مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ: إِعْمَالُ الْعَقْلِ فِي تَوْثِيقِ النَّصِّ، ثُمَّ التَّصْدِيقُ وَالتَّسْلِيمُ


 ((مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ:

إِعْمَالُ الْعَقْلِ فِي تَوْثِيقِ النَّصِّ، ثُمَّ التَّصْدِيقُ وَالتَّسْلِيمُ))

أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمْ يَكُنْ شَاهِدًا مَا تَمَّ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وَقَوْمِهِ، فَلَمَّا جَاءَ، تَلَقَّفَهُ الْقَوْمُ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَقَالُوا لَهُ -لِلصِّدِّيقِ-: يُحَدِّثُ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَنَحْنُ نَذْهَبُ إِلَيْهِ فِي شَهْرٍ، وَعَادَ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَنَحْنُ نَؤُوبُ مِنْهُ فِي شَهْرٍ، ثُمَّ لَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ، بَلْ حَدَّثَ أَنَّهُ عُرِّجَ بِهِ إِلَى السَّمَوَاتِ، كُلُّ ذَلِكَ وَفِرَاشُهُ دَافِئٌ لَمْ يَبْرُدْ بَعْدُ!!

قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنْتُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ.

قَالُوا: لَا، بَلْ قَدْ قَالَ.

قَالَ: إِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ ﷺ.

قَالُوا: وَتُصَدِّقُهُ بِذَلِكَ؟!!

قَالَ: نَعَمْ, إِنِّي لَأُصَدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ، فِي خَبَرِ السَّمَاءِ يَأْتِيهِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا-أَوْ كَمَا قَالَ-.

فَالْعَقْلُ يَعْمَلُ فِي تَوْثِيقِ النَّصِّ فَقَطْ، فَإِذَا ثَبَتَ النَّصُّ؛ فَمَا هُوَ إِلَّا الْإِذْعَانُ وَالتَّسْلِيمُ، وَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الصِّدِّيقِيُّ كَمَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا قَالُوا لَهُ: إِنَّ صَاحِبَكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ثُمَّ عَادَ، وَفِرَاشُهُ لَمْ يَزَلْ دَافِئًا بَعْدُ.

فَوَثَّقَ النَّصَّ، قَالَ: أَنْتُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ.

قَالُوا: لَا، بَلْ قَالَ.

قَالَ: إِنْ كَانَ قَالَ فَقَدْ صَدَقَ ﷺ.

إِذَنْ أَمْرَانِ:

*الْأَمْرُ الْأَوَّلُ: تَوْثِيقُ النَّصِّ: ((أَنْتُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ))، قَالُوا: ((لَا؛ بَلْ قَالَ))، فَلَمَّا رَاجَعُوهُ عَلِمَ أَنَّهُ قَالَ، قَالَ: ((إِنْ كَانَ قَالَ فَقَدْ صَدَقَ)).

*الْأَمْرُ الثَّانِي: إِذَا ثَبَتَ النَّصُّ؛ فَلَيْسَ إِلَّا التَّسْلِيمُ لِلْوَحْيِ الْمَعْصُومِ.

إِنْ كُنْتَ نَاقِلًا فَالصِّحَّةُ، أَوْ مُدَّعِيًا فَالدَّلِيلُ، هَذَا قَانُونُ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا هُوَ الْقَانُونُ الْعِلْمِيُّ عِنْدَ جَمَاهِيرِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ سَلَفًا وَخَلَفًا: ((إِنْ كُنْتَ نَاقِلًا فَالصِّحَّةُ، أَوْ مُدَّعِيًا فَالدَّلِيلُ))، كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-، وَصَاغَ ذَلِكَ بِصِيَاغَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: ((الْعِلْمُ نَقْلٌ مُصَدَّقٌ))، فَهَذَا النَّقْلُ الْمُصَدَّقُ هُوَ الشَّطْرُ الْأَوَّلُ مِنْ تِلْكَ الْمَقُولَةِ، عِلْمٌ مُحَقَّقٌ، دَعْوَى مُحَقَّقَةٌ وَنَقْلٌ مُصَدَّقٌ.

فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ ذَلِكَ.

تَوْثِيقُ الْخَبَرِ وَتَوْثِيقُ النَّصِّ هُوَ عَمَلُ الْعَقْلِ.

فَكَمَا أَنَّ لِلْبَصَرِ مَجَالًا لَا يَعْدُوهُ، وَأَنْتَ لَا يَنْفُذُ بَصَرُكَ مِنْ وَرَاءِ جِدَارٍ، وَإِنَّمَا بَصَرُكَ يَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ الْأَشْيَاءِ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا تُطْلَقُ لَهُ الرُّؤْيَةُ إِلَى الْمَدَى، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ عِنْدَ حُدُودٍ، فَكَمَا أَنَّ لِلْبَصَرِ مَجَالًا لَا يَعْدُوهُ فَلِلْعَقْلِ مَجَالٌ لَا يَتَجَاوَزُهُ وَلَا يَتَخَطَّاهُ.

فَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَيُعْمِلُ الْعَقْلَ فِي تَوْثِيقِ النَّصِّ وَتَثْبِيتِ النَّقْلِ.

يَقُولُ: أَنْتُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ.

قَالُوا: لَقَدْ قَالَ.

فَلَمَّا رَاجَعُوهُ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ بِحَقٍّ.

قَالَ: إِنْ كَانَ قَالَ فَقَدْ صَدَقَ.

وَإِذَنْ؛ يَأْتِي الْعَامِلُ الثَّانِي مِنَ الرَّكِيزَتَيْنِ وَالْعَامِلَيْنِ الْأَسَاسِيَّيْنِ فِي حَيَاةِ الْمُؤْمِنِ الْحَقِّ، قَالُوا: ((سَمِعْنَا))؛ بِتَوْثِيقِ النَّصِّ وَتَثْبِيتِ النَّقْلِ، فَإِذَا مَا ثَبَتَ النَّقْلُ، وَإِذَا مَا تَوَثَّقَ النَّصُّ؛ فَلَيْسَ إِلَّا الطَّاعَةُ وَلَيْسَ إِلَّا التَّسْلِيمُ، ((سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا)).

أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَضَعُ الْمَنْهَجَ لِلنَّاسِ فِي حَيَاتِهِمْ، أَمَّا أَنْ يَثْبُتَ النَّصُّ، ثُمَّ يَدْخُلُ الْعَقْلُ لَا فِي تَوْثِيقِ النَّصِّ، وَإِنَّمَا فِي فَلْسَفَةِ النَّصِّ!! وَفِي تَجَاوُزِ حُدُودِ النَّصِّ!! وَفِي تَفْجِيرِ النَّصِّ مِنْ دَاخِلٍ كَمَا يَقُولُ الْعَلْمَانِيُّونَ عِنْدَمَا يُرِيدُونَ تَفْجِيرَ اللُّغَةِ مِنَ الدَّاخِلِ؛ لِأَنَّهَا لُغَةُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَيُرِيدُونَ هَدْمَ الْقُرْآنِ -وَهَيْهَاتَ- عَلَى رُؤُوسِ الْمُؤْمِنِينَ وَهَيْهَاتَ!

اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ حَفِظَهُ، وَسَيَظَلُّ بِحِفْظِ اللهِ مَحْفُوظًا حَتَّى يَرْفَعَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَمَا يَنَامُ النَّاسُ النَّوْمَةَ قَبْلَ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ يَسْتَيْقِظُونَ وَلَيْسَ فِي الصُّدُورِ وَلَا فِي الْقُلُوبِ وَلَا فِي الْعُقُولِ وَلَا فِي الْقَرَاطِيسِ مِنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

أَمَّا تَفْجِيرُ النَّصِّ؛ مِنْ أَجْلِ هَدْمِهِ، وَأَمَّا تَفْجِيرُ النَّصِّ؛ مِنْ أَجْلِ تَفْرِيغِهِ مِنْ مُحْتَوَاهُ فَلَيْسَ مِنْ عَمَلِ الْمُؤْمِنِينَ.

{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: 51]، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مُفْلِحًا فَهُوَ مِنَ الْخَاسِرِينَ الْأَخْسَرِينَ.

فَهَذَا دَرْسٌ مِنْ دُرُوسِ الْإِسْرَاءِ الْعَظِيمِ.

 

المصدر:دُرُوسٌ مِنَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  تَرْبِيَةُ الطِّفْلِ عَلَى التَّوْحِيدِ
  سِمَاتُ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ فِي ضَوْءِ الشَّرْعِ
  الْإِسْلَامُ دِينٌ كَرَّمَ الْإِنْسَانَ
  مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ فِي رَمَضَانَ: الصِّيَامُ
  انْحِرَافِ الشَّبَابِ.. الْوَاقِعُ وَالْعِلَاجُ
  عَدَمُ مُبَالَاةِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ!!
  مِنْ سُبُلِ الْحِفَاظِ عَلَى الْحَيَاةِ الزَّوْجِيَّةِ: حُسْنُ الْعِشْرَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ
  «بِدْعَةُ المَوْلِدِ النَّبَوِيِّ» لفضيلةِ الشَّيخ العلَّامة: ربيع بن هادي المدخلي -حفظه الله-.
  الْأَمَانَةُ فِي الْعَمَلِ
  وَطَنُنَا إِسْلَامِيٌّ، وَحُبُّهُ وَالدِّفَاعُ عَنْهُ وَاجِبٌ شَرْعِيٌّ
  رَمَضَانُ مَدْرَسَةٌ تُعَلِّمُ الطَّاعَاتِ وَتُهَذِّبُ الْأَخْلَاقَ
  ثَلَاثُونَ وَصِيَّةً لِلْأَبْنَاءِ فَاحْرِصْ عَلَيْهَا
  الِاسْتِغَاثَةُ الْمَشْرُوعَةُ وَالِاسْتِغَاثَةُ الْمَمْنُوعَةُ
  خُلُقُ الْوَفَاءِ
  صِلْ مَنْ قَطَعَكَ
  • شارك