهُ بِمُجَرَّدِ ظَنٍّ أَوْ مَيْلٍ إِلَى هَوًى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ.

وَهَذَا الضَّابِطُ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ بِمَكَانٍ؛ لِأَنَّ إِنْسَانًا قَدْ يَقُولُ: مَهْمَا أَفْتَانِي مَنْ أَفْتَانِي؛ فَأَنَا لَا آخُذُ الْفَتْوَى إِلَّا مِنْ قَلْبِي، وَيَكُونُ هُوَ مِنْ أَهْلِ الضَّلَالِ وَالزَّيْغِ، فَمِثْلُ هَذَا إِنَّمَا يَرْكَنُ قَلْبُهُ إِلَى مَا يَأْلَفُهُ مِنْ زَيْغِهِ وَضَلَالِهِ.

وَلِأَنَّنَا لَوْ أَعَدْنَا الْأَمْرَ بِرُمَّتِهِ إِلَى الْقُلُوبِ مَا وُجِدَتْ شَرِيعَةٌ وَلَا قَامَ دِينٌ؛ لِأَنَّ الْقُلُوبَ قُلَّبٌ لَا تَسْتَقِرُّ عَلَى قَرَارٍ، وَلَكِنْ هَكَذَا..

مَسْأَلَةُ إِرْجَاعِ الْأَمْرِ إِلَى الْقَلْبِ وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ: إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا كَانَ صَاحِبُهُ مِمَّنْ شُرِحَ صَدْرُهُ بِالْإِيمَانِ، وَكَانَ الْمُفْتِي يُفْتِي لَهُ بِمُجَرَّدِ ظَنٍّ أَوْ مَيْلٍ إِلَى هَوًى مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ.

أَمَّا إِذَا أَتَاهُ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ حَتَّى وَإِنْ وَجَدَ النُّفْرَةَ فِي قَلْبِهِ؛ فَهَذَا لَا قِيمَةَ لَهُ -أَيْ هَذَا الَّذِي يَجِدُهُ فِي قَلْبِهِ لَا قِيمَةَ لَهُ بِإِزَاءِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ-.

فَأَمَّا مَا كَانَ مَعَ الْمُفْتِي بِهِ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ؛ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْتَفْتِي الرُّجُوعُ إِلَيْهِ؛ وَإِنْ لَمْ يَنْشَرِحْ لَهُ صَدْرُهُ، وَهَذَا كَالرُّخْصَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ مِثْلُ الْفِطْرِ فِي السَّفْرِ، وَالْمَرَضِ، وَكَقَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْشَرِحُ بِهِ صُدُورُ كَثِيرٍ مِنَ الْجُهَّالِ، فَهَذَا لَا عِبْرَةَ بِهِ.

لِأَنَّهُ قَدْ يُقَالُ لَهُ: رَخَّصَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَكَ فِي السَّفَرِ أَنْ تُفْطِرَ، فَلَا تُعَذِّبْ نَفْسَكَ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي النِّهَايَةِ الَّتِي بِهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ بِالْإِفْطَارِ فِي السَّفَرِ وَالصَّوْمِ فِيهِ؛ الْقَاعِدَةُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَشَقَّةِ وَعَدَمِ الْمَشَقَّةِ.

فَإِنْ كَانَ الصَّائِمُ يَجِدُ الْمَشَقَّةَ بِصِيَامِهِ فِي السَّفَرِ؛ فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ أَنْ يُفْطِرَ.

وَإِذَا كَانَ الصَّائِمُ لَا يَجِدُ الْمَشَقَّةَ فِي السَّفَرِ؛ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ، وَبِهَذَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُفْطِرُ فِي السَّفَرِ أَوْ لَا يُفْطِرُ.

وَكَانَ ﷺ يَكُونُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ مُفْطِرِينَ وَيَكُونُ بَعْضُهُمْ صَائِمِينَ -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي كَانَ فِيهِ مِنَ الْمُعَانَاةِ عَلَى الصَّائِمِينَ مَا فِيهِ- فَقَامَ الْمُفْطِرُونَ بِخِدْمَةِ الصَّائِمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالْأَجْرِ)) .

فَهَذِهِ الرُّخَصُ الشَّرْعِيَّةُ قَدْ تَجِدُ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَقْبَلُهَا، وَيَقُولُ: بَلْ أَنَا آخُذُ بِالْعَزِيمَةِ فِي هَذَا، فَإِذَا أَفْتَاهُ مَنْ أَفْتَاهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَبِمَا وَرَدَ مِنَ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ الثَّابِتِ لَا يَنْشَرِحُ صَدْرُهُ لَهُ؛ لِجَهْلِهِ وَعَدَمِ عِلْمِهِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ فِيهَا، فَهَذَا لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَإِنَّمَا العِبْرَةُ بِالدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ.

وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَحْيَانًا يَأْمُرُ أَصْحَابَهُ بِمَا لَا تَنْشَرِحُ بِهِ صُدُورُ بَعْضِهِمْ، فَيَمْتَنِعُونَ مِنْ فِعْلِهِ، فَيَغْضَبُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا أَمَرَهُمْ بِفَسْخِ الْحَجِّ إِلَى الْعُمْرَةِ، فَكَرِهَهُ مَنْ كَرِهَهُ مِنْهُمْ، وَكَمَا أَمَرَهُمْ بِنَحْرِ هَدْيِهِمْ، وَالتَّحَلُّلِ مِنْ عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، فَكَرِهُوهُ، -وَذَكَرُوا كَلَامًا وَقَعَ مِنْ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَنْهُ- فِي هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ-، وَكَرِهَ الصَّحَابَةُ مُقَاضَاتَهُ لِقُرَيْشٍ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ مِنْ عَامِهِ، وَعَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنْهُمْ يَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ.

وَالْحَدِيثُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)) مِن رِوَايَةِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، وَكَذَا مِنْ رِوَايَةِ مَرْوَانَ بِهِ.

وَفِي الْجُمْلَةِ؛ فَمَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ؛ فَلَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ إِلَّا طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُتَلَقَّى ذَلِكَ بِانْشِرَاحِ الصَّدْرِ وَالرِّضَا؛ فَإِنَّ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَجِبُ الْإِيمَانُ وَالرِّضَا بِهِ، وَالتَّسْلِيمُ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّسَاء: 65].

وَأَمَّا مَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا عَمَّنْ يُقْتَدَى بِقَوْلِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ؛ فَإِذَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ الْمُطْمَئِنِّ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ، الْمُنْشَرِحِ صَدْرُهُ بِنُورِ الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَحَاكَ فِي صَدْرِهِ لِشُبْهَةٍ مَوْجُودَةٍ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُفْتِي فِيهِ بِالرُّخْصَةِ إِلَّا مَنْ يُخْبِرُ عَنْ رَأْيِهِ -يَعْنِي: بِلَا دَلِيلٍ- وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِ وَبِدِينِهِ، بَلْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِاتِّبَاعِ الْهَوَى؛ فَهُنَا يَرْجِعُ الْمُؤْمِنُ إِلَى مَا حَكَّ فِي صَدْرِهِ؛ وَإِنْ أَفْتَاهُ هَؤُلَاءِ الْمُفْتُونَ.

وَقَدْ صَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((الْإِثْمُ: حَوَّازُ الْقُلُوبِ)) .

وَقَالَ: ((إِيَّاكُمْ وَحَزَّازَ الْقُلُوبِ، فَمَا حَزَّ فِي قَلْبِكَ مِنْ شَيْءٍ فَدَعْهُ)) .

بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا، فَهَذَا هُوَ الْخَلَاصُ مِنَ الشُّبْهَةِ الَّتِي رُبَّمَا أَلْقَاهَا بَعْضُ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بِسَبَبِ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((استَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ المُفْتُونَ)).

وَالْحَزُّ وَالْحَكُّ مُتَقَارِبَانِ فِي الْمَعْنَى، وَالْمُرَادُ: مَا أَثَّرَ فِي الْقَلْبِ ضِيقًا وَحَرَجًا، وَنُفُورًا وَكَرَاهِيَةً.

وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ -هَاهُنَا- بِالرُّجُوعِ إِلَى حَوَازِّ الْقُلُوبِ ، وَإِنَّمَا ذَمَّ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى الْوَسَاوِسِ وَالْخَطَرَاتِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ؛ حَيْثُ كَانَ كَلَامُهُمْ فِي ذَلِكَ لَا يَسْتَنِدُ إِلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ؛ بَلْ إِلَى مُجَرَّدِ رَأْيٍ وَذَوْقٍ، كَمَا كَانَ يُنْكِرُ الْكَلَامَ فِي مَسَائِلِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ.

وَالرُّجُوعُ إِلَى الْأُمُورِ الْمُشْتَبِهَةِ إِلَى حَوَازِّ الْقُلُوبِ؛ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ النَّبَوِيَّةُ، وَفَتَاوَى الصَّحَابَةِ .

  

المصدر:الْبِرُّ وَالْوَفَاءُ وَرِسَالَةٌ هَامَّةٌ وَمُتَجَدِّدَةٌ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  الْأَمْرُ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
  المَوْعِظَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ : ((جُمْلَةٌ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ(1) ))
  اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَفْوَ مِنْ عِبَادِهِ
  حُكْمُ الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ
  التَّثَبُّتُ فِي الْأَخْبَارِ وَخُطُورَةُ إِذَاعَةِ الْكَذِبِ
  طَاعَتُكَ مِنَّةٌ مِنَ اللهِ عَلَيْكَ
  وَإِذَا رَحِمْتَ فَأَنْتَ أُمٌّ أَوْ أَبٌ
  إِقَامَةُ الدُّنْيَا وَتَعْمِيرُهَا بِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ
  نِعْمَةُ الزَّوَاجِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  مِنْ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النِّيرَانِ: قِرَاءَةُ وَتَدَبُّرُ الْقُرْآنِ وَالْعَمَلُ بِهِ
  الدرس الثاني : «الْإِخْلَاصُ»
  اثْبُتُوا -أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ- أَمَامَ هَذِهِ الْفِتَنِ
  نَبْذُ النَّبِيِّ ﷺ لِلْعُنْصُرِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ
  الزَّكَاةُ مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ
  وُجُوبُ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمِيَاهِ وَعَدَمِ الْإِسْرَافِ فِي اسْتِخْدَامِهَا
  • شارك